المقال السادس
-
(١)
ليست الإحساسات أشكالًا ولا علاماتٍ تنطبع في النفس؛ وبالتالي فليس قوام الذكريات هو حِفظَ المعارف أو الإحساسات في النفس عن طريق إبقاء هذه العلامات، ما دامت هذه العلامات غير موجودة؛ فالرأي القائل بانطباع العلامات في النفس هو ذاته الذي يُسلِّم بأن التذكر يرجع إلى بقاء هذه العلامات، والرأي الذي ينكر أحد هذَين الأمرَين ينكر الآخر. وما دمنا نرفض الأمرَين معًا، فعلينا أن نبحث عن الطريقة التي يتم بها الإحساس والذاكرة؛ إذ إننا نرى أنه لا تحدث في النفس أية علامة للشيء المحسوس ترتسم فيها صورته، وأن التذكر ليس راجعًا إلى بقاء هذه العلامة.
فلنتأمل ما يحدث في حالة أكثر الإحساسات وضوحًا، وسنهتدي ولا شك إلى ما نبحث عنه إذا طبقنا النتائج التي نصل إليها على بقية حالات الإحساس. إننا عندما ندرك شيئًا معينًا بالبصر، فمن الجليِّ أننا نراه دائمًا عن بُعد، ونتوجه إليه ببصرنا. وواضحٌ أن التأثر يتم في المكان الذي يوجد فيه الشيء؛ فالنفس ترى ما هو خارجها، ولا تنطبع فيها علامة، ورؤيتها ليست راجعةً إلى كونها قد شُكِّلَت على مثال الشيء، كما يُشكَّل الشمع بالخاتم؛ إذ لو كانت في داخلها صورة الشيء الذي تراه لما كانت في حاجة إلى التطلع خارجها، ولاكتفَت بالتطلُّع إلى العلامة المنطبعة فيها. وفضلًا عن ذلك، فالنفس تنسب إلى الشيء مسافةً ما، وتعلم من أيِّ بُعد تراه، فكيف يكون في وسعها أن ترى الشيء فيها، بينما هو مفارق لها وبعيد عنها؟ ثم إنها تستطيع أن تذكر أبعاد الشيء الخارجي، فتعلم أن هذا الشيء — كالسماء مثلًا — كبير. فكيف يتسنى لها ذلك، ما دام الانطباع لا يمكن أن يكون في مثل حجم الشيء؟ وأخيرًا — وهذه أقوى الحجج — فنحن إذا اقتصرنا على إدراك علامات الأشياء التي نراها، فلن نستطيع رؤية الأشياء ذاتها، بل سنرى صورًا أو ظلالًا لهذه الأشياء فحسب؛ فالأشياء ذاتها غير ما نراه، ثم إنه إن لم يكن ممكنًا، كما هو معروف، أن يُرى شيءٌ موضوع على إنسان العين، بل يجب أن يبعد ليُرى، فعلينا بالأحرى أن ننقل هذا الاعتبار إلى النفس، فلو وضعنا فيها علامة الشيء المرئي، لما أمكَنها أن ترى ذات الشيء الذي طبع صورته؛ ذلك لأنه لا بد في الإبصار من أمرين: شيء يرى وشيء يُرى. فإذا كان ما يرى متميزًا عما يُرى، فعندئذٍ ينبغي ألا يكون ما يرى في نفس موضع ما يُرى؛ وبالتالي ينبغي ألا يكون فيه. فنحن لا نرى ما يوجد في النفس التي تُبصِر، بل ما لا يوجد فيها، وذلك هو شرط الإبصار.
-
(٢)
ولكن، إن لم يكن الإحساس يتم على هذا النحو، فكيف يتم؟ إن الإحساس يحكم على أشياء لا يشتمل عليها في ذاته؛ إذ إن من شأن كل ملَكة في النفس ألا تتلقَّى مؤثرات، بل تُمارس قوتها ونشاطها في أشياء مناظِرة لها.١ وهكذا تستطيع النفس أن تُميِّز الموضوع الذي يُرى من الموضوع الذي يُسمَع. وهذا التمييز كان يغدو محالًا، لو كانت الإحساساتُ علاماتٍ منطبعةً، وإنما هو ممكن لأن الإحساسات ليست علامات، ولا انطباعات سلبية، بل هي أفعال متعلقة بالموضوع الذي تناظره في النفس. ولكنَّا لما كنا على يقين من أن كل قوة من قُوى الإحساس لا تستطيع أن تعرف موضوعها الخاص إن لم تكن قد تلقَّت منه صدمة، فإنَّا نُسلِّم بأنها تنفعل نتيجة لهذه الصدمة، لا بأنها تعرف ذلك الموضوع الذي يناظرها، ونُسلِّم مع ذلك بأن من طبيعتها أن تكون هي المسيطِرة، لا أن يُسيطَر عليها.
ولا بد أن يكون الأمر كذلك في السمع؛ ففي الهواء علامةٌ قوامها سلسلة من الصدمات المتميزة، والحروف مرتسمة فيه على نحو ما، بواسطة مصدر الأصوات، ثم تقرأ ملَكةُ السمع وجوهرُ النفس ذاتُه الصفاتِ المكتوبةَ في الهواء، وذلك عندما تقترب هذه الصفات اقترابًا كافيًا من العضو الذي يدرك هذه الصفات وفقًا للطبيعة إذا دخلت فيه. وفي الذوق والشم تأثرات سلبية، أمَّا الإدراكات والمعرفة المتميزة للروائح والطعوم، فتلك معارفُ لهذه التأثرات السلبية، وليست هي التأثراتِ ذاتَها. وأمَّا عن معرفة المعقولات، فهي بالأحرى خاليةٌ من التأثرات السلبية والعلامات المنطبعة؛ إذ إنها — على عكس الإحساسات — تنبثق من الداخل، بينما المعرفة تأتي من الخارج. والموجودات العقلية هي أفعال إيجابية، بمعنًى أوضح، وهي في ذلك تفوق الإحساسات؛ إذ إن المعرفة تعرف ذاتَها فيها، وكل معقول هو فعل المعرفة ذاته.
فهل النفس التي تَعرف ذاتها تزدوج، وكأن جزءًا منها يرى (وجزءًا آخر يُرى)، بينما هي تَرى العقل واحدًا والذات والموضوع فيه شيئًا واحدًا؟ هذا ما سنَعرض له في موضع آخر.
-
(٣)
بقي أمامنا بعد ما قلناه أن نتحدث عن الذاكرة؛ فليس بالأمر المستغرَب — أو بالأحرى هو أمر مستغرَب، ولكنه مع ذلك جديرٌ بتصديقنا — أن تكون للنفس قوةٌ من شأنها أن تُدرِك أمورًا لا تتضمَّن فيها، وذلك دون أن تتلقى في ذاتها شيئًا؛ فالنفس في الحق هي المبدأ العاقل لكل شيء، وبوصفها مبدأً عاقلًا، فهي آخرُ الحقائق المعقولة أو الأشياء المتضمَّنة في الحقيقة المعقولة، وأول ما في العالم المحسوس. فهي إذن على صلةٍ بهذَين العالَمَين؛ هي بأحدهما سعيدة تدبُّ فيها الحياة، أمَّا الآخر فيَخدعها بتشابُهه مع الأول، فتهبط إليه وكأنها تحت تأثير انجذابٍ سحري.
ولما كانت بين الاثنَين، فهي تُدرِكهما معًا. ويُقال عنها إنها تفهم المعقولات عندما تتذكرها وتقترب منها. وإذا كانت تعرفها، فذلك لأنها هي هذه المعقولات ذاتها على نحو ما، وهي لا تعرف المعقولات لأن هذه موجودة فيها، بل لأن النفس تملكها على نحوٍ ما وتراها، ولأنها هي هذه المعقولات ذاتها على نحو غامض. ولكن حين تتيقظ بطريقة ما، وتنتقل من القوة إلى العمل، تغدو هذه المعقولات أوضحَ أمامها بعد أن كانت غامضة. وهي كذلك مرتبطة بالمحسوسات؛ فهي تُضيئها بنوع من الإشعاع ينبع منها، وبفضل فاعلية النفس تكون هذه الموجوداتُ أمام أنظارها؛ إذ إن القوة التي لديها متجهة نحو هذا الفعل، وتنشط هذه القوة حين تكون على صلة بالمحسوسات. وعندما تتوجه النفس بقوة إلى أحد الموضوعات التي تُدرِكها، تَظل طويلًا محتفظة باتجاهها نحو هذا الموضوع وكأنه ماثلٌ أمامها، ويطول هذا الاحتفاظ بقدرِ ما يزداد اتجاهها قوة؛ لهذا كانت ذاكرة الأطفال أقوى؛ فذكرياتهم لا تُفارقهم وتظل ماثلة أمام أنظارهم؛ لأنهم ما زالوا يرَون عددًا محدودًا من الموضوعات فحسب. أمَّا عندما يمتد التفكير والإدراك الحسي إلى عددٍ كبير من الموضوعات فإن المرء يمرُّ عليها مرًّا سريعًا دون تريُّث.
ولو كان ما يُحفَظ في الذاكرة علاماتٍ منطبعةً بحق، لما قلَّل عددُها من قدرة ذاكرتنا. وفضلًا عن ذلك، فلو صح هذا الفرض لما كان ثمة حاجة إلى التفكير لإحياء الذكريات، ولما كان المرء ينسى أوَّلًا ثم يتذكر بعد ذلك، ما دامت الانطباعات موجودة على الدوام. كما أن من الواضح أنه يترتب على مِران الذاكرة زيادةٌ في قوة النفس، مثلما يُمكِّننا التمرينُ الذي نُمارسه بأيدينا أو بأرجلنا من أن نفعل بسهولة أشياءَ لم يكن في وُسعِنا أن نفعلها، ونقدر عليها الآن بفضل التَّكرار المتصِل. فلِم لا يتذكر المرءُ الشيءَ عندما يسمعه مرة أو مرتَين، ثم يتذكره عندما يسمعه مرات عديدة؟ ولِمَ يتذكر المرء بعد مُضيِّ وقت طويل شيئًا لم يكن قد وعاه حين كان يسمعه؟ لا نستطيع أن نُعلل ذلك بأن المرء لم يكن لديه في بادئ الأمر سوى أجزاء من العلامة الكلية. فلو صح هذا التعليلُ لوجَب أن يتذكر المرءُ عندئذٍ هذه الأجزاء، ولكن الذي يحدث هو أنه يتذكر كل شيء دفعة واحدة، بعد آخر سماع أو بعد آخر تدريب. تلك كلها براهينُ على أن من الممكن أن تَقْوى ملَكة الذاكرة في النفس، وأن تدعم — تبعًا لذلك — القدرة العامة على التذكر، أو القدرة على تذكر شيء بعينه. ولكنَّا لا نَكتسب بالمران تذكُّر الأشياء التي تدرَّبنا على تعلمها فحسب؛ فبجانب كل ما يظل في ذاكرتنا بفضل عادة التمرُّن على الكلمات، يُيسِّر لنا ذلك استعادة كثير من الذكريات الأخرى. فما علة ذلك إن لم تكن ما طرأ على قوة التذكر ذاتها من تدعيم؟
أمَّا القول ببقاء العلامات في النفس، فهو مَظهرُ ضعفٍ أكثر منه مظهر قوة؛ إذ إن قدرة الجسم على تلقِّي العلامات تَزداد بازدياد سهولة تقبله لها. ولما كان انطباعُ العلامة أمرًا سلبيًّا، فإن معنى ذلك أن تزداد ذاكرةُ المرء قوة كلما كان أكثر سلبية، غير أن ما يحدث هو العكس؛ فلم يحدث في أية حالة أن أدى المران إلى زيادة السلبية. ففي حالة الإحساسات ذاتها لا تكون العين الضعيفة هي التي ترى خيرًا من غيرها، بل العين التي لديها قدرة أكبر على الفعل؛ لهذا كان ضعف الإحساس في الشيخوخة مقترنًا بضعف الذاكرة؛ فالإحساس، كالذاكرة، هو قوة معينة. فإن لم تكن الإحساسات علامات، فكيف يكون قِوام الذاكرة هو حِفظَ شيء معين لم يُودَع في النفس أبدًا، حتى ولا في نقطة بداية التذكر؟
– ولكن إن كانت الذاكرةُ قدرةً تُمكِّننا من أن تكون لنا ذكرياتٌ في متناول أيدينا، فلِم لا نَستدعي الأشياءَ في نفس الوقت الذي نتعلمها فيه، وإنما فيما بعد؟
ذلك لأنَّ من الواجب أوَّلًا تثبيتَ هذه القدرة وتهيئتَها. وذلك ما نَلمسه أيضًا في بقية القدرات؛ فهي لا تكون فعالة إلا إذا هُيِّئَت لذلك. وهي تسلك تارة مباشرة، وتارة لا تسلك إلا بعد أن تَستجمع قُواها.
وفي معظم الأحيان لا تقترن قوة الذاكرة بذكاء العقل؛ إذ إن هاتَين ملَكتان متبايِنتان. والمصارع الجيد لا يكون في الغالب عَدَّاءً جيدًا؛ فلكلٍّ طابعٌ يغلب عليه.