المقال الثالث: في الإشكالات المتعلقة بالنفس (أ)

  • (١)

    خليقٌ بنا أن نُوقِف هذا البحث على كل الإشكالات المتعلقة بالنفس؛ فإما أن نُفلِح في إلقاء ضوء عليها، أو تظل هذه المشكلات قائمة بعد أن نكون قد اكتسَبْنا معرفةً بها على الأقل. والحق أنه ما من موضوع أجدرُ بالبحث والتنقيب والنقاش من هذا الموضوع. ومن بين العوامل العديدة (التي تدفعنا إلى دراسته) أنه يُوسِّع معارفنا في اتجاهَين؛ اتجاه الأشياء التي تتخذ من النفس مبدأً، واتجاه الأشياء التي تَرِد منها النفس. وفضلًا عن ذلك، فنحن حين نقوم بهذا البحث إنما نُلبِّي تلك الدعوة الإلهية التي أمَرَتنا أن نعرف أنفسنا بأنفسنا. وأخيرًا فإن شئنا أن نبحث في أي أمر آخر، ونصل إلى إدراكه، وإذا رُمنا الوصول إلى ذلك التأمُّلِ الذي هو موضوع حبنا، فمن الطبيعي أن نتساءل عن طبيعة الشيء الذي يقوم بهذا البحث. وإذا كان العقل الكلي ينطوي في ذاته على ثنائيَّة، فالأحرى أن تكون في العقول الفردية ذاتٌ تَتلقَّى وموضوع يُتَلقَّى؛ أمَّا كيف يتلقى عقلنا الأمور الإلهية، فذلك ما ينبغي علينا بحثه، ولكن هذا البحث لن يكون مُمكِنًا إلا بعد أن نُدرِك كيف ترد النفس إلى الجسم.

    والآن فلنَعُد مرة أخرى إلى أولئك الذين يدَّعون أن نفوسنا صادرة عن النفس الكلية. إنهم ليقولون إنه على الرغم من أن مجال نفوسنا ومجال النفس الكلية واحد، وعلى الرغم من أن قدرتهما العقلية متشابهة (هذا إذا كانوا مُسلِّمين بهذا التشابه)، فإن ذلك ولا شك لا ينهض دليلًا كافيًا نُثبِت به أن نفوسنا لا يمكن أن تكون أجزاء من النفس الكونية؛ إذ إن الأجزاء متجانسة مع الكل. ثم إنهم يهيبون برأي أفلاطون، الذي قال في الفقرة الذي أثبت فيها أن للكون نفسًا تُحييه؛ «وكما أن بدننا جزء من العالم، فنفسنا بدورها جزء من النفس الكونية.»١ وفضلًا عن ذلك فإن أفلاطون يقول ويُثبِت بوضوح أننا نَتْبع حركة الكون الدائرية، وأننا نتلقَّى منها شخصيتنا وأحوالنا، وأننا ما دمنا قد وُلِدنا داخل الكون، فإننا نتلقى نفوسنا من ذلك الكون المحيط بنا. وكما أن كلَّ جزء مِنَّا يتلقى جزءًا من نفسنا، فكذلك، وبالمثل، نتلقى نحن ذاتنا — بوصفنا أجزاءً بالقياس إلى الكون — جزءًا من النفس الكونية. ويُعبِّر أفلاطون عن نفس المعنى مرة أخرى فيقول: «إن النفس الكلية تَرعى مجموع الأشياء غير الحية.»٢ أي إنه لا يعترف من بعد نفس العالم، بأية نفس غريبة عنها، ما دامت تلك النفس تتولى رعاية مجموع الأشياء غير الحية.
  • (٢)

    سنَرُد أوَّلًا على هذا الزعم قائلين: إن أصحابه لَيُسلِّمون بتجانس النفوس الفردية مع نفس العالم؛ لأنهم يعترفون بأن هذه النفوس جميعًا تدرك نفس الموضوعات. وإذن فهم يُسلِّمون بأن النفوس الفردية ونفس العالم من نوع واحد، وفي هذا إنكار للقول بأن هذه النفوس أجزاء منها. وإنما الأصوب أن يُقال إن هناك نفسًا هي في الوقت ذاته نفس واحدة وكل واحدة من النفوس. فإذا ما سلَّم خصومنا بوَحْدة النفس، فإنهم يعودون فيقولون باعتماد النفس على مبدأ آخر، لا يرتبط بهذا الموجود أو ذاك، ولا بالعالم أو بأي شيء آخر، بل هو مصدر كل نفس في العالم وفي كل كائن حي، والواقع أن من الصواب أن يُقال إن النفس في كليتها ليست نفسَ شيء معين، ما دامت جوهرًا، وما دامت النفوس — أي نفوس الأشياء الجزئية — تغدو كذلك بالعرَض.

    ولكن علينا ولا شك أن نشرح بمزيد من الوضوح ما يُقصَد هنا بكلمة «جزء»؛ فقد يُقصَد بالجزء أن يكون جزءًا من جسم، سواءٌ أكان الجسم متجانسًا أم غير متجانس، وهذا معنًى ينبغي استبعاده، وحسبُنا في ذلك أن نلاحظ أن الأجزاء في الأجسام التي تتجانس أجزاؤها،٣ تختلف بكتلتها لا بنوعها؛ فبياض هذا الجسم مثلًا ليس جزءًا منه على الإطلاق، والبياض الموجود في جزء من اللبن ليس جزءًا من البياض الذي يُوجَد في كل كتلة اللبن؛ فنحن هنا بإزاء بياض جزء من اللبن، لا جزء من بياض اللبن؛ إذ إن البياض لا شكل ولا كَمَّ له على الإطلاق، فشأن هذا المعنى الأول هو إذن كما بَيَّنَّا.
    وقد تُقال كلمة «جزء» بمعنًى آخر عن الأشياء التي ليست بأجسام، وعندئذٍ تُطلَق إمَّا على الأعداد؛ كأن يُقال مثلًا إن العدد ٢ جزء من ١٠. والكلام هنا ينصبُّ على الأعداد المجردة وحدها، أو بالمعنى الذي يتكلم فيه المرء عن جزء من دائرة أو خط،٤ أو بمعنى جزء من علم.
    ففي مجموعات الوحدات، وفي الأشكال الهندسية، كما في الأجسام، ينقص الكل حتمًا إذا ما قُسِّم إلى أجزاء، ويصبح كل جزء أصغرَ من الكل؛ إذ إن تلك كميات، ولما كانت تستمد كل وجودها من كميتها، وإن لم تكن هي الكَمَّ في ذاته، فإنها بالضرورة قابلة للزيادة والنقصان. على أن هذا المعنى لا يمكن أن يكون هو المقصودَ بكلمة «جزء» إذا ما قيلت بصدد النفس؛ إذ إن النفس ليست كمًّا، كأن نقول عن النفس الكلية إنها العشَرة، وعن النفوس الجزئية إنها هي الوحدات المكونة لها. فلو قلنا ذلك لكان لقولنا عدةُ نتائج مُمتنِعة؛ فالعشَرة ليست وحدة، وعلى ذلك فإما أن كلًّا من وحداتها المكونة نفس، أو أن هذه النفس الشاملة مركبة من وحدات ليست بذات نفس. ولنذكر هنا أيضًا أن أجزاء النفس الكلية متجانسة مع الكل، غير أنه ليس من الضروري في حالة الكَم المتصل أن تكون الأجزاء مماثلة للكل، أي أن تكون أجزاء الدائرة والمربع مثلًا دوائرَ ومربعات. وحين يمكن أن تكون الأجزاء مشابهة للكل، فليس من الضروري أن يكون ذلك التشابه تامًّا؛ فأجزاء المثلث مثلًا ليست كلها مثلثات، بل أشكال مختلفة، ومع ذلك فهم يُسلِّمون بأن النفس متجانسة مع أجزائها. ونحن لا ننكر أن الجزء من الخط هو خط بالفعل، ومع ذلك فهو يختلف عن الخط الكلي في حجمه. فإن قيل إن الفارق بين النفس الجزئية والنفس الكلية فارقٌ في الحجم، كان معنى ذلك أننا نجعل من النفس، التي لن تستمد عندئذٍ صفتها المتميزة إلا من الكم، كمية وبالتالي جسمًا. ومع ذلك فقد افترضنا أن النفوس كلها متشابهة وتامة؛ فمن الواضح إذن أن النفس الكلية ليست مُقسَّمة على النحو الذي يُقسَّم به حجم.٥ ومن المحال أن يُسلِّم خصومنا ذاتهم بأن النفس الكلية تُشطَر إلى أجزاء؛ فلو شُطِرَت النفس لكان في ذلك ضياعُها، ولما عادت إلا لفظًا، إن كانت من قبلُ كُلًّا على الإطلاق، ولأصبحت النفس أشبهَ بنبيذ يُوزَّع على أقداح عدة، بحيث يكون كل جزء في كل قدح جزءًا من الكتلة الكلية للنبيذ.

    فهل النفس جزء بالمعنى الذي تُعَد فيه نظرية من العلم جزءًا من ذلك العلم منظورًا إليه ككل؟ الواقع أن العلم يظل على وحدته رغم هذا التقسيم إلى نظريات، وما هذا التقسيم إلا إيضاح لكل من أجزائه وتحقيق له، وبهذا تنطوي كل نظرية بالقوة على العلم الكلي، ومع ذلك فالعلم الكلي لا يتأثر وجوده بها. ولكن لو كان ذلك حالَ النفس الكلية والنفوس الجزئية، لما كانت النفس الكلية، التي لها مثل هذه الأجزاء، نفسًا لهذا الشيء أو ذاك، ولوُجِدَت في ذاتها، وعندئذٍ لن تكون النفس الكلية هي نفسَ العالم، وإنما تصبح نفسَ العالم بدورها نفسًا جزئية. ولمَّا كانت كل النفوس من نوع واحد، فإنها كلها تصبح أجزاءً لنفس واحدة. وعندئذٍ فعلى أي أساس تتميز إحداها بأنها نفس للعالم وبقية النفوس بأنها نفوسُ أجزاء من العالم؟

  • (٣)

    فهل النفوس أجزاء من النفس الكلية، بالمعنى الذي نُسَمِّي فيه النفس الموجودة في أصبع الحيوان؛ جزءًا من النفس الكاملة الموجودة في الحيوان كله؟ هذه النظرية تزعم إمَّا أنه ليس ثمة نفس إلا في جسم، أو أن كل نفس ليست في جسم، بحيث تكون نفس العالم خارجة عن جسم العالم، وتلك مسألة سنبحثها فيما بعد. أمَّا الآن فلنمضِ في هذه المقارنة، باحثين عن المعنى الذي يمكن أن تُفسَّر به.

    لو كانت نفس العالم تنتشر في كل الكائنات الحية (كما تنتشر النفس الفردية في كل أجزاء الكائن الحي)، ولو كانت كل نفس جزءًا بهذا المعنى، فعندئذٍ لن يكون في هذا انقسام لها؛ لأنها تنتشر في كل الكائنات ذوات النفوس بحيث تكون في كل موضع كما هي، كاملة واحدة، وتتمثل في موجودات عديدة في نفس الوقت، وكل هذا لا يُسوِّغ لنا القول إن هناك نفسًا كليةً من جهة، وأجزاءً لهذه النفس من جهة أخرى، وبخاصة إذا أضفنا إلى ذلك أن لكل جزء نفسَ القوى. بل إن اختلاف وظيفة كل جزء عن وظيفة الجزء الآخر، كاختلاف وظيفة العينَين عن الأذنَين مثلًا، لا يستتبع القول إن جزء النفس الذي يتحكم في العينَين مختلف عن ذلك الذي يتحكم في الآذان. فلنَدَع لسوانا هذه التقسيمات. وإنما النفس واحدة، وإن اختلفَت الملَكة التي تعمل في كلتا الحالتَين، ولكن كل الملكات الأخرى توجد في كل من هاتَين الملَكتَين، وما يرجع اختلاف الإدراك إلا إلى اختلاف الأعضاء؛ فكل إدراك هو إدراكُ صور يمكن أن تُتلقَّى على أي نحو، ودليل ذلك أن كل المؤثِّرات لا بد أن تنتهيَ إلى مركز واحد؛ إذ إنه ليس في استطاعة كل عضو من الأعضاء أن يتلقى كل المؤثرات، بل إن لكل عضو مؤثراتِه الخاصةَ، ولكن الحكم على هذه المؤثرات يتوقف على مبدأ واحد، يفهم — شأنُه شأنُ القاضي — كلَّ ما يصدر من الأقوال وما يُنفَّذ من الأعمال.

    فالنفس الكلية إذن — كما يقولون — وحدة ماثلة في كل مكان، وإن اختلفَت وظائفها. فإذا كانت الأجزاء لها بمثابة الإحساسات (في الكائن الحي الجزئي) فعندئذٍ لن يتسنَّى لكل جزء أن يفكر، وإنما تستطيع ذلك النفسُ الكلية وحدها. أمَّا إذا كان كل جزء قادرًا على التفكير، لكان موجودًا في ذاته، وإذن تكون النفس (الفردية) مُفكِّرة شأنها شأن النفس الكلية، فهي في هُوية مع تلك النفس، ولا يمكن أن تكون جزءًا من كل.

  • (٤)

    إذا فهمنا وحدة النفس على هذا النحو، فسيَعرِض لنا سؤالان ينبغي علينا أن نُجيب عنهما؛ لأنهما ناتجان عن هذا الفهم؛ أولهما: هل من الممكن أوَّلًا أن يكون الشيء في كل الأشياء معًا؟ ثم إنهم يقولون إن ثمة نفسًا في الجسم، وأخرى ليست فيه، ومن الأصوب ولا شك أن يُقال إن كل نفس في جسم دائمًا، وبخاصة نفس الكون، التي لا يتصور أحد تركها جسمها كما تفعل نفسنا. ومع ذلك فالبعض يقول إن نفسنا وإن كانت ستترك جسمها الحالي، فلن تظل مع ذلك خارجة عن كل جسم. ولكن هَبْ أن هذه النفس تخرج عن كل جسم، فكيف تترك نفس جسمها، بينما تحتفظ نفسٌ أخرى به، مع أن النفس في الحالتَين هي هي؟ إن العقل يتفرق ولا شك، عن طريق التغاير، إلى أجزاء تتميز بعضها عن البعض كلَّ التميز، ومع ذلك فهذه الأجزاء متوحدة دائمًا. وإذا كان جوهر العقل لا يعرف القسمة أصلًا، فليس ثمة صعوبة في تفسير تفرق العقل. أمَّا بصدد النفس، التي يُقال عنها إنها «قابلة للانقسام من جسم إلى جسم»، فإن فكرة وحدة النفوس هذه تُثير مشكلاتٍ عدة.

    وفي وُسعنا أن نلتمس حلًّا لهذه المشكلات بالقول إن الوحدة موجودة في ذاتها، وبأنها لا تهبط إلى الجسم. ومن هذه الوحدة تُستمَد كل النفوس، سواءٌ في ذلك العالم وباقي النفوس، وتظل تلك النفوس سويًّا إلى حد معين، فلا تكون كلها إلا نفسًا واحدة، طالما أنها ليست نفوسَ موجودٍ بعينه. وهي في استمساكها بالوَحدة واتصالها بعضها ببعض عن طريق أطرافها العليا، تنبعث بذاتها هنا وهناك، كَنور يقترب من الأرض وينتشر في بيوتنا، وإن لم يتجزأ بانتشاره أو بفَقْد وحدته؛ فنفس العالم تظل دائمًا في المجال الأعلى؛ لأنها لا تَعرف هبوطًا إلى العالم الأسفل، ولا يتملَّكها شوقٌ إلى المحسوسات. أمَّا نفوسنا فلا تظل في تلك المنطقة دوامًا؛ لأن لها نصيبًا معلومًا من المادة التي تُضاف إليها في عالمنا هذا، ولأنها تَرعى جسمًا يتطلب منها كل انتباه. وإن نفس العالم لتشبه، في جزئها الأدنى على الأقل، نفس شجرة ضخمة، تتحكم في حياتها دون جَلَبة أو عناء. أمَّا نفسنا فجزؤها الأدنى أشبه بالديدان التي تتوالد على أغصان الشجرة المتشابكة — وتلك في الحق صورة البدن الحي في الكون — وتأتي بعد ذلك نفس أخرى تتفق مع الجزء الأعلى للنفس الكونية، ولنا أن نقارنها بزارع تَشغله الديدان المتولدة في النبات، ويحرص كلَّ الحرص على تهذيب الشجرة. كما يُمكننا أن نُشبِّه النفسَين بإنسان صحيح الجسم، يحيا مع غيره من أصحَّاء الجسم، فيتفرَّغ عندئذٍ لما ينبغي عليه عمله ومعرفته من الأمور، أمَّا لو كان مريضًا لكرَّس جهوده للعناية بجسمه، ولشُغِل به وحده.

  • (٥)
    ولكن، إن صح أن النفس واحدة بهذا المعنى، فكيف تظل هناك نفس هي نفسك، ونفس هي نفس شخص آخر؟ وهل النفس الموحدة نفس أحدهما بجزئها الأدنى، ونفس الآخر بجزئها الأعلى؟ لو قلنا ذلك لكان معناه أن سقراط يظل باقيًا طالما ظلت نفسه في جسم، وسيَفنى إذا ما وصَلَت نفسه إلى منطقة الكمال. ولكن أي موجود حقيقي لا يفنى؛ فالمعقولات في العالم المعقول لا تفنى أبدًا؛ لأنها ليست موزعة على أجسام، وإنما تظل كل منها باقية، وتحتفظ — بجانب صفتها المميزة — بصفة مشتركة بينَها جميعًا؛ هي الوجود. كذلك الحال في النفوس التي يرتبط كل منها بمبدأ عقلي٦ تعتمد عليه، والتي هي تعبيرٌ عن تلك العقول، فتكون أكثر من المبادئ العقلية عددًا؛ لأنها ناتجة عن نموها وتكثُّرها. وهي تنشأ عن المبادئ العقلية كما ينشأ العدد الكبير عن العدد الصغير، وإذ تظل متصلةً بأصلها وتُناظر كلٌّ منها مبدأً عقليًّا أقلَّ منها انقسامًا، نراها قد شاءت هي ذاتها أن تنقسم، ولكنها لا تستطيع أن تَمضي في الانقسام حتى منتهاه، بل تحتفظ بالهوية مع الاختلاف، فتظل كلٌّ منها قائمة على أنها وحدة، ولكنها كلها معًا لا تكون إلا موجودًا واحدًا.

    ذلك إذن هو مُجمَل هذا الرأي؛ فكل النفوس قد نشأت عن نفس واحدة، وتلك النفوس الكثيرة الناشئة عن نفس واحدة هي كالمبادئ العقلية؛ مُفارِقة وليست بمُفارِقة. والنفس التي تظل باقية هي التعبير الواحد عن العقل، ومن تلك النفسِ نشأَت المبادئ العقلية اللامادية الخاصة، كما يحدث في العالم المعقول.

  • (٦)

    فكيف تسنى إذن لنفس العالم، وهي مماثلة في نوعها لنفوسنا، أن تصنع العالم، بينما لم تَخلق نفسُ فردٍ معيَّن شيئًا، مع أنها بدورها قد توافر لها في ذاتها كل شيء؟ ولقد ذكرنا من قبل أن الشيء الواحد يمكن أن يُرَدَّ إلى أشياء مختلفة ويوجد فيها معًا، وعلينا الآن أن نذكر كيف يكون ذلك؛ فربما أمكَننا بهذا أن نَعرف كيف أن الشيء ذاته، حين يوضع في أشياء مختلفة، قد يفعل ويتقبل انفعالًا معينًا، أو يفعل وينفعل في نفس الوقت.

    ولكن علينا أوَّلًا أن نبحث السؤال ذاته؛ فكيف ولِمَ خَلقَت نفسُ العالم الكون، بينما تُدبِّر كل نفس من النفوس الجزئية جزءًا من العالم فحسب؟ ذلك لأنه ليس مما يدعو إلى الدهشة أن يتحكم بعض الناس في عدد كبير، بينما يتحكم البعض ممن توافرت لهم نفس المعارف في عدد أقل. وهنا قد يُقال: فلِمَ كان ذلك؟ من الممكن أن يُجاب بأن الفروق بين النفوس أعظم بكثير؛ فمنها من لم تَترك النفس الكلية، فهي هناك، ترعى جسمها من حولها. ومنها نفوس تَقاسمت — تبعًا لنصيبها — أجزاء الجسم الموجود من قبل، فتجيء من بعد نظيرتها النفس الكلية، التي أعدَّت لها مَقارَّها من قبل. ومن الممكن أن يُجاب أيضًا بأن هناك نفسًا تتأمل العقل في كليته، بينما لا ترى بقية النفوس سوى العقول الجزئية التي تعتمد عليها، وربما كان في وسع هذه النفوس الأخيرة بدورها أن تخلق، ولكن لما كانت النفس الكلية قد خلقت من قبل، فلن يعود في وسع تلك النفوس أن تخلق، ما دامت قد استبقت إلى ذلك. وعلى ذلك، يظل الإشكال قائمًا، أيًّا ما كانت النفس التي سبقت الباقين إلى الفعل. ولكن أحرى بنا أن نقول: إن النفس الكلية هي التي خلقت الكون؛ لأن صلتها بالمجال الأعلى أوثق؛ فالنفوس تَعظم قوتها إن كانت تَتخذ من العالم المعقول وِجهتَها، وهي تظل فيه آمنةً فتخلق بيُسر عظيم؛ إذ إن أعظم القوى هي التي لا تنفعل، وتلك القوة التي تأتي من أعلى تظل فعالة دائمًا، وهناك تَظل النفس في ذاتها، فتؤثر بفعلها على كل شيء يقترب منها. أمَّا بقية النفوس فتسير وَفْق هواها، وبذلك تتوغل في أعماق الهاوية، أو ربما كان علينا أن نقول إن عنصر الكثرة في تلك النفوس ينجذب إلى أسفل، فيَجذب معه النفوس ذاتها، ومعها أفكارها.

    وإذن فتعبير «أفلاطون»: «نفوس المرتبة الثانية والثالثة»، يُشير بالضرورة إلى تفاوت النفوس في القرب من العالم المعقول. وكذلك لا تكون كل النفوس في عالَمِنا هذا على صِلَة واحدة بالمعقولات؛ فبعضها يتحد بها، والبعض الآخر يتلقى منها التأثيرَ ويتملكه الشوق إليها؛ ذلك لأن النفوس ليست كلها فعالة بنفس الملَكات، بل إن بعضها يستخدم أرفع ملكة وبعضها الآخر يستخدم الملَكة التالية لها، وغيرها الثالثة، وإن كانت لكل النفوس كل الملكات.

  • (٧)

    حَسْبنا ما قلنا في الموضوع السابق، وبقيت أمامنا العبارة الواردة في «فيليبوس» ألتي تفترض أن سائر النفوس أجزاء من نفس العالم. ولكن الصيغة التي عبر بها أفلاطون عنها لا تنطوي على المعنى الذي يفهمه البعض منها؛ فهي تعني أن السماء كائن حي، وهي الفكرة التي كان أفلاطون يريد أن يُثبِتها في ذلك الموضع، فبرهن عليها بقوله إن من المحال أن نتصور السماء بلا نفس، ما دمنا نحن الذين نملك جزءًا من جسم الكون، قد وهبنا نفسًا؛ إذ كيف يتسنَّى لجزء من مجموع أن يملك نفسًا إن كان المجموع كله بغير نفس؟ ثم إن فكرته واضحة كل الوضوح في «طيماوس»؛ فالصانع يخلق بقية النفوس من بعد النفس الكلية، ولكنه يصوغها في نفس القالب الذي صِيغت منه نفس العالم. وهو حقًّا يجعل نفوس المرتبة الثانية والثالثة مختلفتَين عن النفس الكلية على نحوٍ واضح، ولكنها كلها قد صنعت على نفس النمط. أمَّا العبارة الواردة في «فيدروس»: «إن النفس الكلية ترعى مجموع الأشياء غير الحية»، فهي صحيحة كلَّ الصحة؛ فأي شيء يتحكم في الطبيعة الجسمية، ويُنظِّمها ويصنعها إن لم يكن النفس؟ وليس صحيحًا أن القدرة على ذلك من طبيعة نفس واحدة بينما بقية النفوس قد عدمت هذه القدرة؛ فالنفس الكاملة، كما يقول أفلاطون، أي نفس العالم التي تجول في الأعالي، تُمارِس فعلها دون أن تغوص في العالم، بل تظل عالية عليه «وكل نفس كاملة تماثلها في هذا التحكم.» أمَّا النفس التي ميز بينها وبين نفس الكون، فهي عنده «نفس قد فقدت أجنحها.» أمَّا القول بأن النفس «تتبع الحركة الكونية الدائرية، وتستمد منها طبيعتها، وتتلقى تأثيرها»، فليس على الإطلاق دليلًا على أن نفوسنا، في رأي أفلاطون، أجزاء من النفس الكونية؛ إذ إن النفس (في عالمنا هذا) يمكن أن تتأثر كثيرًا بطبيعة الأمكنة والمياه والهواء، كما أن سُكْنى المدن المختلفة والمزاج البدني يطبع عليها تأثيرها. ونحن نُسلِّم بأننا، لما كنا في الكون، فإن لنا قدرًا من نفس العالم. كما أننا لا ننكر تأثير حركة السماء الدائرية. غير أننا نضع في مقابل كل هذه المؤثرات نفسًا مختلفة عنها، ودليل اختلافها هو أن لها قدرةً على مقاومة كل هذه المؤثرات. بقي القول بأننا قد وُلِدنا في داخل الكون، غير أن للطفل في بطن أمه نفسًا متميزة، والنفس التي في جسمه غير نفس الأم.

  • (٨)

    وهكذا حُلَّت هذه الإشكالات. أمَّا عن التعاطف بين النفوس، فليس عقَبة في سبيل رأينا هذا؛ إذ إن النفوس تتعاطف فيما بينها؛ لأنها صادرةٌ كلها عن نفس واحدة، منها تأتي نفس العالم أيضًا. ولقد بَيَّنَّا أن هناك نفسًا واحدة ونفوسًا كثيرة، وقلنا إن العلاقة بينها تختلف عن علاقة الأجزاء بالكل، وتحدثنا أيضًا عن اختلاف النفوس فيما بينها بوجه عام. فلنقل الآن بإيجاز إن ما بينها من فرق في المزاج وفي العمليات العقلية راجعٌ أيضًا إلى الأبدان التي تحل فيها، وإلى حياتها السابقة. ولقد قال «أفلاطون» إن النفس تختار حياة ملائمة لحياتها السابقة. أمَّا إذا تأملنا طبيعة النفس بوجه عام، لوجدنا أن الفروق بين النفوس هي تلك التي أوضحناها حين تحدثنا عن نفوس المرتبة الثانية والثالثة؛ فكل النفوس، كما قلنا، متماثلة، ولكن كل واحدة منها تتلاءم مع الملَكة التي تُمارس فيها فاعليتها؛ فمنها ما تتحد بالفعل بالمعقولات، ومنها ما لا تتحد بها إلا عن طريق المعرفة، وغيرها عن طريق الشوق. وباختلاف الأمور التي تتأملها كل نفس، تصبح النفس عين ما تتأمله؛ فالامتلاء والكمال لا يتمثلان في كل النفوس بقدر واحد، ولكن لما كان المجموع المنظِّم الذي تُكوِّنه هذه النفوس زاخرًا بالتنوع — إذ إن العقل الكلي واحد، ولكنه ينطوي على كثرة وتنوع، فهو أشبهُ بكائن حي يتبدى على صور كثيرة — فإن الموجودات تكون نظامًا، وليست في حالة تبدد تام، ولا يمكن أن يسودها الاتفاق، ما دام لا يسود الأجسام ذاتها؛ ونتيجة لهذا كله كان عدد الموجودات محددًا. ومن جهة أخرى، فينبغي أن تظل الموجودات ثابتة، ولا بد أن تظل المعقولات في هُوية مع ذاتها، وأن يكون كل منها واحدًا من الوجهة العددية؛ فهو موجود محدد. أمَّا الجسم الذي تزول فيه الصفات الفردية بطبيعتها؛ لأن صورته الخاصة متغيرة، فليست له حقيقة خاصة إلا عن طريق محاكاة الموجودات الحقة. ولكن الموجودات التي لا تنشأ عن تركيب صورة مع مادة، تستمد حقيقتها من شيء واحد في العدد، وُجد منذ البدء، لا يتحول إلى ما لم يكن عليه، ولا يكف عن أن يكون ما هو عليه؛ فلنفرض أن هناك فاعلًا يُنتِجها، فهو لن يصنعها من مادة (ما دامت غير مركبة)، فلا بد إذن أن يأتي لها بقدر من جوهره يستخرجه من ذاته، وبهذا يطرأ عليه تغير، تبعًا للمدى الذي يخلق فيه خلال لحظة معينة. ولكن لأي سبب يخلق في تلك اللحظة، ولا يخلق دائمًا على نفس النحو؟ ثم إن الموجود المخلوق لن يكون أزليًّا؛ لأن درجته من الوجود قد تَزيد وتنقص، غير أننا نفترض النفس أزلية.

    – ولكن كيف يكون الشيء لا متناهيًا، إن كان ثابتًا؟٧

    – ذلك لأننا هنا بصدد اللانهائية في القوة؛ فمن الممكن أن تكون القوة لانهائية دون أن تكون منقسمة إلى ما لا نهاية؛ فالله مثلًا ليس موجودًا متناهيًا.

    فكلٌّ من النفوس هي إذن على ما هي عليه، دون أن يحُدها من الخارج شيء آخر. ولكل نفس مقدار، ولكنه مقدار مُعادِل لما تقتضيه طبيعتها. ولا يحدث للنفس مطلقًا أن تخرج عن حدودها، وإنما هي تتخلل كل أجزاء الأبدان التي جُبِلَت على تخللها. وهي لا تنفصل أبدًا عن ذاتها، سواءٌ أكانت في الأصبع أم في أخمص القدم. وهي حالَّة في كل الجسم الذي تتخلله، فهي مثلًا في كل جزء متباين من النبات، بل في النبتة التي تُفصَل عنه. وهي في نفس الوقت في النبات الأصلي، وفي ذلك الذي نتَج عنه بالاستنبات؛ إذ إن جسم المجموع واحد، وهي تتخلله كله من حيث هو جسم واحد.

    فإذا ما فسد حيوان وخرجَت منه كائنات كثيرة، فإن نفس الحيوان لا تعود في ذلك الجسم، ولا يعود الجسم قادرًا على تلقيها، وإلا لما كان قد فسد. ومع ذلك، فإن كانت لأجزاء الجسم التي يجعلها الفساد قابلةً لتوليد الحيوانات نفسٌ فذلك لأنه ما من موجود تبعد عنه للنفس الكلية. وكل ما في الأمر أن من الموجودات ما في وسعه أن يتلقاها، ومنها ما ليس في وسعه أن يتلقاها. وفضلًا عن ذلك، فالموجودات الحية الناشئة عن الفساد لا تَزيد من عدد النفوس؛ فهي تعتمد كلها على نفس العالم الواحدة، التي تظل على وحدتها. وذلك أشبه بما يحدث فينا حينما تُبتَر أجزاء من جسمنا وتنمو غيرها مكانها، فتبتعد نفسنا عن الأولى وتقترب من الثانية، طالما أن النفس الواحدة تظل موجودة في هذا الجسم. ففي الكون نفس واحدة تظل موجودة على الدوام. ورغم أن من الأشياء التي يتضمنها هذا العالم، ما يحتفظ بنفس وما ينبذ النفس، فإن مجموع ما له نفس يظل كما هو.

  • (٩)

    وعلينا الآن أن نبحث كيف، وعلى أي نحو تُرَد النفس إلى البدن، فذاك موضوع يستحق، كسابقه، انتباهَنا وعنايتنا.

    إن النفس تدخل البدن على نحوَين؛ فقد يحدث أن تكون النفس قد وُجِدَت من قبل من جسم، وعندئذٍ تغير الجسم وتنتقل مثلًا من جسم غازي أو ناري إلى جسم يابس. فإن قال قائل إن ما حدث في هذه الحالة مجرد تغير في الجسم، فإنما يرجع ذلك القول إلى أن الجسم الذي انتقلت منه النفس إلى الجسم اليابس يظل غيرَ منظور. وقد تنتقل النفس ثانيًا من حالة لم يكن لها فيها جسم على الإطلاق إلى جسم معين. وعندئذٍ تكون تلك أول مرة ترتبط فيها النفس بجسم. فما هو إذن، في هذه الحالة الأخيرة، ذلك الإحساس الذي تستشعره النفس حين تَتخذ جوهرًا ماديًّا حولها بعد أن كانت بريئة تمامًا من كل علائق البدن؟

    لا شك أنه يحسن بنا، بل ينبغي علينا، أن نبدأ ببحث نفس العالم. ولكن علينا أن نذكر جيدًا أننا إذا كنا نتصور تلك النفس واردة إلى جسم وباعثة فيه الحياة، فما ذلك إلا للتوضيح، ولتقريب فكرتنا إلى الأذهان؛ إذ إن هذا الكون لم يكن أبدًا بلا نفس، ولم يوجد جسم أبدًا في غياب النفس، ولم يحدث أبدًا أن وُجِدَت مادة عَدِمَت النظام. ولكن من الممكن تصور تلك الألفاظ؛ النفس والجسم، والمادة والنظام، بأن نفصل أحدهما عن الآخر بالفكر؛ فللمرء بفكره وعقله عناصرُ كلِّ مركب.

    وها هي ذي الحقيقة؛ فلو لم يكن ثمة جسم لما ظهرت النفس؛ إذ لن يكون هناك محلٌّ تسمح لها طبيعتها بأن تهبط إليه. فإن كان ينبغي على النفس أن تظهر، فمن الواجب أن تخلق لذاتها محلًّا؛ وبالتالي جسمًا.٨ فالنفس وإن كانت ساكنة سكونًا مُتضمَّنًا في «الثبات» المطلَق، فإنها مع ذلك أشبه بنور باهر يبعث وهجًا تصل شدته إلى حد الخروج عن حدود النور، فيتحول إلى ظلمة.٩ وحين ترى النفس هذه الظلمة، بعد أن ولدَتها، تُشكِّلها في صورة؛ إذ إن القانون الذي يتحكم في الأشياء يقضي بألا يكون ما يقترب من النفس محرومًا من المبدأ العاقل، بل ينبغي أن يكون للظُّلمة من المبدأ العاقل القدرُ الذي تستطيع تلقِّيَه؛ فهو ظل خافت في داخل الظل الآتي من النفس.
    وهكذا يغدو العالم أشبهَ ببيت متناسق متنوع، لا يتخلى عنه المنظِّم الذي شيده، وإن كان مع ذلك غير مقيد به. فالصانع قد ارتأى أن العالم في مجموعه وفي كلٍّ من أجزائه، جدير برعايته، التي تفيد ذلك العالم؛ إذ تُضفي عليه الوجود والجمال، بقدر ما يمكنه المشاركة فيهما. ومع ذلك فمحال أن يكون ذلك عبثًا ثقيلًا على من يدبره؛ إذ إن هذا الأخير يظل في عليائه مع تدبيره للعالم. ذلك هو الكائن الحي؛ فله نفس ليست منتميةً إليه كلية، وإنما تعمل من أجله، تتحكم فيه ولا يتحكم فيها، ولا يملكها؛ فهو في النفس التي تحفظه، وليس فيه شيءٌ لا يشارك في تلك النفس. وهو كشبكة أُلقِيَت في البحر، تظل ممتلئةً بالماء، وإن كانت لا تستطيع أن تحتفظ لنفسها بهذا الماء الذي تحيا فيه. ولكن البحر يمتد والشبكة تمتد معه بقدر ما في وسعها؛ إذ إن كلًّا من أجزائها لا يمكن أن يكون في موضع غير الذي وُضع فيه. وبالمثل يبلغ امتداد النفس بطبيعتها حدًّا يُمكِّنها من أن تستوعب بقُدرة واحدة كلَّ الجوهر المادي. فليس مقدارها محدَّدًا، وإنما هي تكون حيثما يمتد الجسم. فإن لم يوجد جسم لما أثر ذلك على عِظَمها في شيء، بل تظل على ما هي عليه. والكون يمتد حيثما تكون النفس؛ فأطرافه تُحَد بالنقطة التي يمكنه أن يظل حين يمتد إليها باقيًا تحت رعاية النفس. والظل الذي تُلقيه النفس يمتد بقدر ما يمتد بالمبدأ الذي يصدر عنها. وهذا المبدأ ينشأ عنه في الكون امتداد يصل إلى القدر الذي يقتضيه المثال المعبر عنه.١٠
  • (١٠)

    وعلينا بعد هذا العرض أن نَعود إلى الفكرة القائلة إن الكون ظل منذ الأزل كما هو، وأن ننظر إليه كله دفعة واحدة؛ فنحن مثلًا نرى الهواء والنور والشمس، أو القمر والنور والشمس — نقول: نحن نرى هؤلاء الثلاثة معًا، ولكن أحدهم (وهو الشمس الذي يصدر عنها النور) في المرتبة الأولى، والآخر (النور الذي يصدر عنها) في المرتبة الثانية، والأخير (القمر أو الهواء المضاء) في المرتبة الثالثة. وبالمثل علينا أن نتصوَّر النفس قائمة أبدًا، ومن بعدها الأشياء التي تليها مباشرة، ثم الأشياء التي تلي هذه، وهذه الأخيرة أشبهُ بآخر أشعة لهب، تلمع من بعده، وتنشأ من إظلام ذلك اللهب العقلي الأخير، وهو النفس. ثم تُضاء تلك الظلمة، ويكون ما يُشبِه الصور التي تُحلِّق فوق هذا القرار الذي هو الظلمة التامة الأولى. وتنظم النفس هذا القرار المظلم؛ فللنفس في مجموعها القدرةُ على تنظيم تلك الظلمات تبعًا لمبادئَ عاقلة، وذلك مثلما تُشكَّل المبادئ البذرية، وتصور الحيوانات التي هي أشبه بعوالم صغيرة؛ فما يتصل بالنفس مباشرة يُشكَّل وفقًا للصفات التي يمتلكها جوهر النفس بطبيعته؛ فليس لنا أن نعتقد بأن فعل النفس يتم وفقًا لحكم عرضي، أو أنها تتردد في تأمل وروية؛ إذ إن الفعل الذي يصدر بعد رَوِية لا يكون فعلًا طبيعيًّا، وإنما يتضمن صناعة طارئة. والصناعة لاحقة للطبيعة، تُحاكيها فلا تنتج إلا تقليداتٍ مشوَّهة عاجزة، ولعبًا تافهةً لا قيمةَ لها، رغم ما تستخدمه من أجل إنتاجها من آلات عديدة. أمَّا النفس فبفضل قوة وجودها، تسود الأجسام وتولدها، وتنتقل بها إلى أية حالة تشاؤها، دون أن تكون للأبدان في مبدأ الأمر أية قدرة على الوقوف في وجه إرادتها. ولا شك أن كلًّا من البدن والنفس يقف، فيما بعد، في وجه الآخر كثيرًا، وبهذا يُحرَم من انتظار الصورة الخاصة التي ينزع إليها المبدأ العاقل الموجود بذرتَه في كلٍّ منهما. ولكن صورة الكون في مجموعها ناتجة في أول الأمر عن النفس، وكل الأشياء تنشأ سويًّا، بما فيها من نظام، دون جهد. ولما كان الناتج (أي العالم) لا يُصادِف عقبة، كان يتصف بالجمال؛ ففي ذلك العالم شيَّدَت النفس معابدَ للآلهة ومساكنَ للناس، وأشياء أخرى لبقية الموجودات. فماذا يمكن أن ينشأ عن النفس، سوى الأمور التي تتمثل فيها قُواها بحق؟ إن قدرة النار في التسخين، وقدرة جسم آخر في التبريد. أمَّا قدرة النفس فمزدوجة؛ فهي إمَّا أن تُمارَس على شيء آخر، أو تُمارَس على ذاتها.

    فالفعل الذي ينشأ عن موجودات غير ذات نفس يكون ساكنًا على نحوٍ ما، إذا ظل في هذه الموجودات، فإذا ما وقع هذا الفعل على شيء آخر، أدى إلى أن يتشبَّه الذي يتلقَّى الفعلَ بفاعله. وإنه لمن الصفات المشتركة بين كل كائن فعال أن يدعوَ الباقين إلى التشبه به. أمَّا النفس، فتتميز بأن لها في نفس الوقت فعلًا يقظًا موجهًا إلى ذاته، وفعلًا يمارس على الأشياء الخارجية. فهي إذن تُحيي الأشياء التي لا تملك الحياة بذاتها، وتُضفي عليها حياة شبيهة بحياتها هي. وهي إذ تحيا في العقل، تهب الجسم مبدأً عاقلًا هو صورةٌ لما لديها من عقل، وكل ما تُضفيه على الجسم صورة من حياتها، وهي تُضفي على الجسم كل الصور التي تملك مبدأها؛ على أنها تملك المبادئ العاقلة للآلهة كما تملك المبادئ العاقلة لكل الأشياء، ومن هنا كان العالم محتويًا على كل شيء.١١
  • (١١)

    وعلى ذلك فيبدو لي أن القدامى من الحكماء، الذين أرادوا أن يتمثَّلوا الآلهة أمامهم بتشييد معابدَ وتماثيل، قد أحسنوا تفهُّم طبيعة الكون، فقد أدرَكوا أن من اليسير دائمًا جذْبَ النفس الكلية، وأن من الأيسر إبقاءها بتشييد شيء يمكنه تلقِّي أثرها، وقَبول مشاركتها. والتمثيل التصويري للشيء ميَّال دائمًا إلى تلقي أثر أنموذجه؛ فهو كمرآة تستطيع أن تتلقى صورته. وإن الطبيعة، ببديع صفتها، لَتفطر الأشياء على صورة الموجودات التي تملك مبادئها، ومن هنا نشأ كل شيء على أنه مبدأ كامنٌ في المادة، يتلقى صورة مطابقة لمبدأٍ يعلو على المادة. وهكذا جعَلَت الطبيعة كل شيء على صلة مباشرة بالألوهية التي تُولِّد على مثالها، والتي تتأملها النفس الكلية، وتسير في خلق الأشياء وفقًا لها؛ فمن المحال إذن أن يوجد شيء لا يُشارِك في تلك الألوهية، ولكن لا يقل عن ذلك استحالةً أن تهبط تلك الألوهيةُ إلى عالمنا الأرضي.

    أجل، فالعقل الأعلى هو الشمس العاقلة — ولنضرب هنا بالشمس مثلًا — وتليه مباشرة نفسٌ تعتمد عليه، مقرُّها في العالم المعقول كالعقل ذاته. غير أن النفس تهب الشمس المحسوسة حدودها الخاصة التي تلائمها، وبتوسطها يتم الاتصال بين الشمس المحسوسة والشمس المعقولة؛ فهي أشبهُ برسول يُبلغ الشمس المحسوسة رغباتِ الشمس المعقولة، وينقل إلى الشمس المعقولة أمانيَّ الشمس المحسوسة، بقدر ما تستطيع هذه أن تصل إلى الشمس المعقولة عن طريق النفس؛ إذ إنه لا شيء يبعد عن الآخر. ولا شك أن هناك ابتعادًا بمعنى كون الشيء مختلفًا عن آخر أو ممتزجًا بآخر، غير أن هذا الاختلاف ذاته يمكن أن يقوم في داخل الوحدة؛ ففي هذه الموجودات عنصر إلهي؛ لأنها لا تنفصل عن المعقولات كلَّ الانفصال. وهي مرتبطة بالنفس الأولى، أي تلك التي تخرج عن العقل على نحو ما، وعن طريق هذه النفس تكون هذه الأشياء على ما هي عليه، وتتأمل العقل١٢ الذي تتجه النفس إليه وحدها بأنظارها.
  • (١٢)
    فما قولنا في النفوس البشرية؟ إنها تتأمل صورها كأنها في مرآة ديونيزوس، وتندفع نحوها من علٍ. ولكنها مع ذلك لا تفصم روابطها بمبادئها الأصلية التي هي عقول؛١٣ فهي لا تهبط ومعها مبدؤها العاقل، وإنما تذهب إلى الأرض، وتظل رأسها مثبتةً في أعلى السماء. ومع ذلك فقد يحدث أن تزداد هبوطًا؛ لأن جزءها المتوسط مضطر إلى أن يُولِيَ كل عنايته للبدن الذي يحتاج إليه، والذي تمتد تلك النفوس حتى تبلغه. غير أن أباها زيوس يُشفِق عليها مما انتابها من عناء، فيبعث الفناء في الروابط التي تربطها بهذا العناء، ويهبها راحة مؤقتة، بأن يُحرِّرها من بدنها، حتى تستطيع هي الأخرى أن تُرَد إلى العالم المعقول، حيث تظل نفس العالم أبدًا دون أن تتجه نحو الأشياء في عالمنا الأدنى. والواقع أن لدى العالم كله ما يلزمه لكي يكتفي بذاته، وسيظل كذلك إلى الأبد. ومدة بقائه محددة بمبادئَ ثابتة؛ فبعد وقت معلوم يعود دائمًا إلى نفس الحالة المحددة لحيواته الدورية؛ فهو يُوفِّق ما بين الأشياء الأرضية والأشياء العلوية، ويُشكِّلها تبعًا لها. وهكذا يتحدد كل ما في العالم تبعًا لخضوعه لعقل واحد؛ فكل أمر فيه منظم، سواءٌ في ذلك هبوط النفس وصعودها، ومع النفوس كل شيء آخر. ودليل ذلك اتفاق النفوس مع نظام الكون، فهي ليست في فعلها منعزلةً عن غيرها. وإنما تتحدد في هبوطها وتتفق مع الحركة الدائرية للعالم. وترتسم أحوالها وحيواتها ومشيئاتها في علامات تظهر في الأشكال التي تُكوِّنها الكواكب، وتتجمع كلها ليصدر عنها لحن نغمي واحد. وما كان الأمر ليكون كذلك لو لم يكن العالم يسير وفقًا للمعقولات، ولو لم تكن تطرأ عليه أحوال تناظر مقادير فترات النفوس، ومراتبها وحيواتها في مختلف أنواع المسارات التي تتبعها، سواء في العالم المعقول، وفي السماء، وفي تَوجهها نحو هذا العالم الأدنى.

    أمَّا العقل فيظل كله في العالم الأعلى على الدوام، ولا يحدث له قط أن يخرج عن مجاله الخاص. ولكن على الرغم من أنه يظل بأكمله مستقرًّا في العالم المعقول، فإنه يبعث بتأثيره إلى الأشياء الدنيوية، بتوسط النفس. ولما كانت النفس مجاورة له، فإنها تتشكل تبعًا للصورة التي تتلقاها منه، وتنتقل تلك الصورة إلى الأشياء الأدنى منها؛ إمَّا على نحو ثابت، أو على نحو متغير تبعًا للزمان، في مسار متغير، ولكنه منتظم.

    والنفس لا تهبط دائمًا بنفس المقدار، بل يزيد هبوطها تارة وينقص تارة أخرى حتى بالنسبة إلى النوع الواحد من الكائنات الحية؛ فكل منها تهبط إلى بدن فُطِرَ قادرًا على تلقيها وملائمًا لطبيعتها الباطنة، وهي تنتقل إلى البدن الذي تحمل له أكبر قدر من التشابه، فتدخل نفس بدن إنسان، وأخرى جسم حيوان، وتختلف كل منهما عن الأخرى.

  • (١٣)

    فالضرورة المحتومة والعدالة تتمثل إذن في مبدأ طبيعي يأمر كل نفس بأن تتوجه، تبعًا لمرتبتها، نحو الصورة المتولدة، التي شُكِّلَت تبعًا لمشيئتها الخاصة وتركيبها الباطن. وكل النفوس من هذا النوع توجد بقرب الشيء الذي يتجه ميلها الطبيعي إليه؛ فهي ليست في حاجة إلى كائن يُرسِلها ويَدفعها في اللحظة المنشودة حتى تدخل جسمًا معيَّنًا، بل إن هذه اللحظة إذا ما حانت، هبطَت النفس إليه تلقائيًّا، ودخلت حيث ينبغي عليها أن تدخل. وتلك اللحظة تختلف من نفس إلى أخرى، ولكنها إذا ما حانت، هبطت النفس إلى الجسم الملائم لها، وكأنها تستجيب لدعوة داعٍ، حتى ليظن أن قدرةً سحرية قد حرَّكَتها وجذبتها بقوة لا تُقاوَم. وعلى هذا النحو ذاته تتم في كل حيوان سيطرة النفس، فهي تتحرك في اللحظة المنشودة وتولد كل جزء، وتدفع اللحية أو القرون، وتنتمي ميولًا جديدة، أو تسبب ذبولًا لم يكن موجودًا من قبل؛ فنفس الشجرة تدبرها، وكل حادث في حياتها يقع في وقت حُدِّد من قبل.

    فمجيء النفس إذن ليس أمرًا اختياريًّا، كما أنها لم ترد قسرًا، أو أن إرادتها على الأقل لم تكن مختارة، وإنما تتحرك نحو الجسم دون تفكير، كما يقفز المرء بالسليقة أو كما يندفع دون رَوِية إلى الرغبة في الزواج، وإلى إتيان أعمال مجيدة في بعض الأحيان. وفي هذه الحالة يكون ذلك المصير محتومًا على هذا الكائن بحيث يُفرَض عليه الآن مصير معين، وفي وقت آخر مصيرٌ غيره.

    بل إن للعقل الذي هو سابق على الكون مصيرَه بدوره، وهو أن يظل بكُلِّيته في العالم المعقول، ويبعث بنوره إلى عالمنا هذا، وكل شعاع ينبعث منه يخضع لقانون كلي، وهذا القانون الكلي كامنٌ في كل من الأفراد، وهو لا يستمد القوة على تنفيذه إلا من الأفراد. وقد وُهِب للأفراد ليستخدمه كلٌّ منهم ويحمله في ذاته. فإذا ما حان الوقت، جاءت إرادته بفضل النفوس الفردية التي تمتلكها في ذاتها، فتلك النفوس ذاتها هي التي تنفذ القانون؛ لأنها تحمله في ذاتها. وقد توافرت لها القدرة على ذلك؛ لأن هذا القانون، الذي غُرِز فيها، يثقل عليها — على نحو ما — ويبعث فيها الرغبة الدافعة في أن تذهب حيث قُدِّر لها أن تذهب.

  • (١٤)
    وهكذا يتلقى عالمنا، الذي يُضاء بعدد كبير من الأنوار ويَزْدان بكل هذه النفوس، يتلقى عطايا كثيرة من الآلهة المعقولة ومن بقية العقول التي تهبه نفوسًا. وأغلب الظن أن هذا هو النحو الذي ينبغي أن نُفسِّر به أسطورة بروميثيوس، الذي صاغ شكل زوجته، ووهبها غيره من الآلهة حُليًّا، ومنَحَتها أفروديت وآلهة البذل عطايا، وقدمت إليها كل منها هبة، وأسمَوْها «بندورا duron»؛ لأنها تتلقى هدايا، ولأن الكل pantes قد ساهموا في البذل لها. وهكذا قدمت كل الآلهة هدية إلى ذلك الكائن الذي صاغه بروميثيوس، ممثل العناية. فهلا يدل رفض بروميثيوس لهذه الهدايا على أن إيثار الحياة العقلية خيرٌ وأبقى؟ على أن خالق بندورا ذاته مقيد، مما يدل على أنه مرتبط بما خلقه على نحو ما. ولكن هذا الارتباط خارجي، وتخلُّص هرقل له يُمثِّل القدرة التي احتفظ بها بروميثيوس لإنقاذ نفسه من قيوده. وأيًّا ما كان رأينا في هذه الأسطورة، فإن هذا التفسير يوضح هبة الله للنفوس التي ترد إلى هذا العالم، وهو يتفق في هذا مع رأينا.١٤
  • (١٥)

    وإذن فالنفوس حين تتجه إلى خارج العالم المعقول، تهبط أوَّلًا إلى السماء وتتخذ فيها جسمًا. وفي عبورها للسماء تقترب من الأجسام الأرضية اقترابًا يتفاوت تبعًا لمقدار ابتعادها (عن العالم المعقول)؛ فبعضها ينتقل من السماء إلى أجسام سفلى، وبعضها الآخر ينتقل من جسم أسفل إلى آخر؛ لأنه أضعف من أن يعلوَ على الأرض، بل ينجذب دائمًا نحو الأرض بثقله، وبما ران عليه من نسيان.

    أمَّا الاختلاف بين النفوس، فمَردُّه إمَّا إلى اختلاف الأبدان التي تَحُل فيها تلك النفوس، أو إلى ظروف حياة النفوس، أو النظم التي تخضع لها، أو لاختلاف الطبائع الكامنة فيها، أو لكل هذه المؤثرات أو بعضها. فبعض النفوس يظل يخضع طيلة حياته للحتمية السائدة في هذا العالم، وبعضها الآخر يخضع تارة للحتمية، وتارة لذاته؛١٥ فهو يستسلم لكل ما يتحتَّم عليه الخضوع له من مصير، ولكن إذا تعلق الأمر بأفعاله الخاصة، فإن له القدرة على أن يتحكم في نفسه بنفسه. فهناك ناموس آخر تخضع له النفوس، بجانب القدر المحتوم، هو الناموس الذي ينتظم كلَّ الموجودات وتخضع له كل الخضوع. وقوام هذا الناموس هو المبادئ البذرية،١٦ الصادرة عن العالم المعقول، والتي هي علل كل الكائنات، وعلل حركات النفوس وقوانينها. فهذا الناموس مطابق إذن للعالم المعقول الذي يستمد منه مبادئه. وهو ينتظم كل ما يصدر عن ذلك العالم ويربطه بأصله، ويكفل عدم فناء كل ما يمكنه أن يحتفظ بذاته مطابقًا لأنموذجه العقلي، ويدفع بقية الأشياء إلى حيث تسمح طبيعتها بالتوجه. وهو الذي يؤدي إلى أن تتخذ كل نفس عند هبوطها موضعًا خاصًّا.
  • (١٦)

    فعلينا إذن أن نرد الجزاءاتِ العادلةَ التي توقع على الأشرار إلى ذلك النظام الذي يُرتِّب كل شيء كما ينبغي. ولكن ما القول في تلك الشرور التي تَلحق بالأخيار من الناس، مخالفة كل عدالة، كالعقاب والفقر والمرض؟ إن هذه الشرور التي ترتبط بمجرى الأشياء، والتي لها علاماتها الخاصة، تحدث وفقًا للعقل الكوني. فهل ينبغي إذن أن تعد ناتجة عن خطيئة سابقة؟ كلا؛ فلا يجوز لنا أن نقول إن تلك الحوادث تتبع أسبابًا طبيعية، وأنها متضمَّنة في الحوادث السابقة، وإنما هي عوارضُ مُصاحِبة لها فحسب، كما يحدث مثلًا إذا تداعى بيت، فيهلك من كان تحته، كائنًا من كان، أو إذا سار شيئان، أو حتى شيء واحد، في حركة منتظمة، فهشَّما أو حطَّما ما يقابلانه. فمثل هذا الظلم ربما لم يكن ينطوي على أي أذًى لمن يقع عليه، وذلك إذا تأملنا صلته بالارتباط المحكَم للموجودات في هذا الكون. بل ربما لم يكن ظلمًا على الإطلاق، وكان هناك في الحوادث السابقة ما يُبرِّره.

    وعلى أية حال، فليس لنا أن نعتقد أن ثَمَّة حوادثَ معينة تخضع وحدها للنظام، بينما لا يرتبط غيرها بشيء، بل يسير اعتباطًا. فإن كان يلزم أن يحدث كل شيء وفقًا لعلل ونتائج ضرورية، وتبعًا لمبدأ واحد ونظام واحد، فلا بد أن نؤمن بأن هذا النظام وذلك الارتباط يمتدَّان إلى كل صغيرة وكبيرة. أجل؛ فالظلم الذي يرتكبه الغير هو ظلم بالنسبة إلى من ارتكبه، ولا يمكن أن يُعفيَ فاعلَه من مسئوليته، ولكنَّا إذا تأملناه من خلال النظام الكوني العام، لما وجدناه ظلمًا بالنسبة إلى الكون، ولا حتى بالنسبة إلى من وقع عليه، بل لرأيناه حادثًا ضروريًّا. ولو كان من وقع عليه الظلم خيرًا لانتهى الظلم عنده إلى نتيجة طيبة. فليس لنا أن نعتقد أن هذا النظام الكوني ليس إلهيًّا ولا عادلًا، وإنما هو يعطي كل امرئ ما يصلح له بقدر دقيق. غير أننا نجهل الأسباب، فتظهر أمام جهلنا فرصُ التحامل على ذلك النظام.

  • (١٧)

    وفي وُسعنا أن نُبرهِن على أن النفس حين تخرج من المجال العقلي ترد أوَّلًا إلى السماء، بالبرهان التالي: إذا كانت السماء خير ما في المجال المحسوس، فإنها متاخمة لآخر الموجودات العقلية. فالموجودات السماوية إذن هي أول ما يتلقى حياة العالم المعقول، نظرًا لازدياد قدرتها على المشاركة فيه. أمَّا الأشياء الأرضية فهي آخرها. ونظرًا لطبيعتها وبُعدها عن الوجود اللامادي؛ كانت أقلَّ مشاركة في النفس.

    وإذن فكل النفوس تنير السماء وتُضفي عليها خير ما فيها، أعني أشعتها الأولى. أمَّا بقية الأشياء فتُنيرها الأشعة التي تلي ذلك. ثم تهبط بعض النفوس إلى أسفل لتنير المناطق السفلى، ولكن هذا التوغل في الهبوط ليس خيرًا لها.

    فلنتصور إذن مركزًا تُشِع منه دائرة مضيئة تحيط به، وحول هذه الدائرة دائرة أخرى منيرة مثلها بنور نابع عن النور الأول، وخارج هاتَين الدائرتَين دائرة ثالثة ليست منيرة، وإنما تفتقر إلى نور خاص بها، وتستمد النورَ من مصدر خارجٍ عنها. ولنتصوَّر هذه الدائرة الأخيرة كأنها عجَلة دائرة، أو على الأصح كُرة، تتلقى نورها من الدائرة الثانية التي تمسها، والتي لا تنيرها إلا بقدر ما تتلقى هي ذاتها من هذا النور. وبهذا يظل النور الأعظم ساكنًا مع إضاءته للأشياء، ومنه تأتي بالطبيعة شعلة تنفذ إلى الأشياء، وتشع الأنوار الجزئية مثله، فيظل بعضها ساكنًا، أمَّا البعض الآخر فيجتذبه الانعكاس الباهر على صفحة الأشياء التي يُثيرها. وفضلًا عن ذلك، فإن الأشياء المنارة تتطلَّب كل عنايتها، وكما ينتبه الملاح بكل حواسه إلى سفينته حين تتقاذفها العواصف، وينصرف عن ذاته حتى ينسى أنه مُهدَّد بأن تجرفه العاصفة، كذلك تهبط النفوس إلى أسفل مما ينبغي، وتَغيب عن أنظارها مصالحها الخاصة، فتُحَدُّ في داخل جسم، وتُقيَّد بأغلال سحرية، وتَستحوذ عليها رعايتُها لطبيعة الجسم.

    ولو كان لكل كائن حي جسمٌ تام كامل، لا يجد الألم إليه منفذًا، لمَا ظلَّت النفس التي نقول إنها حالَّة في بدن؛ نقول: لمَا ظلت تلك النفس حاضرةً فيه، بل لوَهبَته الحياةَ وهي لا تزال بأسرها في المجالات العليا.

  • (١٨)

    فهل تستخدم النفسُ الاستدلالَ قبل أن تهبط إلى الجسم وبعد أن تُفارقه؟ إن النفس تَستخدم الاستدلال في مقرِّها الحاليِّ، إذا لم يهدِها اليقين، وزحمَتها المشاغل، وعلى الأخص إذا انتابها ضعف؛ إذ إن الحاجة إلى الاستدلال إنما تنشأ عن افتقار العقل إلى الاكتفاء بذاته. وهكذا يتدخل الاستدلال في الصناعات إذا وجَد الصانع نفسه حائرًا، أمَّا إذا لم تكن هناك صعوبة، لسارت الصناعة تلقائيًّا على خير وجه.

    – ولكن إذا لم تكن النفوس تستخدم الاستدلال في العالم المعقول، فكيف تكون نفوسًا عاقلة؟

    – في وُسعنا أن نُجيب بأن لديها القدرةَ على المضي في بحث عقلي إذا أُتيحَت لها الفرصة. وفي هذه الحالة يكون من الضروري، إن شئنا أن نُسلِّم بذلك، أن نستخدم كلمة «الاستدلال» في غير المعنى الذي استخدمناها به. فإذا كنا نَعني بالاستدلال ميلًا باطنًا يستمد دائمًا من العقل، وفعلًا ثابتًا على الدوام، هو أشبهُ بانعكاسٍ للعقل، فلا بد عندئذٍ من القول إن النفس تستخدم الاستدلال، حتى وهي في العالم المعقول.

    أمَّا عن اللغة، فليس لنا أيضًا أن نعتقد بأن النفوس تستخدمها طيلة وجودها في العالم المعقول، أو طالما أن لها أجسامًا في السماء؛ فكل الحاجات أو الصعاب التي تدفعنا في عالمنا هذا إلى تبادل الحديث، لا توجد في العالم المعقول قط. وليس للنفوس — التي تُمارِس كلَّ أفعالها على نحو منتظم، ووفقًا للطبيعة — أوامرُ ولا نصائح تُوجِّهها، بل هي تعرف بعضها البعض بشعورها الواعي فحسب، بل إن العين في عالمنا هذا كثيرًا ما تعرف ما لا تنطق به الأفواه. أمَّا في العالم الأعلى، فكل جسم خالص، وكل جسم أشبه بعين، فلا شيء خفي أو خادع، بل يرى كل شيء، ويعرف دون حاجة إلى الكلام.

    أمَّا عن الجن والنفوس التي تَتخذ لها أجسامًا هوائية، فليس من الممتنِع أن نُسلِّم بأنها تستخدم الكلام؛ إذ إنها لا تعدو أن تكون كائناتٍ حية.

  • (١٩)

    فهل «المنقسم واللامنقسم» في نفس الموضع من النفس، وكأنها ممتزجان؟ أم أن اللامنقسم ينتمي إلى النفس على نحوٍ يختلف عن انتماء المنقسِم إليها، وتربطه بها صلة تختلف عن صلة الأخير بها، بحيث يجيء المنقسم تاليًا للَّامنقسم؟ وهل يكونان جزئَين مختلفَين من النفس، بالمعنى الذي نقول فيه إن الجزء العاقل يختلف عن الجزء غير العاقل؟ في وسعنا أن نعلم ذلك حين ندرك المعنى الذي نستخدم فيه كلًّا من هذَين اللفظَين. فقد تكلم أفلاطون عن «اللامنقسم» دون أن يزيد حرفًا، ولكنه لم يتكلم عن «المنقسم» وحده، بل عن «الماهية التي تغدو منقسمة في الأجسام» لا الماهية التي أصبحَت منقسمة تمامًا. فعلينا إذن أن نرى أيَّ نفس تحتاج إليها الطبيعة البدنية لِتَحيا، وأي شيء في النفس يجب أن يظل حاضرًا في كل موضع من مجموع الجسم. فملَكة الإحساس، ما دامت تؤدي فعلها كاملة وفي كل موضع من الجسم، فمعنى ذلك أنها تغدو منقسمة، وما دامت في كل موضع، ففي وُسعنا أن نقول إن ذلك راجع إلى أنها في حالة انقسام. ومع ذلك فما دامت تَنبثُّ كاملة في كل موضع، فليس في وسعنا أن نُطلِق القول بأنها توجد منقسمة، وإنما نستطيع أن نقول إنها «تغدو منقسمة في الأجسام» فحسب. فإن قال معترض إن مثل هذا الانقسام يتمثل في حاسة اللمس وحدها، دون بقية الحواس، كان علينا أن نُجيب بأن هذا الانقسام يوجد أيضًا في بقية الحواس. فما دام الجسم هو الذي يساهم في هذه الإحساسات فلا بد أن تنقسم بدورها، وإن كان انقسامُها في بقية الحواس أقلَّ منه في حاسة اللمس، وبالمثل تنقسم القوة الغازية والقوة المنمية على نفس النحو. وإذا كان مركز القوة الشهوية في الكبد، والمشاعر النبيلة في القلب، فإن نفس الرأي ينطبق على هذه القوى، ولكن ربما لم يكن الجسم يتلقى هذه الملكات في ذلك الخليط المادي، فهو يتلقاها ولا شك على نحو آخر، وهي تستمد من أحد الأشياء التي تلقاها من قبل (من النفس). أمَّا عن التفكير والتعقل فهذا لا ينقلان إلى الجسم، وممارستهما لا تتم بتوسط عضو مادي، وإنما يكون الجسم عقبة إن شئنا أن نُقحِمَه في أبحاث الفكر.

    وإذن فاللامنقسم في النفس متميز عن المنقسم، ولا يؤدي امتزاجُهما إلى تكوين كائن واحد، بل يكونان كلًّا ينطوي على جزءَين متميزَين، يظل كلٌّ منهما خالصًا منفصلًا عن الآخر في عمله.

    ومع ذلك فإذا تلقى الجزء الذي يغدو منقسمًا في الأجسام صفة عدم القابلية للانقسام من القوة العليا، لأمكن نفسَ الموجود أن يغدو لامنقسمًا ومنقسمًا في نفس الآن، وكأنَّ امتزاجًا قد تم بينه وبين القوة العليا التي امتدت حتى وصلَت إليه.

  • (٢٠)

    فهل توجد قوى النفس، وكل ما نسميه «أجزاء» للنفس في محل؟ أم أن من الممكن أن يُقال إن بعضها ليس في محل والبعض الآخر في محل؟ أم أنها جميعًا ليست في محل؟ ذلك ما يجدر بنا معرفته. فنحن إذا لم نحدد لكل من أجزاء النفس محلًّا، ولم نجعلها في الداخل ولا في الخارج، لكان معنى ذلك أننا نترك الجسم بلا نفس، وعندئذٍ نتساءل كيف يمكن أن تحدث عمليات النفس التي تتم بواسطة أعضاء جسمية. وإن لم نقل بوجود محل إلا لأجزاء معينة من النفس لبدا أننا لن نجعل لتلك التي لا نعطيها محلًّا موضعًا فينا، ولنتج عن ذلك أن نفسنا ليست بأكملها فينا.

    وعلينا أن نقول بوجه عام إنه لا أجزاء النفس ولا النفس كلها توجد في الأبدان وكأنها في محل؛ فالواقع أن المحل حاوٍ، وهو يحوي البدن. والبدن يكون حيث يوجد كلٌّ من أجزائه، ولا يمكن أن يوجد بكامله في نقطة ما من محله. أمَّا النفس فليست بدنًا، بل هي حاوية أكثر منها محتواة.

    كما أن النفس ليست في البدن وكأنها في إناء. فلو كان البدن يحتوي النفس كأنه إناء أو محلٌّ لها، لَظل البدن بلا نفس، ما لم تكن النفس منطويةً على ذاتها فيه، فتُحييه بأن تنتشر فيه تدريجيًّا. ولو كان الأمر كذلك، لكان كل ما يتلقَّاه الإناء مفقودًا بالنسبة إلى النفس.

    وفضلًا عن ذلك، فالمحل بمعناه الصحيح شيء لا مادي وليس جسمًا، فما حاجته إلى النفس؟ ثم إنه لو كان ذلك صحيحًا، لكانت أطراف البدن وحدها، لا البدن ذاته، هي التي تمس النفس. والحق أن هناك أسبابًا أخرى عديدة تَحول دون القول إن النفس في البدن كأنها في محل؛ فلو صح ذلك لحمل محلها معها، ولكنا بإزاء شيء يحمل محله. كما أننا لو نظرنا إلى المحل على أنه المسافة أو البعد الفاصل، لأصبح القول بأن النفس في البدن كأنها في محل أكثر استحالة؛ إذ إن البُعد الفاصل فارغٌ بالضرورة، أمَّا البدن فليس فارغًا، ولا شك أن ما يوجد فيه البدن هو الفراغ، بحيث إن البدن هو الذي يوجد في الفراغ.

    وبجانب ذلك، فالنفس ليست في البدن وكأنها في مادة حاملة لها؛ إذ إن ما هو في مادة حاملة هو حالٌ من أحوال تلك المادة، كاللون والشكل مثلًا، بينما النفس ذاتُ وجود مستقل.

    وهي ليست في البدن كجزء من كل؛ إذ إن النفس ليست جزءًا من البدن قط. ولو قيل إنها جزء من الكل الحي، لظلت نفس الصعوبة قائمة؛ فعلى أي نحوٍ توجد في الكل؟ إنها ليست فيه كما يكون النبيذ في القنينة قط، ولا كما تكون القنينة أو أي شيء آخر في ذاته.

    كما أنها ليست في البدن ككل أجزائه؛ إذ إن من الممتنع أن نقول إن النفس كلٌّ أجزاؤه هي البدن.

    وهي ليست فيه كصورة في هيولى؛ إذ إن الصورة التي في هيولى لا تُفارقها قط، وهي لاحقة للهيولى التي توجد من قبلها.١٧ ثم إن النفس هي التي تُضفي الصورة على الهيولى، فليست هي الصورة إذن. وإن قيل إنها ليست صورة حالَّة في الهيولى، بل صورة مفارقة، لاستحال علينا أن نُدرِك كيف تأخذ مثل هذه الصورة المفارقة طريقها إلى البدن.

    فبأي معنًى إذن يقول الجميع إن النفس في البدن؟ ذلك لأن النفس لا ترى، أمَّا البدن فإنَّا نراه، وندرك حين نراه يتحرك ويُحس أنه حي، وعندئذٍ نقول إن له نفسًا. والنتيجة الطبيعية لذلك هي أن نقول إن النفس توجد في البدن ذاته، ولو كانت النفس منظورة محسوسة، ولو كنا نراها وقد تخلَّلَتها الحياة في كل أجزائها، وانتشرت حتى أطراف البدن — لو كانت كذلك لما قلنا عندئذٍ إنها في البدن، بل لقلنا إن البدن عرَضي في أساسي، ومحتوًى في حاوٍ، وسيَّال متغير فيما هو ثابت دائم.

  • (٢١)

    وقد يُوجِّه إلينا امرؤٌ الأسئلة التي سنذكرها، دون أن يؤكد هو ذاته شيئًا، فماذا عسى أن يكون جوابنا عنه؟ إنه قد يسأل: على أيِّ نحو تَحُل النفس في البدن؟ وهل توجد كلها فيه على نفس النحو أم أن كُلًّا من أجزائها يوجد فيه على نحوٍ مختلف؟ الحق أن أي نحو من أنحاء حضور الشيء في شيء آخر، وهي الأنحاء التي بحثناها، لا يصلح للتعبير عن الصلة بين النفس والبدن. ولكن قد يُقال إن النفس في البدن كرُبَّان في سفينة. والمقارنة صالحة في وصف مفارقة النفس للبدن، ولكنها لا توضح طريقة الاتحاد التي هي موضوع بحثنا؛ فالنفس توجد في البدن عرضًا، ولكن كيف توجد فيه كأنها ربان؟ إن الربان لا يوجد في كل السفينة، كما توجد النفس في البدن كله.

    فهل ينبغي علينا القول إن النفس توجد في البدن وجودَ الصنعة في الآلة، كصناعة القيادة في الدفة مثلًا، إذا تصورنا هذه الدفَّة الحية، وإن كانت لها صناعة باطنة تهبها اندفاعها؟ إن الفارق لكبير، ما دامت الصناعة تظل خارجة عن الأداة. ومع ذلك فلنتصور النفس على مثال ربان تتخلل نفسُه دفَّتَه، ولتكن حاضرة في البدن حضور الربان في آلته الطبيعية، وبهذا تحركه كلما شاءت وكيفما شاءت؛ فهل تقدمنا بذلك نحو الحل؟ كلا، فلا زلنا لا نعرف كُنْه الحضور في الأداة. ورغم أن طريقة الاتحاد هذه مختلفة عن سابقاتها، فما زلنا نبغي كشف الحقيقة، أو نريد أن نزداد منها اقترابًا.

  • (٢٢)

    فهل ينبغي القول إن النفس حاضرة في البدن حضور النار في الهواء؟ إن النار، وإن كانت حاضرة في الهواء، فهي ليس حالَّة فيه؛ هي تتخلله في كل موضع، ولكنها لا تمتزج به، فالنار تظل ساكنة والهواء سارٍ، وحين يغادر الهواء المنطقة التي يُضيئها النور، يتركها دون أن تحتفظ منه بشيء، بحيث يكون الأحرى بنا أن نقول إن الهواء في النور، من أن نقول إن النور في الهواء. ومن هنا كان أفلاطون على حق حين آثر أن يضع جسم العالم في نفسه، لا نفسه في جسمه، وحين قال إن في النفس جزءًا يحتوي جسمًا، وجزءًا لا يحتوي أي جسم؛ إذ إن من الواضح أن في النفس قوًى لا يحتاج إليها البدن من أجل حياته. وهذا ما يجب أن يُقال بالمثل عن بقية النفوس. فعلينا أن نقول إن البدن لا تتمثل فيه من القوى سوى ما هو ضروري له فحسب، وهذه القوى حاضرة فيه دون أن تتخذ منه أو من أجزائه مقرًّا. فالقوة الحاسة مثلًا حاضرة في كل الأجزاء التي تحس، ويختلف العضو الذي تحل فيه كلُّ قوة باختلاف الوظائف التي تؤديها. وهاك ما أعنيه:

  • (٢٣)

    إن كل جزء من بدن تحييه وتنيره نفس، يشارك في تلك النفس على نحو مختلف؛ فالنفس تهب كل عضو قدرة مطابقة للوظيفة التي يستطيع أداءها. وهكذا تؤدي ملَكة الإبصار فِعلها عن طريق العين، وملكة السمع عن طريق الأذن، والذوق في اللسان، واللمس في البدن كله. ولكن لما كانت أداة الحس هي الأعصابَ الأولى، التي تهب الكائن الحي الاندفاع الحركي أيضًا، والتي تحل فيها قوة النفس هذه، ولما كانت نقطة بداية الأعصاب هي المخ، فقد عدَّ المخ مبدأً للإحساس والاندفاع، بل ولحياة الكائن العضوي بأسره؛ ذلك بأن القائلين بهذا الرأي كانوا يُسلِّمون بأنه حيثما تكون نقطة بداية الأعضاء، تكون القوة التي تُسيِّرها. ولكن كان الأحرى بهم أن يقولوا إن تلك نقطة بداية فعل هذه القوة؛ إذ إن قوة الصانع المدرَّب على إدارة آلة معينة إنما ترتكز بالضرورة في نقطة بداية حركة تلك الآلة، بل الأصح ألا نقول قوة الصانع؛ إذ إن القوة في كل مكان من الآلة، وإنما نقول: فعل تلك القوة، الذي يتخذ نقطة بدايته مع نقطة بداية الآلة.

    على أن قوة الإحساس والنزوع، اللتَين توجدان في النفس، وأعني بهما القدرة على الإحساس وعلى التخيل، هاتان الملكتان يعلو عليهما العقل؛ إذ إن الجزء الأدنى من العقل قريب من الأجزاء العليا لتلك القوى. ومن هنا وضع القدماء هذه القوة في أعلى موضع من الكائن الحي، أي في الرأس، وليس في المخ تمامًا، وإنما في ذلك الجزء الحساس الذي يوجد الحس بفضله في المخ. فينبغي إذن أن تنسب القوتان الأُولَيان إلى الجسم، وإلى أقدر أجزاء الجسم على تقبل فعلهما. ولكن العقل، الذي لا يتصل بالجسم قط، لا بد مع ذلك أن يكون على صلة بهاتَين القوتَين، اللتَين هما صورة للنفس. وفضلًا عن ذلك، فإن في وُسع هاتَين القوتَين تلقِّيَ مؤثرات من العقل؛ فالقوة الحاسة تتضمن الإدراك (أو الحكم)، والخيال قوة شبه عقلية، والنزوع والشوق يخضعان للخيال وللعقل؛ وإذن فالقوة العاقلة ليست في الرأس من الوجهة المكانية، وإنما هي فيه لأن القوى التي في الرأس تُشارك فيها — وقد ذكرنا بأيِّ معنًى تكون ملكة الإحساس في المخ.

    أمَّا عن القوة النباتية، وقوة النمو والتغذي، فتلك لا تغيب عن أي جزء من أجزاء الجسم. ولكن لما كان الدم في الشرايين، ولما كانت نقطة بداية الشرايين والدم هي الكبد، فقد جعل مركز هذه القوى في الكبد ذاته. وفيه أيضًا مقر القوة الشهوية؛ إذ إن ما يُولَد ويَطعم ويَنْمِي يجب أن يكون هو مركزَ الشهوة.

    وأخيرًا، فلما كان الدم حين يصبح أرقَّ وألطفَ وأنشط وأنقى، يغدو أداة ملائمة للقوة الغضبية، فإن القلب، الذي هو مصدر إفراز هذا الدم، هو المركز الملائم لغليان الغضب.

  • (٢٤)

    فأين تذهب النفس بعد أن تُفارق البدن؟ إنها لا يمكن أن تظَل في عالمنا هذا؛ حيث لا يوجد شيء يتلقَّاها، فليس في وسعها أن تمكث في شيء لم يُفطَر على الاحتفاظ بها؛ وعلى ذلك فالنفس تفارق البدن. ولو لم يكن الأمر كذلك، لكانت تَنقل معها من الجسم شيئًا يجتذبها إليه، ولكانت تلك حماقة منها؛ إذ إنها لو احتفظت بمثل هذا الجسم الغريب عنها، لظلت داخله، ولتغلغلت به في المجال الذي يوجد فيه ذلك العنصر وينتمي إليه بطبيعته. ولما كان ثمة مَحالُّ عديدة، فلا بد أن يتباين المحل الذي توجد فيه النفس تبعًا لميولها الباطنة، ووفقًا للعدالة التي تسود الموجودات. فما من أحد يُفلِت من العقوبة التي ينبغي عليه تحمُّلُها نتيجةً لسلوك جائر. وقضاء الله لا يرد، وهو ينطوي في ذاته على القدرة التي تُمكِّنه من تحقيق ما قضى به. وهكذا يُحمَل الآثم، دون أن يشعر، إلى حيث ينبغي أن ينال عقوبته، فيظل مدفوعًا بحركة مضطربة، ويهيم في كل مكان، حتى ينتهي به الأمر — بعد تَجْواله الدائم، وبعد أن تُعيِيَه المقاومة اليائسة — إلى أن يهبط في المكان الذي أُعِدَّ له، ويستسلم طوعًا لمصير لا سلطان له عليه. ويحدد القانون الإلهي مدى العقاب وزمنه، فإذا ما انتهى العقاب، أمكنه أن يترك مكان الجزاء؛ تبعًا لما يقضي به الانسجام الذي يسود كل الأشياء.

    ولكن ينبغي أن يكون للكائن جسم حتى يُحِس بالعقاب الجسمي، أمَّا النفوس الخالصة، التي لا تجتذبها الأجسام، فلا يمكن أن تكون نفوس جسم معين، وما دامت لا توجد في أي مكان من الجسم، وما دامت قد خلصت من كل جسم، فإن موضعها حيث يكون الجوهر، والوجود، والألوهية؛ فهي في الله، مع الجوهر والوجود. فإذا سألت أين؟ فابحث أين تكون هذه الموجودات، ولكن لا تبحث عنها بأعينك كما تبحث عن الأجسام.

  • (٢٥)

    ولننتقل الآن إلى الذاكرة؛ فهل تظل النفوس تتذكر بعد أن تغادر العالم الأرضي، أم أن بعض النفوس فقط هي التي تتذكر؟ وفي هذه الحالة الأخيرة: هل تتذكر النفس كل شيء، أم أشياء معينة فحسب؟ وأخيرًا: فهل تدوم الذاكرة إلى الأبد، أم تختفي بعد أن تُفارِق النفسُ البدن بوقت معين؟ علينا، إن شئنا أن نقوم بهذا البحث كما ينبغي، أن نعرف أوَّلًا ما يتذكر فينا، ولستُ أعني أن نعرف كُنْه الذاكرة، بل في أي مبدأ تكون؛ إذ إن تعريف الذاكرة قد ذُكِر في مواضع أخرى، بل لقد أسهبنا الكلام عنه في مواضع عديدة، فعلينا الآن أن نعرف بمزيد من الدقة طبيعة الشيء الذي يتذكر.

    إن كان التذكر تذكرَ شيء مستفاد، كمعرفة أو انطباع، فمن المحال أن يتمثل في موجودات لا تتغير ولا تتأثر بالزمان. وإذن فليس لنا أن ننسب الذاكرة إلى الله، ولا إلى الموجود والعقل الذي لا ينطوي على زمان، وإنما على أزل؛ فتلك الموجودات لا تعرف ما هو قبل وما هو بعد، بل تظل دائمًا كما هي، في هويتها، دون أن تتعرض لأدنى تغيُّر؛ إذ كيف يكون لموجود في هُوية مع ذاته، مماثل لذاته على الدوام، ذاكرة؟ إن مثل هذا الموجود لا تطرأ عليه — في لحظة — حالةٌ تختلف عن تلك التي كان عليها من قبل، ولا يحفظ في ذهنه تلك الحالة الأولى، وأفكاره لا تتعاقب بحيث يتذكر في حالة أو في فكرة تالية الحالةَ أو الفكرة السابقة.

    – ومع ذلك، فما الذي يمنع من أن يعرف هذا الموجود تغيرات بقية الموجودات، كفترات العالم مثلًا، دون أن يطرأ عليه هو ذاته تغير؟

    – ذلك لأنه إن كان يتابع تغيرات الموجودات المتباينة، لكان معنى ذلك أنه يُفكِّر بادئ الأمر في شيء، وبعد ذلك في شيء آخر، بحيث يأتي فعل التذكر من تفكيره في أشياء مختلفة. أمَّا عن أفكاره التي لديه عن ذاته، فلا يجب القول إنه يتذكرها؛ إذ إنها لا تَرِد إليه على نحوٍ يكون عليه معه أن يحتفظ بها حتى لا تتسرب من ذهنه، فلو صح ذلك لكان عليه أن يخشى أن تغيب عن ذهنه ماهيته ذاتها.

    كذلك لا يجب أن تُستعمَل كلمة «التذكر» مع النفس بالمعنى الذي يُقال فيه إنها تتذكر أفكارًا تملكها بفطرتها؛ فعندما تكون النفس في عالمنا الأرضي تكون تلك الأفكار في متناول يدها، وإن لم تكن النفس تعرف ذلك معرفة حاضرة، وخاصة حين ورودها إلى الجسم. فإن عرَفَت النفس هذه الأفكار معرفة حاضرة، فإن القدماء يطلقون على هذه الحالة اسم الاستعادة والتعرف. على أن هذا نوع من التذكر يختلف تمامًا عن النوع الذي نحن بصدده، ولا شأن للزمان بالذاكرة بهذا المعنى.١٨

    ولكن ربما كنا نخوض هذه الموضوعات مستهينين بها أكثر من اللازم، دون أن نبحثها بحثًا كافيًا؛ فقد يتساءل المرء: أتنتمي الاستعادة والتذكر إلى النفس في ذاتها، أم إلى نفس أقل استنارة، أو حتى إلى مركب من النفس والبدن (أي الكائن الحي)؟ وبأي الشروط، وفي أية لحظة، تَرِد الذاكرة إلى تلك النفس إن كانت هي التي تتذكر، أو إلى ذلك الكائن الحي إن كان هو الذي يتذكر؟ علينا إذن أن نستعيد هذه المسألة منذ البداية؛ ففي أي مكونات طبيعتنا تكون الذاكرة؟ إن كانت النفس، فأيُّ ملَكاتها أو أجزائها هو الذي يتذكر؟ وإن كانت في الكائن الحي بأسره — والبعض يظن أنه هو أيضًا الذي يحس — فعلى أي نحو يتذكر؟ وبم يجب أن نعرف الكائن الحي المركب؟ وأخيرًا، فهل ما يقوم بالأفعال الحسية والعقلية فيه شيء واحد، أم أن هناك ملَكة لكلٍّ؟

  • (٢٦)
    إن كان هناك عنصران يتضافران في الإحساسات، لوجب أن يكون فعل الإحساس ذا طبيعة مزدوجة؛ ولذا قيل عن الإحساس إنه مشترك بين النفس والبدن؛ فهو أشبه بفعل الاختراق أو الغَزْل؛١٩ حيث تُمثِّل النفسُ في إحساسها الصانع، والبدنُ الأداةَ. والبدن يتقبل الفعل ويُطيعه، أمَّا النفس فتتلقى الأثر الذي حصل في البدن أو بتوسُّطه، أو هي تُصدِر حكمها تبعًا لتأثر البدن. وإذن فالإحساس من شأن النفس والبدن سويًّا بحق.

    ولكن هذا لا يستتبع بالضرورة القول إن الذاكرة تنتمي إلى المركب من البدن والنفس؛ إذ إن النفس قد تلقت من قبلِ ذلك الأثرَ الذي قد تحفظه الذاكرة وقد تنساه. وربما تَصوَّر امرُؤٌ أن فعل التذكر متوقف بدوره على المركب بحجة أن تكويننا البدني هو الذي يتحكم في قوة تذكرنا أو ضعفه. والرد على ذلك هو أنه، سواء كان البدن عائقًا لفعل التذكر أم لم يكن، فلن يقلل ذلك من انتماء هذا الفعل إلى النفس في شيء.

    وفضلًا عن ذلك، فكيف نقبل القول إن المركب، لا النفس وحدها، يتذكر المعارف التي تحصل في العلوم؟

    والآن، فإن قيل إن الكائن الحي مزدوج بمعنى أنه شيء يختلف عن العنصرَين اللذَين يُركَّب منهما، فمن المحال أوَّلًا أن نقول إن الكائن ليس بدنًا، ولا نفسًا؛ فالكائن الحي يتكون دون أن تتغير مكوناته، ودون أن تمتزج بعضها ببعض إلى حدٍّ لا تعود معه النفس موجودة في الكائن الحي إلا بالقوة. ثم إنه حتى لو كان الأمر كذلك، لظل التذكر منتميًا إلى النفس؛ فحلاوة الخليط من النبيذ والعسل، آتية من العسل وحده.

    وقد يرد معترض بقوله: صحيح أن الذكريات تنتمي إلى النفس، غير أن وجودها في الجسم وامتلاءها بالأدران واحتشادها بالصفات هو الذي يُمكِّنها من أن تَطبع في ذاتها علامات الأشياء المحسوسة، فهي تتلقاها وتمنعها من التسرب بفضل بقائها في الجسم.

    والرد على ذلك أن تلك العلامات أوَّلًا ليست بذات أحجام؛ فهي لا تُشبه «علامات أختام أو انطباعًا على مادة مقاومة، أو تشكيلًا»؛ لأنه لا توجد كذلك ضربة٢٠ ولا سطح مغطًّى بالشمع. والحقيقة أن هذا الأثر الذي يحدث في النفس هو نوعٌ من التعقُّل، حتى إذا كان متعلقًا بأشياء محسوسة.
    وفضلًا عن ذلك، فأين يمكن أن يكون الانطباع على جسم، عندما يفكر المرء؟ وما حاجتنا إلى أن نَقْرن الفكر بالبدن أو بصفة جسمية؟ ثم إن النفس تتذكر بالضرورة حركاتها الخاصة، ومن أمثلتها تلك الرغبات التي استشعَرَتها دون أن تُشبِعها. وفي مثل هذه الحالة لا يمكن أن يكون الشيء المرغوب فيه قد قرب من البدن، فكيف إذن يشهد البدن ما لم يصل إليه؟ وكيف تستخدم النفس البدن في تذكر ما لم يعرفه ذلك البدن قط؟ الحق أنه إن كان ينبغي أن تكون للنفس حقيقة وطبيعة وفاعلية خاصة بها، فعلينا أن نقول إن الانطباعات التي تمر بالبدن تنتهي إلى النفس، وإن الانطباعات تنتمي إلى النفس خاصة. فإن كان الأمر كذلك فينبغي أن تكون للنفس، بجانب الرغبة، ذكرى هذه الرغبة، وذكرى إشباعها أو عدم إشباعها، ما دامت ليست من الأشياء الدائمة التغير. ولو لم تكن للنفس هذه الصفة، لاستحال أن نُضفِيَ عليها الحسَّ الباطن ولا الوعي ولا جَمْع الانطباعات، ولا أي تعقل لما تستشعره. فإن لم تكن لها واحدة من هذه الصفات، فلن تنالها عندما توجد في البدن. وصحيحٌ أن للنفس أوجُهَ نشاط معينة يُحتِّم أداؤها وجودَ أعضاء، ولكنها عندما تصل إلى البدن تحمل معها القوى التي تتوقف عليها أوجه النشاط هذه، بل تحمل معها كذلك قوى النشاط الخاص بها وحدها. ومن جهة أخرى فالبدن عقَبة في التذكر. وإنَّا لنلمس ما يحدث للمرء من نسيان عندما يحتسي مشروبات معينة، بينما يعود التذكر غالبًا إذا ما طهر الجسم منها. وما دامت النفس تتذكر حين تكون وحدها، فإن طبيعة البدن المتغيرة السيالة لا بد أن تكون علة النسيان، لا التذكر، وعلى هذا النحو يُمكِننا تفسير فكرة نهر «ليثه Lethe»؛٢١ فذلك التذكُّر إذن صفة تنتمي إلى النفس بحق.
  • (٢٧)
    ولكن إلى أي نفس ينتمي التذكر؟ أينتمي إلى تلك النفس المسماة بالنفس الإلهية، التي هي أساس وجودنا، أم إلى النفس الأخرى التي تأتينا من الكون؟ إن لكلٍّ من هاتَين ذكريات؛ منها ما هي خاصة بها، ومنها ما هي مشتركة بين الاثنتَين. فإذا ما اتحدَت هاتان النفسان، كانت لهما كل الذكريات معًا، وإذا تفرقتا، غلَّبَت كل منهما في انفرادها ذكرياتِها الخاصة، وإن ظلت بعض الوقت تحتفظ بذكريات الأخرى. ذلك على الأقل هو معنى ظِل هرقل٢٢ في العالم الأدنى. ومن رأيي أننا يجب أن نفهم من ذلك أن هذا الظل يتذكر كل الأفعال التي قام بها في حياته؛ لأن تلك الحياة تنتمي إليه خاصة. أمَّا بقية النفوس، التي كانت مزدوجة، فلم يكن أمامها شيء ترويه سوى حوادثِ هذه الحياة الأرضية؛ إذ إنها في ازدواجها لا تعرف سوى هذه الحوادث، وتلك التي تقضي بها العدالة.

    ولكن «هومير» لم يذكر لنا ما كان يمكن أن يرويَه هرقل ذاتُه، منفصلًا عن ظله. فماذا تقول إذن تلك النفسُ الإلهية حين تتحرر تمامًا؟ إن هذه النفس، طالما هي متأثرة بجاذبية عالمنا الأرضي، لا تروي سوى كل ما فعله أو انفعل به إنسان. فإذا ما تقدم الزمن عادت إليها في ساعة الموت ذكريات الحيوات السابقة، وإن كانت تهمل بعض هذه الذكريات احتقارًا لشأنها. وبازدياد تحرُّرها من البدن تستعيد ذكريات كانت قد نسيتها في حياتها الحاضرة. فإذا ما فارقت هذا العالم، ثم عادت إلى جسم جديد، أمكنها أن تروي حوادث الحياة الخارجة عن البدن، وحوادث الحياة التي غادرتها، مع الحوادث العديدة في الحيوات السابقة، وإن كانت تنسى، بمُضيِّ الزمن، كثيرًا من الحوادث التي مرت بها.

    ولكن ماذا تتذكر النفس حين تتم عزلتها؟ علينا إن شئنا أن نَعلم ذلك أن نبحث أوَّلًا عن الملكة التي تتم بها الذاكرة في النفس.

  • (٢٨)
    فهل يتم التذكر فينا بواسطة القوة التي نستخدمها في الإحساس وفي التعلم، أم أننا نتذكر ما نرغب فيه بواسطة ملكة الرغبة، ونتذكر ما يثير الغضب بالجزء الغضبي؟ إن هذا الرأي يُقال بحجة أن من المستحيل وجود قوة تُجرب أو تُعاني شيئًا معينًا، وقوة أخرى تتذكر هذه التجرِبة؛ فالرغبة في الشيء الذي مارَسه المرء تتيقظ حينما ترى الذاكرة ذلك الشيء مرة أخرى؛ إذ لِمَ لا تعود الرغبة في الظهور، أو لا تعود نفس هذه الرغبة، حين يكون ذلك الذي يتمثل أمامنا شيئًا آخر؟٢٣ وما الذي يمنع من أن نَنسب إلى الرغبة الإحساسَ بموضوعاتها الخاصة، وأن نَعزُوَ الرغبة إلى ملَكة الإحساس، فنطلق الأسماء المختلفة على الملكات تبعًا للعنصر الذي يغلب عليها في وقت معين فحسب؟
    الواقع أن الإحساس يختلف اختلافًا كبيرًا من ملكة إلى أخرى؛ فالرغبة ليست هي التي ترى، وإنما العين. وبداية يقظة الرغبة في الحواس، عن طريق تأثير ينتقل بالتجاور التدريجي، بحيث تتقبَّل الرغبةُ، دون وعي منها، تأثيرَ الإحساس، من غير أن تعرف كُنْهه. وهكذا الحال في الغضب؛ فالإبصار يرى الظلم، ويثور الغضب، مثلما يرى الراعي ذئبًا بين قطيعه، فيهب كلبه، دون أن يرى الذئب، لمجرد أنه قد اشتم رائحته أو سمع صوته.٢٤

    وعلى ذلك فالرغبة التي تُمارَس تحتفظ بأثر للحادث الذي وقع، لا على صورة ذكرى، وإنما على صورة نزوع وتأثر سلبي. أمَّا الملكة التي وعَت هذه التجرِبة واحتفظت بذكرى ما حدث، فهي ملكة أخرى. ودليل ذلك أن الذاكرة كثيرًا ما تغيب عنها رغباتُ الجزء المشتهي من النفس، ولو كانت الذاكرة في ذلك الجزء لما نَسيت هذه الرغبات.

  • (٢٩)

    فهل ننسب الذاكرة إلى ملكة الإحساس؟ وهل نقول إن الذاكرة وملكة الإحساس قوة واحدة؟ إن كانت لِظِل هرقل ذكرياتٌ مثل هرقل ذاته، كما قلنا، فمعنى ذلك أنه كانت هناك ملكتان للإحساس. وفضلًا عن ذلك، فإن كانت الملكة التي تتذكر غيرَ الملكة التي تُحِس، لكانت هناك أيضًا ذاكرتان، ثم إن الذاكرة لو كانت هي الإحساس، لوجب أن يكون هناك إحساس بالأفكار العِلمية، ما دامت تتذكر، أو لوجب عندئذٍ أن تُربَط ملكة أخرى بهذه وبتلك. فهل تقول إذن بملكة مشتركة للإدراك على أنها حد أعم، وتنسب إليها ذاكرة للمحسوسات والمعقولات؟ إن هذا القول لا يكون له معنًى إلا إذا كنا ندرك الأشياء المحسوسة والمعقولة بملكة واحدة. ولكن إذا كانت تلك القوة منقسمة قسمَين، لظلت هناك ذاكرتان أيضًا. وإذا عزَوْنا هاتَين الذاكرتَين إلى كل من النفسَين، لكان معنى ذلك وجود أربع ذاكرات.

    ولكن هل من اللازم، على الإطلاق، أن نتذكر الأشياء المحسوسة بنفس الملكة التي نُحِسها بها، وأن يأتيَ الإحساس وتذكره من نفس الملكة؟ وهل من الضروري أن تكون الملَكة التي نفكر بها هي نفسَ الملكة التي نتذكر بها هذا التفكير؟ الواقع أن من يُحسِنون التفكير ليسوا هم خيرَ من يُحسِنون التذكر. والإحساسات قد تتساوى دون أن تُذكَر على نحو متساوٍ. وقد يكون لبعض الناس إحساساتٌ وقتية، بينما تكون لغيرهم ذاكرة جيدة دون أن يدِقَّ إحساسهم.

    ومن جهة أخرى، فإن كان لا بد أن تتميز الذاكرة عن ملكة الإحساس، فمن الضروري أن تكون الذاكرة قد أحست الأشياء التي ستتذكرها فيما بعد؛ ما دامت الذاكرة تتعلق بأشياء قدَّمها الإحساس من قبل. والواقع أنه لا شيء يمنع من أن يكون للذاكرة موضوعٌ مُحَس هو الصورة أو الخيال، وأن تنتمي الذاكرة وحفظها إلى الخيال، وبهذا ينتهي الحسُّ إلى خيال، بحيث إنه إذا لم يعد للأول وجودٌ لَظَل موضوع الرؤية في الثاني. وإذن فلو ظلت الصورة قائمة في غياب الشيء، لكان في هذا ذاكرة، مهما قصر الوقت الذي تدومه؛ فإن دامت وقتًا بسيطًا، كانت الذاكرة قصيرة، وإن ظلت وقتًا أطول، زادت الذاكرة شدة لازدياد قوة التخيل التصويري. وإذا كان تغير الصورة عسيرًا، كان التذكر راسخًا؛ وإذن فتذكُّر المحسوسات ينتمي إلى الخيال.

    أمَّا عن الفروق بين الذكريات، فمَردُّها إلى الفرق الكامن في هذه الملكات، أو إلى المِران، أو إلى بعض الميول الجسمية التي تبعث فيها التغير أو الاضطراب بمقاديرَ متفاوتة؛ على أننا سنعود إلى هذه المسألة في موضع آخر.

  • (٣٠)
    ولكن، ما القول في تذكر المعاني العقلية؟ هل لهذه المعاني صورة بدورها؟ إن كان كلُّ فكر تُصاحبه صورة، فإن دوام تلك الصورة، التي هي أشبهُ بظِل للمعنى، يُفسِّر تذكر الشيء المعلوم، وإن لم يكن فعلينا أن نلتمس حلًّا آخر. الواقع أن ما يتلقاه الخيال ربما لم يكن إلا الصيغة اللفظية المصاحبة للفكر؛ إذ إن الفكر لا ينقسم، وهو لا يكون أمامنا طالما أنه لا يعبر عنه تعبيرًا خارجيًّا، أي طالما ظل باطنًا. أمَّا اللغة فتعكس الفكر كالمرآة، وذلك حين تُهذِّبه وتنقله من حالة الفكر إلى حالة الصورة. وهكذا يدرك الفكر ويثبت ويتذكر. أمَّا النفس فيتجه ميلها دائمًا إلى التعقل، وهي لا تدركه إلا إذا توافرت لها الشروط التي أشرنا إليها؛ إذ إن تفكير المرء شيء، وإدراكه لتفكيره شيء آخر.٢٥ إنا نفكر دائمًا، ولكنا لا ندرك دائمًا أننا نفكر؛ لأن الذاتَ التي تتلقى الأفكارَ تتلقى كذلك الإحساسات، كلًّا بدوره.
  • (٣١)

    ولو كانت الذاكرة تنتمي إلى الخيال، لكان ثمة خيالان؛ ما دامت لكلٍّ من النفسَين ذاكرةٌ خاصة بها. ومن الممكن أن يكون الأمر كذلك إذا كانت النفسان منفصلتَين. ولكن كيف يوجد خيالان فينا، حيث تتحد النفسان في كائن واحد؟ وفي أي هذَين الخيالَين يقوم التذكر؟ إن كان فيهما معًا، لكانت لكل شيء صورةٌ مزدوجة؛ إذ لا يجب القول إن تخيُّل النفس العليا لا يتعلق إلا بالمعقولات، وتخيُّل النفس الأخرى لا يتعلق إلا بالمحسوسات، وإلا لكنَّا مركَّبين من كائنَين حيَّين لا تجمع بينهما أدنى صلة، وإذن فلو كانت الذاكرة في الخيالَين، ففيم تختلف الصورتان؟ وكيف لا ندرك هذا الفارق؟

    الجواب أنه إمَّا أن تتفق الصورة مع الأخرى، وعندئذٍ فلما كان الخيالان غيرَ منفصلَين، وإنما يسود خيالُ النفس العليا الخيالَ الآخر، فإن الصورة الناتجة تكون واحدة، والثانية تصحبها كظل أو كشعاع خافت هو امتدادٌ لنور ساطع، أو تكون الصورتان في صراع وتنافر، وتظهر الثانية بذاتها؛ ولكنَّا حينئذٍ لا ندرك أنها في النفس الأخرى؛ لأننا بوجه عام لا ندرك ثنائية نفوسنا، وبهذا لا يكونان في النهاية إلا واحدة، وتكون الثانية مطيَّة للأخرى. فإحدى هاتَين النفسَين ترى كل شيء، وإذا فارقت البدن احتفظَت بذكريات معيَّنة، ولكنها تتخلى عن الذكريات المرتبطة بالنفس الأخرى، مثلها في ذلك مثل المرء حين يترك رفقاء سوء من أجل رفقاء أخيار، فلا يحفظ للأوَّلين إلا ذِكرى باهتة، بينما تَعْلق ذكرياتُ الآخرين بنفسه على الدوام.

  • (٣٢)
    فكيف يتم للمرء تذكر أصدقائه وأطفاله وزوجته؟ وكيف يتذكر وطنه، وكل ما يمكن أن يذكره بالعقل رجل صالح؟ إن النفس السفلى لتتذكر ذلك ذِكرى يشوبها الانفعال، ولكن في وُسع الإنسان أن يتذكر دون أن يستشعر انفعالًا. ولا شك أن المرء يستشعر انفعالات في بادئ الأمر، والنفس العليا ذاتها تستشعر أنبلَ هذه الانفعالات؛ لأن لها بالنفس السفلى صلةً معينة، ولكن الأجدر أن ترغب النفس السفلى في أن تسلك كالنفس العليا وتتذكر مثلها، وخاصة إذا كانت بدَورها نفسًا صالحة؛ إذ إن المرء يشرُف بالعلم الذي يتلقاه من كائن أعلى. أمَّا النفس العليا فيتعين عليها أن تنسى طواعية ما يأتيها من النفس الدنيا؛ فإن كانت نفسًا صالحة، ففي وسعها أن تكبح جماح النفس ذات الطبيعة الدنيا. وكلما شقَّت النفس طريقها نحو المعقول، ازدادت لأمور هذا العالم الأدنى نسيانًا، ما لم تكن حياتها بأسرها — حتى على الأرض — زاخرة بذكريات الأمور الطيبة وحدها؛ إذ إن من الخير للمرء في عالمنا هذا ذاتَه، أن ينصرف عن مشاغل الناس، وبالتالي فعليه ضرورةً أن ينصرف عن ذكريات هذه المشاغل. ومن هنا كان لنا بهذا المعنى أن نقول بحقٍّ إن النفس الخيِّرة ناسية؛ فهي تَفِر من الأشياء التي تتصف بالكثرة، وترد الكثير إلى الواحد، وتدع غير المحدد. وهي لا تصحب معها مجموع الذكريات الأرضية، بل هي خفيفة منفردة بذاتها. بل إنها في حياتها الحاليَّة، حينما تود التفكير والوصول إلى المعقول، تتخلى من أجل ذلك عن كل شيء آخر، ولا يصاحبها في العالم المعقول من ذكريات عالمنا إلا قدرٌ ضئيل، وتَزداد هذه الذكريات قليلًا عندما تكون في السماء وحدها. وهكذا يستطيع هرقل٢٦ في العالم الأدنى أن يتحدث عن شجاعته، ولكنه سيراها شيئًا ضئيلًا بحق إذا ما انتقل إلى منطقة أكثر قداسة، ووصل إلى العالم المعقول، فعندئذٍ حين تتوافر له قوة أعظم من الهرقلية، تتبدى في معاركه التي لا تقوم إلا بين حكماء.
١  واقتباس أفلوطين لنفس المحاورة ليس حرفيًّا، وإنما هو تلخيصٌ للمعنى فحسب.
٢  Phaedrus 246B ويُلاحَظ أن هذه العبارة جزء من التشبيه الذي أورده أفلاطون في محاورة فيدروس، مقارنًا طبيعة الإنسان بعرَبة بها خيول مُجنَّحة.
٣  الأجسام التي تتجانس أجزاؤها هي في النص اليوناني homoiomeri، وهو نفس المصطلح الذي استخدمه أنكساجوراس من قبل بمعنًى خاص في فلسفته.
٤  يُلاحَظ هنا نقد أفلوطين للفلاسفة المتأثرين بالنزعة الفيثاغورية، مثل نومينيوس، الذي قال إن النفوس الفردية ليست سواء أجزاء، بالمعنى الرياضي، من نفس العالم.
٥  يُلاحَظ في هذه الفقرة كلها أن أفلوطين يرمي إلى استبعاد الجزئية من النفس بالمعنى الذي تنطبق فيه الجزئية على الكم المنفصل أو المتصل، أي على الوحدات العددية والأشكال الهندسية. والنص اليوناني في النصف الأول من هذه الفقرة يكاد يكون كله جملة واحدة، ينبغي تقسيمها تبعًا لوجهة نظرنا إلى تسلسل الاستدلال عنده. وفي كل حجة كان أفلوطين يُفنِّد بها هذا الرأي، كان يضيف عبارة: «ولنذكر أن أجزاء النفس الكلية متجانسة مع الكل»؛ لأن هذه العبارة هي التي كان يعتمد عليها في تفنيد الرأي المضاد، وهي التي تمنع من تشبيه علاقة النفوس الجزئية مع النفس الكلية بعلاقة الوحدات العددية مع المجموع في الأعداد، أو بعلاقة لجزء من الشكل بالشكل كله في الهندسة.
٦  يُلاحَظ هنا ترجمة كلمة logos بمبدأ عقلي، والمقصود بها هنا تلك الأفكار أو المُثُل التي ينطوي عليها العقل الكلي، ويحقق بها الصور والماهيات المختلفة التي تأتي من بعده (انظر الملحق رقم (١) بعنوان «المبادئ البذرية» في ترجمة لفظ logoi عند أفلوطين).
٧  يُلاحَظ هنا أن أفلوطين تكلم من قبل عن أزلية النفس، والأزلية تفترض اللانهائية، ولكنه يفترض النفس ثابتة، فكيف تتفق اللانهائية مع الثبات؟
٨  يُلاحَظ أن المعنى الذي يبدو لأول وهلة من هذه العبارة هو أن طبيعة النفس تقضي عليها بأن تخلق ما هو أدنى منها، ولكن لو كان هذا هو المقصود لكان ما يرمي إليه أفلوطين هنا هو أن يثبت ضرورة النفس للجسم، بينما الواضح أنه يهدف إلى إيضاح ضرورة الجسم للنفس. وعلى ذلك فالمقصود من هذه العبارة هو أحد أمرَين؛ أولهما أن الحلول في مكان هو شرط وجود كل طبيعة خارجة من العالم المعقول، أي إن كل ما هو خارج عن ذلك العالم متناهٍ له حدوده الخاصة. وثانيهما أن أفلوطين يرمي هنا إلى توضيح طبيعة النفس بالنسبة إلينا، أي إن النفس كما نعرفها لا توجد إلا في الجسم؛ لأن طبيعتها المحسوسة تقضي علينا بأن ندركها في محل، ولو لم تكن النفس حالَّة في جسم لما عرَفْناها على الإطلاق.
٩  في هذا الموضع يشرح أفلوطين خلق النفس للمادة مستخدمًا نفس التشبيه الذي كان يؤثره على الدوام، وهو تشبيه النور.
١٠  لكل مبدأ عاقل عند أفلوطين أو صورة تُعبِّر عنه، هي فكرة في العقل الأول. وهذا المثال أو الصورة هو الذي يؤدي بالمبدأ العاقل إلى أن يمتد بقدر معين.
١١  تُرجِمَت كلمة logos في هذا النص تارة بالعقل، وتارة بالمبدأ، تبعًا لما يقتضيه النص.
١٢  العقل هنا بمعنى nous الذي هو ثاني المبادئ العليا.
١٣  تُستخدَم كلمة «مبدأ» بمعناها الأصلي arché.
١٤  يُلاحَظ أن تفسير أفلوطين لأسطورة بروميثيوس وبندورا متحررٌ إلى حد كبير (انظر الملحق الخاص بالأساطير عند أفلوطين).
١٥  أفرد «برييه» في ترجمته نوعًا ثالثًا من النفوس يبدأ في هذا الموضع. ولكن الأصح أن يُعَد ذلك مجرد شرح للنوع السابق، أي النوع الذي يخضع تارة للحتمية وتارة لذاته. والسياق يثبت هذا بوضوح.
١٦  انظر معنى هذا المصطلح في الملحق الأول من الدراسة.
١٧  يُلاحَظ هنا أن أسبقية الصورة على الهيولى هو تفسير خاطئ لفكرة أرسطو، إذا كان يقصد به الأسبقية الزمنية؛ لأن الصورة لا تنفصل عن الهيولى قط. والمقصود بالطبع هو الأسبقية المنطقية، أي الأسبقية في الرتبة فحسب.
١٨  في هذه الفقرة ينقد أفلوطين نظرية التذكر عند أفلاطون، وإن لم يكن قد ذكر اسمه، بل تكلم عن «القدماء»؛ فهو لا يقول مع أفلاطون بتذكر أفكار سابقة، بل يقول بوجود أفكار فطرية هي التي يبدو — حين تُستدعَى في هذا العالم — أنها تتذكر. ولكن الواقع أن الذاكرة لا تنطبق على هذا النوع من الاستعادة. والمقصود هنا بكلمة «المعرفة الحاضرة» أن تَستدعيَ النفس هذه الأفكار وتُظهِرها بحيث تدركها ماثلة أمامها، وهو أمر لا يحدث في هذا العالم كثيرًا؛ لاختلاط النفس بجسم، فإن حدث كان الأصح أن يُسَمَّى استعادة.
١٩  تشبيه لاشتراك النفس والجسم في عملية الإحساس بعملية أخرى يشترك فيها عنصران هما الصانع والأداة؛ كعملية غزل الخيوط واختراقها. ويُلاحَظ أن فعل الصانع غالب على فعل الأداة في هذا المثل كغلَبة قوة النفس على الجسم في الإحساس.
٢٠  أي ضربة الخاتم على الشمع، والنقد هنا ينصبُّ على فكرة الانطباع الرواقية.
٢١  نهر في الأساطير اليونانية موضعه في العالم الأدنى، كانت الأشباح تشرب ماءه لتنسى. والمقصود هنا من القول إن النهر وسيلة النسيان؛ أن ما هو سيال متغير — كالبدن مثلًا — هو علة للنسيان.
٢٢  ظِل هرقل يرمز إلى الجانب الإنساني من حياته. انظر التعليق على الفصل ٣٢ من هذا المقال.
٢٣  يرمي أفلوطين من هذه الفقرة إلى عرض رأي القائلين بعدم التفرقة بين الرغبة والذاكرة، بحيث تكون هي التي تتذكر موضوعاتها الخاصة، فتكون الملكتان واحدة وإن اختلَفَت المسمَّيات. وهذا هو الرأي الذي يأخذ أفلوطين على عاتقه أن يُفنِّده في بقية الفصل.
٢٤  في هذا التشبيه يوضح أفلوطين أن الغضب الذي هو قوة عمياء لا يمكن أن تكون قد أدركت سببه الظلم، يحتاج أوَّلًا إلى الإحساس؛ لأنه هو ذاته لا يُحس؛ وبالتالي تحتاج ملَكة الرغبة كلها إلى الإحساس. وهو يُشبِّه الغضب في هذا المثال بالكلب؛ لأن الكلب يثور دون أن يكون قد فهم من الأمر شيئًا.
٢٥  في هذا الموضع ما يشهد بتنبُّه أفلوطين لفكرة «الوعي» التي تُمثِّل تقدمًا كبيرًا في آرائه النفسية بالنسبة إلى بقية مفكري اليونانية.
٢٦  في أساطير هومير يرمز هرقل إلى البطولة في هذا العالم؛ فهو قد مارس كل ضروب البطولة في العالم، وله فيه اثنا عشر فعلًا خارقًا. ومع ذلك فكل هذه الأفعال لا تكاد تساوي شيئًا عندما ينتقل إلى عالمٍ أعلى؛ فأفلوطين يرمي هنا إلى التحدث عن الحكمة العَملية وكيف أنها لا تكفي — مع سموها — للصعود بالإنسان إلى المرتبة العليا؛ إذ إنها لا تنتمي إلى النفس المفارقة، بل إلى المركب؛ فالحكم العملي مثل ظل هرقل الذي وضعه هومير في العالم الأدنى، وإن كان هرقل ذاته بين الآلهة، أي إن هرقل يستحق أن يصعد تمامًا إلى الأولمب مقر الآلهة، ولكن لما كانت فضيلته عَملية، لا نظرية، فإنه لا يصعد تمامًا، بل يظل شيء منه في العالم الأدنى. ولذا كان الحكيم يحتفظ ببعض ذكريات الأفعال التي قام بها على الأرض، رغم أنه ينسى التافه والضارَّ منها. أمَّا مَن كانت حكمته نظرية خالصة، فإنه يتخلص من كل ذاكرة. وهذه ما تثبته الفصول الأولى في المقال القادم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤