المقال الرابع: في الإشكالات المتعلقة بالنفس (ب)

  • (١)
    فماذا عساه يقول؟١ وأي الذكريات تَعيها نفسٌ وصلَت إلى العالم المعقول، بقرب الجوهر؟ إنها عندئذٍ تتأمل المعقولات، التي هي موضوع نشاطها، والتي توجد النفس بينها، ولو لم تكن تتأملها لما كانت من ضمنها قط. وهي لا تذكر من حوادث هذه الأرض شيئًا، فلا تذكر مثلًا أنها كانت منصرفة إلى الفلسفة، وأنها كانت من قبل خلال وجودها في العالم الأرضي، تتأمل المعقولات، ولا يتضمن فكرها الحاليُّ تذكرها أنها قد فكرت من قبل. ولا جدال في أنها بعد أن تكف عن التفكير — إن أمكن أن يحدث هذا — قد يكون في وُسعها أن تقول: لقد فكرت. غير أن هذا ينطوي على افتراض أنها متغيرة. فإن كانت تتأمل المعقولات تأمُّلًا خالصًا، فلن يكون في وسعها الاحتفاظُ بذكرى الحوادث التي مرت بها في عالمنا الأرضي. وفضلًا عن ذلك، فإن كان كل فكر — كما يبدو بوضوح — لا زمانيًّا، ما دامت المعقولات في الأزل لا في الزمان، فمن المحال أن تكون للنفس في ذلك العالم أدنى ذاكرة، لا بالأشياء الأرضية فحسب، بل بأي شيء آخر؛ فكل ماهية حاضرة لديها هناك، وليس عليها أن تمر بالماهيات متعاقبة، وتنتقل من الواحدة إلى الأخرى.

    عجبًا! ألا يوجد في المعقولات انقسامٌ من الجنس إلى الأنواع، وانتقالٌ عكسي من الحد الأدنى إلى الحد الكلي والأعلى؟ وإن صح أن العقل الأعلى لا يسير على هذا النحو، ما دام كله فعَّالًا في نفس الوقت، فلِمَ لا تمر النفس بها حين توجد في المعقولات على هذا النحو؟

    – والجواب أنه حتى في هذه الحالة، فلا شيء يمنع من أن تُدرِك بالعيان كلَّ المعقولات دَفعة واحدة.

    – فهل هذا العيان مماثلٌ لإدراك شيء واحد دفعة واحدة؟

    كلا، إنه كإدراك كثرة من الأفكار عن أشياء تكون لها وحدةٌ واحدة؛ فالنفس تُدرِك أمامها منظرًا متنوعًا يتصف فكرها بإزائه بالكثرة، وتنشأ عنه أفكارٌ عديدة في وقت واحد، كإحساسات العينَين والأنف وبقية الأعضاء في إدراك الوجه.

    – وماذا يحدث حين تقسم النفس جنسًا وتُعدده إلى أنواع؟

    إن التقسيم قد وُضِع من قبل في العقل. والنفس تَستخدم هذا التقسيم التام نقطةَ ارتكاز للتقسيم الذي تقوم به. ثم إن السابق واللاحق في التصورات لا صلة لهما بالزمان، ولا ينتج عن ذلك أن يكون التفكير في السابق قبل التفكير اللاحق؛ فثمة أسبقية ولاحقية في صلة الترتيب، مثلما أن الجذور وأعلى الفروع في النبات لا تُعرَف سابقًا ولا لاحقًا إلا في صلة الترتيب، وذلك بالنسبة إلى من يرى النبات كله دفعة واحدة.

    – ولكن، إن كانت النفس تُدرِك أوَّلًا واحدًا، وتعرف بعد ذلك أنواعًا عديدة له، ثم كل أنواعه، فكيف نُفسِّر إدراكَها الجنس أوَّلًا، والأنواع بعد ذلك.

    – ذلك بأن قوة الجنس واحدةٌ مثلما هي كثيرة، حين تكون في شيء آخر. وكل الحدود التي يتضمنها هذا الجنس تناظر أفكارًا مختلفة. وأفعال (أي أنواع) هذه القوة (أي الجنس) لا تُرَد إلى فعل واحد، بل تظل كلها موجودة أبدًا بقوة الجنس الدائمة، وتظهر في أشياء متباينة؛ إذ إن الوجود المعقول لا يعود واحدًا، بل يستطيع أن يقبل في ذاته كثرة لم تكن موجودة في الكائن الفرد السابق.

  • (٢)
    فلنُسلِّم بذلك. ولكن كيف يتذكر المرء ذاته (حين يكون في العالم المعقول)؟ إن المرء لا يتذكر ذاتَه قط؛ فهو لا يذكر أنه، أي سقراط مثلًا، هو الذي يتأمل، ولا يعلم إن كان عقلًا أو نفسًا. ولينظر المرء في حالات التأمل هذه، في عالَمنا الأرضي ذاته، حيث لا ينعكس الفكر على نفسه قط، وخاصة إذا كان مستغرقًا في تأمله كل الاستغراق. فنحن عندئذٍ نمتلك أنفسنا، ولكن نشاطنا بأسره يكون موجَّهًا نحو الشيء الذي نتأمله، فنصبح نحن ذاتنا هذا الشيء، ونهب أنفسنا له كأننا مادة طيِّعة،٢ ونتخذ لأنفسنا صورة تبعًا لما نراه، ولا نعود نحن أنفسنا إلا بالقوة.

    – عجبًا! ألا يكون للموجود القائم في المعقول وجودٌ بالفعل إلا حين لا يفكر في شيء؟!

    – كان يمكن أن يكون ذلك صحيحًا، لو كان كالمكان الخالي من كل شيء. ولكنه ما دام هو ذاتُه كلَّ شيء فإنه حين يفكر في ذاته، يفكر في نفس الوقت في كل شيء؛ فكل الأشياء توجد متضمنة في عيانه وتصوره الفعلي لنفسه. وفي إدراكه العياني للكل، توجد ذاته متضمَّنة.

    – ولكنه إن كان يمضي على هذا النحو، فإن أفكاره تتغير، بينما كان رأينا من قبلُ عكسَ ذلك.

    – إن العقل وحده هو الذي يظل في هوية مع ذاته. ولكن النفس، وموضعها في أطراف العالم المعقول، يمكنها أن تتغير، ما دام في وسعها دائمًا أن تزداد فيه توغلًا. فعندما يسير شيء ليحتل له موقعًا بقرب نقطة ثابتة، فلا بد أن يكون موقعه بالنسبة إلى هذه النقطة قد تغير، وألا يظل على ثباته دائمًا. أو على الأصح، ليس انتقال النفس من المعقولات إلى ذاتها، ومن ذاتها إلى بقية المعقولات، تغيُّرًا حقيقيًّا؛ إذ إن الأنا هو كل شيء، وليس الأنا وموضوعه إلا واحدًا.

    – وكل هذا لا يُغير شيئًا من القول إن للنفس — حين توجد في العالم المعقول — سلسلةً من التأثرات المختلفة بالنسبة إلى ذاتها وإلى بقية الأشياء الموجودة فيها.

    – كلا، فإذا كانت تعيش في العالم المعقول وحده، فإنها بدورها تظل ثابتة، شأنها شأن موضوعاتها. بل إنها لا بد أن تنتهي، في هذا العالم الأرضي بدوره، إلى الاتحاد مع العقل، إذا ما تحولت نحوه. فإذا ما توجهت إليه على هذا النحو، لم تعد هناك واسطة بين العقل وبينها، بل تتجه نحو العقل، ثم ترتبط به، وأخيرًا تصل إلى حالة من الوحدة الأبدية، فلا يعود الاثنان إلا واحدًا. وفي هذه الحالة، لا يمكن أن يطرأ عليها تغير، فلها بالفكر علاقة ثابتة، ولها في نفس الوقت شعور بذاتها؛ لأنها لا تعود هي والمعقول إلا شيئًا واحدًا.

  • (٣)

    ولكن النفس تغادر العالم المعقول ولا تظل متمسكة بوحدتها، بل تحب ذاتَها لذاتها، وتشتاق إلى أن تتميز عن العقل، فتتجه إلى خارجه. وحينئذٍ، على ما يبدو، يكون تذكرها لذاتها. فإذا تذكرت المعقولات منعتها هذه الذكرى من الهبوط سفلًا، وإذا تذكرت الأشياء الأرضية دفعَتها هذه الذكرى إلى أسفل، أمَّا إذا تذكرت الأشياء السماوية فإن هذه الذكرى تُبقيها في السماء؛ ففي كل هذه الحالات تكون النفس، وتصبح عينَ الشيء الذي تتذكره. والتذكر إمَّا أن يكون تذكرًا لفكرة أو خيال. على أن التخيل عند النفس ليس امتلاكًا لموضوعه، بل هو إبصار له وتأثر به. وهكذا يكون للخيال حين يُدرِك المحسوسات نفسُ امتدادها؛ ذلك لأن امتلاك النفس لكل الأشياء عندئذٍ ليس أوليًّا، وبهذا لا تصبح هي كل الأشياء بالضبط؛ فهي وسطٌ بين المحسوس والمعقول. وفي هذا الواقع تتجه نحو أحدهما كما تتجه نحو الآخر.

  • (٤)

    فحين تكون النفس في العالم المعقول، ترى الخير بتوسُّط العقل؛ إذ إن الخير ليس محتجبًا إلى الحد الذي لا يصل معه إليها، ما دام لا يوجد جسم يحول بينها وبينه، وحتى لو حال الجسم بينها وبين الخير، فسيصل الخير مع ذلك من المرتبة الأولى إلى الموجودات ذوات المرتبة الثالثة (أي النفوس ذوات الأجسام). أمَّا إذا انصرفت النفس كليةً إلى الأشياء الدنيا، فعندئذٍ فقط تمتلك ما تريده طبقًا لما فيها من ذكريات وأخيلة.

    لذا لم يكن التذكر خيرَ ما يوجد، حتى لو كان تذكر خير الأشياء.

    وعلينا أن نَفهم أن التذكر لا يتم حين يدرك المرء حاليًّا أنه يتذكر فحسب، بل يكون أيضًا في اتجاهات النفس التي تتابع الانطباعات أو المعلومات السابقة. وقد يحدث أن تكون للنفس اتجاهاتٌ كهذه دون أن تشعر بذلك، على أن هذه تكون أقوى كثيرًا إن عرفَتها النفس. فحين تدرك النفس أن لها ميلًا معيَّنًا، تكون هي ولا شك مختلفة عن هذا الميل. أمَّا إذا جَهِلت أن لها ذلك الميلَ، لتعرضَت لأن تغدوَ هي ذاتها ما تملكه، وتلك الميول التي تجهلها النفس هي بخاصة تلك التي تؤدي بها إلى الهبوط.

    وحين تغادر النفس العالم المعقول تحمل منه ذكريات.

    – وإذن فقد كانت لها ذكرياتٌ على نحو ما، حين كانت فيه.

    – أجل، كانت لها بالقوة، غير أن النشاط العقلي كان يحجبها، ولم تكن تلك الذكرياتُ كعلامات صادرة عنها قط — وهي نظرية لها نتائج ممتنعة — بل كقوة ينبغي فيما بعد أن تنتقل إلى الفعل. فإذا ما كفَّت النفس عن المضيِّ في العالم المعقول، فإنها ترى من جديد ما كانت قد رأته قبل أن تدخل ذلك العالم.

  • (٥)

    ولكن، أقوَّة التذكر هذه هي التي تنقل المعقولات إلى الفعل؟

    – كلا، إننا لا نعرف المعقولات بالذاكرة إلا حين لا نعرفها بالعيان. وعندما نتوصل إلى مشاهدتها في ذاتها، فإنما يكون ذلك بالملَكة التي كنا نستخدمها في عالمنا هذا لرؤيتها. فتلك الملكة تتيقَّظ في نفس الوقت مع الموضوعات التي توقظها. وهي تعاين المعقولات حينما نتحدث عنها. والحق أن المرء لا يستخدم في كشفها التخميناتِ ولا الأقيِسةَ التي تَستمد مقدماتها من مصدر آخر، بل إن في وسعنا — كما قلنا — أن نتكلم عن المعقولات، حتى خلال إقامتنا في عالمنا هذا، بفضل نفس الملكة التي تُستخدَم في تأملها في العالم المعقول. فإذا أيقظنا هذه الملكة لوجب أن ندرك المعقولات؛ ففي المعقولات إذن نوقظها، ونحن في ذلك أشبه بأناس ارتقَوا إلى مرصد عالٍ، فأصبح في وسع نظرتهم أن تستوعب أشياء لا يراها من لم يصعدوا معهم.

    فمن الواضح إذن، تبعًا لما قلناه، أن الذاكرة تبدأ في النفس خلال إقامتها في السماء، حين تترك المعالم المعقول. فحين ترد من ذلك العالم إلى السماء وتظل فيها، فليس لنا أن نعجب من أن نراها تتذكر الأشياء في عالمنا هذا وما قيل فيه، وتتعرف على نفوسٍ عرَفَتها من قبل، طالما أن هذه النفوس قد اكتسَت بالضرورة أجسامًا لها صور مشابهة لصورها السابقة. بل إن النفوس حتى لو كانت قد استبدلت بجسمها جسمًا ذا صورة فلكية، لتعرَّفَت عليها من طباعها ومن خلالها الخاصة. وليس هذا بالأمر المستغرَب؛ فتغيُّر الظروف والأحوال لا يعني تغير الطبع. وإن كانت النفوس تستخدم اللغة في التخاطب، لكانت تلك وسيلةً أخرى من وسائل التعرف.

    ولكن حين يتم هبوط النفس، في السماء، من العالم المعقول، فماذا تكون ذكرياتها؟ إن ذاكرتها تنشط أيضًا، وتكون لديها نفس الذكريات (التي للنفوس الباقية في السماء) ولكن بدرجة أقل؛ إذ سيكون لهذه بخلاف ذلك أشياء أخرى عديدة تتذكرها، كما أن المدة الطويلة (التي أقامتها خارج السماء) ستنسيها تمامًا أشياء عدة.

    – وماذا تكون ذكرياتها إذا ما توجهت صوب العالم المحسوس وهبطت هنا إلى عالم الكون؟٣

    – ليس من الضروري قط أن تهبط حتى قرار العالم؛ فما دامت قد تحركت، ففي وُسعها أيضًا أن تقف بعد أن تكون قد توغلت بعض التوغل، ولا شيء يمنعها من أن تتخلص ثانية من أجسامها قبل أن تصل إلى الأطراف الدنيا من عالم الكون.

  • (٦)

    وقد يُقال إن الذاكرة لا تنتمي حقًّا إلا إلى تلك النفوس التي يسري عليها التغيرُ والاستحالة؛ إذ لا تتعلق الذاكرة إلا بالحوادث التي انقضت. ولكن إن كانت هناك نفوس تظل على حال واحد، فأي شيء تتذكر؟ ذلك هو السؤال الذي يوجه بصدد نفوس النجوم وبقية الموجودات السماوية، ونفس الشمس أو القمر، ونفس الكون أخيرًا. ويمضي المعترضون إلى حد الشك في وجود ذكريات لزيوس ذاته. وسنَدرُس في هذا البحث كُنْه أفكار تلك النفوس واستدلالاتها، إن وُجِدت.

    ولكن، ما دامت هذه النفوس لا تبحث عن شيء أو تضع شيئًا موضع الشك؛ إذ لا ينقصها شيء، وليس عليها أن تتعلم لأنها لم تكن من قبل جاهلة، فأي الاستدلالات، وأي الأقيسة، وأي الأفكار تُنسَب إليها؟ إنها ليست بحاجة حتى إلى أن تتخيل روابطَ معينة من أجل التحكم في شئون البشر والأرض؛ إذ إنها تبثُّ النظام في الكون على نحو مخالف لذلك تمامًا.

  • (٧)

    ولكن، ألا تتذكر تلك النفوس أنها رأت الله قط؟

    – كلا؛ فهي تراه دوامًا، وما دامت تراه فليس في وسعها أن تقول إنها قد رأته؛ إذ لا يكون لذلك الماضي معنًى إلا إذا كفت عن رؤيته.

    – ولكن، ألا تتذكر أنها قد دارت حول الأرض بالأمس وفي العام الماضي؟ ألا تتذكر أنها كانت تعيش بالأمس؟ ألا تستعيد في ذاكرتها كل ماضيها، منذ كانت تحيا؟

    – كلا؛ إذ إنها تحيا دوامًا، والديمومة وحدة لا تتجزأ. فإذ ميَّزنا في حياتها يومًا سابقًا، كنا أشبهَ بمن يقسم حركة الرِّجل التي تخطو خطوة إلى عدة حركات، وبمن يرى في الاندفاع الواحد كثرة من الاندفاعات المتميزة المتعاقبة؛ فحركة السماء ليست بدورها إلا حركةً واحدة، ونحن الذين نُحصي أيَّامًا عديدة تميزها بالليالي التي تفصل بينها. أمَّا هناك، حيث لا يوجد إلا نهار واحد لا ليل له، فلا توجد كثرة متميزة من الأيام، ولا سنة ماضية.

    – ولكن ما القول في المكان الذي تقطعه أجزاء مختلفة، وما القول في تغير علامة برج السماء الذي يكون فيه الكوكب؟ ولِمَ لا يكون في وسع الكوكب عندئذٍ أن يقول: «لقد اجتزت هذا البرج، وها أنا ذا في غيره»؟ وفضلًا عن ذلك، فإن كانت تلك النفس تُعنى بشئون البشر، فكيف لا ترى التغيرات التي تطرأ عليهم؟ وكيف لا تعلم أن الناس الحاليِّين لم يعودوا هم السابقين؛ وبالتالي أنه كان هناك غيرهم من قبل؟ وهلا يعني ذلك أن لها ذاكرة؟

  • (٨)

    الرد على ذلك أنه ليس من الضروري أن يحتفظ المرء بذكرى كل ما رآه. وليس من الضروري أيضًا أن يتخيل المرء كل الظروف على العرضية التي تصاحب إدراكًا ما. وأخيرًا، فإن عرَف المرءُ بالعقل شيئًا على نحوٍ أوضحَ مما يعرفه بالحواس، لم يكن من الضروري قط، في حالة تحقق ذلك الشيء في العالم المحسوس، أن يتخلى المرء عن معرفته العقلية ليُكوِّن لنفسه انطباعًا خاصًّا بهذا المحسوس الجزئي، ما لم يكن على المرء أن يتحكم فيه بأن يدبره بالعقل؛ إذ إن معرفة الموجودات الجزئية متضمَّنة في معرفة الكلية.

    وسأتحدث عن هذه المسائل الثلاثة كلٍّ بعد الأخرى.

    فليس من الضروري أوَّلًا أن تحتفظ ذاكرة المرء بكل ما يراه؛ فحين لا يكون هناك فارق بين الأشياء، أو حين لا توجد بالنسبة إلى النفس تلك الإحساسات المختلفة التي تُثيرها خارج الإرادة أشياء مختلفة، يكون الحس وحده هو الذي يشعر بهذه الفروق، أمَّا النفس التي لا تهمها تلك الفروق على الإطلاق، لا من أجل حاجتها ولا من أجل أي عرَض آخر، فلا تتلقَّاها في داخلها. وحين توجه النفس انتباهها إلى أشياء أخرى، لا تحتفظ بذكرى الانطباعات السابقة قط، طالما أنها لا تدركها في الوقت الذي توجد فيه.

    وثانيًا، فليس من الضروري أن تكون للمرء صورةُ كل الظروف العرَضية لإدراك ما، أو أن تكون له على الأقل صورة من شأنها أن تُختزَن؛ فمثل هذه الانطباعات لا تستتبع وعيًا. وذلك ما سيتبينه المرء إن أدرك جيدًا معنى هذا المثل: فحين يحدث، خلال تغييرنا مكاننا، أو على الأصح خلال عبورِنا مكانًا، أن نقطع على التوالي مناطقَ من الهواء دون أن نكون قد انتوينا فعل ذلك، فلن نحتفظ عن هذا الأمر بأدنى ذاكرة، بل لن نفكر فيه خلال سيرنا. وبالمثل فإذا لم يكن هدفنا، خلال رحلة، هو أن نجتاز مسافة معلومة، وإنما يكون ما نرمي إليه هو مجردَ الانتقال خلال طبقات الهواء، فلن نهتم بمعرفة المرحلة التي نحن فيها، وكم من الطريق قطعنا. وأخيرًا، فإن لم يكن علينا أن نتحرك خلال وقت محدَّد، وإنما نتحرك فحسب، أو أن نقوم بأي فعل آخر دون أن نربطه بالزمان، فلن تظل لدينا أيةُ ذكرى بتعاقب الأزمنة. وإنَّا لنعلم جيدًا أنه لو كانت لدينا فكرة شاملة عن فعل ينبغي علينا القيام به، وكنا على يقين من أن الفعل سيتم تبعًا لتلك الفكرة، فلن تُعير تفصيلات ذلك الفعل أي انتباه. وإذا ما كرَّر المرء نفسَ الفعل دائمًا، كان تذكُّر كل تفصيلاته أمرًا عقيمًا، ما دام يظل كما هو. والحال كذلك بالنسبة إلى النجوم؛ فهي في مسارها تتحرك لتُتِم فعلها الخاص، لا لتَعبُر المواضع التي تجتازها. وفعلها الخاص لا شأن له برؤية المواضع التي تمر بها، أو بعبور هذه المواضع، فهذا العبور عرضي بالنسبة إليها، وإنما يثبت تفكيرها على أمور أهم منه بكثير. إنها لا تحصي أبدًا تلك الأمكنة العديدة التي تنتقل فيها، والتي تظل دائمًا كما هي، ولا تحسب أزمنة عبورها لها، حتى لو افترضنا أن الانقسام يسري على تلك الأمكنة والأزمنة. ونتيجة ذلك أنه لا يلزم قط أن تكون لها ذكرى تلك الأمكنة ولا تلك الأزمنة.

    ثم إن حياة هذه النفوس دائمًا واحدة، وعن هذه الحياة تنتج حركتُها المكانية حول نفس المركز، بحيث ينتهي الأمر بتلك الحركة ألَّا تعود محلِّية، بل حيوية، أي إنها هي الحركة الحيوية لكائن حي واحد، لا يؤثر إلا على ذاته، وساكن بالنسبة إلى ما هو خارج عنه، يتحرك بفعل الحياة الأزلية الكامنة فيه. ولنا أن نُقارِن حركة النجوم بحركة فرقة راقصة؛ فهذه الفرقة لو توقفت في لحظة معينة، لما تم الرقص إلا إذا كان قد أُدِّي من البداية إلى النهاية. أمَّا إذا كانت هذه الفرقة ترقص على الدوام، فإن رقصها يتم في كل لحظة. وإذن فليس ثمَّة لحظة أو موضع يتم فيهما الرقص، ومن هنا لا تكون للفرقة أية رغبة في قياس مكان الرقص أو مدته؛ وبالتالي لا تتذكر ذلك قط.

    وفضلًا عن ذلك، فالنجوم تحيا حياة سعيدة، متأملة هذه الحياةَ بواسطة نفوسها الخاصة. وهي في ميل نفوسها إلى الوحدة، وفي الإشعاع الذي يصدر عنها لينتشر في السماء كلها، تكون أشبه بعود تُنشِد أوتارُه — حين تهتز تعاطفًا — نشيدًا منسجمًا بطبيعته. هكذا تكون حركة السماء؛ فإذا كانت لحركة أجزاء السماء صلةٌ بها، وإذا كانت هي ذاتها تنتقل بحركة كلية، وكانت لكل جزء من أجزائها حركةٌ مختلفة، ولكن في نفس الاتجاه؛ نتيجةً لاختلاف مواقعها، فذلك أيضًا يؤيد فكرتنا عن حياة كلية دائمة الاطِّراد.

  • (٩)

    ولكن زيوس الذي يدبر الكون ويوجهه ويرشده، والذي يمتلك على الدوام نفسًا علويَّة وعقلًا علويًّا، والذي يتنبأ بالحوادث ويتحكم فيه حينما تحدث، ويرتب كل شيء وفقًا لنظام دقيق، وعلى يدَيه تتم دورات النجوم، كما تم الكثير من قبل؛ زيوس هذا كيف لا يتذكر الفترات التي انقضت ومقاديرها؟ وإذا كان لا بد له حتى تُستأنَف الفترات من جديد، من أن يصنع ويجمع ويُحصي، فكيف لا تفوق ذاكرتُه كل ذاكرة أخرى، ما دام في صنعته يفوق كل صانع آخر؟

    – أمَّا عن تذكر الفترات الكونية، ففيه وحدة تتمثل صعوبة كبرى؛ فما هو عددها، وهل يعرفه زيوس؟ لو كان هذا العدد متناهيًا، لكنَّا ننسب إلى الكون بداية في الزمان، وإن كان لا متناهيًا، فمعنى ذلك أن زيوس لا يعلم عدد أفعاله الخاصة. والواقع أنه سيعلم أن فعله كله واحد، تُحييه حياة أزلية واحدة، وفي هذا المعنى يكون ذلك العدد لا متناهيًا، ويعلم زيوس وحده عمله لا من الخارج، بل خلال صنعه له، وبهذا يكون اللامتناهي، مفهومًا على هذا النحو، معه على الدوام، أو بالأحرى مصاحبًا له، ويتأمله زيوس بمعرفةٍ ليست مستفادةً قط. ولما كان يُدرِك لانهائية حياته الخاصة، فإنه يعلم الفاعلية التي يمارسها على الكون في وحدتها، وإن كانت تلك الفاعلية (رغم وحدتها) تَنتظم كلَّ شيء.

  • (١٠)

    إن المبدأ المنظِّم مزدوج؛ فهو الصانع بمعنًى، وهو نفس الكون بمعنًى آخر. واسم زيوس يدل على الصانع وعلى النفس التي تدبر العالم معًا. فإذا تحدثنا عن زيوس بوصفه الصانع، فعلينا أن نستبعد عنه كل فكرة عن ماضٍ أو مستقبل، وأن نعزوَ إليه حياة ثابتة لازمانية. ولكن السؤال يظل قائمًا بالنسبة إلى زيوس بوصفه حياة العالم، والمشتمِلَ في ذاته على المبدأ الموجِّه للكون، فهلا تنقضي تلك الحياة في الحساب وفي بحث ما ينبغي عمله؟ ذلك بأن الكشف وترتيبَ ما ينبغي عمله هي أمور قد تمت، وليست أمورًا تتم في لحظة معلومة، وإلا لكانت متولدة. ولكن القائم بهما هو النظام ذاته، وهو فعل نفس معتمِدة على حكمة تظل في المعقول، وصورتها تنعكس في النظام الباطن لتلك النفس. وما دامت تلك الحكمة لا تتغير، فليس على النفس أن تتغير بدورها؛ إذ ليست هناك لحظة لا تتأمل النفسُ فيها تلك الحكمة، ولو كفَّت عن تأملها، لانتابها الشك؛ ذلك بأن النفس واحدة، وفعلها واحد، والمبدأ الموجِّه للعالم يسيطِر دائمًا عليه ولا يُسيطَر عليه أبدًا. فمن أين تأتيه كثرة تبث فيه الفرقة والتردد؟ إن ذلك المبدأ الواحد الذي يُدبِّر الكون يريد دائمًا نفس الشيء، فلِمَ تتغير إرادته، وتَحار بين جوانب عديدة؟

    – ومع ذلك، فما القول إذا كانت إرادته تُغيِّره، رغم وحدته الخاصة؟

    – إنها لا تقع من أجل ذلك في الشك؛ فعدم تأكُّدها من الاتجاهات التي تُضْفيها على صور الكون العديدة وأجزائه الكثيرة، لا يرجع أبدًا إلى تعارض هذه الصور والأجزاء. وهي لا تبدأ بالموجودات الدنيا والجزئية، وإنما بالرئيسية، وهي تنتقل من الأول إلى الأخير دون عائق يعترضها في سيرها، وهي تُنظم وتُسيطر لأنها تظل كما هي في أدائها لنفس الفعل. وفضلًا عن ذلك فلو كانت نواياها تتغير، فمن أين يأتيها هذا التغيُّر؟ ثم إنها إذا ترددت في استدلالها، لكان معنى ذلك تساؤلها عما ينبغي عليها عمله، مما يترتب عليه أن يضعف فعلها كل الضعف.

  • (١١)

    ومن الممكن التأثير على مجرى حياة الكائن الحي؛ إمَّا بالبدء من الخارج ومن الأجزاء، أو بالبدء من المبدأ الحيوي الباطن؛ فالطبيب يبدأ من الخارج، وينتقل من جزء إلى جزء، ومن هنا كان يتردد ويتدبر طويلًا. أمَّا الطبيعة التي تبدأ من المبدأ «الباطن» فليست في حاجة إلى تفكير طويل. والمبدأ الذي يتحكم في الكون يدبره لا على مثال الطبيب، بل كما تدبر الطبيعة. ولكنه أبسط منها كثيرًا، من حيث هو منطبق على كل الموجودات المتضمَّنة في الكون كأجزاء في كائن حي واحد؛ إذ إن ثمة طبيعةً واحدة تتحكم في كل الطبائع الخاصة، وتلك الطبائع الخاصة تتلوها وتتعلق بها وتلحقها وتمتد عليها كالفروع على الشجرة؛ فأي موضع يظل للاستدلال والحساب والذاكرة، حيث تسود حكمة حاضرة فعالة على الدوام، تُدبر دائمًا على نفس النحو؟

    وليس خلقُ هذه الطبيعة لأشياء متنوعة متباينة، ليس ذلك داعيًا إلى الاعتقاد بأن العلة الفعالة تُتابع كل تغيراتها. بل إن الأشياء المتولدة كلما ازدادت تنوعًا، ازداد فاعلها ثباتًا. وفي الكائن الحي الواحد، تَحدث بفعل الطبيعة أمورٌ عديدة يتلو كلٌّ منها الآخر، كالأعمار المتعاقبة؛ ففي فترات معلومة تَظهر القرون أو اللحية، وينمون الثديان، ثم يأتي النضج والقدرة على إنجاب كائنات أخرى. وكل هذه المبادئ البذرية تُضاف دون أن تَفنى المبادئ السابقة، ودليل ذلك أن المبدأ البذري للأب يعود إلى الظهور كاملًا في الكائنات التي يُنجِبها. فعلينا إذن أن نعترف بوجود حكمة واحدة شاملة ثابتة للكون تتصف بالكثرة وتتنوع، وإن تكن مع ذلك بسيطة. وعلى الرغم من أن حكمة أعظم الأحياء هذه، أي حكمة العالم الواحد، تتصف بالكثرة، فإنها لا تتغير؛ فهي مبدأ واحد ينتظم كل شيء في نفس الآن. ولو لم تكن كلَّ شيء، لما كانت حكمة الكون، بل حكمة الأجزاء اللاحقة للكل.

  • (١٢)

    وقد يُقال إن تلك الطريقة في الخلق من عمل الطبيعة، أمَّا الحكمة التي في الكون، فمن الضروري أن يكون عملها استدلالات، وأن تكون لها ذكريات.

    – ذلك اعتراض أناس ينظرون إلى الحكمة نظرة معكوسة، ويعتقدون أن التفكير ومحاولة التفكير شيء واحد.٤ أليس الاستدلال حقًّا هو محاولة كشف أفكار وصِيَغ صادقة توصِل إلى الوجود الحقيقي؟ إن الإنسان ليستدل، كما يعزف على القيثارة، ليتعلم إجادة العزف عليها، وكما يتمرن ليكتسب عادة، وكما يتعلم ليكتسب معرفة. فالاستدلال هو محاولة تعلُّم ما يملكه الحكيم من قبل؛ فالحكمة إذن لدى ذلك الذي كف عن البحث، ودليل ذلك في المستدل ذاته، فحين يفرغ من كشف ما يريد، يكف عن الاستدلال، وهو يكف عنه لأنه قد توصل إلى المعرفة. فإذا وضعنا المبدأ الموجه للعالم في مرتبةِ مَن هو بسبيل التعلم، كان علينا أن نعزو إليه استدلالَ وشكوكَ ذاكرةِ أولئك الذين يجمعون الماضيَ إلى الحاضر والمستقبل. وإذا وضعناه في مرتبةِ مَن علم، كان علينا أن نؤمن بأن حكمته حالةٌ ثابتة وصلَت إلى منتهاها.

    ثم إن هذا المبدأ بعلم الغيب؛ إذ إن إنكار هذا العلم عليه أمر مستغرب. فما الذي يمنع هذا المبدأ من أن يعلم كيف سيكون العالم؟ فإذا كان هذا العلم متوافرًا له، فما حاجته إلى الاستدلال وجمع الماضي بالحاضر؟ إن علمه بالغيب — إذا سلَّمْنا بتوافره له — ليس كعلم العرافين، وإنما كعلم أولئك الذين يصنعون شيئًا وهم على يقين من أنه سيوجد. ذلك هو يقين المهيمن على كل شيء الذي لا يعرف ترددًا ولا ريبةً. ومثل هذا اليقين إنما يكون لأولئك الذين توافر لهم إيمان راسخ. وعلى ذلك فهو يعلم الغيب كما يعلم الحاضر، بنفس الثبات، ودون أي استدلال.

    ولو لم يكن هذا المبدأ يعلم الغيب الذي يخلقه، لما كان يخلقه عن علم وتبعًا لأنموذج، ولكان خلقه عرضيًّا خاضعًا للاتفاق، ولما كان هذا محالًا فلا بد أن يكون في خلقه ثابتًا، وما دام في خلقه ثابتًا، فإنه لا يخلق إلا تبعًا لأنموذج يحمله في ذاته، وإذن فهو يخلق على نحو واحد؛ إذ إنه لو كان يغير طريقة خلقه في كل لحظة، لما حالَ شيءٌ دون إخفاقه في الخلق. ولا شك أن فعله الحادث يتضمن أشياءَ متميِّزة، ولكن تميُّز هذا الفعل الحادث لا يرجع إلى ذاته، وإنما إلى خضوعه لمبادئ بذرية متعددة، وهذه المبادئ آتيةٌ بدورها من الخارج، وهي تكون سلسلة يرتبط بها الخالق. وإذن فالمبدأ الخالق للعالم لا يمكن أن يخطئ، أو أن يتردد، أو يناله عناء، وإن كان البعض قد ظنوا أن تدبير العالم عمل يجلب العناء؛ فالمرء لا يلقى مشقة إلا إذا قام بعمل غريب عنه، لا سلطان له عليه، أمَّا إذا كان هو المسيطر، والمسيطر الوحيد، على عمله، لما كانت به حاجة إلا إلى ذاته وإرادته. وذلك يعني بالنسبة إليه أنه لا يحتاج إلا إلى حكمته وحدها. وإذن فلا حاجة به إلى عون خارجي حتى يخلق؛ إذ إن حكمته ليست خارجةً عنه وهو لا يستخدم أي شيء مستفاد. وعلى ذلك، فهو لا يلجأ إلى الاستدلال ولا الذاكرة؛ لأن هذَين أمران طارئان.

  • (١٣)

    لا شك في ذلك، ولكن فيم تختلف الحكمة، على النحو الذي عرضَت به، عما يُسَمَّى بالطبيعة؟

    إن الحكمة هي الحد الأعلى، والطبيعة الأدنى. فالطبيعة صورة للحكمة، ولما كانت هي الجزءَ الأدنى من النفس، فإنها لا تشتمل إلا على آخرِ أشعة العقل. ولنتصوَّر، في هذا الصدد، قرصًا سميكًا من الشمع تخترقه العلامة المطبوعة على أحد وجهَيه حتى الوجه الآخر؛ فبينما تجد الخطوط واضحة المعالم في الوجه الأعلى، لا ترى لها إلا أثرًا واهيًا في الوجه الأدنى. وهكذا لا تكون الطبيعة عارفة، بل خالقة فحسب. وهي تخلق بأن تنقل، على نحو آليٍّ، ما لديها إلى ما هو أدنى منها، أي إلى الجسمي والمادي، مثلما ينقل شيء ساخن صورةَ الحرارة إلى ما يُلامسه، ولكن بتأثير يقل عن المصدر الأول للحرارة. ومن هنا لم يكن للطبيعة تخيُّل؛ فالتفكير العقلي أسمى من التخيل، والتخيل وسط بين الانطباع الذي هو وحده ما تقدر عليه الطبيعة، وبين التفكير؛ إذ ليس للطبيعة إدراكٌ حسي ولا عقل، بينما التخيل يشتمل على التأثرات الآتية من الخارج، بحيث يكتسب المتخيل معرفة بهذه المتأثرات. أمَّا الطبيعة فتولد بذاتها، وإن كان فعلها مستمَدًّا من مبدأ فعال.

    وعلى ذلك، فالعقل يملك الموجودات، والنفس الكلية تتلقاها منه أزلًا، وفي هذا تكون حياتها. ونورها الواضح إنما هو معرفة أزلية بواسطة الفكر. أمَّا الطبيعة فهي انعكاس تلك النفس على المادة. وعند الطبيعة، بل قبلها، تنتهي سلسلة الوجود الحقيقي، ونصل إلى أدنى درجات الحقيقة العقلية، وبعد ذلك لا يعود هناك سوى صور للماهيات. والطبيعة موجبة الفعل بالنسبة إلى المادة، سلبيةٌ بالنسبة إلى النفس. والنفس التي هي سابقة عليها مع كونها مجاورة لها، فعالة دون سلبية. أمَّا النفس العليا فلا تتناول فاعليتها الأجسام والمادة.

  • (١٤)

    والعناصر، من بين الأجسام التي تولدها الطبيعة، هي الخلق المباشر للطبيعة ذاتها. أمَّا النبات والحيوان، فهل يملكان الطبيعة وكأنها مُودَعة فيهما؟ وهل الطبيعة كالنور الذي لا يحتفظ هواؤه المنير بشيء حين ينطفئ، ما دام النور والهواء شيئَين متميزَين لا يختلطان؟ إنها كالنار التي تَترك، بعد ابتعادها، بعض الحرارة في الشيء الذي سخنَته، بحيث تكون هذه الحرارة مختلفةً عن حرارة النار، ما دامت صفة تَحُل في الشيء الساخن؛ إذ إن الصورة التي تُضْفيها الطبيعة على الشيء الذي تُكوِّنه لا بد أن تعد مختلفة عن الطبيعة ذاتها. ولكن ينبغي أن نبحث فيما إذا كان هناك وسط بين تلك الصورة وبين الطبيعة.

    أمَّا عن الفرق بين الطبيعة وبين الحكمة الموجودة في العالم، فقد تحدثنا عنه من قبل.

  • (١٥)
    ولكن ها هي ذي صعوبة أخرى تعترض رأينا الحالي؛ ففي العقل الأزل، وفي النفس الزمان؛ إذ ليس للزمان وجودٌ إلا في فاعلية النفس، وهو ناتج عن هذه الفاعلية.٥ ومِن ثَم، فما دام الزمان ينقسم إلى أجزاء ويشتمل على الماضي، فكيف لا تنقسم فاعلية النفس معه، وكيف لا تنشأ الذاكرة في النفس الكونية من تفكيرها في الماضي؟ فلنُكرِّر ما قلناه من أن الهوية تنسب إلى ما هو أزلي، والتغاير إلى الزمان، وإلا لما تميز الأزل على الزمان، وخاصة لأننا نأبى أن نعزو إلى النفوس أي تغير في أفعالها. فهل يُجيب امرؤ بأن نفوسنا تقبل حقًّا التغير وكل النقائص المرتبطة بالوجود في الزمان، أمَّا النفس الكونية التي تولد الزمان، فليست هي ذاتها في الزمان؟ فلنُسلِّم بذلك، ولكن ما الذي يؤدي بها إلى توليد الزمان، لا الأزل؟

    – ذلك بأن ما تولده فانٍ ومتضمَّن في الزمان. والنفوس ليست في الزمان قط، بل فيه أحوالها وأفعالها فحسب. وكل النفوس أزلية، وهي سابقة على الزمان. وكل ما في الزمان أدنى مرتبةً من الزمان ذاته؛ إذ يشتمل الزمان على ما في الزمان، كما هي الحال بالنسبة إلى ما هو في المحل أو في العدد.

  • (١٦)

    ولكن إن كان في النفس الكونية شيء يليه شيء آخر، وإن كان فيما تُنتجه ما هو قبل وما هو بعد، وإن كانت فعالة خلال الزمان، فذلك كله يعني أنها متجهة صوب المستقبل. وما دامت متجهة صوب المستقبل، فهي تُعرِّج أيضًا على الماضي.

    – إن السابق واللاحق فيما تصنعه، أمَّا في ذاتها فليس ثمة ماضٍ، بل توجَد فيها كل المبادئ البذرية في وقت واحد، كما قلنا من قبل. ونواتجها لا تظهر في نفس الوقت، ولا في نفس المكان، ولكن المبادئ توجد معًا؛ فالأرجل والأيدي التي توجد معًا في المبدأ البذري للإنسان، توجد منفصلة بمعنًى مخالف للمعنى المحلي، فهلا يكون السابق واللاحق فيها بدورهما على نحو يختلف عما في الأمور الزمانية؟ إن انفصال الأجزاء يعني هنا اختلافها في الطبيعة، ولكن أي معنًى يكون للسابق واللاحق؟

    – لا معنى على الإطلاق بالتأكيد، سوى أن ذلك الذي ينظم العالم يتحكم فيه أيضًا بأن يقول: ليكن هذا أوَّلًا، ثم ذاك، وإلا لوُجِدت كلُّ الأشياء في وقت واحد.

    – أجل لو كان التنظيم متميزًا عن الموجود الذي ينظم، لأمكنه أن يتحدث على هذا النحو. ولكن إذا كان الموجود الذي يتحكم هو ذاته التنظيم الأول، فإنه عندئذٍ لا يُصدِر أوامر، بل يخلق الأشياء واحدًا بعد الآخر فحسب؛ إذ لو تكلم، لتكلم تبعًا للنظام، ولكان بذلك متميزًا عنه.

    – ولكن كيف يكون المنظم ذاته في هوية مع النظام؟

    – لأن الموجود المنظم ليست مادة وصورة، بل هو صورة خالصة، وهو النفس والقوة والفعل الذي يأتي بعد العقل مباشرة. ولا يمكن أن تتعاقب الأشياءُ واحدًا بعد الآخر إلا إذا كانت عاجزة عن أن توجد كلها في نفس الوقت.

    وإن نفسًا كهذه لهي موجودٌ مبجَّل؛ فهي متحدة بمركزها كدائرة، والدائرة التي لها أصغر حجم ممكن بعد المركز، هي امتداد لا ينقسم.

    وتلك هي صلة المبادئ فيما بينها. فلنضع الخير في المركز، والعقل في دائرة ثابتة، والنفس في دائرة متحركة، يحركها الشوق؛ إذ إن العقل يمتلك الخير مباشرة ويفهمه، أمَّا النفس فتشتاق إلى الخير الذي هو وراء الوجود. وفلك العالم يمتلك النفس التي تشتاق إلى الخير، وهي تتحرك لأن من طبيعته أن يشتاق.٦ ولكنه لما كان جسمًا، فهو يشتاق بطبيعته إلى موجود يوجد خارجه؛ لذا كان يمتد حوله ويدور؛ وبالتالي يتحرك في دائرة.
  • (١٧)

    ولكن كيف لا تكون الأفكار والخواطر فينا كما تكون في النفس الكونية؟ ولم هذا التعاقب وهذا السعي في نفوسنا؟ أيرجع ذلك إلى كثرة المبادئ والحركات فينا، وإلى عدم وجود قوة واحدة تسيطر علينا؟ أيرجع إلى أن حاجاتنا تتغير في كل لحظة، وإلى أن كل لحظة حاضرة، غير محددة في ذاتها، تزخر بأمور خارجية تختلف في كل لحظة؟ أذلك راجع إلى أن إرادتنا تتغير أيضًا تبعًا للمناسبة والحاجة الحاضرة؟ إن الحوادث الخارجية تقع متعاقبة.

    – الحق أنه لما كان ثمةَ قُوًى عديدةٌ تتحكم فينا، فإن كل قوة تتلقى من الباقين كثرةً من الصور الطارئة التي تتجدد بلا انقطاع، والتي هي عقبات في طريق حركاتها وأفعالها الخاصة. وهكذا يحدث، حين تتيقظ فينا رغبة، أن تظهر صورة للشيء المرغوب فيه، ونوع من الإحساس يجعلنا ندرك انفعالنا ويأمرنا بأن نُطيعه وأن نُشبعه. وسواء أطاعت القوة الكامنة فينا هذا الانفعالَ أم قاومته، فمن الضروري أن ينتابها التردد والتغير. وتؤدي عاطفة الغضب التي تدعونا إلى الدفاع عن أنفسنا إلى النتيجة ذاتها. وإن حاجات الجسم وغيرها من الأهواء لتُؤدِّي إلى اختلاف حُكمنا على الأشياء الواحدة، وكذلك الحال في الجهل بالخير، وفي عدم استقرار أحكام النفس التي تتقاذفها الأهواء من كل ناحية. ومن اختلاط تلك المؤثرات كلها تظهر مؤثراتٌ أخرى مماثلة.

    ولكن هل يسري تغيُّر الرأي على خير أجزائنا بدوره؟ كلا، فالتردد والتغير لا ينتميان إلا إلى الخليط (المركب من جسم ونفس)، أمَّا العقل القويم الذي ينتمي إلى هذا الجزء الأسمى والذي يستوعب مجموع النفس، فلا ينتابه ضعفٌ في ذاته، وإنما لامتزاجه بأمور أخرى؛ هو كالناصح الأمين بين جماعة في حشد صاخب. فليست كلمته هي العليا، بل تعلو عليها جلَبة العامة وصياحُهم، فيظل ساكنًا، ولا يمكنه أن يفعل شيئًا، ويغلبه صخب الأشرار؛ ففي الإنسان الشرير يسود الغوغاء، ويكون فعل الإنسان عندئذٍ صادرًا عن قُوًى سيئة التدبير. أمَّا الإنسان الوسط فهو كمدينة يسودها عنصر طيب، وتتمتع بحكومة ديمقراطية غير متطرفة. فإذا ما تقدم إلى ما هو أصلح، كانت حياته أشبهَ بحكومة أرستقراطية؛ لأنه يتخلص من تأثير مجموع الملكات، ولا توجهه إلا الأصلحُ منها. أمَّا الإنسان التام الفضيلة، ففيه قوة واحدة تحكم باقيَ القوى وتنظمها، وتنفصل عنها تمامًا.٧

    وإذن ففي نفس العالم يحكم مبدأ واحد على نحو مطَّرِد، وفي بقية النفوس يختلف الأمر عن ذلك، وقد ذكرنا السبب، فحسبُنا ما قلنا في هذا الموضوع.

  • (١٨)

    فلنبحث الآن المسألة الآتية: هل يتميز البدن (الحي) بصفة يختص بها؟ وهل له وهو حي بفضل وجود النفس، طابع خاص؟ أم أن كل ما له لا يعدو أن يكون طبيعة؟ وهل الطبيعة هي الشيء الوحيد الذي يتحد به؟

    – كلا، فإن كان في بدنٍ نفسٌ وطبيعة، فذلك لأن البدنَ في ذاته لا يمكن أن يكون بغير نفس على الإطلاق، وهو لا يُشبَّه بالهواء المضاء، بل بالهواء الساخن؛ فأجسام الحيوان والنبات ينبغي أن يكون لها ظلٌّ من النفس، وعلى هذا النحو يكون للبدن صفاتُه الخاصة، ولذَّاته وآلامُه المتميِّزة، وهذه اللذَّات والآلام تصل إلينا، بحيث نعرفها دون أن نتأثر بها. وأعني بضمير المتكلم الجمعِ هنا بقيةَ النفس التي لا يكون البدن الحي غريبًا عنها، ما دام مِلكًا لنا، وإنما يكون حِرصُنا عليه لأنه مِلك لنا؛ فرغم أن هذا الجسم ليس في ذاتنا، فنحن مع ذلك لا نتحرر منه؛ فهو مرتبط ومتعلق بنا، ورغم أن نفوسنا هي الجزء الرئيسي في وجودنا، فإن لنا بجانب ذلك بدنًا؛ لهذا كنا نهتم بلذاته وآلامه، وكلما ازددنا ضعفًا، قلَّ انفصالنا عنه، وكلما ازددنا إقرارًا بأنه الجزء الرئيسي فينا، وبأنه الإنسان، أمعنَّا إغراقًا فيه.

    وإن الانفعالات، كاللذة والألم، لا يجب أن تُعْزى إلى النفس وحدها، بل أيضًا إلى الجسم الذي يرتبط بها، وإلى المركَّب منهما. فإذا ما نظر إلى النفس والجسم متفرقَين كانا مُكتفيَين بذاتهما على نحو ما؛ إذ إن الجسم وحده لا يُحس تأثرًا؛ لأنه غير حي. فليس هو مثلًا الذي يوجد في أسفل، بل مجموع أجزائه. وكذلك النفس إذا تُرِكَت وحدها لا تنقسم، بل تغدو في هذه الحالة بمَنأًى عن كل تأثر، ولكن إذا أراد شيئان أن يجعلا من ذاتهما شيئًا واحدًا، فمن الممكن أن يُعاق اتحادهما؛ لأنه مُستفاد. وذلك في أغلب الظن، هو منشأ الألم. ولا ريب في أن هذا الرأي لا ينطبق على الحالة التي يكون فيها هذان الشيئان جسمَين؛ إذ إن طبيعة الجسمَين واحدة. ولكن هب أن طبيعتَين مختلفتَيِ النوع تريدان الاتحاد: عندئذٍ تتلقى الطبيعة الدنيا من الطبيعة العليا شيئًا ما، ولما كانت لا تستطيع تَلقِّيَه كما هو، فإنها تحتفظ منه بأثر خافت فحسب، وبهذا يظَلان اثنَين، وتكون الطبيعة الدنيا مع ذلك وحدةً تتوسط بين ما كانت عليه، وما لم يمكنها تلقِّيه. وهكذا تخلق لنفسها متاعبَ جديدة؛ لأنها اتحدَت اتحادًا ضعيفًا واهيًا، دائم التضاد والاضطراب. وتلك الطبيعة، التي هي مُعلَّقة على الدوام، تنخفض تارة، فتنمُّ بذلك عن الألم، وترتفع تارة أخرى، فتُعبر عن رغبتها في الاتحاد بالطبيعة العليا.

  • (١٩)

    ذاك إذن هو ما يُسمَّى باللذة والألم؛ فالألم هو العلم بانحدار الجسم الذي هو بسبيل أن يُحرَم من صورة النفس التي يملكها، واللذة هي علم الكائن الحي بعودة صورة النفس إلى جسمه. فالجسم الذي يستشعر تأثرًا، والنفس الحاسة التي هي بقربه تَعْلم ذلك عن طريق الإحساس، ثم تنقل علمها هذا إلى الجزء الذي تنتهي عنده الإحساسات في النفس. وعندئذٍ يشعر الجسم بالألم، أو هو يتألم بمعنى أنه يتقبل انفعالًا. فإذا ما قُطِع منه جزءٌ مثلًا، نتج عن ذلك انقسام في كتلته، ولكن الألم الذي يعقب ذلك لا ينشأ عن كونها كتلةً حية. وهاك مثلًا آخَر؛ فالحروق مثلًا في الجسم، ولكن النفس تشعر بالحرق والقطع وتتلقَّى منه التأثُّر؛ لأنها مُلامِسة للجسم، إن جاز هذا التعبير. وهي كلها تحس بالتأثر الآتي من الجسم دون أن تكون هي ذاتها قد تأثرت، وحين تحس كلها، تعلن أن الأثر في المكان الذي تلقى الضربة وتألم. ولو كانت النفس، التي هي كلها ماثلة في كل الجسم، لو كانت هي التي تأثرَت، لتأثرت كلها بالألم، ولتألمَت كلها، ولما حددَت موضع الألم في مكان بعينه، ولقالت إن الألم في كل موضع تكون فيه النفس، أي في كل البدن. ولكن الواقع أن الأصبع هو الذي يتألم، وما يتألم الشخص إلا لأن ذلك أصبعه؛ ولذا يُقال إن الشخص يتألم لأن أصبعه يؤلمه، مثلما يُقال إنه أشقر لأن عينَيه زَرْقاوان. وإذن فالألم يكون في المنطقة المتأثرة، ما لم نكن نعني بالألم الإحساس الذي يصاحبه، وعندئذٍ يكون من الواضح أن المعنى هو أنه ليس ثمة ألمٌ يغيب عن الإحساس. ومع ذلك فالإحساس ذاته ليس ألَمًا، بل هو معرفة الألم، ولما كان معرفة، كان غيرَ متأثر، ولا لما أمكنه أن يعلم ما أدركه وينقله دون تحريف؛ فالرسول الذي يجرفه الانفعالُ والتأثر إمَّا غير ناقل للأنباء على الإطلاق، وإمَّا مُحرِّف لها.

  • (٢٠)

    ونتيجةُ ذلك أن مبدأ رغبات البدن يكون في الجزء المشترك وفي طبيعة البدن على نحوِ ما عرَّفناها؛ فمبدأ الميول والأهواء لا يمكن في واقع الأمر أن يكون في بدن خالص، ولا في النفس منظورًا إليها على حدة؛ فليست النفس هي التي تسعى إلى الطعوم الحلوة أو المرة، بل هو البدن، ولكنه البدن الذي لا يود أن يظَل مجردَ بدن، وبهذا تكون حركاته أكثر تنوعًا من حركات النفس بكثير؛ لأن عليه أن يتوجَّه صوبَ جهات عديدة حتى يحصل على ما يلزمه؛ ففي حالة معينة قد يلزمه المُر، وفي حالة أخرى قد يلزمه الحُلو، وقد يحتاج تارةً إلى الرطوبة، وتارةً إلى الحرارة، وهي كلها أحوالٌ ما كان يسعى إليها لو لم تكن له تلك الحياة التي تبعثها فيه النفس.

    – لقد ذكرنا من قبل أن الألم يُولِّد معرفة به، ثم تودُّ النفس أن تُقصِيَ عن البدن ما أثَّر فيه، فتوحي إلى البدن بالابتعاد، ويحاول العضو الذي كان هو أولَ ما تأثر، يحاول بعد ما علمه من ذلك التأثر أن ينْأى بالتراجع. وكذلك الحال في الرغبة؛ فهناك معرفة عن طريق الإحساس وعن طريق الجزء من النفس، الذي أسميناه بالطبيعة، والذي ينقل إلى البدن أثرَ النفس؛ فالطبيعة إذن تستشعر بكل وضوح رغبةً هي خاتمةُ مطاف تلك التي بدأَت في البدن، ثم يقدم الإحساس صورة الشيء (موضوع الرغبة). وبناءً على هذه الصورة، فإما أن تُشبِع النفسُ تلك الرغبة — وتلك في الحق هي مهمتها — أو أن تقاومها، ولا تُلقي بالًا إلى البدن الذي بدأَت منه الرغبة، ولا إلى الطبيعة التي رغبت بعد ذلك.

    – ولكن لَمِ تكون هناك رغبتان؟ ولِمَ لا يكون مُستقرُّ الرغبة في البدن وحده؛ بوصفه حيًّا؟

    – ذلك لأن الطبيعة شيء، والبدن الحي شيء آخر؛ فالبدن ناتج عن الطبيعة؛ إذ إن طبيعة البدن سابقة على ميلاده، فهي التي تخلقه وتُشكِّله وتُصوِّره. فلا بد إذن من أن تبدأ الرغبة، لا فيها، بل في البدن الحي، حين يتأثر ويتألم، «وحين يرغب في الحالة المضادة لحالته الحاضرة»٨ كاللذة بدلًا من الألم، والإشباع بدلًا من الحاجة. أمَّا الطبيعة، فينبغي أن تضع نُصب عينَيها مطالبَ البدن المتألم وكأنها أمٌّ له، تحاول أن تَردعه وأن تَرده إليها ثانية. وهي في محاولتها أن تجلب له الشفاء تتحد برغبات البدن المتأثر، وينتهي الأمر بتلك الرغبات إلى أن تنتقل منه إليها.

    فلنا إذن أن نقول إن الرغبة في البدن تأتي منه هو ذاته، وأنها في الطبيعة تأتي من شيء آخر، وتوجد من أجل شيء آخر (هو البدن)، أمَّا الملَكة التي تشبع الرغبة أو تقمعها، فهي مختلفة عنه كلَّ الاختلاف.

  • (٢١)

    أمَّا أن أصل الرغبات هو البدن، فذلك ما تبينه ملاحظة الأعمار المختلفة؛ فالرغبات البدنية تختلف حين يكون المرء طفلًا، عنها حين يكون شابًّا، أو رجلًا ناضجًا، وهي تختلف في حالة الصحة عنها في حالة المرض مع أن ملَكة الرغبة واحدة. فواضحٌ إذن أن تلك الاختلافات العديدة في الرغبات إنما ترجع إلى البدن وما يطرأ عليه من تغيرات لا تحصى.

    ومن جهة أخرى، فإن كان صحيحًا أن ميول البدن لا تصاحب دائمًا تمام يقظة الرغبة واكتمالها، وإذا كان الميل البدني يتوقف، حتى قبل أن نحكم إرادة المرء الواعية بالكفِّ عن الشرب أو الأكل مثلًا؛ فذلك لأن الرغبة تصل إلى حد معين، طالما كانت في البدن العضوي، ولكن الطبيعة لا تسايرها، بل لا تنتوي ذلك ولا تريده، ما دامت الرغبة لا تتفق مع الطبيعة إلى الحد الذي يجعل هذه تساير الرغبةَ حتى تبلغها؛ إذ إن الطبيعة تختبر الرغبات وتميز منها ما يتفق معها مما لا يتفق.

    أمَّا عن المسألة الأولى، فإن قيل إن الفوارق التي تطرأ على الأبدان فيما بينها، تكفي لإيجاد رغبات مختلفة في ملكة الرغبة، فليس معنى ذلك أنه يكفي الجسمَ أن ينفعل بطرق مختلفة حتى تشعر ملكة الرغبة ذاتها من أجله برغبات مختلفة، في حين أن إشباع هذه لا يكسب هذه الملكة ذاتها شيئًا؛ فالمرء لا يرغب في الغذاء أو الحرارة أو الرطوبة، أو في الحركة، أو الخلاء أو الامتلاء؛ كل هذه أمور لا يرغب فيها المرء من أجل هذه الملكة، بل من أجل البدن، أي إن هذا كله ينتمي إلى البدن.

  • (٢٢)

    فهل ينبغي أن نميز، في النباتات أيضًا، بين صفات توجد في أجسامها كصدًى لقُوة، وبين القوة التي تُنتج هذه الصفات — وهذه القوة فينا هي ملكة الرغبة، وفي النباتات القوة الغاذية — أم أن تلك القوة في الأرض، والنبات لا يملك إلا ما يرد إليه من تلك القوة؟

    – علينا أوَّلًا أن نبحث عن كُنهِ نفس الأرض؛ أهي آتية من فلَك الكون الذي يبدو أن أفلاطون قد رأى أنه هو وحده الذي يملك النفس أوَّلًا؟ أهي شيء أشبهُ بإشعاع من تلك النفس على الأرض؟ أم أن علينا أن نَستند إلى الموضع الآخر الذي يذكر فيه أفلاطون أن الأرض هي الألوهية الأولى، وأنها أقدم من تلك الألوهيات التي توجد في السماء،٩ وفي هذه الحالة يكون أفلاطون قد جعل للأرض نفسًا مثلما جعل لبقية النجوم؟ إذ كيف تكون الأرض ألوهية إن لم تكن لها نفس؟

    إن المسألة بأسرها غامضة، ونصوص أفلاطون بصددها إنما تَزيد من حيرتنا، أو على الأقل لا تُخفِّفها.

    وعلى ذلك فلنبحث أوَّلًا كيف يتسنَّى للمرء أن يُكوِّن رأيًا ترجيحيًّا. إن وجود نفس غاذية في الأرض أمر يُثبِته نموُّ النباتات منها، ولكنا نرى كذلك حيوانات تنشأ عن الأرض، فلِمَ لا يُقال إنها ذات نفس حيوانية؟ ولِمَ لا يُقال عنها — ما دامت ذاتَ حياة، وما دامت تكون جزءًا غير قليل من العالم — إن لها عقلًا؛ وبالتالي إنها ألوهية؟ وما دام كل كوكب حيًّا، فلم لا تكون الأرض التي هي جزء من الكون الحي، كائنًا حيًّا بدورها؟ إذ لا يجب القول إن هناك نفسًا غريبة تحيط بها من الخارج، وإنها ليس لها نفس في ذاتها، ولا يمكن أن تكون لها نفس خاصة بها. فلِمَ أمكنَ أن يكون لكائن من نار نفسٌ، بينما يستحيل ذلك على كائن من طين؟ كلاهما جسم، وليس في أحدهما من اللحم ومن العضلات ومن الدم أو السوائل أكثرُ مما في الآخر. أو يرجع ذلك إلى أن الأرض لا تتحرك؟ أجل، ولكن الحركة التي تفتقر إليها الأرض هي الحركة المكانية وحدها. وقد يُقال: ولكن كيف تحس الأرض (إن كان لها نفس)؟ «والرد على ذلك هو» وكيف تحس الكواكب؟ إن الإحساس لا ينتمي إلى اللحم، وليس هناك أي داعٍ لإضفاء جسم على نفس حتى تكون لها إحساسات، وإنما تلزم النفس للجسم من أجل حفظه فحسب. وعلى النفس، بملَكة الحكم فيها، مهمةُ اختبار البدن، والإدلاء بهذا الحكم بعد الاسترشاد بمشاعر الجسم.

    – ولكن ما هي مشاعر الأرض التي يمكن نفسها أن تُصدِر عنها أحكامًا؟ إن النبات لا يُحِس لسبب واحد؛ هو أنه من الأرض، فبأي شيء تحس الأرض؟ وكيف تتم إحساساتها؟ إذ ليس من الممكن القول بإحساسات دون أعضاء حاسة. وفضلًا عن ذلك، ففيم يُفيدها الإحساس؟ يقينًا أنه لن يُكسبها معرفة؛ إذ إن المعرفة العقلية تكفي الموجودات التي لا تفيد من الإحساس قط.

    – ولكن من المحال التسليم بهذا الرأي الأخير؛ ففي الإحساسات، بخلاف فائدتها، معرفةٌ لا تخضع للحاجات قط، ومن قبيل ذلك معرفة الشمس أو النجوم، أو السماء أو الأرض؛ فإدراكنا الحسي لها مرغوب فيه لذاته. ولكن لِنُرجئ هذه المسألةَ إلى ما بعد، ومهمتنا الآن هي أن نتساءل مرة أخرى: هل للأرض إحساسات؟ وما هي؟ وكيف يمكن أن توجد؟ ولكن علينا أوَّلًا أن نُواصِل عرض الإشكالات التي تعترضنا. فهل من الممكن أن يوجد إحساسٌ دون أعضاء حاسة؟ وهل تلك الإحساسات متعلقة بمنفعتنا، حتى لو سلَّمنا بأن من الممكن أن تكون لها فائدة أخرى غير هذه؟

  • (٢٣)

    إن الإحساس هو إدراك النفس أو الكائن الحي للمحسوسات، عندما تدرك النفس الصفات التي تنتمي إلى الأجسام وتَطبع في ذاتها صورها. فلا بد إذن أن تُدرِك النفس الأشياء إمَّا وحدها، أو مع شيء آخر. ولكن كيف تستطيع ذلك وحدها؟ إنها حين تكون وحدها لا تدرك إلا ما هو فيها، وليس فيها إلا الفكر. فإذا عرَفَت أشياء أخرى لوجب أن تدخل هذه الأشياء أوَّلًا ضمن ما تملكه؛ إمَّا بأن تَغدوَ شبيهة بها، أو بأن تتحد مع كائن غدًا شبيهًا بها. غير أن هذا مستحيل طالما ظلت النفوس في ذاتها؛ فالنقطة لا يمكن أن تكون متفقةً مع الخط المحسوس، مثلما لا تتفق النار أو الإنسان في الفكر مع النار أو الإنسان المحسوسَين، بل إن الطبيعة التي تخلق الإنسان تختلف كثيرًا عن الإنسان الذي تخلقه، وحتى لو كان في وسعها أن تُعاين الإنسان المحسوس، فإنها ستقتصر، حين تكون وحدها، على إدراك أنموذجها العقلي، ولن تستطيع إدراك الإنسان المحسوس؛ إذ ليس فيها ما يدركه.

    وفضلًا عن ذلك، فإن الشيء المحسوس حين تراه النفس عن بُعد، يبعث بصورة إلى النفس، وتلك الصورة في أولها لامنقسمة بالنسبة إلى النفس، ولكنها تنتهي عند الشيء الممتد، فترى النفسُ اللونَ والصورة الحقيقيَّين بحجمهما الطبيعي؛ فالإدراك يقتضي إذن أمرًا آخر غير الشيء الخارجي وغير النفس، بدونه لا يمكن أن تتأثر النفس. فلا بد من حد ثالث لتلقِّي فعل الشيء وتقبُّل صورته، وهذا الحد الثالث لا بد أن يتأثر في نفس الوقت الذي يتأثر فيه الشيء وبنفس الطريقة، فينبغي إذن أن تكون له نفس مادته، وأن يكون هو الذي يتأثر، بينما النفس هي التي تعرف. وينبغي أن يتأثر بحيث يحتفظ بشيء من الفاعل الذي أثر فيه، دون أن يكون في هوية مع الفاعل. وهو وإن لم يكن وسطًا بين الفاعل المادي وبين النفس، فعليه أن يستشعر تأثرًا ذا طبيعة متوسطة بين المحسوس والمعقول؛ فهو يربط كلًّا من هذَين الطرفَين بالآخر؛ يتلقى الصورة المحسوسة، وينقلها في نفس الوقت إلى النفس، بفضل قدرته على مشابهتها معًا. ولمَّا كان أداةً للمعرفة الحسية، لم يكن من الممكن أن يكون في هوية تامة لا مع الذات العارفة ولا مع الموضوع المعروف. ولكن في وُسعه أن يغدوَ شبيهًا بالموضوع الخارجي؛ لأنه متأثر به، وبالذات الباطنة، ولأن التأثر الذي يستشعره يغدو صورة في النفس.

    فإن شئنا أن نكون مُصيبين، كان علينا أن نُقِر بأن الإحساسات تتم بتوسط أعضاء البدن، وذلك ناتج عن طبيعة النفس التي لا تدرك شيئًا محسوسًا حين تكون مفارِقةً للبدن تمامًا.

    وهذا العضو إمَّا أن يكون البدن بأكمله، كما في اللَّمس، أو جزءًا خاصًّا من طبيعته أداءُ هذه الوظيفة، كما في الإبصار. فلنتأمل الأدوات التي يصنعها الإنسان؛ إنها تُستخدَم وسطًا بيننا نحن الذين نحكم وبين الأشياء التي نحكم عليها، وهي تعرفنا خصائص تلك الأشياء؛ فهذا مثلًا لوح مستقيم تدركه النفس مستقيمًا، فتكون المسطرة هي حلقة اتصال بين تلك الخاصية في اللوح (الاستقامة) وبين إدراك المرء لها، أي إنها بين الاثنَين، والصانع يستخدمها ليحكم على استقامة اللوح الذي يشتغل به.

    فهل ينبغي أن يكون الشيء المدرَك ملامسًا للعضو؟ وهل في وسع عضو بعيد عن الشيء أن يدركه بفضل الوسط القائم بينهما، مثلما يحس الجسم حرارة نار بعيدة عنه؟ أم أن هناك إدراكًا لا يعتري فيه الوسطَ القائم أدنى تغير؟ فإن كان ثمة فراغٌ مثلًا، بين عضو الإبصار وبين اللون، فهل يؤدي مجرد حضور ذلك العضو إلى قيام ملَكة الإبصار؟ تلك كلها مسائل أخرى. ولكنا الآن موقنون على الأقل بأن الإحساس لا ينتمي إلا إلى نفسٍ حالَّة في جسم، وأنه يتم بتوسط الجسم.

  • (٢٤)

    فلننتقل إلى السؤال الثاني؛ أليس للحواسِّ من غاية سوى نفعنا؟ إن كانت النفس لا تُحَس وهي وحدها، وإنما تُحَس إذا حلت في البدن، فإنها إذن تُحَس من أجل ذلك البدن، ثم إن الإحساسات تأتي من البدن. وهي إنما تُوهَب للنفس بسبب اتحادها مع البدن، أو كنتيجة ضرورية لهذا الاتحاد؛ إذ إن كل التأثرات الشديدة في البدن تمتد حتى تصل إلى النفس — أو أن الحواس بالأحرى وسيلة لوقايتنا من العوامل الخارجية قبل أن يشتد فعلها إلى حد يُصبِح معه مدمرًا، أو حتى قبل أن تقترب منَّا. فإن كان الأمر كذلك حقًّا، فإن الحواس تُستخدَم لصالحنا، وهي قد تُستخدَم أيضًا في المعرفة، ولكن ذلك لا يكون إلا في مخلوق جاهل شاء حظُّه العاثر أن يُحرَم من العلم فيَستخدم الحواس ليتذكر، ما دام قد نسي. ومُحالٌ أن يكون في الحواس نفع لموجودٍ تحرَّر من الحاجة ومن النسيان.

    فإن كان الأمر كذلك، فلن يقتصر بحثنا على المسألة في صلتها بالأرض وحدها، بل سيمتد إلى النجوم، والسماء، والعالم بأسره. فلنتكلم أوَّلًا عن العالم؛ فمما قلنا يتضح أن الإحساس إنما ينشأ في كائنات جزئية لها صلة بكائنات جزئية أخرى، تأثرت بموضوعات. فكيف يوجد الإحساس في الموجود الكلي الذي لا صلة له إلا بذاته. والذي لا يطرأ عليه أي تأثر في علاقته بذاته؟ إن كان ينبغي أن يكون عضو الإحساس مختلفًا عن الموضوع المُحَس، وإن كان الكون كلًّا، فلا يمكن أن يكون فيه عضو حاسٌّ وموضوع محس. ولنا أن ننسب إليه الإحساس بمعناه الصحيح، الذي هو دائمًا معرفةٌ بموجود مختلِف عن الذات. بل إنك لو تأملت ما لدينا من إدراكات خارجة عن المألوف لأحوال جسمنا الباطنة، لوجدتها ترجع دائمًا إلى أن شيئًا قد طرأ عليه من الخارج.

    – ولكن إدراكنا لا يقتصر على الموضوعات الخارجية فحسب، بل إننا لندرك جزءًا من جسمنا بجزء آخر، فما الذي يمنع الكونَ من أن يستخدم فلَك النجوم الثابتة ليرى أفلاك الكواكب، ويستخدم هذه ليرى الأرض والأشياء الأرضية؟ وإذا كانت هذه الموجودات، كغيرها، تتقبل أفعالًا، فمن الممكن أيضًا أن تكون لها إحساسات، ولن يكون تأملُ الذات عندئذٍ هو الفعلَ الوحيد الذي يُعزى إلى فلك الثوابت، بل يمكن أن يكون هذا الفلَك عينًا تنبئ النفس الكونية بما تراه. وإذا كان هذا الفلك لا ينفعل، فلم لا يُبصِر كما تبصر العين ما دام مضيئًا حيًّا؟ يقول أفلاطون: إنه ليس في حاجة إلى عيون. فإن كان ذلك يعني أنه لم يتبقَّ شيء يراه خارجًا عنه، فإن فيه على الأقل أشياءَ مرئية، ولا شيء يمنعه من أن يرى ذاته. وإن كان ذلك يرجع إلى أن الإبصار لا ينفعه، فلنسلم بأن الإبصار ليس عنصرًا أصليًّا في تركيبه، ولكن من الممكن على الأقل، أن يكون نتيجة ضرورية لطبيعته؛ إذ لِمَ لا يكون لجسمٍ شفاف مثلِه إبصار؟

  • (٢٥)

    ذلك لأنه لا يكفي، لكي يبصر الشيء، ويُحِس بوجه عام. أن تكون له أعضاء، بل لا بد أيضًا أن تكون النفس مفطورة على النزوع إلى المحسوسات. على أن نفس الكون تتجه دائمًا إلى المعقولات. وحتى لو كانت لها القدرة على الإحساس، لما كانت لها مع ذلك إحساسات؛ لأنها في مجال عالٍ. بل إننا نحن ذاتنا، حين يستغرق تفكيرنا في المعقولات، لا نلاحظ إحساسات البصر أو غيرها، وإن الانتباه إلى شيء، بوجه عام، لَيَمنعنا من رؤية غيره. ومن جهة أخرى، يريد المعترضون أن ينسبوا إلى الكون إدراك أحد أجزائه بجزء آخر وكأنه ينظر إلى ذاته، ولكن هذه النظرة إلى الذات فعل عقيم لا جدوى منه، حتى بالنسبة إلينا، ما لم يكن لها هدف معين. أمَّا تأمل شيء خارجي، من أجل ما فيه من جمال، فتلك في الواقع شيمةُ كائن ناقص معرَّض للانفعال.

    – وهنا يُقال: إن الرائحة والطعم راجعان بلا شك إلى ظروف خاصة، وهما يتنازعان النفس بين كل الاتجاهات. أمَّا البصر والسمع فمن الممكن أن ينتميا بالعرَض إلى الشمس والكواكب.

    – وهذا قول مصيب، إن كان صحيحًا أن هذه تنتبه إلينا، ولكنها لو كانت تنتبه إلينا، لكان معنى ذلك أن لها ذاكرة، ولكان من الغريب ألَّا تتذكر هِباتها الخاصة، فكيف تكون لها هباتٌ دون أن تتذكرها؟

  • (٢٦)

    إن الكواكب تعرف صلواتنا؛ لأنها تتصل بنا مباشرة على نحو ما، ولأن لها اتجاهاتٍ تبعًا لعلاقات معينة في الموقع. وهي تؤثر فينا لنفس السبب، وكل عملية من عمليات السحر تهدف إلى إقامة صلة مباشرة بين أشياء تُسلَك نتيجةً لتأثراتٍ صادرة عن الكواكب التي هي متعاطفة معها.

    فإن كان الأمر كذلك، فلِمَ لا ننسب إلى الأرض إحساسات؟

    – ولكن أي إحساسات؟

    – لِمَ لا ننسب إليها اللمس أوَّلًا؟ إنها عندئذٍ تحس بأحد أجزائها عن طريق جزء آخر، بحيث تُحِس النار وما شابهها بكل ذاتها، وتنتقل تلك الإحساسات إلى الجزء المدبر من نفس الأرض؛ إذ لو كان جسمها لا يرتاح إلى الحركة، فإنه على الأقل ليس تامَّ السكون. وبهذا يكون لها إحساس، إن لم يكن يتناول التفاصيلَ فهو على الأقل يتناول المجموعات الكبيرة.

    – ولكن لِمَ تُحِس الأرض بهذه؟

    – لأن من الضروري، إن كان لها نفس، ألا تغفل عن أهم أجزائها. وفضلًا عن ذلك، فلا شيء يمنع من أن تكون لها إحساسات، لتصرف الأمور الإنسانية على النحو المفيد، بقدر ما تكون هذه الأمور متعلقة بها.

    – غير أن هذا النزوع إلى الخير قد يكون نتيجةً للتعاطف الكوني. فإن كانت صلواتنا تُسمَع وتُلبَّى، فإنما يكون ذلك بطريقة تختلف كل الاختلاف عن طريقتنا، ومن الممكن أن تكون للأرض إحساسات أخرى وأن تتأثر بذاتها أو بأشياء أخرى؛ ففي وُسعها مثلًا أن تُدرك الروائح والطعوم لِتَفيَ بحاجات الكائنات الحية، ولتحفظ تركيب أجسامها. وليس لنا أن نُطالب لها بأعضاء مشابهة لأعضائنا؛ فليست لكل الحيوانات أعضاءٌ واحدة، بل إن بعضها بدون آذان، ومع ذلك تدرك الأصوات.

    – وما القول في الإبصار؟ ألا يتطلب ضوءًا؟ فكيف إذن ترى؟ إذ لا يمكن الادِّعاء بأن لها عيونًا.

    – إنا نعترف لها بالقوة الغاذية، ونُسلِّم بأن تلك القوة في روح، وأن ذلك ميل طبيعي. وما دامت لها روح، فلِمَ لا نعتقد أنها شفافة؟ إنها ما دامت روحًا، فهي شفافة. وما دامت مُضاءة بالفلَك السماوي، فهي شفافة بالفعل. وإذن فليس من الممتنع أو من المحال أن تكون لنفس الأرض حاسةُ البصر. وعلينا أن نذكر أيضًا أنها ليست نفسَ جسم تافهِ القيمة، فإن الأرض ألوهية. فلا بد أن تكون لها، في كل الأحوال، نفسٌ أزليةُ الخير.

  • (٢٧)

    فهل الأرض إذن تُضفي على النبات قوةَ التولُّد أو النَّماء، أم أن تلك القوة فيها، وقوة النبات ليست إلا ظلًّا من قوَّتها؟

    – حتى في هذه الحالة، تكون النباتات حية كبدن الكائن الحي، وتتلقى القوة المُخصِبة التي فيها. وتلك القوة الكامنة في الأرض، تهب النباتات خير ما فيها. وبفضل ما تمنحه إياها يتميز النبات من شجرة مجتثَّة لم تَعُد نباتًا، بل قطعة من الخشب.

    – ولكن ما الذي تهبه نفس الأرض إلى جسمها الخاص؟

    – إن قطعة من الأرض منتزعة من التربة، لا تعود كما كانت عند اتصالها بها. وإنَّا لنعلم جيدًا أن الأحجار تكبر طالما كانت مدفونة في الأرض، وتكف عن النمو لو انتُزِعَت منها؛١٠ فلكل قطعة من الأرض أثرٌ من القوة النامية، وفيها تَسري القوة النامية المولدة، ولكن دون أن تكون تلك القوة مرتبطة بجزء معين من الأرض، وإنما هي قوة الأرض بأكملها. أمَّا ملكة الإحساس، فليست مختلِطة بالجسم، بل هي أداته ووسيلته. وأخيرًا، فالأمر كذلك في عقل الأرض ونفسها اللذَين يُطلَق عليهما اسم «هستيا» و«ديمتر»، وهي تسمية كُشِفَت للناس بفضل نبوءة إلهية ملهمة.
  • (٢٨)

    حسبنا هذا القدر في تلك المسألة. وعلينا الآن أن نعود إلى توجيه نفس السؤال بالنسبة إلى الجزء الغضبي من النفس (الإنسانية) مثلما وجَّهْناه بالنسبة إلى الانفعالات. لقد قلنا إن مبدأ الرغبة، وكذلك اللذات والآلام — ولستُ أعني إدراكنا لها، بل أقصد الانطباعات ذاتها — هو حالة معينة لبدن تُحييه نفس. فهل يرجع مبدأ الغضب، أو حتى الغضب ذاته، إلى استعداد معين في الجسم، أو في جزء من الجسم، كالقلب أو الصفراء، في جسم لم يعدم الحياة؟ وإن كان شيئًا آخر غير القوة الغضبية هو الذي يعطي هذه الأعضاء أثرًا من آثار النفس، فهل يكون الغضب عندئذٍ استعدادًا في الأعضاء فحسب، لا ناتجًا عن قوة، كالقوة الغضبية أو القوة الحاسة؟ إن القوة النامية التي تَكمُن في الجسم بأسره تُضفي أثرها، في حالة الانفعالات، على الجسم كله، بحيث يكون الألم واللذة ومبدأ إشباع الرغبة في الجسم كله دفعة واحدة. ونحن لم نتحدث عن الرغبة الجنسية، ولكن لنُسلِّم أن مقرها هو الأعضاء التي من شأنها إشباعها، ولنُسلِّم أيضًا أن منطقة الكبد تشتمل على مبدأ الرغبة؛ إذ إن النفس الغاذية، التي تنقل أثرًا من النفس إلى كل الجسم، وضمنه الكبد، يتبدَّى فعلها مع ذلك أوضحَ ما يكون في هذا العضو، بحيث يكون معنى قولنا إن الرغبة في الكبد، هو أن الكبد نقطة بداية فعلها.

    أمَّا الغضب، فما طبيعته؟ وأي أجزاء النفس هو؟ أمِنْه يأتي الأثر الذي في القلب؟ أم أن هناك شيئًا مختلفًا يؤثر في الاثنَين؛ القلب والصفراء؟ أم أن ما في القلب ليس أثرًا للغضب، وإنما الغضب ذاته؟ ولنقل أوَّلًا: ما هو الغضب؟ إننا نغضب، لا لما يلقاه جسمنا فحسب، بل لسوء المعاملة التي يلقاها أقرباؤنا، أو لكل فعل يتنافى مع ما هو لائق. فلا بد إذن، لكي يغضب المرء، من أن يكون قد أدرك وعلم شيئًا ما. وهذه الاعتبارات تكفي لإثبات أن الغضب لا يأتي من القوة الغاذية، وإنما له أصل آخر.

    ومع ذلك فالاستعداد الطبيعي للغضب ناتج عن تركيب البدن؛ فمن كانت مرارته ودمه حارَّين، كان معرَّضًا للغضب. ومن لم يكن حارَّ المرارة، أي كان باردًا كما يُقال، كان أقلَّ تعرضًا للغضب. والغضب في الكائن الحي يأتي من المزاج، لا من حكمه على ضرر سيلحق به. فهذه الأمور كلها تدعونا إلى الاعتقاد بأن الغضب يُرَد إلى البدن وإلى مبدأ الكائن العضوي. وإنَّا لنرى المرضى أسرعَ غضبًا من الأصحَّاء، والصائمين من الآكلين. أليس معنى ذلك إذن أن الغضب في الجسم الحي، وأن مبدأه فيه؟ إن المرارة والدم يُحْييان الجسم على نحو ما ليُولِّدا انفعالات الغضب. وعلى ذلك، فما يكاد الجسم العضوي يتألم، حتى يثور الدم والمرارة في الحال، ولكن عندئذٍ يأتي الإدراك الحسي، فتربط النفسُ صورة معينة بالحالة العضوية، وتنزع إلى مهاجمة ما يبعث الألم. وقد يأتي الغضب، فضلًا عن ذلك، من أعلى؛ فترى النفس، باستخدام تفكيرها، ظلمًا وقع، وعندئذٍ يتملَّكها غضبٌ ليس في الجسم. وقد تتخذ من الغضب الذي يرمي إلى محاربة ما يقف في سبيل إرادتها، حليفًا لها في الصراع. وإذن فهناك من جهة ثورة للغضب تنشأ مستقلة عن العقل، ثم تجذب التفكير بتوسط القوة المخيلة، وهناك من جهة أخرى غضب يبدأ بالتفكير وينتهي بالانفعال الجسمي الذي يرتبط به طبيعيًّا. وهذان النوعان من الغضب ناشئان عن القوة الغاذية والمولدة التي ينشأ عنها كائن عضوي قادر على إدراك اللذة والألم. وبفضل الصفراء المرة التي ينتجها الغضب، وتأثر النفس من هذه الصفراء، يستشعر المرء انفعال الثورة والغضب، وكذلك بفضل الجهد الذي يبذله المرء للإساءة إلى من أساء إليه، ومعاملة الآخرين بالمثل. والدليل على أن الغضب من نفس طبيعة الأثر الآخر للنفس (أي الرغبة) هو أن أولئك الذين يقل حرصهم على لذَّات البدن، أو الذين يحتقرونها كلية، أقل تعرضًا للغضب، ولكل الانفعالات التي لا تنشأ عن العقل.

    وليس لنا أن ندهش حين نرى الأشجار قد عدمت ملكة الغضب، رغم أن لديها القوةَ الغاذية؛ إذ ليس للأشجار دمٌ ولا مرارة. فإذا تدخلت هذه السوائل وحدها دون الإحساس، لما نتج إلا نوع من الفوران والسَّورة، أمَّا إذا تدخل الإدراك، فإنا نُوجِّه كل طاقتنا نحو الشيء الضار لنحميَ أنفسنا منه.

    – غير أن الجزء غير العاقل من النفس ينقسم إلى رغبة وجزء غضبي؛ فإذا كانت الرغبة في القوة الغاذية، وإن كان الجزء الغضبي أثرًا من آثار تلك القوة في الدم وفي المرارة أو في كِلَيهما معًا، فإن ذاك لا يكون تقسيمًا صحيحًا؛ لأن أحد هذَين الحدَّين سابقٌ على الآخر.

    – ولكن من الممكن أن يكون الاثنان لاحِقَين لحدٍّ واحد، وأن ينطبق التقسيم على اثنَين مستمَدَّين من حد واحد؛ فالواقع أن التقسيم إلى رغبة وغضب ينصبُّ على الانفعالات في ذاتها، لا على الماهية التي تأتي منها. وهذه الماهية، إذا نُظر إليها في ذاتها، لم تكن ميلًا، وإنما هي تكمل الميل حين تقترب بالنشاط الصادر عنه.

    فليس من الممتنِع إذن أن نقول إن أثر النفس الذي تحوَّل إلى غضب إنما يتخذ من القلب مقرًّا، فلسنا عندئذٍ نقول إن النفس هي التي في القلب، وإنما المركز الذي يبدأ منه دم الجسم العضوي.

  • (٢٩)

    ما دام الجسم (في علاقته) يشبه شيئًا ساخنًا، لا شيئًا مضاءً، فلِمَ لا يحتفظ بشيء من الحياة حين تفارقه النفس العاقلة؟

    – إنه يحتفظ منها بالقليل، غير أن هذا القليل سرعان ما يتبدد مثلما يفقد الشيء حرارته سريعًا إذا ما أُبعِد عن النار. ودليل ذلك أن الشعر ينمو والأظافر تَطول في الجثث، وأن الحيوانات التي تُقطَع أطرافها تستمر في الحركة. فتلك كلها مظاهرُ لاستمرار الحياة في البقاء، ولكن حتى لو كانت «النفس الغاذية» تفارق البدن مع «النفس العاقلة»، فليس معنى ذلك أنهما لا يختلفان؛ فعندما تغيب الشمس لا يختفي معها الضوء المصاحب لها والمرتبط بها فحسب، بل يختفي أيضًا الضوء الذي يصدر منها إلى الأشياء التي تُضاء بطريق غير مباشر، والذي ليس هو هذه الأشياء.

    – فهل يغيب ذلك الضوء معها، أم يتلاشى تمامًا؟

    – هذا السؤال يجب أن يُوجَّه بصدد الضوء، وكذلك بصدد الحياة التي هي في رأينا صفةٌ للجسم الحي. فمن الواضح أنه لا شيء يتبقى من الضوء في الأجسام المنارة. والسؤال هو عما إذا كان هذا الضوء يعود إلى مصدره أم أنه يتلاشى فحسب؟ وكيف يتلاشى إن كان من قبلُ شيئًا حقيقيًّا بالفعل؟ ولكن ماذا كانت حقيقته؟ ذلك بأن ما يُسَمَّى باللون ينتمي إلى نفس الأجسام التي يصدر عنها الضوء. ومع ذلك، فإن هذه الأجسام إذا فَنِيَت، أو إذا سرى عليها التغير، فإن لونها يزول، ولن يسأل أحد أين يذهب لون النار إذا ما أُخمِدَت، مثلما لا يسأل أحد عن مكان شكل جسم قد اختفى.

    – ومع ذلك، فالشكل حالة فحسب، كحالة اليد المنبسطة أو المنقبضة، أمَّا اللون فهو أشبهُ بالحلاوة مثلًا. فما الذي يمنع من أن يفنى الجسم الحلو أو الجسم ذو الرائحة، دون أن تفنى الحلاوة والرائحة؟ إن في وُسعهما أن ينتقلا إلى جسم آخر، دون أن ندركهما، إذا كان من شأن الأجسام التي تلقَّتهما ألا تُؤثِّر صفاتها في حواسِّنا. وبالمثل، فلِمَ لا يستطيع الضوء الذي يصدر عن أجسام فنيت، أن يظل باقيًا، حتى بعد اختفاء الكل المتماسك الناشئ عن اتحاد صفات هذه الأجسام كلها؛ ما لم نقل إن اللون الذي يُرى يُوجَد اصطلاحًا، وإنه ليست في الأشياء كيفيات؟

    – إن معنى هذا الرأي هو أن الكيفيات لا تفنى. والقول إنها لا تنشأ عندما تتكون الأجسام، معناه أن ألوان الكائن الحي ليست ناتجةً عن مبادئه البذرية، كما في الطيور ذات الريش اللون مثلًا، ومعناه أن تلك الألوان موجودة من قبل، وأنها تجمعَت فحسب، أو أنها إن كانت قد نتجت فإنما كان ذلك باستخدام الألوان الموجودة في الهواء، وهو مليء بها، وإن كانت هذه الألوان كما تبدو لنا في الأجسام مختلفة تمامًا عما هي عليه في الهواء.

    ولكن، لِنَدع تلك الصعوبة التي عرَضَت لنا على هذا النحو، ولنَعُد إلى موضوعنا؛ فإن كان الضوء يظل مرتبطًا بالأجسام طالما ظلت موجودة، ولا ينفصل عنها، فما الذي يمنعه من أن يصاحب الجسم المضيء في اختفائه، سواءٌ في ذلك الضوء الذي يلامسه، والضوء المنعكس الذي يُوجَد مرتبطًا بالأول؟ إن هذا أمر ممكن، رغم أننا لا نرى الضوء يختفي، مثلما لا نراه يأتي.

    فماذا نقول إذن عن النفس؟ هل تتبع القوى الثانوية القوى الأولية، وهل يتبع اللاحقُ السابقَ بوجه عام؟ أم أن في وسع كل قوة أن تقوم بذاتها، إذا انقطعت كل صلة لها بالقوى السابقة عليها؟ أم أنه يستحيل على أي جزء من النفس أن يكون منفصلًا؟ أتكون كلها نفسًا واحدة وكثيرة في الوقت ذاته، وبأي معنًى؟ سنبحث هذه المسائل في موضع آخر. ولكن لنتساءل هنا: ما هو ذلك الأثر من النفس الذي ظل باقيًا في البدن بعد الموت؟ أهو نفس؟ لو كان نفسًا لَلقيَ مصير النفس ذاتها، ما دام لا يملك عنها انفصامًا. أهو حياة مرتبطة بالبدن؟ عندئذٍ يعترضنا نفس السؤال الذي اعترَضَنا منذ قليل بصدد صورة الضوء. وعلينا أن نتساءل أيضًا عما إذا كان في وسع الحياة أن توجد دون النفس، أم أنها لا توجد إلا إذا كانت النفس وفعلها بقرب الجسم.

  • (٣٠)

    بيَّنَّا أن الذاكرة لا تفيد النجوم، وجعلنا للنجوم من جهة أخرى حواسَّ؛ هي حاسة السمع والبصر، وقلنا إنها تستمع إلى الدعوات التي نتوجه بها إلى الشمس، والتي يتوجَّه بها غيرنا إلى الكواكب، معتقدين اعتقادًا راسخًا بأن كثيرًا من الأعمال تتم بواسطة الكواكب وبفضلها، وأنها من الرحمة بحيث تُعيننا لا في أفعالنا العادلة فحسب، بل في أعمالنا الظالمة كذلك. تلك كلها مسائلُ تُثار أمامنا ويتحتم علينا أن نبحثها. وإنَّا لنعرف جيدًا تلك الإشكالاتِ العديدةَ التي يُثيرها أولئك الذين لا يقبلون القول إن الآلهة تعين على أفعال غير صالحة، أو تقوم بها، وخاصة إذا ما نسَبْنا إلينا أنها تُعيننا في أهوائنا وفي مباذلنا؛ لهذا سنبحث هذه المسائل، وإن كان بحثنا يهدف خاصةً إلى حل المشكلة التي أُثيرت منذ البداية، وهي مشكلة ذاكرة الآلهة.

    من الواضح أنه كانت الآلهة لا تُلبِّي دعواتنا مباشرة، بل بعد مُضيِّ وقت، غالبًا ما يكون طويلًا، فمعنى ذلك أنها تتذكر دعوات الناس. وذلك مثلًا هو الأمر بالنسبة إلى الخير التي وهبَتْها «ديمتر» و«هستيا»١١ إلى الناس؛ ما لم نقل إن الأرض وحدها هي التي تهَب الناس هذه الخيرات. فعلينا إذن أن نحاول إيضاح أمرَين؛ أولهما: بأي معنًى نعزو إلى النجوم وظيفة التذكر، وتلك الصعوبة لا تقوم إلا بالنسبة إلينا، لا بالنسبة إلى رأي العامة الذين لا يرَون ما يمنع مطلقًا من أن ننسب إليها ذاكرة؟ وثانيهما: أن ننظر في أمر تلك الأفعال الغريبة التي تنسب إليها؛ إذ إنه من واجب الفلسفة أن تدفع عن آلهة السماء تلك الاتهامات التي تُوجَّه إليها. فإن شئنا أن نُصدِّق القائلين بأن من الممكن أن تتأثر السماء بسحر رجال ذَوي جُرأة وشجاعة، فعندئذٍ سيمتد هذا الاتهام حتى يشمل الكون بأسره. وسنبحث أيضًا ما يُقال عن الخدمات التي يمكن أن يُسخَّر الجن لأدائها، إلا إذا كنا قد وجدنا لتلك المسألة الأخيرة حلًّا مع المسائل السابقة.
  • (٣١)

    إذا تأملنا في نظرة شاملة، كلَّ الأفعال والانفعالات التي تنتج في الكون لوجَدنا أنها تنقسم إلى طبيعية وصناعية؛ أمَّا الطبيعية فتنقسم إلى تلك التي تنتقل من الكل إلى الأجزاء، أو من الأجزاء إلى الكل، أو من الأجزاء إلى الأجزاء. وأمَّا الأفعال التي تنتج بالصناعة، فهي أوَّلًا تلك التي تبدأ بالصناعة وتنتهي إلى صنع شيء، ثم تلك التي تستخدم قوى الطبيعة لتنتج أفعالًا طبيعية أو لتؤثر فيها.

    فالأفعال الطبيعية التي تنتقل من الكل إلى الأجزاء هي أفعال الكون، ومن أمثلتها الآثار التي تطرأ على العالم وعلى أجزائه نتيجة لحركته؛ فدورة السماء حين تتم تتحكم في أحوالها الخاصة وأحوال الدورات الجزئية. وتلك الحركة تتحكم في النجوم الداخلة في نطاق هذه الدورة، وتتحكم كذلك في الأشياء الأرضية عن طريق ما تهَبُه إياها. أمَّا الانفعالات والأفعال الطبيعية التي تنتقل من الأجزاء إلى الأجزاء فيعرفها الجميع، ومن أمثلتها علاقات الشمس ببقية النجوم، وتأثيرها عليها، وعلى الأشياء الأرضية، وعلى الموجودات الكائنة في العناصر الأخرى. ومن أمثلتها، بجانب تأثير الشمس، تأثيرُ الكواكب والأشياء الأرضية. وسنبحث كلًّا من هذه المسائل.١٢

    ومن الصناعات، كالعمارة وما شابهها، ما ينتهي عند تمام صُنع الشيء. أمَّا الطب والزراعة، والصناعات العَملية، فتُعين الطبيعة على إتمام أعمالها الطبيعية، والبلاغة والموسيقى والفنون الجميلة تُغيِّر من الناس، بأن تجعلهم خيرًا أو شرًّا مما كانوا. وينبغي علينا أن نتبين عدد هذه الفنون ومدى قدرتها، وأن نبحث بقدر ما في وسعنا في الغرض منها، طالما كان ذلك البحث متعلقًا بموضوعنا.

    من الواضح أن حركة السماء الدائرية فعالة. وهي تحدد لنفسها اتجاهاتها الخاصة، ثم تحدد اتجاهات النجوم التي تنجذب إليها. ولا جدال في أنها تؤثر أيضًا على الأشياء الأرضية، لا في تغييرها للأجسام فحسب، بل للنفوس أيضًا. وعلى ذلك فكل جزء من السماء يؤثر في الأشياء الأرضية، وفي الأشياء الدنيا بوجه عام. وهذا كله واضح لأسباب عدة؛ فهل تُؤثِّر الأشياء الدنيا بدورها في الأشياء العليا؟ سنرى ذلك فيما بعد. وسنفترض مؤقتًا صحة الآراء التي يُسلِّم بها المجموع طالما أنها تبدو لنا سليمة.

    وعلينا أن نحاول أوَّلًا توضيح طريقة فعل الكواكب؛ فهذا الفعل ليس راجعًا إلى البارد أو الحار، وكل الكيفيات المسماة بالكيفيات الأولى فحسب. كما أنه ليس فعل الكيفيات الناتج عن امتزاجها؛ فالشمس لا تفعل كل ما تفعل بحرارتها، ولا نجم آخر بالبرودة؛ إذ كيف توجد البرودة في السماء، التي هي جسم ملتهب؟ ولا يفعل نجم غيره بنار رطبة، بل إن هذا لا يفسر الفروق بين الأشياء الناتجة. وهناك ظواهرُ كثيرة لا تُرَد إلى هذه العلل. وقد يُقال إن الفروق في الطباع تأتي من فروق الأمزجة المادية، وتلك تأتي من سيادة الحار والبارد في النجم الذي ينتجها. فإذا سلمنا بذلك، فكيف نرد الحسد والغيرة والخداع إلى هذه الأسباب؟ بل لو أمكن ردُّها إليها، فكيف نُفسِّر بها الحظ الحسن والشيء والثروة أو الفقر، وكرم الأصل أو كشف كنز؟ إن في وسعنا ذِكرَ أمثلة تؤدي بنا بعيدًا جدًّا عن الاقتصار على الكيفيات الجسمية التي تهَبها العناصر لأبدان الموجودات الحية ونفوسها.

    وليس علينا كذلك أن نعزوَ إلى قرار إرادي واعٍ، أو إلى استدلالات يقوم بها الكون أو النجوم، تلك الحوادثَ التي تطرأ على الموجودات الكامنة في موضع منها؛ فمن المحال أن نُسلِّم بأن تلك الموجوداتِ العليا تَقضي بأن يصبح أناس معيَّنون لصوصًا، وغيرُهم تُجار رَقيق، أو ناقبي جدران، أو مُنتهِكي حُرمات، وأن يغدو غيرهم جبناءَ مخنَّثين، وَضيعين في سلوكهم وفي أهوائهم. فما من إله، بل ما من رجل متوسط الفضيلة، بل ما من إنسان قط يسلك على هذا النحو، ويتسبَّب في خلق هذا الشرور التي لن يعود عليه منها أدنى نفع.

  • (٣٢)

    وإذن فلن ننسب إلى علل جسمية ولا إلى قرار إرادي تلك التأثيراتِ السماويةَ التي تقع علينا وعلى بقية الموجودات الحية، وعلى الأشياء الأرضية بوجه عام. فأية علة تتبقَّى ويُمكننا قَبولها؟

    إن هذا الكون كائن حي واحد يشتمل في ذاته على كل حياة، وله نفس واحدة تسري في كل أجزائه، بقدر ما تُعَد الكائنات الموجودة فيه أجزاء. ثم إن كل كائن في المجال المحسوس بأسره جزء من العالم. وبقدر ما يكون لذلك الكائن جسم، لا يكون إلا جزءًا من العالم. أمَّا من حيث إن له نفسًا فهو جزء منه إذا كانت النفس تشارك في النفس الكونية. والموجودات التي لا تشارك إلا في هذه النفس ليست سوى أجزاء من الكون، أمَّا الموجودات التي تشارك في نفس أخرى، فتتميز من أجل ذلك بأنها ليست مجرد أجزاء من الكون. على أنها تتأثر بأفعال بقية الموجودات، بقدر ما إن فيها جزءًا من الكون، وبقدر ما هي تَستمِد من الكون عناصرَ من وجودها. وإذن فهذا الكون كلٌّ متعاطف مع ذاته، وأبعدُ أجزائه قريبٌ منه، مثلما أن الأظافر والقرون والأصابع في الكائن الحي قريبة من الأجزاء التي لا تلاصقها. فرغم وجود مسافة فاصلة بين الأجزاء، ورغم أن المنطقة المتوسطة لا تتأثر، فإن كل جزء يخضع لتأثير الأجزاء التي لا تجاوره. والأشياء المتشابهة التي تتلاصق، بل تفصل بينها مسافة، تتعاطف بفضل تشابهها. كما أن الأشياء يؤثر بعضها على بعض، ويكون لها بالضرورة فعلٌ من بُعد، دون أن يكون بينها اتصال مباشر. ولما كان الكون كائنًا حيًّا واحدًا، فإن أيًّا من أجزائه لا يبعد عنه إلى حد يفقد معه كل صلة به، وذلك نتيجة للميل إلى التعاطف الذي يجمع بين كل أجزاء الكائن الحي الواحد. فعندما يكون المنفعل شبيهًا بالفاعل، فإن التأثير الذي يتقبله لن يكون غريبًا عن طبيعته. وعندما لا يكون شبيهًا به، يكون الانفعال الذي يتلقاه غريبًا عنه، فلا يميل إلى تقبُّله. فليس لنا أن نَدْهش إذن من أن يكون فعل شيء على شيء آخر ضارًّا، رغم أن الكون حي واحد؛ إذ إن فاعلية الأعضاء فينا نحن ذاتنا قد تؤدي إلى أن يُضارَّ عضوٌ بفعل عضو آخر. ومن قبيل ذلك أن تُدمِّر المرارة أو الغضب الناجمُ عنها أعضاءً أخرى في الجسم أو تمزقها؛ ففي الكون مُشابه للغضب والمرارة، كما أن فيه مشابهًا لبقية أجزاء جسمنا.

    وكذلك الحال في النبات، حيث تقف بعض الأجزاء حجرَ عثرة في وجه البعض الآخر، حتى ليصل الأمر بالنبات إلى الذبول.

    فهذا الكون ليس كائنًا حيًّا واحدًا فحسب، بل إنه لينطوي أيضًا على الكثرة. وبقدر ما هو واحد، نجد كل الموجودات فيه يندمج في المجموع، ولكن بقدر ما هو كثير، فإن أجزاءه التي تتبارى فيما بينها، غالبًا ما يضر بعضها البعض نتيجة لما بينها من فروق، فلما كان كل جزء لا يرمي إلا إلى نفعه الخاص فإنه يضر بقية الأجزاء. وهو يتغذى منها لأن له مع الباقين أوجُهَ شبه وأوجهَ اختلاف في نفس الوقت، ولأنه يحاول بغريزته الطبيعية أن يحفظ لنفسه، فيأخذ لذاته كل ما يمكنه أن يستحوذ عليه من الآخرين، ويقضي على كل ما يُنافي طبيعته؛ لأنه يحب ذاته. وهو في أدائه دوره يفيد الموجودات التي يمكنها أن تستفيد من فعله، ولكنه يقضي على تلك التي لا يمكنها تحمل اندفاع هذا الفعل، أو يؤذيها، كما نرى في النباتات التي يحرقها مسُّ النار، أو الحيوانات الصغيرة التي تُصاب بضرر أو تَهلِك إذا ما وطئها الكبيرة بأقدامها.

    ففي مجموع مظاهر الكون والفساد هذه، وفي تلك التغيرات إلى أحسن أو إلى أسوأ، تكون حياةُ العالم الحي التي تمضي دون عائق ووفقًا للطبيعة؛ فليس في وُسع كل موجود أن يعيش وكأنه منعزل؛ فما دام كل موجود جزءًا، فليست غايته في ذاته، وإنما في الكل الذي هو جزء منه. وما دامت أجزاء الكون مختلفة، فهي لا تَملك دائمًا شروط حياتها الخاصة، التي تندمج في الحياة الكونية. ولا يمكن أن يظل شيء ثابتًا على الدوام، إن كان ينبغي على الكون أن يكون دائمَ الثبات، ما دام ثباته ودوامه في التنوع.

  • (٣٣)

    ولما كانت دورة السماء لا تَمضي خَبْط عشواء، بل تسترشد بالعقل الذي يوجد في الكل الحي، فمن الضروري أن يكون ثَمة انسجامٌ بين ما يفعل وما ينْفعل، ونظامٌ في علاقة الأجزاء بعضِها ببعض؛ فلكل لحظة من لحظات الدورة الكونية غايةٌ أشملُ من غايات الأشياء الخاضعة له، وهو في ذلك أشبهُ براقصين عديدين تجمعهم رقصة واحدة؛ ففي الرقصات التي نشهدها، نلمس أثر عناصرَ تَخرج عن الفرقة الراقصة، كالمزامير وأصوات المطربين وبقية الآلات المشتركة معها، وتتغير هذه مع كل حركة من حركات الفرقة الراقصة. وتلك كلها أمور واضحة لا تحتاج إلى بيان، ولكن لا يعادل ذلك سهولةً أن نَصِف الدور الخاص الذي يقوم به الراقص حين يكون عليه أن يُوفِّق بين حركاته تبعًا لكل شكل. فأعضاؤه تُصاحب الرقصة وتتشكَّل بها، فيَنثني أحدُ هذه الأعضاء ويمتد الآخر، ويتحرك هذا ويسكن ذاك، تبعًا للأشكال المختلفة، أي إن إرادة الراقص مُركَّزة كلها في هدف يتجاوزه، وجسمه ينفعل تبعًا للرقص، ويُطيعه ويُحقِّقه كاملًا. ويستطيع الخبير بأمور الرقص أن يذكر مقدَّمًا أن في هذا الشكل سيرتفع هذا العضو، وينثني ذاك، وسيتوارى واحد، وينخفض آخر. وإرادة الراقص تَقضي عليه ألا يقاوم بأية حركة مخالفة، فهو إذ يجعل جسمه كله يرقص، يجعل لكل جزء معين من جسمه بالضرورة موقعًا يُساهم في الرقص.

    فبحركات هذا الراقص ينبغي أن نُقارن حركات السماء. وعلى هذا النحو تُنتج الأشياء السماوية الحوادثَ أو تُنبئ بها. أو بالأحرى أن العالم بأسره يُحرِّك — وهو يحيا حياته الكونية — أهم الأجزاء، ويجعلها تُغيِّر موقعها دوامًا. ونتيجةً للعلاقات بين مواضع هذه الجزاء، ولاختلاف مواقعها، تحدث التغيرات في بقية الأجزاء، كما هي الحال في حركة الكائن الحي، أي إن كل حالة معينة في الأشياء تتحدد تبعًا لهذه العلاقات والمواضع والأشكال. وليس معنى ذلك أن الموجودات التي تُكوِّن تلك الأشكال هي الفاعلة؛ فإن الفاعل الحقيقي هو الموجود الذي يُضفي عليها هذه الأشكال. ومع ذلك ففعله ليس تغييرًا لشيء مختلف عنه؛ إذ لا فاعلية له على شيء مغاير له؛ فهو ذاته كل الأشياء التي خُلِقَت؛ فتارة تُوجَد فيه، أي في الكون الحي، أشكال النجوم، وتارة توجد فيه تلك التغيرات التي تصاحب هذه الأشكال بالضرورة. فلديه هذه الحركات بفطرته، وتركيبُه وتكوينه هما بالطبيعة على هذا النحو، وهو بالضرورة فاعل ومنفعل بالنسبة إلى ذاته.

  • (٣٤)

    ولا شك أننا نُسلِّم جزءًا مِنَّا إلى تأثير الكون، وأعني به ذلك الجزء الذي ينتمي إلى جسم الكون. ولما كنا لا نعتقد بأننا ننتمي كلنا إليه، فإن هذا التأثير يقِل، فنحن في ذلك أشبهُ بخدَم حكماء يُطيعون سادتهم في أمور عديدة، ولكنهم يحتفظون بقدرٍ من الحرية؛ لهذا يُوجِّه إليهم سادتهم أوامرَ أقل شدة؛ لأنهم ليسوا عبيدًا، ولأنهم لا يعيشون كلية من أجل سادتهم.

    وإن تغييرات أشكال السماء لَتأتي بالضرورة من تفاوت سرعة مسار النجوم. ولكن لما كان هذا المسار خاضعًا لنظام عاقل، فإنه تنتج عنه اختلافات في أشكال الكائن الحي الكامل (أي الكون). وفضلًا عن ذلك فلما كانت حوادث العالم الأرضي تتم متعاطفة مع الأشياء السماوية فمن الطبيعي أن نتساءل عما إذا كانت هذه الحوادث تتبع السماء بالاتفاق معها فحسب، أم أن للأشكال قوةً فعالة، وعما إذا كانت هذه القوة تنتمي إليها من حيث هي أشكالٌ فحسب، أم لأنها أشكال النجوم؛ إذ إن نفس الشكل إذا ما كان في موجودات مختلفة، لا ينبئ بنفس النتائج أو بسببها. فلكل من هذه الأشكال، منظورًا إليه في ذاته، طبيعةٌ متميزة. ولو كان صحيحًا أن اتخاذ الأشياء شكلًا معينًا، يعني تلك الأشياء مُضافًا إليها ميلٌ معيَّن، فمعنى ذلك أن اختلاف الموجودات التي تكون شكلًا يؤدي إلى اختلاف ذلك الشكل، وإن ظل — من حيث هو شكل فحسب — كما هو. فإن كان الأمر كذلك، فإنَّا لن ننسب الفاعلية إلى الأشكال، وإنما إلى الأشياء التي تكونها. أم أن علينا أن ننسبها إلى الاثنين معًا؟ إذ إن النجوم ذاتها عندما تُغيِّر مواقعها، تختلف الآثار الناتجة عنها، وكذلك الحال في النجم الواحد إذا تغير موضعه.

    ولكن ما هي قدرة هذه الأشكال أن تُحدث أو أن تُنبئ؟ أم أن لها — بفضل إضافة تأثير أشكالها إلى تأثيرها هي — قدرةً مزدوجة على أن تُحدث وتنبئ، وأحيانًا على أن تُنبئ فحسب؟ إننا بهذه الكلمات ننسب إلى الأشكال تأثيرًا، وإلى الأشياء ذات الأشكال تأثيرًا آخر، مثلما نرى في حالة الراقص الذي تساهم يداه وبقية أعضائه في الرقص من جهة، كما تساهم الأشكال التي تَكونها الأعضاء بدورها إلى حد بعيد. ولنُضِف إلى ذلك، ثالثًا، ما هو مصاحب للحركة، أعني أجزاء الأعضاء التي تُساهم في الرقص، وأجزاء تلك الأجزاء؛ ففي اليد مثلًا ينتج عن طريق التعاطف انقباضٌ في العضلات وفي العروق.

  • (٣٥)

    فما هي إذن قدرة الأشكال؟ علينا أن نعود إلى هذه المسألة ونُعالجها بمزيد من الوضوح؛ ففيمَ يختلف مثلث «النجوم» عن المثلث «المعتاد»؟ ولم ينتج عن صلة هذا النجم بنجم آخر تأثيرٌ معين؟ وتبعًا لأية قاعدة، وإلى أي حدٍّ «يحدث هذا التأثير»؟

    فلنذكر أننا لا ننسب تلك الفاعلية إلى أجسام النجوم، ولا إلى إرادتها؛ لا ننسبها إلى أجسامها؛ لأن النتائج الحادثة ليست مجردَ أفعال جسمية، ولا ننسبها إلى إرادتها؛ إذ لا يجوز أن نقول عن آلهة إنها تُحدث بإرادتها أمورًا معينة.

    ولنستَعِدْ هنا رأينا أن العالم كائن حي واحد؛ لهذا كانت الضرورة اللازمة تُحتِّم أن يكون في تعاطف مع ذاته. ومجرى حياته، الذي يسير وفقًا للعقل، هو دائمًا في اتفاق مع ذاته، وليس في حياته تخبُّط أو اتفاق، بل يسود هذه الحياةَ انسجامٌ واحد، وأشكاله تتبع ترتيبًا عقليًّا، وكل جزء من أجزائه يسير في حركاته وفقًا لأعداد. فإن سلَّمْنا بهذا كان علينا أن نعترف بأن الحقيقة الحاليَّة للكون هي الأشكال التي تتكون فيه، وهي في نفس الوقت، الأجزاء (أي النجوم) التي ترسم تلك الأشكال مع كل ما يستمد منها. هكذا يحيا العالم، وتلك القوى تساهم في حياته، بنفس الطريقة التي استمدَّت بها حياتها من تأثير الفاعل الذي ينتج تبعًا لعلاقات ثابتة. وإنَّا لنجد من جهة أن الأشكال هي العلاقات الثابتة داخل الكون الحي، وهي أبعاده وتركيباته واتجاهاته التي تسير كلها وفقًا لنظام ثابت. وتجد من جهة أخرى أن الموجودات التي تفصل بينها هذه المسافات وتكون هذه الأشكال هي أعضاءَه المختلفة. وللكائن الحي قُوًى تسلك بدون إرادته، وهي تختلف فيما بينها من حيث هي أجزاء متعددة منه. أمَّا ما يأتي عن الإرادة فخارج عن تلك الأجزاء، ولا يساهم جزئيًّا في تكوين طبيعة هذا الكائن الحي؛ إذ إن الكائن الحي الواحد ليست له سوى إرادة واحدة، بينما له قُوًى كثيرة لكل منها موضوعٌ مختلف. ولكل الإرادات التي يشتمل عليها الكون هدف واحد، هو هدف الإرادة الواحدة للكون، بينما لا يُحِس بالشوق إلا جزءٌ منه نحو جزء آخر، فيود الجزء أن يضم الجزء الآخر لأنه في حاجة إليه. وإن المرء لا يغضب إلا من موجود يختلف عنه، سبَّب له ألَمًا. وفي النمو يكبر جزء على حساب جزء آخر. والتولد يُحدِث موجودًا مختلفًا عن المولَّد.١٣ ولكن الكون، الذي يُحدِث كلَّ هذه الآثار في أجزائه، يبحث هو ذاتُه عن الخير، أو على الأصل يتأمله، وإذن فالإرادة القويمة التي تسمو على الأهواء تسعى أيضًا إلى الخير، وتتجه إلى نفس هذه الإرادة الكونية، مثلما نرى أولئك الذين يخدمون غيرهم يؤدون كثيرًا من الأفعال تلبيةً لأوامر سادتهم، ومع ذلك فإن الرغبة في الخير تجعلهم يؤدون نفس الأفعال التي يؤديها سادتهم.

    وإذن، فإن كانت الشمس وبقية النجوم تُؤثِّر على الأشياء الأرضية، فعلينا أن نُؤمن بأن الشمس — إن شئنا أن نقتصر على التحدث عنها — تتأمل المعقولات، وتُحدث كل ما تُحدثه بنفس الطريقة التي تُدفِئ بها الأرض، وذلك بأن تنقل قدرًا من النفس، بفضل النفس الغاذية المتكثرة التي توجد فيها. وبالمثل تَنقل بقية النجوم تأثيرها بنوع من الإشعاع، ودون أن تتعمد ذلك. وأخيرًا تنقل كل النجوم مجتمعة، ومكونة شكلًا واحدًا، اتجاهات تتغير بتغير ذلك الشكل.

    وإذن فللأشكال فاعليتها بحق، وبقدر ما تكون الأشكال تكون الآثار. والواقع أن جزءًا من الأثر يأتي أيضًا من الأشياء التي تُكوِّن الأشكال، فإذا اختلفت هذه الأشياء اختلف الأثر. فلِمَ نخشى تأمُّل أشكال معينة، دون أن يكون قد نالنا منها من قبلُ أيُّ ضرر؟ ولِم لا نخشى أشكالًا أخرى؟ ولِم تُخيف أشكالٌ معينة بعضَ الناس، وأشكال أخرى البعض الآخر؟ ذلك لأن كلًّا منهم يتأثر بأشكال مختلفة تعجز عن التأثير إلا على الموجودات التي من طبيعتها أن تؤثر فيها؛ فهذا الشكل يلفت النظر، وذلك لا يلفت إليه نظرَ أحد. وربما قيل إن جماله هو الذي يجذب، ولكن لِم يحرك هذا الشيءُ الجميل مشاعرَ شخص، وذاك الشيءُ الجميل مشاعرَ شخص آخر، إن لم يكن لاختلاف الأشكال أثر؟ وفضلًا عن ذلك، فلِم نقول إن الألوان تؤثر تأثيرًا فعليًّا، ولا نقول ذلك عن الأشكال؟ إنه ليمتنع بوجه عام، أن يكون للشيء وجود، دون أن ننسب إليه قدرة؛ فالموجود هو ما يمكنه أن يفعل أو أن ينفعل. وعلينا أن ننسب إلى بعض الموجودات الفعلَ وحده، وإلى البعض الآخر الفعلَ والانفعال.

    ولكن للأشياء قدرات أخرى غير قدرات أشكالها؛ ففي الأرض ذاتِها قدرات كثيرة لا تَصدر عن الحار والبارد. وللكائنات التي وُهِبَت صفات متباينة، وتلقَّت صورَها من المبادئ البذرية، نصيب من قدرة الطبيعة، ومن قبيلها الأحجار والنباتات التي تُحدِث آثارًا عجيبة.

  • (٣٦)

    والكون عظيم التنوع؛ ففيه كل المبادئ البذرية، مع كثرة لامتناهية من القوى؛ ففي الإنسان ترى للعين قوتها، ولكل عَظْمة قوتها؛ فلكلٍّ من عظام اليد والأصابع أو الأرجل قوة مختلفة. وليس ثمة جزء ليس له أثره الخاص وقوته، التي يختص بها وحده، ولكنا نجهل ذلك لأننا لم نطلع عليه. وما يصح على الإنسان يصح بالأحرى على الكون. ونقول بالأحرى لأن قوى جسمنا ليست سوى آثارٍ من قُوى الكون؛ ففي الكون إذن قُوًى متعددة عجيبة لا حصر لها، وكذلك الأمر في النجوم التي تعبر السماء.

    وليس الكون شبيهًا ببيت لا روح فيه، أعني بيتًا ضخمًا رحبًا مصنوعًا من أنواع من المواد يسهل حصرها، ومن أحجار وأخشاب وغيرها إن شئت، بل لا بد أن يكون عالمًا منظمًا. ولا بد أن يكون موجودًا يقظًا، وأن يعيش كل ما فيه على مثاله. ولا يمكن أن يوجد شيء لا يكون فيه.

    وعلى هذا النحو يُحَل هذا الإشكال، وهو: كيف يمكن أن توجد في موجود ذي نفس أشياء بلا نفس؟ إن حجة موجِّه هذا الاعتراض تقوم على أن كل ما في الكون يحيا على نحو معين. ونحن نقول إن الشيء لا يحيا إن لم يتلقَّ من الكون حركة يمكن أن تُدرِكها حواسُّنا، ولكن لكلٍّ حياته التي لا ندركها؛ فالموجود الذي تُدرِك حواسُّنا حياته مكون من موجودات تحيا دون أن ندركها، ولكن قواها العجيبة تؤثر في حياة الكائن الحي المركب. وما كان في وسع الإنسان أن يتلقى مؤثرات على هذا القدر من التباين، إن كانت حركته ناتجةً عن قُوى باطنة خلَت تمامًا من كل نفس. كذلك ما كان الكون ليحيا كما يحيا، لو لم يكن ما يوجد فيه حياته الخاصة. غير أن هذا لا يتضمن بالضرورة أنه له إرادة واعية، فهو أيضًا يفعل دون أن تكون به حاجة إلى الإرادة؛ إذ إنه من ذلك النوع من الموجودات الذي يسبق الإرادة؛ لهذا كانت هناك أشياء عديدة خاضعة لقواه.

  • (٣٧)

    لا يمكن أن يُنتزَع شيء من الكون. ومهما بلغ عِلم المرء، فإنه سيعجز عن أن يُفسِّر فعل النار وما شابهها من الأجسام الفعالة إن لم ينسب فاعليتها إلى كونها موجودةً في الكون، ومثل هذا يجب أن يُقال عن كل الأجسام المألوفة. والشائع أننا لا نبحث ولا نُثير إشكالاتٍ في الأمور التي اعتدناها، وأننا لا نَحار إلا إذا تأملنا الآثار غير المألوفة، فنعجز عن تفسير الطريقة التي تحدث بها، وبهذا يكون غير المألوف هو الذي يُثير دهشتنا. ولكن الواقع أن أكثر الأمور شيوعًا بيننا يجلب لنا الدهشة والاستغراب إن رُوِيَت لنا الطريقة التي يسير عليها دون أن تكون لنا بها خبرة.

    وعلينا أن نقول إن كل كائن له، من دون العقل، قوة فعالة؛ لأنه شكل ورُكِّب في الكون، ولأن له قدرًا من النفس يأتيه من الكون الحي. وهو متضمَّن في الكون، يكون جزءًا منه؛ إذ إن كل ما في الكون هو جزء منه، ولكن لبعض الموجودات قوة أكثر فاعلية من البعض الآخر. فالأشياء الأرضية أقل قوة من الأشياء السماوية، التي وُهِبَت طبيعة أقل غموضًا. والقوى تُحدث آثارًا عديدة، ولكن لا عن طريق إرادة الموجودات التي تبدو تلك الآثارُ صادرةً عنها؛ إذ إن من الممكن أن تتمثل هذه القوى حيث لا يكون ثمة إرادة، ودون أن يكون هناك تفكير فيما تعطيه القوة من ذاتها إلى آثارها، حتى لو صدر عنها شيء من النفس؛ إذ إن الحيوان يمكن أن يُولِّد حيواناتٍ أخرى، دون أن يكون قد تعمد ذلك، ودون أن ينقص نتيجة لتوليده، بل دون أن يكون شاعرًا به. ولو كانت له إرادة فلن تكون الإرادة هي التي تسلك في هذه الحالة، وبالأحرى يصح ذلك لو لم تكن للحيوان إرادة ولا شعور.

  • (٣٨)

    إن الآثار التي تصدر عن السماء دون أن يكون أي جزء آخر من الكون الحي قد دفعها إلى العمل، أعني الآثار العامة التي تصدر عنها، وكذلك ما يأتي عنها عندما تكون قد استُشيرت إمَّا بمجرد صلاة، أو بابتهال يُنشَد تبعًا لأصول الفن؛ كل هذه الآثار لا يجب أن تُنسَب إلى واحد من الموجودات العفوية فحسب، بل إلى اجتماعها كلها في نسق واحد.

    ويجب أن يُعزى كل ما يفيد الحياة أو يجلب نفعًا ما إلى عطايا «النجوم» التي تمتد من أكبر الأجزاء إلى أصغرها. فإن قيل إن لها أحيانًا تأثيرًا سيئًا على توالد الحيوانات، فذلك لأن الذات عاجزة عن تلقي الخير الذي يُعطى لها؛ إذ إن الحيوان لا يُولَد فحسب، بل يُولَد من أجل غاية معينة، وفي ظروف خاصة، كما أن للذات التي تتقبل وتستقبل تأثير السماء طبيعتَها المحددة. ولاختلاط المؤثرات أثره الكبير، حتى لو كان كل نجم يُقدِّم إلى الحياة شيئًا نافعًا. وقد تحدث حالة لا يعود فيها نافعًا ما هو نافع بطبيعته، والنظام الكوني لا يهَب كلَّ موجود ما يريده دائمًا. وأخيرًا فنحن ذاتنا نُضيف أشياء عديدة إلى هذه العطايا الطبيعية.

    وبرغم هذه الحدود، فكل الأشياء تتلاءم، وكلها تتوافق على نحو يدعو إلى الإعجاب. وهي تَصدر بعضها عن البعض، وإن كانت تأتي أيضًا من أضدادها؛ إذ إنها كلها تنتمي إلى موجود واحد. فإن كان في الموجودات المتولدة عيب، فذلك يعني أن الموجودات لم تصل إلى كمال صورتها لأن الصورة لم تتغلب على المادة، فهي مثلًا تفتقر إلى ذلك الجمال في الجنس الذي يؤدي الحرمانُ منه إلى وقوعها في القبح.

    وهكذا تنتج أشياء معلومة عن الموجودات العلوية، وغيرها مُستمَد من طبيعة الذات، وغيرها تضيفها الموجودات إلى ذاتها. ولما كانت كل الحوادث متحدةَ النظام، وتتجه نحو الوحدة، فكلها تنبئ بها علامات. ولا شك في أن الفضيلة لا يعلو عليها شيء، ولكنها تدخل أفعالها في مجرى الكون؛ لأن الأشياء المحسوسة تعتمد على المعقولات، وعلى الأشياء الموجودة في عالمنا، والتي تفوقها ألوهية، وبالإجمال؛ لأن المحسوس يشارك في المعقول.

  • (٣٩)

    وإذن فحوادث الكون لا تعتمد على مبادئ بذرية، بل على مبادئ أشمل تنتمي إلى موجودات سابقة على المبادئ البذرية؛ إذ إنَّا لا نجد في المبادئ البذرية علة الحوادث التي تكون مضادة لتلك المبادئ ذاتها، ولا علة الأمور التي تصدر عن المبادئ وتشارك في الكون، ولا علة الأفعال التي تؤثر بها الموجودات المتولدة بعضها على بعض. وإن المبدأ العاقل في الكون لَأشبهُ بعقل يُضفي النظام والقانون على مدينة، ويعلم مقدمًا أفعال المواطنين ونواياهم. وهو يُدبِّر كل ذلك بأن يُقنِّنه ويعلم كيف يجمع بالقوانين أهواءَ المواطنين وأفعالهم، وما يرتبط بها من شرف أو عار، بحيث يسير كل ما في المدينة على وفاق من تلقاء ذاته.

    والحوادث تنبئ بها علامات، دون أن يكون الإنباء أول هدف للطبيعة، وإنما ينجم عن مجرى الحوادث التي يبشر بعضها بالبعض الآخر؛ ذلك لأن الكون واحد، ولأن الحوادث هي حوادث كون واحد، ولأن كلًّا من الحوادث يعرفه الآخر؛ العلة يعرفها المعلول، والتالي يعرفه المقدَّم، والمركَّب يعرفه أحدُ عناصره، وذلك بفضل اتحاد ذلك العنصر بالباقين.

    فإن كنا على حق فيما قلنا، لَحُلَّت هذه الصعوبات، وبخاصة تلك التي كانت تَنسب إلى الآلهة شرور الكون؛ فإرادة الآلهة ليست علةَ هذه الشرور قط. وكل ما يأتي من أعلى إنما هو نتيجة ضرورة طبيعية تجعل الأشياء في صلة بعضها ببعض، تبعًا لنتائج الحياة الكونية. ثم إن الموجودات تضيف كثيرًا من ذاتها إلى ما يأتيها من أعلى. وفضلًا عن ذلك، فإن ثمة تأثيراتٍ نجميةً إذا ما نُظِر إليها في ذاتها لم تكن سيئة، ولكنها تنتج باختلاطها نتيجة مختلفة كل الاختلاف. وعلاوة على ذلك، فكل موجود يحيا لا من أجل ذاته، بل من أجل الكون. وأخيرًا، فقد تتلقى الذات أثرًا وتنفعل على نحو مختلف عما تلقته، فلا تستطيع التحكم في الهبة التي نالتها.١٤
  • (٤٠)

    ولكن كيف نُفسِّر رُقَى السحر بالتعاطف؟ فهناك بالطبيعة تَحابٌّ بين الأشياء المتشابهة، وتنافرٌ بين الأشياء اللامتشابهة. ثم إن هناك عددًا كبيرًا من القوى المتنوعة التي تتضافر من أجل وحدة الكون. ومن هنا كنا نرى من مظاهر التجاذب والرقى ما يحدث دون ممارسة أي سحر. والسحر الحقيقي إنما هو «التحابُّ والتنافر» الموجودان في الكون؛ ذلك هو أول السحرة الذي يعرفه الناس جيدًا ويَستخدمون سوائله وتعاويذه بعضها نحو البعض الآخر. وإنما أمكَن أن يقوم فنُّ بثِّ الحب بالسحر؛ لأن من طبيعة الأشياء أن تُحَب، ولأن كل ما يؤدي إلى الحب يُجذَب الواحد منها نحو الآخر. وما عمل الساحر إلا أن يجمع بالملامسة تلك الموجوداتِ التي ترتبط بعضها ببعض ارتباطًا طبيعيًّا من قبل، والتي يُحِس كلٌّ منها نحو الآخر حبًّا غريزيًّا؛ فهو يربط نفسًا بنفس أخرى، كما يصل المرء بين نباتَين يبعد كلٌّ منهما عن الآخر. وللأشكال التي يستخدمها والاتجاهات التي يتخذها هو ذاته قدراتُها الخاصة؛ فهو يجذب إليه تلك القدرات ويركزها في ذاته دون عناء، ولكن ذلك إنما يكون ممكنًا لأن الساحر ذاته داخلٌ في الوحدة الكونية وموجود من أجلها. فلو تصورنا الساحر غريبًا عن الكون، لما عادت هناك تعاويذُ ولا روابطُ سحرية تجذب تلك القوى وتهبط بها إليه. وهو إنما يستطيع توجيهها لأنه لا يخرج بها عن مجالها الخاص، ولأنه يعرف الوسائل التي ينقل بها بعض هذه القدرات إلى أي شيء آخر في داخل الكون الحي. وتلك الوسائل هي تعاويذُ وكلمات معينة واتجاهات خاصة في القائم بالحسر، وجاذبيتها أشبهُ بجاذبية الابتهالات وكلمات التوسل، وبهذه الوسائل تُجذَب النفس بطبيعتها. فتأثير السحر أشبه بتأثير الموسيقى التي لا تُطرِب إرادتنا ولا عقلنا، وإنما شهواتنا اللاعقلية، والتي لا يدْهشنا سحرها قط. ومع ذلك فالحب يتولد عن سحر الموسيقى، وإن كنا لا نطلب إلى الموسيقيِّين شيئًا كهذا.

    وعلى ذلك فليس لنا أن نعتقد بأن الدعواتِ بدورها تُلبَّى بواسطة إرادة واعية من الآلهة، مثلما رأينا من قبلُ أن أولئك الذين تَستحوذ عليهم التعاويذ لا يعرفونها. فعندما تَرقي حيةٌ إنسانًا، فإنه لا يفهم هذا التأثير ولا يُحِسه، ولا يعرفه إلا حين يكون قد انفعل به، أمَّا النفس العليا فلا تتأثر مطلقًا. وعلى ذلك، فعندما ندعو موجودًا، يرِد تأثيرٌ من ذلك الموجود إلى من يدعوه أو إلى موجود آخر، ولكن الشمس أو النجم الذي ندعوه لا يدرك من ذلك الأمر شيئًا.

  • (٤١)

    والدعاء يُحدِث آثاره لأن جزءًا من الكون في تعاطف مع جزء آخر، كما هو الحال في الوتر المشدود (في عود)، حيث يمتد التذبذب الآتي من أسفل إلى أعلى. وغالبًا ما يحدث أيضًا، حين يتذبذب أحد الأوتار، أن يستشعر الآخرُ تلك الذبذبة على نحو ما، وذلك حينما يكونان متناغِمَين ومتوافِقَين. بل إن الذبذبة لتنتقل من عود إلى آخر، وهكذا نرى إلى أي حد يذهب التعاطف. وفي الكون أيضًا انسجام واحد حتى ولو كان ينطوي على أضداد؛ إذ إنه ينطوي على أجزاء متشابهة متناغمة مثلما ينطوي على أضداد.

    وعلى ذلك، فكل ما يؤذي الناس، كالغضب الذي يُجذب إلى الكبد بالصفراء، لم يحدث بقصد إيذائهم. فلو حدث أثناء نقلنا نارًا إلى مسكن أن آذينا شخصًا دون أن نكون قد انتوينا ذلك، فإن من تناول النار هو حقًّا فاعل الحرق، وهو الذي تسبب فيه بنقله النارَ من مكان إلى آخر، ولكن ذلك لم يحدث إلا لأن الشيء الذي حُمِل عليه النار عاجز عن تلقيها.

  • (٤٢)

    ونتيجة ذلك أن النجوم ليست بحاجة إلى ذاكرة — وما كان بحثنا لكل هذه المسائل إلا لنصل إلى هذه النتيجة — ولا إلى إحساسات صادرة عن الأشياء. وليس فيها، كما يظن البعض، إرادةٌ لتلبية دعواتنا. وسواء وجَّهنا دعاءنا أم لم نُوجِّهه، فهي تبعث إلينا دائمًا بتأثير ما؛ لأنها مثلنا أجزاء من كون واحد. وفيها قوًى عددية تُمارَس دون إرادة، سواءٌ أدُفعت إلى ذلك بوسائل صناعية أم لم تُدفع؛ ذلك لأن الكون حيٌّ واحد، والأجزاء ينفع بعضها البعض أو يضُره بالطبيعة. وصناعة الأطباء أو السحَرة تَجبر جزءًا على أن يُقدِّم إلى الآخر بعض خصائصه الخاصة. والكون أيضًا ينقل شيئا منه إلى أجزائه، سواءٌ من تِلقاء ذاته، أو بأن يجذب هذا التأثير إلى جزء من أجزائه الخاصة، الذي له — تبعًا لذلك — نفسُ طبيعة الكون؛ ذلك لأن مَن يطلب هذا التأثير بدعواته ليس غريبًا عن الكون.

    وقد يكون صاحبُ الدعاء فاسدًا، وهذا أمر ليس لنا أن ندهش له؛ فالفاسدون ينهلون الماءَ من الأنهار (التي ينهل منها غيرهم)، والموجود الذي يعطي لا يعلم ما يعطيه؛ فهو يُعطي فحسب، ومع ذلك فتلك الأوامر والمِنَح تأتي من طبيعة الكون. وعلى ذلك، فلو أخَذ الفاسد ما هو في متناول الجميع، في حين كان يجب عليه ألا يفعل ذلك، فإن العقاب يتلو تبعًا لقانون ضروري. فلا ينبغي إذن أن يُقال إن الكون ينفعل أو ينبغي بالأحرى أن يكون جزؤه المدبر معصومًا من الانفعال، وأن يطرأ الانفعال على أجزائه «الخاضعة»؛ فالانفعال إذن يطرأ على هذه الأجزاء، ولكن لما كان أي شيء بالنسبة إليه غير مضاد لطبيعته فإن ما يطرأ عليه عندئذٍ لا يدعه يشعر بالانفعال.١٥ والنجوم أيضًا، وإن كانت تستشعر تأثرات، من حيث هي أجزاءٌ للكون، فإنها مع ذلك معصومة من الانفعال لأن إرادتها لا تتأثر، ما دامت أجرامها وطبائعها لا يطرأ عليها أي فساد، ولأنها إن كانت تفعل عن طريق نفسها شيئًا من ذاتها، فإن ما يصدر عنها لا يُدرَك، وإن كانت تتلقى شيئًا ما فإن ما تتلقاه يعلو على إدراكنا.
  • (٤٣)
    فهل للسحر أو التِّرياق على الحكيم أثر؟ إن الحكيم في ذاته لا يخضع لتأثير السحر؛ ففعله لا ينقلب وأحكامه لا تتغير، ومع ذلك فهو ينفعل بهذه النفس اللاعاقلة التي تَرِد إليه من الكون. أو بالأحرى أن هذه النفس هي التي تنفعل فيه. ولكن أي ترياق يعجز عن أن يُثير فيه الحب؛ لأن الحب لا يتم إلا إذا رَضِيَت النفس العاقلة عن انفعال النفس اللاعاقلة. فإذا ما أثرت رُقًى سحرية على نفسه اللاعاقلة، فإنه يتخلَّص منه برُقًى مضادة، ولا يمكن أن تُؤدِّيَ الأولى عنده إلا إلى الموت أو المرضى أو الآلام الجسمية؛١٦ إذ إن الجزء الذي فيه من الكون يتلقى تأثير بقية الأجزاء وتأثير الكون، أمَّا هو ذاته، فلا يعاني من ذلك ضررًا.

    وليس مما هو مضادٌّ للطبيعة ألا يُعانيَ المرء التأثيرات السحريةَ مباشرة، بل بعد مُضيِّ وقت معلوم.

    بل إن الجن ذاتَهم قد ينفعلون بالجزء اللاعاقل فيهم، وليس من الممتنع إطلاقًا أن نعزو إليهم الذاكرة والإحساس؛ فمن المكن أن نَسحَرهم وأن نقودهم بوسائل طبيعية. والجن القريبون من مجال عالمنا الأرضي يمكنهم الاستماع إلى نداءاتها، وتزداد قدرتهم على ذلك كلما قويت صلتهم بهذا المجال. إذ إن كل موجود له صلة بموجود آخر ينجذب إليه، والموجود الذي هو على صلة به يجذبه ويدفعه. ولا يتخلص من السحر سوى الموجود الذي لا يتصل إلا بذاته؛ ولذا كان كل فعل وكل حياة عَملية خاضعة للسحر؛ إذ إننا لا نندفع إلا نحو الأشياء التي تجذبنا. ومن هنا قال أفلاطون: «إن الشعب أريخثيوس ذي القلب الكبير محيا ساحرًا.»١٧ فما الذي يجذبنا إلى الخارج. إننا ننجذب لا بوسائلَ سحرية، وإنما بالطبيعة ذاتِها، التي تَخدعنا وتربط الموجودات بعضها ببعض، لا من حيث المحل، بل بأن تقدم إليها كلها شرابها الساحر.
  • (٤٤)

    إن التأمل وحده هو الذي يعصم من السحر؛ لأنه ما من شخص يقوم بالسحر بإزاء ذاته؛ فهو واحد، والموضوع الذي يتأمله هو ذاته. وعقله لا يزيغ؛ فهو يفعل ما يجب عليه فعله، ويُتم حياته ويُؤدي رسالته الخاصة.

    أمَّا في الحياة العمَلية، فلا تكون حرية المرء ولا عقله هي مصدرَ سلوكه، وإنما يكون الجزء اللاعاقل هو الذي يضع المبادئ، والانفعالات هي التي تضع المقدِّمات. وأثر التجاذب واضح في تربية الأبناء والحرص على الزواج، وكل الملاذِّ التي تسحر الناس وتشبع رغباتهم. وكذلك الحال في أفعالنا التي تخلو من العقل، سواءٌ أكان ما أثارها هو الغضبَ أم الرغبة؛ فالمصالح السياسية وشهوة الرِّياسة يُثيرها حبُّ السيطرة الكامن فينا، والأفعال التي نتجنب بها ألمًا يُحرِّكها الخوف، وتلك التي تهدف إلى زيادة ثروتنا تأتي من الرغبة. فإذا تصرفنا من أجل نفعنا، ولإرضاء حاجاتنا الطبيعية، فواضحٌ أن ذلك نتيجةٌ لضغط الطبيعة التي تجعلنا نتعلق بالحياة.

    – وقد يُقال إن الأفعال حين تكون جميلة، تنجو من السحر، وإلا لما نجا منه التأمل، الذي هو متعلق بأشياء جميلة.

    – وجوابنا أننا إذا أدينا الأفعال التي نقول عنها إنها جميلة لأنها ضرورية، مع تأكيدنا أن الجمال الحقيقي شيء مخالف لذلك تمامًا، فعندئذٍ لا نكون واقعين تحت تأثير سحر؛ إذ نعلم أنها ضرورية، ولا تعود الحياة موجَّهة إلى أسفل ونحو المادة إلا بقدر ما يشاؤه حفظُ الطبيعة البشرية، والميل إلى حفظها في الآخرين وفي أنفسنا. ونتيجةً لهذا الميل، يبدو من المعقول ولا شك ألا نتخلَّى عن الحياة، وبهذا القدر وحده نكون خاضعين للسحر. ولكن إذا أحببنا الجمال الذي في هذه الأفعال، وحكَمْنا عليه بما نراه من آثار مضللة في تلك الأفعال، فعندئذٍ لا نعود نسعى إلَّا إلى جمالٍ أقلَّ قيمة، وبهذا نكون خاضعين للسحر؛ فانصرافنا إلى هذا الحق الظاهري، وانقيادنا له، يعني أننا قد خُدِعنا بما فيه من جاذبية.

    في هذا إذن يكون سحر الطبيعة؛ فطلبُ خيرٍ ليس في حقيقته خيرًا، والانقياد لمظهره بشهوة غير عاقلة يعني أن ينْساق المرء دون وعي حيثما لا يود أن يذهب. وماذا يكون ذلك، إن لم يكن سحرًا؟

    وإذن فلا يُفلِت من السحر إلا ذلك الذي لا ينقاد لجاذبية الملَكات الدنيا في نفسه، ويؤكد أنه لا شيء مما تدعوه تلك الملكات خيرًا هو خير، بل إن الخير الواحد هو ما يعرفه معرفة لا يأتيها الخطأ، دون أن يسعى إليه ما دام يملكه، فلا ينجذب إليه البتة؛ لأنه فيه.

  • (٤٥)

    من كل ما قلناه يتبين لنا بوضوح أن كلًّا من أجزاء الكون يتضافر تبعًا لطبيعته وميوله، مع الكل، ويفعل وينفعل، مثلما يتضافر كلُّ جزء في الكائن الحي تبعًا لطبيعته وتكوينه، ويخدم المجموع في المرتبة التي يستحقها، والعمل الذي يصلح له؛ فكل جزء يعطي من ذاته ويتلقَّى من الآخرين كلَّ ما يمكنه تلقِّيه، ويُحس بالكل إحساسًا باطنًا. وفضلًا عن ذلك، فإذا كان كل جزء في ذاته كائنًا حيًّا، فإنه يؤدي وظائفَ الكائن الحي التي هي مختلفة عن وظائفه بوصفه جزءًا.

ومن الواضح أيضًا فيما يتعلق بنا أننا نمارس تأثيرًا مُعيَّنًا على الكون؛ فنحن لا نتلقَّى من بقية أجزائه كلَّ ما يمكن أن يتقبَّله جسمُنا فحسب، بل إننا بجانب ذلك نُدخل إلى الكون الجزء الآخر من طبيعتنا، وهو النفس. فنحن على اتصال مباشر بكل موجود خارجي عن طريق العنصر الذي فينا من عينِ نوع ذلك الموجود. وهكذا نتصل عن طريق نفوسنا وميولها، أو على الأصح نكون على اتصال بسلسلة الموجودات التي تَلينا في عالم الجن، وبما يعلو على هؤلاء، وعلى هذا النحو لا نُخفِق في إدراك طبيعتنا.

على أننا لسنا جميعًا نُعطي ونأخذ نفس الأشياء. فكيف نَنقل إلى موجود ما لا نَملكه، أعني مثلًا خيرًا نكون قد عَدِمْناه؟ ثم إننا لا نَهب ما نملكه إلى موجود يعجز عن تلقيه. فالموجود الذي أثقلَتْه الرذيلة، يتبدَّى على ما هو عليه، ويندفع وفقًا للطبيعة، نحو الشر الذي غدا كامنًا فيه. فإذا ما تحرر من الجسم، انتقل بانجذابٍ طبيعي إلى المجال الذي يلائم طبيعته. أمَّا الخير فإن ما يأخذه، وما يعطيه، والمجالَ الذي ينتقل إليه، كل هذا مختلف كلَّ الاختلاف، ولكنَّ كلًّا منهما ينجذب إلى مجاله بالطبيعة، وكأنه مشدود نحوه بالحبال.

تلك هي القوة الخارقة والنظام البديع للكون؛ فكل شيء يتم فيه في مسار صامت، تبعًا للعدالة التي لا يُفلِت منها مخلوق. والشرير لا يدري عن هذه العدالة شيئًا، وإن كان ينْقاد دون وعي إلى المكان الذي يجب أن يذهب إليه من الكون. أمَّا الخير فيعرفها، ويذهب حيث يجب أن يذهب. وهو يعلم قبل رحيله أين ينبغي عليه أن يستقر، ويتملَّكه أملٌ قوي في أن مقرَّه سيكون بجوار الآلهة.

ففي الكائن الحي ذي الحجم الضئيل، لا تستشعر الأجزاءُ سوى تغيرات طفيفة وتأثُّرات تعاطفية لا تكاد تُحَس. ومن المستحيل أن تكون هذه الأجزاء ذاتُها حية، إلا في البعض القليل منها. أمَّا في الكون الحي ذي الأبعاد الهائلة، حيث لكل موجود مكان، في هذا الكون الذي يحتوي على كائنات حية كثيرة؛ لا بد أن توجد حركات وتغيرات ذات أهمية كبرى؛ فنحن نرى الشمس والقمر وبقية النجوم تُغيِّر مواضعها وتتحرك في ترتيب منتظِم، فليس من المحال إذن أن تُغيِّر النفوس مواقعها، ولا تحتفظ دائمًا بطابع واحد، بل تتخذ مكانة تتفق وانفعالاتها وأفعالها. فبعضها يتخذ من الكون مكانًا مُناظرًا للرأس في الجسم البشري، وبعضها الآخر يتخذ منه مكانًا يُناظر القدَمَين؛ إذ إن الكون ينطوي على درجات مختلفة من الخير والشر. والنفس التي لم تتخذ في عالمنا هذا أرفعَ مكانة، وإن لم تكن قد اختارت فيه أسوأ مكانة، تكون قد فارقت محلًّا طاهرًا، وهكذا تتلقى المقرَّ الذي آثَرَته. وعقوبات النفس أشبهُ بعلاج للأجزاء المريضة؛ فمع بعض هذه الأجزاء يستخدم الطبيبُ أدوية مُمسِكة وبعضها الآخر يبتره الطبيب أو يُقوِّمه؛ ليُعيد الصحة إلى الكائن العضوي، واضعًا كل عضو حيث ينبغي أن يكون. وبالمثل يحتفظ الكون بصحته بأن يُبدل هذا الجزء، وينقل ذاك من الموضع الذي يكون فيه مريضًا؛ ليضعه في موضع آخر لا ينتابه فيه مرض.

١  يُلاحَظ أن هذا السؤال تكملة للجملة الأخيرة في المقال السابق.
٢  تفسير هذه الفقرة هو أن كمال كل درجة من درجات الوجود هو أن تجعل من نفسها مادةً للدرجة التي تعلو عليها؛ فكمال النفس هو أن تكون مادة ممهِّدة للعقل، متهيئة لتلقِّي الصور منه.
٣  الكون هنا بالمعنى الذي يقترن بالفساد، أي عالم الكون والفساد.
٤  يُلاحَظ هنا أن أفلوطين يُفرِّق بين التفكير ومحاولة التفكير، على أساس أن محاولة التفكير هي الاستدلال، والاستدلال عنده شيمة العقل الناقص الذي يفتقر إلى مشاهدة الحكمة، ولإدراك هدفه بطريق مباشرة، فيلجأ إلى طريق الاستدلال التدريجي.
٥  في هذا النص يقترب أفلوطين من النظرة الحديثة إلى طبيعة الزمان، ويربطه بالعنصر الذاتي في النفس، مخالفًا بذلك أرسطو، الذي عرَّفه تعريفًا موضوعيًّا خالصًا، ذاكرًا أنه «مقدار الحركة بحسبان المتقدم والمتأخر.»
٦  يقترب أفلوطين هنا من رأي أرسطو في إرجاع الحركة الكونية إلى شوق الموجودات إلى الواحد الأول، فيدفعها ذلك إلى الحركة نحوه.
٧  يلجأ أفلوطين هنا إلى تشبيه عناصر النفس الفردية بعناصر المدينة في الحياة السياسية، وهو تشبيه معروف عند أفلاطون. ويُلاحَظ أنه ينتهي كذلك إلى إيثار الحكومة الأرستقراطية على الحكومة الديمقراطية.
٨  أفلاطون، فيليبوس ٣٥.
٩  أفلاطون، طيماوس ٤٠ب.
١٠  هنا يُعبِّر أفلوطين عن اعتقاد شائع في عصره بأن المعادن تنمو ويزداد حجمها وهي في باطن الأرض، وتكف عن النمو إذا انتُزِعَت منها.
١١  ديمتر وهستيا هما الإلهتان اللتان يرمزان دائمًا إلى نفس الأرض عند أفلوطين (انظر الملحق الخاص بالأساطير).
١٢  يُلاحَظ هنا أنه لم يتحدث عن القسم الثالث من تصنيفه، الذي ذكَره في مستهل الفصل، وهو الأفعال الطبيعية التي تنتقل من الأجزاء إلى الكل. وقد أشار إلى تأثيرنا نحن، بوصفنا أجزاء، على الكون في مستهل الفصل ٤٥ من هذا المقال.
١٣  كل هذه أمثلة للأهداف الجزئية التي تسعى الموجودات الفردية في داخل الكون إلى تحقيقها، في مقابل الهدف الواحد للكون.
١٤  في الفقرة الأخيرة تلخيص لكل الحجج التي أراد بها أفلوطين أن ينفي الشرَّ عن الإرادة الواعية للنجوم أي الموجودات الإلهية، أي إنها تلخيص لكل ما ورد بعد الفصل ٣٠ من هذا المقال، الذي أُثيرت فيه مسألة علاقة الشر بالنجوم لأول مرة.
١٥  لأن شرط الانفعال أن يكون ناجمًا من تأثير موجود غريب عن طبيعة المنفعل، وليس في داخل الكون أيُّ شيء غريب عن طبيعته.
١٦  أي إن الرُّقى التي يمكن أن تؤثر على الحكيم قد تضره فيما يتعلق بجسمه، أمَّا نفسه فلا تتأثر قط.
١٧  أفلاطون، محاورة «القيادس الأولى» (١٣٣أ). والعبارة الأصلية هنا: «إن تشعب أريخثيوس ذي القلب الكبير محيا ساحرًا، ولكن ينبغي عليك أن تراه على حقيقته.» وفي هذا الموضوع كان سقراط ينصح القيبادس بألا ينخدع بالشكل الظاهري لشعب أريخيثيوس، أي الإثينيِّين؛ لأنهم يفسدون الناس، ولأن حقيقتهم غير ظاهرهم. ووجه الشبه في هذا الموضوع هو المظهر الخادع الذي يؤدي إلى نوع من السحر يُخفي الحقيقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤