ليس من الهين أن يجزم المرء بتفاصيل حياة أفلوطين؛ فهو لم يكن يعتدُّ كثيرًا بتلك
الظروف المادية التي تُحيط بالإنسان خلال حياته، ولم يكن عظيمَ الاهتمام بالكلام عن
أصله ومولده وشخصه المادي؛ إذ إن استغراقه في الحياة العقلية جعل لتلك الظروف الخارجية
في نظره أقلَّ قدر ممكن من الأهمية، وجعله — كما قال فورفوريوس — يخجل من الحديث عن كل
ما يتعلق بالجسم.
وسبب آخر هو أن مرجعنا الوحيد تقريبًا عن حياة أفلوطين هو تلك الترجمة التي دوَّنها
تلميذه فورفوريوس عن حياته، ولقد كان فورفوريوس على صلة وثيقة بأستاذه في السنوات
الستِّ التي سبَقَت وفاة أفلوطين (وإن لم يكن قد شهد وفاته)، فتمكن من أن يجمع كل ما
أمكَنه أن يلتقطه خلال أحاديثه معه، عن حياته وتطورها؛ ومن هنا كان الاعتماد على
روايته. على أن هناك بعضَ المبررات للشكِّ في هذه الرواية، منها أن إعجاب فورفوريوس
بأستاذه لا بد قد دفعه إلى المبالغة في رواية وقائعَ خاصة. والحق أن عصرًا كان يؤمن
بالسحر والخوارق، لا بد أن يُضفيَ على شخصية من شخصياته الكبرى صفاتٍ خارجةً عن
المألوف، وخاصة إذا جاء الوصف من تلميذ متعلق بأستاذه مثل فورفوريوس لم يكتب حياة
أفلوطين إلا بعد أن مضى على وفاة هذا الأخير ثمانية وعشرون عامًا.
١ فلا بد أن يكون قد انقضى على المعلومات التي تذكرها وقتٌ طويل؛ مما يؤدي
إلى وهن ذكرياته.
على أن هذا لا يعني عدمَ إمكان الاعتماد على هذه الرواية؛ ففي معظم الأحيان يبدو
فورفوريوس في صورة الكاتب الدقيق الذي يحرِص على أن يُورِد كل التفاصيل، وكل ما ينبغي
علينا الانتباهُ إليه، هو ألا نَقبل تلك الخوارق التي يرويها فورفوريوس عن أستاذه على
علَّاتها، وأن نَنسبها إلى المبالغة المتأصلة في روح العصر.
ومن رواية فورفوريوس نستطيع أن نستنتج أن أفلوطين وُلِد حوالي ٢٠٤م أو ٢٠٥م في مدينة
ليقوبوليس
Lycopolis في أواسط مصر (بقرب الواسطى
حاليًّا). وكما كانت عادة الطبقة المثقفة التي تنحدر من أصل يوناني في مصر، تردد
أفلوطين على أساتذة الإسكندرية، فلم يجد منهم مَن يروي ظمأه إلى العلم، حتى اهتدى وهو
في سنِّ الثامنة والعشرين إلى أمونيوس ساكاس، أي أمونيوس «الجمال». وما أن استمع إليه
حتى قال لمن كان يصاحبه «هذا هو الرجل الذي كنتُ أسعى إليه!» وفي بقاء أفلوطين
متتلمِذًا على يدَيه أحدَ عشر عامًا، ما يشهد بقدرة ذلك الرجل الذي أمكنه أن يُسيطر على
عقل عبقري مثل أفلوطين طَوال هذه المدة. ثم تاقَت نفسُ أفلوطين إلى أن يزداد بحكمة
الشرق، وفلسفة الفُرس والهنود علمًا، فانضم وهو في التاسعة والثلاثين إلى الحملة التي
كان الإمبراطور جورديان يُعِدها ضد الفرس، في عام ٢٤٢م، غير أن الإمبراطور قُتِل في
العراق، ففَشِلت الحملة، ونجا أفلوطين بصعوبة هاربًا إلى أنطاكية. ومن هناك توجَّه إلى
روما في ٢٤٤م، وظل فيها عشر سنوات دون أن يكتب شيئًا. ولسنا ندري لِمَ لَم يعُد أفلوطين
إلى الإسكندرية، وآثر الذَّهاب إلى روما، ولكن من الجائز أن يكون قد أحسَّ بأنه تلقى
من
أمونيوس كلَّ ما يمكنه أن يُلقِّنه إياه، أو أن يكون قد رفض أن يُؤسِّس في الإسكندرية
مدرسة تُنافِس مدرسة أمونيوس، فآثر التوجهَ إلى مركز ثقافي آخر لا يقل عنها أهمية، وهو
روما.
٢
ولم يبدأ أفلوطين في الكتابة إلا في عام ٢٥٤م. وحين كان في التاسعة والخمسين من عمره،
تعرَّف إلى فورفوريوس، وكان هذا في الثلاثين، ثم افترقا بعد خمس سنوات حتى تُوُفِّي
أفلوطين في ٢٧٠م دون أن يكون فورفوريوس بقربه.
مؤلفاته
كتَب أفلوطين أربعة وخمسين مقالًا، جمَعها فورفوريوس بعد موته في ستِّ مجموعات؛
تحتوي كل مجموعة منها على تسع مقالات، ومن هنا سُمِّيَت بالتساعيات. وقد أملى
أفلوطين ٢١ منها في الفترة من سنة ٢٥٥ إلى ٢٦٣م، ثم ٢٥ مقالًا من عام ٢٦٣ إلى ٢٦٨م،
وأخيرًا ست مقالات من ٢٦٨ إلى ٢٧٠م. والمجموعة الأولى هي التي أُلِّفَت قبل اتصال
فورفوريوس به، والثانية أثناء ذلك الاتصال، والثالثة بعد ذلك الاتصال.
وقد حفظ لنا فورفوريوس الترتيب الزمنيَّ الأصلي لمجموعات المقالات، ولكنه آثر أن
ينشرها مُقسَّمة إلى التساعيات الست، معتقِدًا أن ذلك أيسرُ في القراءة وأقربُ إلى
التنظيم المنهجي. فإذا ناقشنا ذلك التقسيم المنهجيَّ وجدنا أنه لا يُيسِّر للقارئ
فَهم فلسفة أفلوطين في كل الأحيان كما أراد فورفوريوس؛ فكثيرًا ما تَرِد خلال
المقال إشاراتٌ إلى مقالات سابقة زمنيًّا، ولكنها لا تأتي في الترتيب المنهجي إلا
فيما بعد، وهو على أية حال راعى أن يجمع في التساعية الأولى ما يتعلق بالإنسان
والأخلاق، وفي الثانية والثالثة يتحدث عن العالم المحسوس والعناية، وفي كل واحد من
الثلاثة الباقين عن أحد المبادئ الثلاثة العليا؛ النفس، والعقل، والواحد أو الخير.
ولكن الواقع أن كل تساعية من هذه لا تَقتصر على بحث موضوع واحد بعينه، بل تتشعَّب
أحاديثه فيها حتى تتناول كل الموضوعات، وإن كان يغلب على كل منها الطابع الذي أشرنا
إليه.
ومن هنا آثر بعض المؤلفين أن يقرءوا مقالات أفلوطين في ترتيبها الزمني متجاهِلين
التبويب المنهجيَّ الذي أتى به فورفوريوس. ومن هؤلاء «هويتكر» الذي يجد الترتيب
الزمني أيسرَ وأكثر ترابطًا، كما يستدل مِن تأمله لترتيب المقالات أن نقطة بداية
أفلوطين في كتاباته كانت هي البحث في النفس؛ لأن آراءه فيها تأتي في مستهل سلسلة المقالات.
٣ وهو يأتي لفكرته هذه بتأييد مُستمَد من آراء أفلوطين ذاته، الذي قال:
إن في وُسعنا أن نتخذ من فكرة النفس مركزًا، ثم نتدرج في البحث صعودًا وهبوطًا.
٤
ولا شك في أن اتِّباع الترتيب الزمني في قراءة مقالات أفلوطين يفترض أن الترتيب
الذي أورده فورفوريوس صحيح، وهذا هو ما تؤدي إليه أبحاث معظم مَن حقَّقوا ذلك
الموضوع، مثل هويتكر وجلفتسر
Gollwitzer وبرييه
الذي اختبر اعتراضات هينمان
Heinemann ووجد أنها
في النهاية لا تكفي للشك في الترتيب الزمني الذي ذكره فورفوريوس. وعلى أية حال،
فالبحث في صحة التسلسل الزمني لمؤلفات أفلوطين لا يزال يفتقر إلى الدقة، كما لاحظ
«إيبرفك
Ueberweg» الذي رأى أن الاهتمام
بفلسفة أفلوطين لا يُعادِله مطلقًا ذلك الإهمالُ الذي تَلْقاه مشكلةُ ترتيبها
الزمني من الباحثين، خاصةً وأن من المحتمل في رأيه أن يكون ترتيب فورفوريوس
الزمنيُّ منصبًّا على مقالات كل فترة بوجه عام، أي إنه أورد عن كل فترة ما كُتِب
فيها من مقالات، أمَّا الترتيب «في داخل» كل فترة، فربما لم يكن فورفوريوس قد ذكره
على الإطلاق.
٥
وعلى أية حال، فالنشرات التي ظهرت كلها، منذ أول نشرة لفورفوريوس في عام ٢٩٨م حتى
اليوم، تتبع كلها التبويب المنهجي لا الترتيب الزمني. والواقع أن التجرِبة قد
أثبَتَت أن محاولة الاهتداء إلى ترتيب زمني لن تفيد في هذا الصدد كثيرًا؛ فهناك
مثلًا محاولة «فنت
Wundt»
٦ و«هينمان
Heinemann»
٧ أن يوجد نوعًا من التطور الروحي في أفلوطين، فقسم فنت مثلًا تفكيره إلى
ثلاث فترات؛ الأولى من ٢٥٣ إلى ٢٦٢م، وكان فيها متأثرًا بأفلاطون قبل غيره،
والثانية من ٢٦٢ إلى ٢٦٨م، وكان فيها متأثرًا بأرسطو، والفترة من ٢٦٨ إلى ٢٦٩م،
وفيها تأثر بالرواقية. ومع ذلك، فلم يُفِدنا كثيرًا في إلقاء ضوء جديد على تساعيات
أفلوطين؛ ذلك بأن أفلوطين قد بدأ يكتب وهو في الخمسين من عمره، ومات بعد ١٦ عامًا،
وكتابته في هذه السِّن المتأخرة تكفي للقول إنه لم يمر بتطور روحي حاسم، وأن البحث
العميق في هذا الموضوع لن يؤدي إلى إلقاء ضوء باهر على نواحٍ كانت تبدو غامضة أو
متناقضة في فلسفته، كما حدث في دراسة ييجر
Jaeger
لأرسطو مثلًا.
٨
وعلى هذا الأساس نستطيع تعليل استطراداته الكثيرة في كتاباته، واحتشاد المقال
الواحد، بل الفصل الواحد في بعض الأحيان، بعديد من الموضوعات. والواقع أن طريقة
تدوينه لهذه المقالات ذاتها، تُبرِّر هذا الاضطراب الذي يظهر في كثير من المواضع
خلالها؛ فمما يرويه فورفوريوس أن أفلوطين لم يكن يعيد قراءة أي شيء مما كتب، نظرًا
لضعف عينَيه. كما أنه لم يكن متبحرًا في قواعد اللغة اليونانية، فكان تلميذه يقوم
بتهذيب لغة مقالاته في كثير من الأحيان؛ لهذا كانت المؤلفات من ناحية الشكل
اللُّغوي معقَّدة إلى حد بعيد، بل إن بعض الكُتاب لَيذهب إلى أنها أعقدُ ما كُتِب
في الفلسفة اليونانية. كما أن هذه المؤلفات كانت من ناحية طريقة تدوينها تسجيلًا
للدروس الشفهية التي كان أفلوطين يُلقيها على تلاميذه، في أغلب الظن. وطبيعيٌّ أن
هذه الدروس لم تكن تتبع خُطة موحَّدة؛ إذ كانت الموضوعات تتشعب تبعًا لما يعرِض له
خلال نقاشه مع تلاميذه من مسائل. وليس من المستغرَب أن يتشعب البحث إلى أقصى حد في
مدرسة كانت تَؤمُّها فئات مختلفة من الناس، تسعى كلها إلى تلَمُّس وسيلة التصفية
للروح على يد ذلك الفيلسوف الذي غزا روما بأفكاره. وتلك هي علة الاستطرادات الكثيرة
التي تحفل بها المقالات المختلفة، كما أن هذا سبب الافتقار إلى الدقة المنطقية في
الاستدلال، وهي ظاهرة مألوفة في التساعيات. ومن هنا ذهب البعض مثل «ريفو
Rivaud» إلى الحكم على التساعيات بأنها — إلى حد كبير
— مؤلَّف جماعي
une oeuvre collective،
٩ ساهم في وضعه التلاميذُ بما أثاروه من مسائل واعتراضات، كانت تُحفِّز
الأستاذَ إلى تغيير موضوعات حديثِه وتنويعها في كثير من الأحيان. فإن كان الباحث
يجد في قراءة التساعية مشقة، فما ذلك إلا لاحتفال مؤلفها بالمعنى أكثر من اللفظ،
واهتمامه بالأفكار وتتبعه إياها، بدلًا من التقيد بالأسلوب والعبارة.