المقال الخامس: في الإشكالات المتعلقة بالنفس (ﺟ)
-
(١)
أرجَأْنا من قبل البحثَ فيما إذا كان الإبصار ممكنًا دون وسط معترض كالهواء أو أي جسم من الأجسام الشفافة، وعلينا الآن أن نبحث هذه المشكلة.
قلنا إن الإبصار، ككل حاسَّة أخرى، يتم بتوسط جسم؛ فالنفس بدون الجسم تكون بأسرها في العالم المعقول، ولما لم يكن الإحساس إدراكًا للمعقولات، بل إدراكًا للمحسوسات فحسب، فلا بد أن تتصل فيه النفس مباشرةً بالمحسوسات وتستخدم وسائطَ تُشبهها لتدرك هذه المحسوسات فتعرفها أو تتأثر بها؛ لهذا كانت معرفة المحسوسات تتم بأعضاء بدنية، وبواسطة هذه الأعضاء التي ترتبط بها النفس وتستمر في الاتصال بها، تتحد النفس بالمحسوسات على نحو ما، عن طريق تبادل التأثير الذي يقوم بينها وبين هذه الأشياء.
فهل ينبغي أن يكون للعضو اتصالٌ مباشر بالأشياء التي تُدرَك؟ لسنا في حاجة قط إلى أن نتساءل هذا السؤال فيما يتعلق بالأشياء التي تُعرَف باللمس، ولكنا هنا نتحدث عن الإبصار — أما السمع، فسنتحدث عنه فيما بعد١ — فهل لا بد في الإبصار من وسطٍ بين العين واللون؟من الممكن أن يوجد بالعرَض وسطٌ يُؤثِّر في العضو، دون أن يُستخدَم في الإبصار. فالجسم الكثيف — كالطين مثلًا — يحُول إذا توسط دون الإبصار. ثم إن الإبصار يزداد وضوحًا كلما كان الوسط أرقَّ وألطف. فهل يمكننا عندئذٍ القول إن الوسط يعين على الإبصار؟ وإن لم نقل ذلك، فهل في وسعنا أن نقول إنه لا يعوقه؟
ولكن قد يُقال إن الوسائط التي نتحدث عنها هي بطبيعتها عوائق، وأن الوسط هو أول ما يتلقى التأثير الحسي ويتقبل انطباعه، ودليل ذلك أنه لو وجَّه شخصٌ نظره إلى لون من موضع مواجهٍ لنا، لرآه مثلنا، وما كان اللون لِيَصل إلى كلٍّ منَّا لو لم يكن يُؤثر في الوسط.
وردُّنا على ذلك هو أنه ليس من الضروري على الإطلاق أن يتأثر الوسط، بل يكفي أن يستشعر التأثر العضو الذي من طبيعته استشعاره، أو أنه إذا تأثر الوسط، فإنما يكون ذلك بطريقة مختلفة تمامًا عن تلك التي يتأثر بها العضو؛ فالعُشب الذي يوضع بين اليد وبين السُّمك الكهربي لا يُحِس نفس التأثر الذي تُحِس به اليد، ومع ذلك ففي هذه الحالة أيضًا يُقال إنه لو لم يكن هناك عشب أو ألياف نباتية، لما تأثرت يدي، وإن يكن هذا أمرًا مشكوكًا فيه؛ إذ يُقال إن الصيادين الذين تقع في شباكهم سمكة كهربية يشعرون بمسها.
ويبدو أن علينا أن نُسلِّم بأن هذه الحالة مما يُسَمَّى بالتعاطف. فعندما يكون من طبيعة موجود أن يتقبل تأثير موجود آخر؛ لأن له منه مُشابهًا، فإن الوسط لا يتأثر إن لم يكن مشابهًا لهما، أو هو على الأقل لا يتأثر على نفس النحو. ولكن إن كان الأمر كذلك، فإن الموجود الذي من طبيعته أن يتأثر بموجود آخر، يزداد تأثره قوةً إلى حد بعيد إن لم يكن ثمة وسط، حتى لو كان من طبيعة هذا الوسط أن يتأثر.
-
(٢)
لو كان قوام الإبصار هو ضمَّ الضوء المنبعث من العين إلى الضوء الذي يقوم بينها وبين الشيء المحسوس، فلا بد إذن من وسط هو هذا الضوء، وذلك هو الوسط الذي يقتضيه فرض «أفلاطون». ولكن إن كان هذا الشيء، أي الجسم المُضاء، هو الفاعل الذي يحدث تغييرًا، فما الذي يمنع من أن يصل هذا التغيير في الحال إلى العين، دون وسط معترض، رغم أن هناك في الظروف الحاليَّة وسطًا أمام العينَين يتلقى التغيير؟
فأما عن أولئك الذين يعُدون النظرة شعاعًا مضيئًا يخرج عن العين، فليس في وُسعهم أن يستنتجوا من ذلك ضرورة وجود وسط معترض، ما لم يخشوا أن يسقط الشعاع البصري خلال سيره. غير أن ذلك شعاع من الضوء، والضوء ينتشر في خط مستقيم. وأمَّا أولئك الذين يُفسِّرون الإبصار بمقاومة «الشيء للشعاع البصري» فلا يمكنهم الاستغناء عن وسط.
ويذكر أصحاب فكرة الصور أن الصور تَعبُر الخلاء؛ ففرضهم يقتضي إذن مكانًا فارغًا، حتى لا تتوقف الصور. وما دامت العقبات أقلَّ ما تكون حيث لا يكون ثَمة وسط، فإن هذا الفرض لا يُخالف رأينا.
وأخيرًا، فأولئك الذين يرَون أن الإبصار يتم بالتعاطف، يقولون إن القدرة على الإبصار تقلُّ حين يكون هناك وسط معترض؛ إذ إن هذا الوسط يعترض التعاطفَ ويعوقه ويُضعفه. والنتيجة التي يجب أن نَستخلصها من تجانس الوسط «مع الموجودات التي في تعاطف» هي أن التعاطف يضعُف إذا كان الوسط ذاته ينفعل، فإذا حدث مثلًا أن مسَّت النار جسمًا ذا سُمك معين فالتهب، فإن أجزاءه الباطنة تتألم من الإصابة بالنار أقلَّ مما تألَّم السطح.
– ومع ذلك، فإذا تعاطفَت أجزاءُ الكائن الحي فيما بينها، فهل يقل تأثر بعضها بالبعض حين يقوم بينها وسط؟
– أجل، سيَقل تأثرها ويَضعف، وهذا أمر اقتضته الطبيعة؛ فالوسط يمنع التأثر من أن يكون مفرطًا، ما لم يكن من شأن الانطباع المنتشِر ألا يتأثَّر به الوسط على الإطلاق.
– ولكن لا يوجد تعاطف إلا بين أجزاء كائن حي واحد. وإذا كنا نتأثر تأثرًا متعاطفًا مع الأشياء، فما ذلك إلا لأننا نحن وهذه الأشياء في كون واحد، ونكون أجزاء لكون واحد. ومن هنا فإن إحساسنا بشيء بعيد يُحتِّم علينا الاعتراف بوسطٍ بيننا وبينه.
– الواقع أنه لا بد من وجود وسطٍ متصل؛ لأن الكون بوصفه كائنًا حيًّا واحدًا لا بد أن يكون متصلًا، ولكن هذا الوسط إنما يتأثر بالعرَض، وإلا للَزِم أن يتأثر كل شيء بكل شيء. على أن الواقع هو أن هناك أشياءَ معينة لا تتأثر إلا بأشياءَ أخرى معينة، فإن كان الأمر كذلك لم يكن الوسط ضروريًّا لها على الإطلاق.
ويقولون إن من الضروري أن يوجد وسط في حالة الإبصار ذاته، ولكنا نتساءل لِمَ كان ذلك ضروريًّا؟ إن من الواضح أن ما يخترق الهواء لا يؤثر فيه — غالبًا — إلا بأن يشقه فحسب. فإذا سقط حجر مثلًا، فإن الشيء الوحيد الذي يطرأ على الهواء هو أن يعجز عن تحمل الحجر. وليس من المعقول أن يُفسَّر هذا السقوط، الذي هو أمر طبيعي، بدفع الهواء الذي يميل إلى الحلول محل الحجر.٢ ولو كان هذا صحيحًا لفسرنا به حركة النار إلى أعلى، وهو محال؛ إذ إن للنار حركةً أسرع تُمكِّنها من سبق الهواء الذي يُقال إنه يدفعها. فإن قيل إن سرعة تلك الدَّفعة تَزيد نتيجة لسرعة الحركة، لكانت حركة النار حركة عرَضية، ولما كانت هناك سبب يدعوها إلى الصعود إلى أعلى. ثم إن الأشجار تنمو إلى أعلى من جذعها، دون أن تتلقى دفعًا، ونحن ذاتنا نشق الهواء حين نسير، ولكنا لا نخضع لدفعه، بل هو يقتصر على أن يملأ الفراغات التي نتركها واحدًا تلو الآخر. فإن كان الهواء إذن يُشَق بواسطة أجسام متحركة دون أن يناله منها تأثير، فما الذي يمنع من أن نُسلِّم بأن الصور البصرية تمر من خلاله، بل دون أن تشطره؟ وفضلًا عن ذلك، فإن كانت هذه لا تخترقه مثلما يُخترَق مجرى نهر، فلِمَ كان ينبغي أن يتأثر الهواء؟ ولِمَ لا يصل التأثير إلينا إلا بتوسطه، وبشرط أن يكون قد تأثر من قبل؟ لو كان الإحساس يسبقه تغير في الهواء، لما كنا نرى الشيء عندما نُولِّي أنظارنا شَطرَه، ولأحسَسْنا بالهواء الموجود بقرب العين وحده، مثلما يحدث في الإحساس بالحرارة ألا نُحِس النار حين تكون بعيدة، بل نُحِس الهواء الساخن المجاور لأعضائنا. وبينما يتم هذا الإحساس بالتلامس، لا نجد في الأشياء المرئية تلامسًا. فالشيء الذي يرى بأن يُوضَع على العين، إذ إن الوسط لا بد أن يُضاء؛ لأن الهواء في ذاته مُعتِم، ولو لم يكن مُعتِمًا، لما كانت به حاجةٌ إلى أن يُضاء، غير أن الظلمة عقَبة في سبيل الإبصار لا بد أن يتغلب عليها النور. ولا شك أن المرء لا يرى الشيء وهو قريب من العين أكثرَ مما ينبغي؛ لأن الشيء عندئذٍ يجلب معه ظلَّ الهواء وظلَّه هو. -
(٣)
ومن الأدلة الناصعة على أن صور الأشياء لا تُنقَل إلى البصر بواسطة الهواء الذي تنتقل انطباعاته تدريجيًّا، أنَّا نرى النار والنجوم بصورها في الليل وظلمته. ولن يُقال هنا إنها قد صدرَت عنها صور وردَت على العين ولمسَتْها من خلال الظلمة. فلو صح هذا لما عادت هناك ظلمة، ما دامت النار تُضيء عندئذٍ هذه الصور. ثم إنه يحدث في الظلمة الحالكة، حين تتوارى النجوم ولا تبعث نورًا، أن يرى المرء نيران المنارات والصواري. فإن قيل، على عكس ما تشهد به الحواس: إن تلك النيران تخترق الهواء، لَوجب أن تُدرِك الحاسة صورة غامضة في الهواء، لا النارَ ذاتَها التي تُدرَك بوضوح. فإذا كنا نرى بالفعل ما هو وراء الوسط المعتم، فمعنى ذلك أن رؤيتنا تزداد وضوحًا حين لا يكون هناك وسط.
فإن اعتُرِض علينا بأن الإبصار مُحال بدون وسط، لكان جوابنا: إنه مُحال بالفعل، ولكن مبعث الاستحالة ليس عدم وجود وسط، بل هو أن تعاطف الكل الحي مع ذاته، وتعاطف أجزائه كلٍّ منها مع الباقين، هذا التعاطف يضيع عندئذٍ؛ لأن شرطه هو الوحدة. وإنه لمن الجلي أن الإحساس لا يتم إلا لأن هذا الكون الحي يتعاطف مع ذاته، وإلا فكيف يتقبل شيء تأثير آخر، وخاصة التأثير عن بُعد؟
ولا شك أنه مما يجدر بنا بحثه أن نتساءل عما يحدث لو كان هناك عالم آخر، وموجود حي آخر لا صلة له بعالمنا، وما إذا كان من الممكن حين توضع عين على قبة السماء أن ترى ذلك العالم من مسافة معقولة، أم أن مثل هذا العالم لا يوجد بالنسبة إلينا. ولكن لِنُرجئ تلك المسألة إلى موضع آخر.٣ولنذكر الآن دليلًا آخر على أن علة الإحساس ليست تأثر الوسط؛ فلو كان الهواء يتأثر، لتأثر ضرورةً على نحوِ ما يتأثر جسم، كالشمع الذي ينطبع عليه خاتَمٌ مثلًا. فعلى كل جزء من الوسط يطبع جزء من الشيء المرئي. وعلى ذلك فلن يتلقى الجزء من الوسط الملامس للعين، لن يتلقى من الشيء المحسوس إلا جزءًا مُساويًا لمساحة إنسان العين. ولكن الواقع أنَّا نرى الشيء كله، وجميع الموجودين في الهواء يرونه، سواءٌ نظروا إليه مواجهة أم من الجانب، وسواءٌ أرأَوه عن قرب أو من خلفه؛ على شرط ألا يحول بينهم وبينه حائل، وعلى ذلك فكل جزء من الهواء ينطوي على الصورة المنظورة بأسرها، فلن تكون هذه ظاهرةً جسمية إذن، بل إن تفسيرها الوحيد هو ضرورة التعاطف في الكون الحي، وهي الضرورة العليا، التي ترتبط بالنفس.
-
(٤)
فما هي إذن علاقة الضوء الملامس للعين بالضوء الذي فيها، وبالضوء الذي يمتد من العين إلى الشيء المحسوس؟
– إن الهواء أوَّلًا ليس ضروريًّا بوصفه وسطًا، وإن قيل إنه ليس ثمةَ ضوء بلا هواء، فإن الهواء بالنسبة إليه لن يكون إلا وسطًا بالعرَض. والضوء ذاته وسط، ولكنه وسط لا يتأثر، ولا حاجة هنا على الإطلاق إلى أن يتأثر الوسط. وعلى ذلك فلا بد من وجود وسط إذا كان هو الضوء، ولكنه لا ينبغي أن يكون وسطًا ماديًّا، ما دام الضوء ليس بجسم. ثم إن العين لا تحتاج إلى ضوء خارجي معترِض لترى بوجه عام، بل لترى عن بعد.
فلنُرجِئ إلى موضع تالٍ بحثَ المسألة الأولى، وأعني بها مسألةَ ما إذا كان من الممكن وجودُ ضوء بلا هواء. ولنبحث الآن المسألة الثانية؛ فإذا افترضنا أوَّلًا أن الحياة تدب في الضوء الملامس للعين إذا امتدت النفس إليه وطرأت عليه، مثلما تدب الحياة في النور الكامن في العين، فعندئذٍ لا يعود الإدراك البصري بحاجة إلى ضوء معترض؛ إذ يغدو الإبصار مشابهًا للَّمس، وتدرك ملَكة الإبصار، حين تُوضَع في الضوء الخارجي، دون أن يتأثر الوسط، وتنتقل عملية الإبصار إلى الشيء.
في هذا الفرض يتعين علينا أن نتساءل إن كان يلزم أن ينتقل الإبصار إلى الشيء؛ لأن هناك مسافةً بين العين وبين الشيء، أم لأن تلك المسافة تحتوي على جسم. فإن كان ذلك لأن المسافة تحتوي على جسم، فإن المرء يرى بمجرد أن تُزاح هذه العقبة، وإن كان ذلك لمجرد أن هناك مسافة، فلا بد أن نفترض أن طبيعة الشيء المرئي ساكنة وسلبية تمامًا في عملية الإبصار، غير أن هذا مُحال؛ إذ إن اللمس لا يعرف الشيء المجاور ويَمسه فحَسْب، بل يتأثر بمختلِف أنواع الصفات الملموسة، وينقلها إلى النفس، فإن لم يعترضه شيء لأحس بها حتى عن بُعد. فنحن نستشعر حرارةَ مِدْفأةٍ في نفس الوقت الذي يستشعرها فيه الهواء المتوسط، ولا ننتظر حتى يسخن الهواء لِنُحِس بالحرارة، بل إن جسمنا الذي هو صُلب يسخن أسرع من الهواء. وإذن فنحن نسخن من خلال الهواء، ولكن لا بفضله. وعلى ذلك فإن كان ثمة شيء له القدرة على أن يفعل، وعضو له القدرة على أن ينفعل، فلِمَ نطلب وسطًا يُمارَس عليه الشيءُ وقدرته؟ إن ذلك معناه أن نطلب عائقًا؛ فعندما يصل نورُ الشمس إلينا، فليس الهواء هو الذي يُحس به أوَّلًا، ونحس من بعده، بل إنَّا نُحس به في نفس الوقت مع الهواء، وغالبًا ما نراه قبل أن يقترب من العين، رغم أنه يُضيء أشياء أخرى. وفي هذه الحالة لا يتأثر الهواء قط، ومع ذلك فنحن نراه. فهنا لا يكون ثمة أي تأثر في الوسط؛ إذ لا يكون الضوء الذي يجب أن يتحد معه ضوء العين قد وصل بعد. وفي هذا الفرض يكون من العسير كذلك أن نُعلِّل رؤيتنا للنجوم والنار ليلًا.
فإذا افترضنا ثانيًا أن النفس تظل في ذاتها، وتستخدم الضوء وكأنه عصًا تُساعدها على السير نحو الشيء المنظور، لوجب أن يكون الإدراك الحسي فعلًا عنيفًا يرجع إلى مقاومة الشيء وإلى توتر الضوء، ولوجب على المحسوس — من حيث إن له لونًا — أن يُبدي مقاومة؛ إذ إن هذا هو الشرط الذي يتم به الاتصال بشيء عن طريق جسم معترض. ثم إن هذا الشيء يجب أن يكون قد اتصل بنا اتصالًا مباشرًا من قبل، دون أي وسط؛ فاللمس غيرُ المباشر لا يمكنه أن يُقدِّم إلينا سوى معرفة مستمَدة، كتلك التي تقوم على الذاكرة والاستدلال، وليس هذا شأن الإدراك البصري.
وأخيرًا فإذا اعترفنا بأن اللون يؤدي أوَّلًا إلى أن ينفعل الضوء القريب من الشيء، ثم ينتقل هذا التأثير تدريجيًّا حتى يصل إلى العين، لأصبح الفرض معادلًا لذلك الذي كان يعترف بأن الشيء المحسوس يُغيِّر الوسط أوَّلًا، وهو فرض ناقشناه من قبل في موضع آخر.
-
(٥)
فإذا انتقلنا إلى السمع، فهل ينبغي فيه أن يتأثر الهواء؟ إن الهواء الموجود بقرب الجسم يتلقى أول دفعة لمصدر الصوت، ثم يتأثر بقية الهواء على نفس النحو حتى الأذن، حيث ينتهي إلى الإحساس. فهل يتأثر الوسط بعكس ذلك عرضًا، ولمجرد أنه يوجد بين مصدر الصوت وبين الأذن؟ وإذا أُزيل الوسط عندما ينشأ الصوت عن احتكاك جسمَين، فهلا ينتقل الصوت مباشرةً إلا حواسنا؟
لا بد أن يهتز الهواء أوَّلًا، ولكن ليس المهم هنا هو الهواء الموجود بين مصدر الصوت وبين الأذن على الإطلاق؛ فالهواء المجاور لمصدر الصوت هو مبدأ الصوت، وما كان يمكن أن ينشأ صوتٌ عن اصطدام جسمَين، لو لم يكن الهواء الذي صدمه تقابلهما ودفعه، يصدمهما بدوره، ثم ينقل الصدمة إلى الهواء الذي يصل إلى الأذنَين والسمع.
ولكن إن كان الهواء، مع الصدمة الناتجة عن حركته، هو مبدأَ الصوت، فمِن أين تأتي الفروق الموجودة فيما بين الأصوات وفيما بين الأنغام؟ إن البرونز يُحدِث صوتًا مختلفًا إن ضرب برونزًا عنه إذا ضرب جسمًا آخر، والأصوات تختلف باختلاف الأجسام. فبينما نجد الهواء كلَّه من نوع واحد، ويتذبذب على نوع واحد، نرى الأصوات تختلف ولا تَقتصِر على التفاوت في الشِّدة والضعف فحسب.
إن الهواء يُحدِث الصوتَ بأن يصدم جسمًا، فليس ذلك من حيث هو هواء؛ إذ إنه لكي يُحدِث صوتًا، فلا بد أن يكون له ثباتُ جسم صُلب، وأن يظل ثابتًا كالجسم الصلب قبل أن يتبدد من جديد. وعلى ذلك فارتطام الأجسام يكفي، والدفعة الناشئة عنه تصل إلى حواسنا، فتكون هي الصوت. ودليل ذلك تلك الأصوات التي نسمعها داخل أجسام الحيوانات دون أن يكون فيها هواء؛ فهي ناتجة عن اصطدام جزء بآخر، كما يحدث مثلًا حين نَثْني مِفصلًا، فتحتكُّ العظام بعضها ببعض، ونسمع أصوات كسر، دون أن يكون هناك هواء.
تلك هي الإشكالات التي يُثيرها السمع، والمسائل هنا مُشابِهة للمسائل المتعلقة بالإبصار؛ فالتأثير السمعي يتطلب بدوره تعاطفًا لا يتم إلا في داخل كائن حي واحد.
-
(٦)
فهل يمكن أن يوجد ضوء بلا هواء؟ أعني مثلًا هل تضيء الشمسُ سطح الأجسام لو حلَّ خلاءٌ محلَّ الوسط الهوائي الذي هو الآن مُضاء بالعرض؛ لأنه يوجد في ذلك الموضع؟ أم أن الأشياء الأخرى تُضاء لأن الهواء يتأثر، بحيث يدين الضوءُ للهواء ببقائه؟ هل لا يعدو الضوء أن يكون تأثرًا من الهواء، لا قوامَ له ما لم تُوجَد الذات المتأثرة؟
إن الضوء أوَّلًا ليس في الأصل تأثرًا من الهواء، كما أنه ليس تأثرًا من الهواء بوصفه هواءً؛ إذ إنه ينتمي إلى كل جسم ملتهب أو لامع؛ فللأحجار اللامعة مثلًا لونٌ مضيء.
– ولكن، أكان يوجد الضوء في انتقاله من تلك الأجسام التي لها لون مضيء إلى جسم آخر، نقول: أكان يوجد لو لم يكن ثَمة هواء؟
– إن كان الضوء كيفيةً فحسب، وكيفية لموجود، فمن الضروري — ما دامت كل كيفية متعلقة بذات — أن نبحث في أي الأجسام يوجد الضوء. ولكن إن كان فاعلية صادرة عن جسم، فلم لا يوجد إذن في المكان المجاور الذي يفترض أنه قد عَدِم كلَّ موجود وأنه خالٍ، ولِمَ لا ينتشر إلى ما وراء ذلك؟ وإن كان يمتد في خط مستقيم، فلِمَ لا يستمر في طريقه دون مَطيَّة؟ وإذا كان من طبيعته أن يسقط فإنه سيَهبط، وما الهواء ولا أي جسم مُضاء بمُستطيع أن يسحبه من الجسم المضيء، أو يُرغِمَه على التقدم؛ إذ إنه ليس عرَضًا لا قوام له إلا في شيء آخر، ولا تأثرًا يتضمن ذاتًا متأثرة، وإلا لَلزِم أن يظل في الذات المضاءة، عندما يغيب المصدر المنير، بينما الواقع أنه يغيب مع مصدره. ونتيجة ذلك أنه كان يأتي معها (حتى ولو لم يكن ثَمة جسم يُنار) فأين هو إذن؟ حَسبُه أن يكون له مكان، وإلا لَفقد جسمُ الشمس الفاعليةَ التي تَصدر عنه، وهي الضوء؛ فالفاعلية تأتي من ذات، ولكنها لا تنتقل إلى ذات أخرى. أمَّا إذا أتت إليها ذات أخرى، فإنها تحس تأثرًا. فكما أن الحياة نشاطٌ للنفس التي يخضع موجودٌ كالجسم لتأثيرها إذا اتحَد معها، وكما أن نشاط النفس هذا يوجد حتى لو لم يكن ثَمة جسمٌ في الوقت الحاليِّ، فما الذي يمنع من أن يكون الأمرُ كذلك بالنسبة إلى الضوء، ما دام هو فاعليةَ الجسم المضيء؟ ليس جسمَ الهواء المعتم هو الذي يُولِّد الضوء، بل الواقع أنه يجعله معتمًا وغيرَ نقي بما يعْلق به من غبار؛ فالقول إنه يولده أشبه بالقول إن شيئًا يغدو حُلوًا إذا مُزِج بشيء مُر. فإن قيل: إن النور تغييرٌ في الهواء، لَوجب أن يُضاف إلى ذلك أن هذا التغيير يُغيِّره هو ذاته، وأن ظلمته تتبدل ولا تعود ظلمة. والواقع أن الهواء حين يُنار يظل كما كان، وكأنه لم يتأثر قط، فلا بد أن يكون التأثير منتميًا إلى الموضوع الذي هو تأثره، غير أن اللون ليس تأثرًا للهواء، بل يوجد في ذاته، وإنما الهواء ماثلٌ بإزائه فحسب. وهنا نختم بحث هذه المسألة.
-
(٧)
فهل يفنى الضوء أم يعود إلى مصدره؟ ربما استخلَصْنا من ذلك شيئًا يُفيدنا في المسألة السابقة.
– لو كان الضوء في الشيء المُضاء، ولو كان الشيء الذي له من الضوء نصيبٌ يمتلك في ذاته هذا القدرَ من الضوء، فربما أمكنَ حينئذٍ القولُ إنه يفنى. أمَّا إذا كان الضوء فعلًا لا يسري خارجَ مصدره، ولولا ذلك لغَمر باطن الشيء وتخلَّله، وتجاوز بذلك الحدودَ التي يقتصر عليها فعلٌ صادر عن موجود فعَّال؛ نقول: إذا كان النور فعلًا من هذا النوع، فإنه لا يفنى طالما بقي المصدرُ المنير. هو يغير مكانه مع مصدره، لا لأنه يتوب إليه، بل لأنه فعله، ولأنه يصحبه دائمًا، ما لم يعُقْه شيء. ولو كانت المسافة بيننا وبين الشمس أضعافَ ما هي عليه، لظل نورها مع ذلك يصل إلينا، إن لم يحُل دون وصوله شيء. ولكنَّ في الجسم المضيء فعلًا باطنًا، ونوعًا من الحياة الفياضة هو مبدأ هذا الفعل الذي هو النور ومصدره. وهذا النور الذي يتجاوز حدودَ الجسم المنير، هو صورةٌ للفعل الباطن؛ فهو فعلٌ ثانٍ لا ينفصل عن الأول. ولكل موجود فعل مشابهٌ له؛ فما أن يوجد ذلك الموجود، حتى يوجد ذلك الفعل أيضًا. وطالما بقي الموجود فإنه يمارس فعله من مسافة تتراوح بُعدًا وقُربًا؛ فهناك أفعال ضعيفة مبهمة، وأخرى تخفى علينا تمامًا، وغيرها قوية تُؤثِّر من بُعد، وفي هذه الحالة الأخيرة، ينبغي أن يوجد الفعل في نفس المكان الذي يُبدي فيه الفاعلُ أثره، ويمتد إلى حيث تمتد قوته. وذلك ما يمكننا أن نلمسه في الحيوانات ذات العيون اللامعة؛ فالضوء الذي فيها يخرج من عينَيها. كما نرى حشراتٍ لها نار مركزية في باطنها، فإذا انفتحت الأجنحة لمعت في الظلمة، وإذا طُوِيَت لم يعُد النور يظهر في الخارج. وفي هذه الحالة لا نقول إنه قد فني، بل ظل موجودًا، ولكنه لا يعود يخرج عن جسم هذه الحشرات. ولكن أيَعود الضوءُ إلى داخل الحيوان؟ كلا، إنه لا يظل يظهر خارجه؛ لأن النار لا تعود تُشِع إلى الخارج، بل تظل متجمعة في الحيوان. ولكن أيتجمَّع الضوء (الصادر عن النار) في الحيوان هو الآخر؟ كلا، بل النار فحسب. والنار تتجمع فيه لأن جزءًا من الجسم (الجناح) يكون حائلًا يعوقها من الظهور في الخارج.
وإذن فالضوء الصادر عن الجسم هو فعل للجسم المنير يتبدى في الخارج. والضوء الذي هو أصلًا في أجسام مضيئة بذاتها، هو ماهية تُناظِر الوجود الصوري لهذه الأجسام، فإذا اختلط جسمٌ كهذا بالمادة، لنتَج عنه اللون. وفعل الضوء لا يُحدِث اللون، بل يصبَغ سطح الأشياء التي يُضيئها فحسب؛ إذ إنه فعل جسم مختلف عن تلك الأشياء، يظل مرتبطًا بالجسم الذي هو فعله، أمَّا الأشياء فلما كانت منفصلة عن هذا الجسم، فهي أيضًا منفصلة عن فعلها.
ولا بد أن يُعَد النور لا جسميًّا خالصًا، وإن كان فعلًا لجسم. ومن هنا لم يكن من الدقة أن نقول إنه قد صدر، أو إنه هناك؛ فتلك ألفاظٌ لها معنًى آخر، ما دام النور في حقيقة الأمر فاعلية. فالصورة في المرآة هي فعلُ الشيء الذي يُرى فيها، والشيء يُمارِس فعله على ما يُمكِنه أن ينفعل دون أن يسريَ منه هو ذاته شيء. فإن كان الشيء حاضرًا، ظهرَت الصورة في المرآة، ورأينا فيها انعكاسَ شكل ملوَّن، أمَّا إذا اختفى الشيء، فإن الوسط الشفاف لا يحتفظ بشيء مما كان لديه عندما كان الشيء يمد فعله إليه.
وكذلك الحال في النفس؛٤ فكل ما يوجد فيها من فعل لنفس سابقة، يبقى ما بَقِيَت هذه النفس، من حيث هو فعل خاضع لغيره.– فما الذي يحدث في حالة قوة ليست فعلًا على الإطلاق، بل نتيجة لفعل، كما هي الحال في حياة خاصة بجسم معين، أو كالنور الذي يوجد مختلِطًا بالجسم؟
– في هذه الحالة الأخيرة يُنتج النورُ اللونَ نتيجة لاختلاطه بجسم.
– فما القول في الحياة الخاصة بجسم معين؟
– إن الجسم إنما تكون له حياة بفضل قرب النفس منه؛ وإذن فحين يفنى الجسم — هذا إن أمكن أن يفقد شيءٌ كلَّ مشاركة في النفس — فما ذلك إلا لأن النفس التي كانت تهبه الحياة، أو النفوس القريبة منه، لم تَعُد تَكفيه، فلا يُمكنه أن يظل حيًّا.
– ولكن هل فَنِيَت هذه الحياة ذاتُها؟
– كلا، ليست هي التي فنيت؛ إذ إنها لم تكن سوى انعكاسِ نور، ولنقل فقط: إنها لم تعد هناك.
-
(٨)
لو كان ثمةَ جسمٌ خارج عن السماء، ولو كانت هناك عين تنظر من هنا دون أن يعترض نظرتَها شيء، فهل ترى ذلك الشيء الذي ليس في تعاطف معها على الإطلاق، ما دام التعاطف لا يقوم إلا بفضل وحدة طبيعة الكائن الحي؟
– ما دام التعاطف ناتجًا عن انتماء الموجودات التي تُحِس والموجودات التي تُحس إلى كائن حي واحد، فلن يعود هناك إحساس، إلا إذا كان ذلك الجسم جزءًا من كوننا، وخارجًا عنه، وفي هذه الحالة قد يُحس.
– ولكن، إن لم يكن جزءًا منه، ولكنه مع ذلك جسم ملوَّن له بقية الصفات الأخرى، أي كان جسمًا كالأجسام التي هنا، ومن نفس نوع العين التي نتحدث عنها، فهلا يُحِس ذلك الجسم؟
– إنه لا يُحِس في هذه الحالة أيضًا، إن كان رأينا صحيحًا. فإذا حاول امرُؤٌ أن يُفنِّد رأينا مستندًا إلى تلك النتيجة ذاتها، قائلًا إن من المحال التسليمَ بأن العين لا ترى اللون الموجود أمامها، وإن بقية الحواسِّ لا تُدرِك الأشياء المحسوسة التي أمامها، فسنرد عليه قائلين: كيف نعلم أن هذه النتيجة تبدو أمرًا مُحالًا؟ أليس صحيحًا أن نفعل وننفعل هنا؛ لأننا كلنا في كون واحد، ولأننا أجزاء في هذا الكون؟ فينبغي إذن أن نبحث فيما إذا كانت هناك أسباب أخرى، فإن كان البحث كافيًا تم البرهان، وإلا فلا بد من أدلة أخرى.
من الواضح أن كل كائن حي يتعاطف مع ذاته، وحسبُه في ذلك أن يكون حيًّا. وأجزاؤه تتعاطف فيما بينها؛ لأنها أجزاء كائن حي واحد.
– وهنا قد يُقال: كلا، إن ذلك راجع إلى تشابه هذه الأجزاء فيما بينها؛ فالإدراك والإحساس يتمَّان في الكائن الحي لأن بينه وبين ما يُدرِكه تشابهًا؛ إذ إن العضو مُشابِه للشيء المدرَك. فالإحساس إذن إدراكٌ بأعضاء مشابِهة للأشياء المدركة؛ فإن كان الكائن الحي يُدرِك الأشياء لا لأنها فيه، بل لأنها مُشابِهة لما فيه، فإنه يدركها بوصفه كائنًا حيًّا. وطالما هو يدرك، فإن الأشياء لا تُدرَك لأنها فيه، بل لأنها مشابهة لما فيه.
– ولكن الأشياء التي نُدرِكها ليست مشابهةً لأعضائنا، إلا لأن نفس الكون قد أوجدَت هذا التشابه حتى تُكيِّفها تبعًا لها. فلنفرض الآن أن نفسًا مختلفة كلَّ الاختلاف تُمارِس فعلها في منطقة منفصلة عن العالم، فإن الأشياء التي نفترض أن تلك النفس قد خلقَتها هناك، والتي تُشبِه الأشياء التي لدينا في هذا العالم، لن يكون لها وجود بالنسبة إلى النفس في عالمنا هذا.
وقد يُقال إن هذا محال، غير أن هذه الإحالة تنمُّ عن علتها الحقيقية، وهي التناقض الذي ينطوي عليه الفرض. فذلك الفرض يتحدث عن شيء هو نفس وليس نفسًا في الوقت ذاته. وهو يتحدث عن الأشياء ذاتِها بوصفها من نوع واحد، ومن نوع مختلف معًا، متشابهة ومتباينة في الآن نفسه. وهو زعم زاخرٌ بالتناقض، لا يستحق حتى اسم الفرض؛ فهو يُسلِّم مقدمًا بأن في هذه المنطقة المتميزة نفسًا، ويؤكد بالتالي أن كوننا كلٌّ، وأنه ليس كلًّا، وأنه مختلف عن الكل ولا يختلف عن أشياء معيَّنة، وأن العدم ليس العدم، وأخيرًا أنه كامل وليس كاملًا. فالواجب إذن أن نتخلى عن هذا الفرض، وليس علينا أن نبحث عن نتائجه، ما دامت تهدم نفسَها بنفسها.