المقال السابع
-
(١)
هل كلُّ إنسان خالد، أم هو بأسره فانٍ؟ أم أن أجزاء معينة مِنَّا تنتهي إلى الفساد والفناء، بينما البعض الآخر، الذي هو نحن بحق، يظل على الدوام باقيًا؟ في وُسعنا أن نَعرف ذلك عندما نبحث في أمر طبيعتنا.
فلا شك أن الإنسان ليس موجودًا بسيطًا، بل له نفس وله أيضًا جسم، سواءٌ أكان ذلك الجسم بمثابة الأداة للنفس، أو كان مرتبطًا بها على نحو آخر. فلنُسلِّم إذن بهذا التقسيم، ولنبحث طبيعة كلٍّ من الطرَفَين وماهيته.
إن الجسم ذاته مركب؛ لذا يدلنا العقل على أنه لا يمكن أن يظل متماسكًا، كما يراه الإحساس مُفكَّكًا متحلِّلًا، خاضعًا لمختلف ضروب الفساد، بحيث يعود كلٌّ من مكوناته إلى أصله. وإن الأجسام ليُفسِد بعضها بعضًا، ويُحيله جسمًا آخر، ويؤدي به إلى الفساد، وخاصة عندما لا تعود النفس، التي تجمع بينهما بالصحة، قائمةً في كُتلتَيهما. وحتى لو تأملنا الأشياء التي هي واحدةٌ بالفطرة، فلن نجدها واحدة بحق؛ إذ إنها تنقسم إلى صورة وهيولى، وهما القسمان اللذان تتركَّب منهما الأجسام ذاتها بالضرورة. ثم إن لهذه الأجسام، من حيث هي أجسامٌ، حجمًا، وهي تنقسم وتتجزأ إلى دقائق، وبهذا تتعرض للفساد.
وإذن فإن كان الجسم جزءًا مِنَّا، فنحن لسنا بأسرنا خالدين. وما دام الجسم أداة، فيَنبغي أن تكون الطبيعةُ قد أعطَته لنا بوصفِه أداةً لوقت معلومٍ فحسب. ولكن أهم ما في الإنسان، أي الإنسان ذاته، هو (للجسم) بمثابة الصورة للمادة، أو بمثابة الفاعل للأداة، وفي الحالين يكون الإنسانُ الحق هو النفس.
-
(٢)
فما طبيعة تلك النفس إذن؟ إن كانت جسمًا، كانت قابلة للفساد التام؛ إذ إن كل جسم مركب.
وإن لم تكن جسمًا، بل طبيعة أخرى، فلا بد أن نبحث تلك الطبيعة؛ إمَّا على نفس النحو، أو على نحو آخر. ولكن علينا أوَّلًا أن نبحث إلام يتحلل هذا الجسم الذي هو النفس، لو كانت النفس جسمًا؛ فما دامت الحياة تنتمي إلى النفس ضرورة، فإن هذا الجسم، الذي هو نفس، لو كان مركبًا من جسمَين أو أكثر فلا بد؛ إمَّا أن يكون لكل منهما — أو لكل منهم إن كانوا أكثر من اثنَين — حياةٌ كامنة فيه، أو أن يكون لأحدهما دون الآخر حياة، أو ألا يكون لأيٍّ منهما حياة؛ فإن كانت الحياة تنتمي إلى واحد من هذه الأجسام، فهو النفس. ولكن ماذا عسى أن يكون ذلك الجسم الذي تنتمي إليه الحياة في ذاته؟ إن النار والهواء والماء والتراب هي في ذاتها موجودات غير حية. وإن اتصف أحدها بالحياة فما هي إلا حياة مستفادة. على أنه ليست هناك أجسامٌ عدا هذه.١ أمَّا إذا قال أحدٌ بعناصرَ أخرى فهو لا يذكر أنها نفوس، وإنما أجسام، وأجسام غير حية. ولكن إن لم يكن لواحد من هذه الأجسام حياة، فمن المحال أن تنشأ الحياة من تجمعها. وإن كان لكلٍّ منها حياة، فليس هناك ما يدعو إلى أن تتركب النفس من أكثر من جسم واحد. ولكن الأكثر من ذلك استحالةً أن تنشأ الحياةُ من تجمع الأجسام، وأن يتولد العقل من أشياء عدمت العقل.– وقد يُقال: أجل، ولكن أليس هذا المركب مزيجًا؟ (والمزيج هو علة الحياة.)
– فيَلزم عندئذٍ أن يكون ثَمة مُنظِّم وعلةٌ للمزيج، وهذه العلة هي التي تكون لها مرتبة النفس؛ إذ إنه لولا النفسُ التي في الكون لما وُجِد في الواقع جسمٌ مركَّب، بل ولا جسم بسيط، ما دام الجسم يدينُ بوجوده إلى المبدأ العاقل في تلك النفس، وما دام ذلك المبدأ العاقل لا يأتي إلا من نفس.
-
(٣)
فإن قال قائلٌ إن الأمر ليس كذلك، بل تنشأ النفس عن تجمع ذرات أو أجزاء لا تتجزأ؛ فإن اتحاد أجزاء النفس وتعاطفها يُفنِّد هذا الرأي، ما دام لا يمكن أن يقوم بين هذه الأجسام الجامدة التي تعجز عن الاتحاد في جسم واحد أيُّ تداخل أو تعاطف، بينما النفس متعاطفة مع ذاتها. وفضلًا عن ذلك، فالجسم والحجم لا يمكن أن يأتيا من موجودات لا تنقسم.٢
ولكن قد يُقال إن الجسم بسيط، وإن هيولاه لا تَملك الحياة بذاتها — إذ إن الهيولى عارية عن كل صفة — وإنما مصدر الحياة هو ما في مرتبة الصورة. ويترتب على ذلك أن يُقال إن هذه الصورة جوهر، وعندئذٍ لا يكون ازدواج الهيولى والصورةِ هو النفسَ، بل أحد هذَين الحدَّين. وهذا الحد ليس جسمًا — إذ لو كانت تُداخِله هيولى، فسنُحلِّلها على نفس النحو — أو يُقال إن الصورة هي حال من أحوال الهيولى وليست جوهرًا، وعندئذٍ ينبغي أن يُقال من أين يرد هذا الحال وهذه الحياة على الهيولى؛ إذ ليست الهيولى هي التي تضع لذاتها صورة، أو تجلب لها نفسًا.
فينبغي إذن أن يوجد شيء يهب الحياة. فإن لم تكن تلك المهمة من شأن الهيولى ولا أي جسم بعينه، فيلزم أن يكون هذا الشيء خارجًا عن كل طبيعةٍ جسمية ومغايرًا لها؛ إذ إنه لو لم توجد قوة النفس، لما وُجِدَت الأجسام ذاتها؛ فطبيعة الأجسام هي أن تتحول وتكون في حركة، ولو لم يكن هناك سوى أجسام، لفَنِي الجسم في الحال، حتى لو أطلقنا على أحد هذه الأجسام اسم النفس؛ إذ يُلاقي هذا الجسمُ مصير الباقين، ما دام الجميع لا ينطوون إلا على هيولى. أو أنه بالأحرى ما كان لِيَظهر قط، بل لتوقف كل شيء في مرحلة الهيولى، لو لم يكن هناك شيء يُضفي عليها صورة. بل ربما لم تكن الهيولى ذاتها لتوجد إطلاقًا. ولو كنا نعهد إلى جسم يضم أجزاء هذا الكون، وننسب إلى جسم كالهواء أو النَّفَس مرتبةَ النفْس بل واسمَها، لفَنِيَ هذا الكون؛ إذ إن هذه موجودات شديدة التفكُّك ليست لها في ذاتها أيةُ وحدة. فما دامت كل الأجسام منقسمة، فكيف نعهد بالكون إلى واحد بعينه منها، دون أن يُؤديَ ذلك إلى أن نجعل من الكون موجودًا غيرَ عاقل يتحرك خبط عشواء؟ وأي نظام يكون في النَّفَس الذي يدين للنفْس بنظامه؟ وأي فَهم؟ أمَّا إن كانت النفْس موجودة، لاستَخدمت كل ذلك من أجل تكوين عالم وموجودات حية، ولساهمت كل قوة من جانبها مع المجموع. فبدون النفْس لا يكون شيء على الإطلاق، ولن يكون النظام عندئذٍ هو وحده ما نفتقر إليه.
-
(٤)
ولقد أقر الخصوم ذاتهم (يعني الرواقيين) بهذه الحقيقة، وهي أنه لا بد قبل الأجسام من صورة لنفس أعلى منها، ما دام النَّفَس في رأيهم عاقلًا، ونارًا عاقلة. ولكن، ما أعجبَ قولَهم إن خير ما في الموجودات لا يمكنه أن يوجد دون نار ودون نفس، وكأنه يبحث فيهما عن مكان ليستقر فيه! مع أن الواجب بالأحرى هو أن نبحث أين يكون موضع الأجسام من العقل، وما المكان الذي ينبغي أن تحتلَّه الأجسام بين قُوى النفس.
فإن قالوا إن الحياة والنفس ليسا سوى نَفَس، فما هو إذن، في نظرهم، ذلك «الحال من أحوال الوجود» الذي طالما قالوا به، والذي أهابوا به هنا، مضطرين إلى الاعتراف بطبيعةٍ فعَّالة مختلفة عن الأجسام؟ فإن لم يكن نَفَسٌ نفْسًا، ما دام هناك آلاف من الأنفاس غيرِ الحية، وإن كانت النفس في نظرهم مع ذلك هي النَّفَس، ولكن على حال آخر من أحوال الوجود، فإنهم سيقولون إمَّا بأن حال الوجود هذا، أو الميل، هو وجود حقيقي، أو بأنه ليس شيئًا على الإطلاق. فإن لم يكن شيئًا على الإطلاق، لوُجِد النَّفَس وحده، ولكان «حال الوجود» هذا لفظًا فحَسْب. ويترتب على ذلك أن يقولوا إنه لا شيء يوجد ما خلا المادة، وإن النفس والله ليسا سوى ألفاظ، وإن المادة توجد وحدها. ولكن إن كان «ميل» الموجود شيئًا آخر غير «حامله»، وإن كان يوجد في المادة، مع كونه هو ذاته لا ماديًّا؛ لأنه ليس مركبًا من المادة، فهناك إذن عقل ليس جسمًا، ولكنه طبيعة مختلفة عن الجسم.
وفضلًا عن ذلك، فتبعًا للأسباب السابقة، يكون القول بأن النفس جسمٌ معين أمرًا لا يقل عن ذلك امتناعًا؛ إذ إنها لو كانت كذلك، لكانت جسمًا حارًّا أو باردًا، صُلبًا أو لينًا، سائلًا أو يابسًا، أسود أو أبيض، أي له كل الخصائص التي تنتمي إلى صفات الجسم. فإن كان هذا الجسم الذي يكون النفس حارًّا لسخن فقط، وإن كان جسمًا باردًا برد، وإن كان خفيفًا خفف، وإن كان ثقيلًا ثقل، وإن كان أسود سود، وإن كان أبيض بيض؛ ما دامت النار ليس من شأنها أن تبرد، ولا البارد يسخن. على أن النفس يختلف فعلها باختلاف الكائنات الحية، وتقوم في الحيوان الواحد بأفعال متضادة، فتجمد أجزاء معينة وتُلين أجزاء أخرى، وتكثف وتخلخل، وتُبيض وتسود وتخفف وتثقل. ولو صح قولهم لما وجب أن تُحدِث إلا أثرًا واحدًا تبعًا لكل صفة من صفات جسمها، وبخاصة تبعًا للونها، ولكن الواقع أنها تُحدث آثارًا عديدة.
-
(٥)
ومن المعلوم أن كل جسم ليست له سوى حركةٍ واحدة، فكيف إذن تَنتج عن النفس حركاتٌ مختلفة، لا حركة واحدة، لو كانت النفس جسمًا؟ إن من الأفعال المختلفة ما يتم باختيارٍ إرادي، ومنها ما يتم بواسطة مبادئ عاقلة. ولكن لا الاختيار ولا المبادئ العاقلة ينتمي إلى الأجسام، ما دامت تلك المبادئ تنطوي على فروق. أمَّا الجسم فهو واحد وبسيط، ولا يشارك إلا في المبدأ الذي يُضفي عليه صفته المتميزة، ككونه حارًّا أو باردًا.
وفضلًا عن ذلك، فمن أين تأتي الجسمَ القدرةُ على إنماء جسم آخر منه بالتدريج إلى حد معين؟ إن له القدرةَ على النمو، لا على الإنماء، إلا إذا قلنا إن الإنماء يتم بواسطة النفس التي تَستخدم جزءًا من الكتلة المادية لِتُحدِث بواسطته النمو. فإن كانت النفس جسمًا، فينبغي أن تنمو هي ذاتُها، وواضحٌ أن ذلك يكون بإضافة جسم مشابه لها، إن كان يتعين أن تنمو بنسبة مطَّرِدة مع الجسم الذي تُنميه. على أن الجزء المضاف سيكون إمَّا نفسًا أو جسمًا غيرَ حي؛ فإن كان نفسًا، فمن أين يأتي، وكيف يدخل، وكيف يُضاف؟ وإن كان غير حي، فكيف ينتقل إلى الحياة ويكون على وفاق مع ذلك الجزء من النفس الذي كان يوجد من قبل؟ وكيف يمكن أن تتحقق الوحدة؟ وكيف يشارك ذلك الجزء في الأحكام التي يُصدِرها الجزء الأول؟ وهلا يكون أشبهَ بنفس غريبة تجهل ما تعلمه الأخرى؟ إن حاله سيكون كحال بقية الكتلة المادية التي نتركب نحن منها؛ إذ يخرج منها جزء ويَدخل جزء، دون أن تظل في هوية مع ذاتها. وكيف تتم ذكرياتنا؟ وكيف نتعرف على أقربائنا إن كانت نفسهم غريبة عَنَّا تمامًا؟
إنهم يقولون إن النفس جسم، غير أن كل جزء في الجسم المنقسم إلى أجزاء عديدة، ليس مماثلًا للكل. وعلى ذلك، فإما أن يكون للنفس مقدارٌ معلوم، بحيث إنها إذا نقَصَت لم تَعُد نفسًا، مثلما تتحول كمية معينة بالطرح إلى كمية مختلفة، أو أن مقدارها من شأنه إذا نقص أن يظل كما هو من حيث الكيف، وعندئذٍ تختلف من حيث هي جسم عنها من حيث هي كيف، ولكنها تستطيع بكيفها الذي هو مختلف عن كَمِّها أن تحتفظ بهُويتها. فلنسأل أولئك الذين يُؤكِّدون أن النفس جسم: هل كل جزء من النفس التي تكون في جسم واحد، هو نفسٌ كالمجموع؟ وهل جزءُ الجزء هو أيضًا نفس كالمجموع؟ عندئذٍ لا يُضيف المقدار شيئًا إلى ماهيَّتها، مع أن الواجب أن يضيف، ما دامت كَمًّا. ثم إن النفس تكون كلها في مواضعَ عديدة، بينما أن من المحال على جسم أن يكون كله في مواضع متعددة، أو أن تكون أجزاؤه في هوية مع الكل.
فإن قالوا إن كل جزء من النفس ليس نفسًا، فعندئذٍ سيكون قوام النفس أشياء غير حية. وفضلًا عن ذلك، فإن كان لكل نفس مقدارٌ ينحصر بين حدَّين؛ الأكبر والأصغر، لما عاد ما يخرج من هذَين الحدَّين نفسًا. ومع ذلك، فعندما يُولَد توائمُ أو عددٌ كبير من الصغار — كما في بقية الحيوانات — في ولادةٍ واحدة ومن بَذْرة واحدة، فإن البذرة تنقسم عندئذٍ إلى مواضعَ عديدة، ويكون كل واحد من أجزائها كلًّا. وهذه الظاهرة تكفي لإقناع أولئك الذين يُنكِرون أن الموجود الذي يكون الجزء منه في هوية مع الكل يعلو في ماهيته على الوجود الكَمي، وينبغي أن يكون بالضرورة بغير كَم. فنحن لو نزعنا عنه الكم، لظل مع ذلك كما هو؛ لأنه لا شأن له بالكم ولا بالكتلة، ولأن ماهيته تختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فالنفس إذن ليس لها كَم.
-
(٦)
ولو كانت النفس جسمًا، لما كان هناك إحساس ولا فكر، ولا علم، ولا فضيلة، ولا أمانة بوجه عام؛ وذلك يتضح مما يلي:
ينبغي على النفس، لكي تُحِس شيئًا ما، أن تكون واحدة، وأن يُدرَك الشيء كلُّه بواسطة موجود واحد، حتى لو ورَدَت تأثرات عديدة بواسطة أعضاء كثيرة من أعضاء الحس، وحتى لو كان للشيء الواحد صفات عديدة، أو كانت الإحساسات المختلفة تصل بواسطة حاسة واحدة، كما في إدراك الوجه مثلًا؛ إذ ليس ما يرى الأنفَ شيئًا وما يرى العينَين شيئًا آخر، بل إن شيئًا واحدًا هو الذي يُدرِك كلَّ الملامح دفعة واحدة. فإن كان أحدُ التأثرات يأتي عن طريق العين وآخَرُ عن طريق الأذن، فلا بد من وجود شيء واحد يصل إليه كلاهما معًا؛ إذ كيف كان يمكن القول إن هذَين التأثرَين الحسِّيَّين مختلفان، لو لم يكونا معًا يصِلان إلى شيء واحد؟ فينبغي إذن أن يكون هذا الشيء أشبهَ بمركز، وأن تنتهيَ إليه الإحساساتُ التي تأتي من كل مصدر، مثلها كمثل أنصاف الأقطار التي تمد من محيط دائرة.
وهكذا ينبغي أن يكون ما يُدرَك واحدًا بحق؛ إذ لو كان منقسمًا، ولو كانت الإحساسات تأتي إليه كأنها تأتي إلى طرَفَي خط، فإنها إمَّا أن تعود إلى التجمع في نقطة واحدة كالوسط، أو يكون لكل طرَفٍ مختلفٍ إحساسٌ بأحد الشيئَين، كما لو كنتُ أنا أُحِس شيئًا وأنت تُحس شيئًا آخر. فإن كان الشيء المُحَس واحدًا، أي إن كان وجهًا مثلًا، فإما أن يتقلَّص إلى وحدة، وهذا واضح؛ إذ إنه يتقلَّص في إنسان العين ذاته، وإلا فكيف نرى به أكبر الأشياء حجمًا؟ وبالأحرى، فهو حين يدخل في المبدأ المدبِّر يغدو فكرة لا تنقسم — وعندئذٍ يكون هذا المبدأ غيرَ منقسم، أو أنه إن كان له حجم فإنه ينقسم مثل موضوعه، وعندئذٍ يُدرِك كلُّ جزء من أجزائه جزءًا مختلفًا من الموضوع، ولا يُدرِك شيءٌ فينا الموضوعَ بأسره.
وإذن فهذا المبدأ بأكمله ليس إلا واحدًا؛ فعلى أي نحو ينقسم، إن كان قابلًا للانقسام؟ إنه لو انقسم لما أمكن أن ينطبق الجزء منه إلا على جزء مُساوٍ له من الشيء، ما دام ليس مُساويًا في الأبعاد لكل الأشياء المحسوسة. فبأي النِّسَب يتم التقسيم؟ أينقسم إلى أجزاء تعادل في مقدارها ما للموضوع الداخل فيه من عناصر متباينة؟ وهل تحس الأجزاء الخاصة التي ينقسم إليها كل جزء من النفس بدورها، أم أن أجزاء الأجزاء لا تحس؟ إن هذا محال؛ فلو كان أي جزء من النفس يحس، ما دام الحجم قابلًا بطبيعته للانقسام إلى ما لا نهاية، لترَتَّب على ذلك أن يُناظِر كلَّ محسوس عددٌ لا متناهٍ من الإحساسات، هي بمثابة عدد لا متناهٍ من الصور للشيء الواحد في مبدئنا المدبِّر.
ولو كان ما يُحَس جسمًا، لما تم الإحساس على نحو يختلف عن العلامات المنطبعة على الشمع بواسطة الأختام، بحيث تَطبع المحسوساتُ علامتها على الدم أو على الهواء. ولو كان الحال هنا كالحال في الأجسام السائلة، كما قد يتبادر إلى الأذهان، لطُمِسَت العلامة، وكأنها قد رُسِمَت فوق الماء، ولما كانت هناك ذاكرة. ولو ظلت العلامات موجودة، فإما أن يكون من المحال أن تُطبَع علامات غيرها طالما ظلَّت هذه باقية، وإذن فلن تكون هناك إحساسات أخرى، أو أنه إن أتت علامات أخرى لاختفَت الأولى، فلا تعود هناك ذاكرة. ولكن ما دام في وُسع المرء أن يتذكر، وما دام من الممكن أن تُضاف إحساساتٌ إلى غيرها دون أن تقف السابقة حائلًا في سبيل ذلك، فمن المحال أن تكون النفس جسمًا.
-
(٧)
وفي وُسعنا أن نصل إلى نفس النتيجة من بحث الإحساس بالألم؛ فعندما يُقال إن شخصًا يُحِس ألَمًا في أصبعه يكون الألم في الأصبع حقًّا، ولكن من الواضح أن الإحساس بالألم يتم، باعترافهم هم ذاتهم، في المبدأ المدبر. وعندما يكون الجزء الذي يُحَس مختلفًا، فإن المبدأ يشعر بذلك، وتتأثر النفس كلها على النحو ذاته. فكيف يحدث ذلك إذن؟ إنهم يقولون إنه يحدث بالانتقال التدريجي، أي إن الجزء من النفس الذي في الأصبع، يكون هو أولَ ما يتأثر، ثم ينقل التأثير إلى الجزء الذي يليه، وهذا ينقله إلى آخر حتى يصل إلى المبدأ. فإن كان لدى الجزء الأول إحساسٌ بالألم، وإن كان الألم يمتد بالانتقال، فلا بد أن يكون هناك إحساس جديد للجزء الثاني، وآخر للثالث، أي كثرة غير محدودة من الإحساسات لمؤثر واحد يبعث الألم، ويكون المبدأ هو الذي يستشعر في النهاية كل هذه الإحساسات، مضافة إليها إحساساتها بذاته. والواقع أن كلًّا من هذه الإحساسات ليس إحساس الأصبع بالألم، بل إن الإحساس المجاور للأصبع يشعر بالألم في القدم، والثالث يشعر بالألم في الجزء الأعلى، وهكذا تكون هناك آلام عديدة، ولا يشعر المبدأ بالألم الذي في الأصبع، بل بالألم المجاور له، ويدع جانبًا بقية الآلام، ولا يعلم أن الأصبع يتألم. فإن كان من المحال — تبعًا لذلك — أن يتم الإحساس بألم الأصبع عن طريق الانتقال، أو أن تكون للكتلة المادية في الجسم معرفة بشيء بينما أن شيئًا آخر هو الذي يتأثر — إذ إن لكل حجم أجزاءً متميزة — فعلينا أن نُسلِّم بأن الموجود الذي يحس من شأنه أن يكون في هُوية مع ذاته في كل موضع من الجسم. وهذه صفة لا تقوم إلا في موجود مختلف عن الجسم.
-
(٨)
ثم إن التفكير لا يكون ممكنًا لو كانت النفس جسمًا، أيًّا كان هذا الجسم؛ وذلك للأسباب الآتية:
إن كان قوام الإحساس هو استخدامَ النفس للجسم من أجل إدراك المحسوسات، فلن يكون قوام التفكير هو الإدراكَ بواسطة الجسم، وإلا لكان هو هو الإحساس. فإن كان التفكيرُ هو الإدراكَ بدون الجسم، فينبغي بالأحرى ألا يكون الموجود الذي يفكر جسمًا؛ إذ إن الإحساس يكون بالمحسوسات، والتفكير في معقولات. فإن لم يُسلِّموا بذلك، فهناك على الأقل أفكارٌ تتعلق بأمور معينة هي أمور عقلية، وإدراكات لموجودات غير ممتدة. فكيف يفكر الممتد في غير الممتد؟ وكيف — وهو قابل للانقسام — يُفكِّر في غير القابل للانقسام؟ لا شك أن ذلك يكون بواسطة جزء غير منقسم في ذاته. فإن كان الأمر كذلك، فإن ما يفكر فيه لن يكون جسمًا؛ إذ إنه ليس بحاجة إلى ذاته كلها ليدرك موضوعه، بل حَسبُه نقطة واحدة منه. فإن اعترفوا، كما هو الواقع، بأن الأفكار الأولى تتعلق بأقل الموجودات نصيبًا من الأجسام، فلا بد في كل الأحوال أن يكون الموجود الذي يعرفها بالتفكير فيها بريئًا من الجسم، أو أن يغدو كذلك.
فهل يرُدُّون بأن الأفكار تتعلق بصور توجد في المادة؟ إن هذه الأفكار على الأقل تنشأ متجردة عن الأجسام، والعقل هو الذي يقوم بالتجريد؛ إذ إن العقل لا يقوم بتجريد الدائرة أو المثلث، أو الخط أو النقط، بواسطة جسمه، أو بواسطة المادة بوجه عام. فينبغي أن تنفصل النفس ذاتها عن الجسم، ويَلزم من ذلك ألَّا تكون جسمًا، ونحن نعلم أن الجميل والعادل غيرُ ممتدَّين، وأننا نفكر فيهما معًا. وإذن، فإن كانا يأتيان إلى النفس، فهي إنما تتلقاهما بما هو غيرُ منقسم فيها، ويكون مقرُّهما في غير المنقسم الذي فيها.
ولو كانت النفس جسمًا، فكيف تكون لها فضائل، كالاعتدال أو العدالة أو الشجاعة أو غيرها؟ في هذه الحالة إمَّا أن نقول إن الاعتدال والعدالة والشجاعة هم نفسٌ أو دم، أو أن نُعرِّف الشجاعة بأنها عدم تأثر النفس، والاعتدال بأنه مزيجه المناسب، والجمال بأنه الصورة الملائمة للخطوط الخارجية التي تَجعلنا نقول إن الموجودات رشيقة أو جميلة. ولا جدال في أن النَّفَس الحيَوي قد يكون قويًّا، وقد تكون خطوطه الخارجية جميلة، ولكن ما شأن هذا النفَس والاعتدال؟ إنه على العكس منه يسعى وراء الإحساسات الملائمة، بأن يُحيط بالموضوعات أو يمسها، وذلك حين يكون ساخنًا أو راغبًا في بارد مصقول أو مقتربًا من أشياء ليِّنة رِخْوة أو مصقولة. وإذن، فما شأن النفس بالتقسيم تبعًا للمرتبة؟
فهل ثمة أمور أزلية هي مبادئ الفضيلة وبقية المعقولات تتصل بها النفس، أم أن الفضيلة تَظهر وتُعيننا ثم تَفسد بدورها؟ ولكن مَن خالقها، ومِن أين تأتي؟ الخالق في هذه الحالة يظل موجودًا. فلا بد إذن أن تكون هناك أشياء أزلية ثابتة، مثلها كمثل تصورات الهندسة. ولكن إن كانت الفضيلة من ضمن هذه الأمور الأزلية الدائمة، فهي ليست جسمًا. فينبغي إذن أن يكون الموجود الذي تكون فيه مماثلًا لها، أي لا يجب أن يكون هذا الموجود جسمًا؛ إذ إن طبيعة الجسم لا تدوم، بل هي بأسرها زائلة.
(٨-١) فإذا ما تأمل هؤلاء (الخصوم) أفعال الجسم، من تسخين وتبريد، ودفع وثقل، وأدخَلوا النفس ضمنها، وظنوا أنهم على هذا النحو يُدخِلونها في عِداد الموجودات الفعالة، فإنهم بذلك يجهلون أوَّلًا أن الأجسام تفعل كل ذلك بفضل قُوًى لا جسمية فيها، ويجهلون بعد ذلك ما نقول به من أن النفس ليست لديها قُوًى من هذا النوع، بل لديها الفكر والإحساس والاستدلال والشوق والتدبير الكوني الحكيم الخير، وكل هذه تقتضي جوهرًا غيرَ جوهر الأجسام. وعلى ذلك فعندما يُحيل البعضُ قوى الأجسام إلى حقائق لا جسمية، فإنهم بذلك لا يتركون للجسم أية قدرة.
أمَّا أن كل الأجسام تستمد ما لديها من قدرة، من قوى لا جسمية، فهاكم الأدلة على ذلك:
إنهم ليُسلِّمون بأن الكَم غير الكيف، وبأن لكل جسم كَمًّا، ولكن ليس صحيحًا أن لكل جسم — كالمادة مثلًا — كيفًا. ويترتب على ذلك أن يعترفوا بأنه ما دام الكَم مختلفًا عن الكيف، فإن الكيف مختلف عن الجسم؛ إذ كيف يكون هناك جسم بلا كم، ما دام لكل جسم كمٌّ؟ على أننا قد ذكرنا من قبل أن الجسم إذا انقسم ولم يعُد له المقدار الذي كان لديه، فإن الكيف يظل رغم هذا التقسيم واحدًا في كل الأجزاء؛ فمثلًا إن كانت حلاوة العسل لا تَقِل في كل جزء عنها في الكل، فينبغي ألَّا تكون الحلاوة جسمًا، وكذلك الحال في بقية الكيفيات. ثم إنه لو كانت القُوى أجسامًا، لوجب أن تكون للقُوى الشديدة كتلٌ كبيرة، وألَّا يكون للقوى الضعيفة إلا كتل صغيرة. على أننا قد نرى للكتل الكبيرة قوًى ضعيفة، ولأصغر الكتل أكبر القوى في كثير من الأحيان، فلا بد عندئذٍ أن ننسب فعلها إلى شيء غير الامتداد، أي إلى غير الممتد. فإن كانت المادة هي هي في كل مكان، ما دامت جسمًا، وإن كانت تكون أجسامًا متميزة بفضل الكيفيات التي تتلقاها، فكيف لا يكون واضحًا أن هذه الكيفياتِ المستفادةَ مبادئُ عاقلة، ومبادئ لا جسمية؟ ولا جدوى من قولهم إن الحي يهلِك إذا ما فارقه النفس أو الدم؛ فهذان حقًّا شيئان تستحيل بدونهما الحياة، غير أن هناك أشياء عديدة لها نفس هذه الصفة، ولكن أحدًا منها لا يكون النفس.٣ ولا جدال في أن النفس والدم لا يستطيعان التغلغل في كل الأشياء كما تفعل النفس.(٨-٢) ولو كان النفس جسمًا يتخلل كل شيء، لتأثر الخليط على نحو واحد، كما هو الحال في سائر الأجسام. غير أن الأجسام إذا اختلطت لم تبقَ لجسم منها فاعلية؛ وإذن فلن تكون النفس بالفعل في الأجسام، بل بالقوة فحسب، وبذا تفقد وجودها ذاته، مثلما يفقد الحلو وجوده لو مزَجْناه بالمر. وإذن فلن يكون لنا عندئذٍ نفس.
ولو كانت النفس جسمًا مختلطًا بالجسم تبعًا لما يُسَمَّى بالخليط التام، وهو الخليط الذي فيه يوجد أحد الأجسام حيث يوجد الآخر، بحيث يشغَلان دائمًا حجمًا متساويًا، ويَشغَلان الحجم كله، ولا يزيد حجمُ الأول عندما يُضاف إليه الثاني، فعندئذٍ لن تترك أي موضع في الجسم دون أن تتخلَّله. وفي هذا الخليط لا تتمثل مقادير كبيرة من جسم بجانب مقاديرَ كبيرة من جسم آخر كل بدوره — إذ لو كان كذلك لكان أحقَّ باسم التجاور — وإنما يتخلل الجسم الذي يلقى الجسم الآخر بأكمله حتى أدقِّ أجزائه، على أن هذا الخليط مستحيل، ما دامت أصغرُ الأجزاء فيه تغدو مُساوية لأكبرها. وأيًّا كان الأمر، فإن الجسم بأسره هو الذي يتغلغل في الآخر بأسره، فإن كان كل من الأجسام في موضع معلوم، وإن لم يكن هناك فاصل يخترقه، لوجب عندئذٍ أن ينقسم الجسم إلى نقط، وهو محال؛ إذ لو كان هناك انقسام إلا ما لا نهاية — ما دام أي جسم مهما صغر قابلًا للانقسام — لَوُجِدت اللانهائية، لا بالقوة فحسب، بل بالفعل أيضًا. فمن المحال إذن أن يتخلل جسمٌ بأسره جسمًا آخر تخلُّلًا تامًّا، ولكن النفس تتخلل كل موضع، فهي إذن لا جسمية.
(٨-٣) ويقولون إن النفس الحي ذاته، الذي هو في أول الأمر «طبيعة»، يغدو نفسًا حين يتعرض لبرد الهواء، وحين يتخلله هذا البرد؛ إذ إن البرد يجعله ألطفَ مما كان — وهذا خلف؛ لأن كثيرًا من الحيوانات تُولَد في الحرارة ولها نفس لم تَبْرد — فهم يقولون إذن بأن هناك أوَّلًا طبيعة تغدو نفسًا بتضافر الظروف الخارجية. ويترتب على ذلك أن يُضْفوا المكان الأول على ما هو أدنى، فيضَعون قبل الطبيعة حدًّا آخر أدنى منها، يُسمُّونه «الاستعداد». وواضح أن العقل هنا يأتي في النهاية بعد النفس. ولكن إن كان العقل سابقًا على كل الأشياء، فالواجب أن نضع النفس من بعده، ثم الطبيعة، وأن نضع الحد الأدنى بعد الأعلى، تبعًا لمكانته الطبيعية. ولو كان الله، كما يقولون، لاحقًا متولدًا، من حيث هو عقل، ولو كان الفكر عنه شيئًا مستفادًا فحسب، لما وُجِدَت نفس ولا عقل ولا إله، ما دام الموجود بالقوة لا يحدث ولا يخرج إلى الفعل إلا إذا وُجِد مِن قبله موجودٌ بالفعل؛ إذ ما الذي ينقله إلى الفعل إن لم يكن يُوجَد خارجه أوَّلًا موجود آخر؟ وإن كان ينقل ذاته بذاته إلى الفعل — وهو محال — فإنما يكون ذلك على الأقل بتثبيته أنظارَه على موجود لا يكون بالقوة بل بالفعل.
ومع ذلك فالموجود بالقوة يظل دائمًا ساكنًا إن وُجد وحده، فهو لا ينتقل بذاته إلى الفعل. أمَّا الموجود بالفعل فهو أعلى من الموجود بالقوة، ما دام هو موضوعَ شوقه؛ فالحد السابق إذن هو الوجود الأعلى الذي له طبيعة متميزة عن الجسم، والذي هو بالفعل على الدوام؛ وإذن فالعقل والنفس سابقان على الطبيعة، والنفس ليست نفسًا ولا ما يشبه الجسم. ولقد بيَّن آخرون أن النفس لا يمكن أن يُقال عنها إنها جسم؛ لأسباب مختلفة، غير أن الأسباب التي أوردناها هنا كافية.
(٨-٤) فما دامت النفس طبيعة أخرى، فعلينا أن نبحث عن كُنْه هذه الطبيعة؛ فهل هي، مع اختلافها عن الجسم، صفة من صفاته، كالانسجام؟ إن الفيثاغوريين يُشبِّهون النفس بالانسجام في أوتار الآلة، مع بعض الاختلاف في المعنى؛ فعندما تُشَد أوتار الآلة، يُضاف شيء معيَّن إلى الأوتار، هو تلك الخاصية المسمَّاة بالانسجام. ولقد ذُكِرَت من قبل حُججٌ عديدة ضد هذا الرأي٤ لبيان استحالته؛ فقيل إن النفس تُوجَد أوَّلًا، ومن بعدها الانسجام، وهي تأمر الجسم وتَسُوده، وغالبًا ما تَقْمعه، فلو كانت انسجامًا لما فعلت شيئًا من هذا، والنفس جوهر بينما الانسجام ليس جوهرًا. فإن كان الخليط الذي تتركب منه الأجسام مرتبًا تبعًا لعلاقة ما، فتلك هي الصحة. ولا بد بوجه خاص أن توجد قبل النفس نفسٌ أخرى تُحدِث الانسجام على الأوتار؛ لأن لديه في ذاته العلاقةَ الثابتة التي ينتج الانسجام تبعًا لها؛ ففي هذه الحالة لا تستطيع الأوتار أن تتوافق بذاتها، مثلما لا تستطيع ذلك الأجسام المكونة لجسمنا. فهنا يُقال بوجه عام إن النفس تنشأ من أشياء غير حية، والنظام يظهر من تضافر أمور غير منظَّمة، كما يُقال إن النظام لا يستمد وجوده من النفس، بل النفس هي التي تستمد وجودها من نظام تلقائي. غير أن هذا ليس ممكنًا، لا في الموجودات الجزئية ولا في النفس؛ وإذن فالنفس ليست انسجامًا.(٨-٥) فلنبحث الآن بأيِّ معنًى يُطلَق على النفس اسم «كمال entelecheia»؛ فأصحاب هذا الرأي يقولون إن النفس للمركب بمثابة الصورة للمادة، التي هي الجسم الحي؛ فهي ليست صورةَ أي نوع من الأجسام، ولا الجسم بما هو جسم، بل «جسم طبيعي عضوي له حياة بالقوة.»٥ فإذا شبَّهناها بالحد الذي تُقارَن به، فهي بمثابة صورة التمثال بالنسبة إلى البرونز، فهي إذن تنقسم تبعًا لأقسام الجسم، فإذا ما بُتِر جزء من الجسم، بُتِر معه جزء من النفس؛ وعندئذٍ ينبغي ألا يكون لاعتكاف النفس في النوم وجودٌ، ما دام يلزم أن يُلصَق الكمال بالجسم الذي هو كماله، بل لا يعود للنوم ذاته، في الحق، وجود.ولو كانت النفس كمالًا، لما كان هناك تعارض ممكن بين العقل والرغبات؛ فهي إذ تظل دوامًا على وفاق مع ذاتها، لا تستشعر كلها إلا تأثرًا واحدًا. وربما كانت الإحساسات وحدها هي التي تظل ممكنة، أمَّا الأفكار فمستحيلة؛ لهذا كان «المشاءون» ذاتهم يقولون بنفس أخرى، أي العقل، الذي يجعلونه خالدًا. فيلزم إذن أن تكون النفس العاقلة كمالًا بمعنًى آخر، إن كان لا بد من استخدام هذا التعبير. بل إن النفس الحساسة ذاتها، إذا احتفظت بعلامات الأشياء المحسوسة في غيابها، فإنما تحتفظ بها دون معونة الجسم، وإلا لكانت تلك العلامات فيها كأشكال وصور، وإن كانت فيها على هذا النحو، فلن تستطيع تَلقِّيَ غيرها؛ فالنفس إذن ليست كمالًا لا ينفصل عن الجسم.
على أن ذلك الجزء من النفس الذي لا يرغب في طعام ولا في شراب، بل في أمور غير الأمور الجسمية، لا يمكن أن يكون هو ذاته كمالًا لا ينفصل عن الجسم. فتبقى إذن النفس الغاذية، التي قد نشك في أنها كمال غير منفصل بهذا المعنى. ولكن من الواضح أنها بدورها ليست كذلك؛ فالواقع أن مبدأ النبات في الجذر، والنبات إنما ينمو في أغلب الأحيان حول الجذر والأجزاء الدنيا. فواضحٌ إذن أن نفسه تترك الأجزاء الأخرى منطوِيَةً في جزء واحد، فهي إذن ليست في الكل كمالًا لا ينفصل. ثم إن النبات قبل نُموِّه كتلةً صغيرة إلى حد بعيد؛ فإذا كانت النفس تَنتقل من نبات نامٍ إلى نبات صغير (هو البذرة)، ومن هذا إلى نبات كامل، فما الذي يمنعها من أن تنفصل كلية؟ ثم إنها لو كانت غيرَ منقسمة، فكيف — وهي كمال لجسم منقسم — تغدو هي ذاتها منقسمة؟ وفضلًا عن ذلك، فإن النفس ذاتها تنتقل من حيوان إلى آخر. فكيف إذن تصبح نفسُ الأول نفسًا للثاني، لو كانت كمالًا لجسم واحد؟ إن هذا الاعتراض ناشئ، كما هو واضح، عن استحالة الحيوانات إلى حيوانات أخرى؛ فقوام وجود النفس إذن ليس في كونها صورة لجسم، وإنما هي جوهر لا يدين بوجوده إلى كونه مستقرًّا في جسم، بل يوجد قبل أن يكون نفس الحيوان الذي سيُولَد وجوده النفس.
فماذا تكون ماهية النفس إذن؟ إذا لم تكن النفس جسمًا ولا كيفية من كيفيات وجود الجسم، بل فعلًا وخلقًا، وإن كانت أشياء عديدة موجودة فيها وصادرة عنها، وإن كانت جوهرًا خارج الجسم، فما هي إذن؟ من الجلي أنها ما نُسمِّيه جوهرًا بحق؛ إذ إن كل موجود جسمي إنما هو صيرورة وليس جوهرًا. فهو يكون ويفسد، وهو لا يوجد مطلقًا وجودًا حقيقيًّا، وهو لا يحفظ ذاته إلا بمشاركته في الوجود وبقدر ما هو مشارك فيه.
-
(٩)
ولكن هناك طبيعة أخرى توجد بذاتها، وهي الوجود الحق، الذي لا يكون ولا يفسد، ولو كانت تلك الطبيعة تفسد لاختفت بقية الأشياء، ولما نشأت بعد ذلك؛ فهي التي تتمكَّن من حفظ هذه الأشياء، هي والعالم المحسوس الذي يدين للنفس ببقائه وبما يسوده من نظام. وهي تتحرك بذاتها لأنها هي مبدأ الحركة، وهي التي تُمِد بقية الأشياء بالحركة. وهي إذ تهب الحياة للجسم الحي، فإنها تستمدها من ذاتها، ولا تفقدها أبدًا ما دامت تستمدها من ذاتها؛ إذ ليست حياة كل الأحياء مستفادة، ولا لسرنا هكذا إلى ما لا نهاية. فلا بد من طبيعة حية منذ البداية، ينبغي أن تكون أزلية غير فانية؛ لأنها مبدأ الحياة لسائر الأحياء. فيلزم إذن أن ننسب إليها كل العنصر الإلهي الخير، الذي يستمد الوجود والحياة من ذاته، والذي هو الوجود الأول والحي الأول، الذي يطرأ على ماهيته تغير، ولا يسري عليه كون ولا فساد؛ إذ من أي شيء يكون، وإلام يفسد؟ وإن كان ينبغي أن يتخذ في حقيقته صفة الوجود هذه، فلا يجب أن يُوجَد تارة ولا يوجد تارة أخرى، مثله في ذلك كمثل الأبيض الذي هو في ذاته أبيض؛ فلا يمكن أن يكون تارة أبيض وتارة لا أبيض. ولو كان الأبيض هو الوجود، بخلاف صفته من حيث هو أبيض، لكانت له على الدوام صفة الوجود، ولكنه لا يملك سوى صفة البياض، غير أن ما يملك الوجود في ذاته ومنذ بداية الأمر، إنما يكون موجودً دائمًا. وهذا الموجود الأوَّلي الأزلي لا يفنى قط فيُصبح كحجَر أو خشب، بل ينبغي أن يكون حيًّا، ويتمتع بحياة خالصة، بقدر ما يظَل موجودًا وحده وفي ذاته. فإن اختلط بشيء أدنى منه، لكان أقصى ما يناله منه هو أن يجِد فيه عقَبة، ولكنه لا يفقد طبيعته الخاصة، بل يستعيد حالته الأولى بأن يعود إلى طبيعته الخاصة.
-
(١٠)
والنفس من جنس الطبيعة الإلهية الأزلية ذاتها، ودليل ذلك ما ثبَت من أنها ليست جسمًا. وعلى ذلك فليس لها شكل ولا لون، ولا يمكن أن تُحَس، على أن ثمة أدلةً أخرى لإثبات ذلك:
فنحن إذا اعترفنا بأن الموجود الإلهي الحق ينعم كله بحياة خيِّرة حكيمة، فعلينا أن نبحث فيما بعد — قياسًا على نفسنا — في طبيعة ذلك الموجود. فلنتأمل إذن نفسًا غيرَ تلك التي تجذب إليها رغبات لا عاقلة أو مشاعر عنيفة، وتتلقَّى بقية الانفعالات، لوجودها في الجسم — لنتأمل نفسًا بَرِئَت من كل ذلك، وفضَّت علائقها بالجسم على قدر وسعها. فواضح في هذه الحالة أن الشرور تُضاف إلى النفس من مصدر آخر، وأنها إن كانت خالصة، فإن الخير والحكمة وبقية الفضائل تَكمُن فيها وكأنها من خصائصها. فإن كان ذلك حال النفس حين تعود إلى ذاتها، فكيف لا تكون لها طبيعةٌ مماثلة لتلك التي قلنا إنها تنتمي إلى الموجود الإلهي الأزلي؟ ذلك بأنه لما كانت الحكمة والفضيلة الحقة أمورًا إلهية، فلا يمكن أن يكونا في شيء خسيس فانٍ، بل لا بد أن يكون ذلك الموجود إلهيًّا، ما دام له من الأشياء الإلهية نصيب، بفضل قرابته لها واشتراكه في الماهية معها.
وإذن، فمَن يكُن مِنَّا كذلك، فسيختلف بنفسه قليلًا عن الموجودات العليا، إن كان له كل ما في الجسم على أدنى نحو ممكن؛ ولهذا، فلو كان جميع الناس كذلك، أو لو كان لِعَددٍ كبير مثلُ هذه النفوس، فلن تبلغ الغفلة بمخلوق حدَّ الاعتقاد بأن نفوسهم خالدة تمامًا. ولكنا إذ نرى النفس في أغلب الأحيان وعند معظم الناس مليئة بالأدران، فإن المرء لا يعتقد بأنها شيء إلهي خالد.
ومع ذلك فينبغي أن نبحث طبيعة الشيء، بأن ننظر إليه في حالته المجردة؛ إذ إن كل إضافة إلى شيء إنما هي عقبة في طريق معرفة ذلك الشيء. فلتبحثه إذن بأن تَنزع منه ما ليس في ذاته، أو بالأحرى لتنزع عن نفسك ما يُلطِّخها، ولتختبر نفسك بنفسك، وعندئذٍ ستؤمن بخلودك، عندما ترى نفسك في عالم عقلي خالص. سترى عقلًا لا ينظر إلى المحسوسات الفانية، بل يدرك الأزلي بما هو أزلي فيه، ويرى كل شيء في المعقول، ما دام هو ذاته قد غدا عالَمًا معقولًا منيرًا تُضيئه الحقيقة الصادرة عن «الخير»، الذي ينشر في كل المعقولات نور الحقيقة، حتى لنؤمن بصدق هذه العبارة «سلام عليكم، إني لكم إله خالد»،٦ وذلك حين ترقى إلى الموجود الإلهي، وتثبت ناظِرَيك على ما فيك من تشابه به.فإن كانت التصفية توصلنا إلى معرفة خير الأشياء، فإن المعارف التي هي معارفُ بحق تَظهر في داخل النفس؛ إذ إن النفس لا ترى الاعتدال والعدالة حين تنظر إلى الخارج، بل تراهما فيها، وفي تفكيرها في ذاتها، وفي حالتها الأولى. وهي ترى هذه الفضائل كامنة فيها كتماثيل علق بها الصدأ، وتَصقُلها هي؛٧ فهي أشبهُ بذهب له نفس، ثم نفض عنه كل ما يعلق به من طين، وبعد أن كان يجهل ذاته ولا يرى ما فيه من ذهب، أصبح يُعجَب بنفسه حين يرى ذاته بريئة عن كل شيء، ويعتقد بأنه ليس في حاجة إلى جمال مستمَد؛ ففيه القوة الكافية إن تُرِك لذاته. -
(١١)
وأي إنسان عاقل يشك في أن مثل هذا الوجود خالد؟ إنه يستمد من ذاته حياة لا يمكن أن يفقدها. وكيف يفقدها وهو لم يستفدها، وهي ليست له بمثابة الحرارة للنار؟ لستُ أعني بذلك أن الحرارة مستفادة بالنسبة إلى النار، بل إنها مستفادة إن لم يكن بالنسبة إلى النار، فعلى الأقل بالنسبة إلى المادة التي هي مصدر النار؛ إذ إن النار أيضًا تفسد بواسطة هذه المادة.
وما هكذا تكون الحياة للنفس أبدًا؛ فالنفس ليست حاملةَ الحياة ومادتها، والحياة لا تُضاف إليها من الخارج؛ إذ إنه إمَّا أن تكون الحياة جوهرًا، فتكون جوهرًا يحْيا بذاته، وعندئذٍ تكون هي بالضبط ضالَّتُنا المنشودة، فنَعترف بأنها خالدة. أو تكون الحياة بدورها حدًّا مركبًا، فنُحلِّله من جديد، حتى نصل إلى موجود خالد يتحرك بذاته، وليس من طبيعته أن يكون له من الموت نصيب.
بل إننا حتى لو قلنا إن الحياة حالٌ من أحوال الوجود التي تَكتسبها المادة، فسنُضطَر إلى التسليم بأن الموجود التي تأتي منه هذه الكيفية إلى المادة هو ذاته — أيًّا كان — خالدًا؛ إذ يستحيل أن يطرأ عليه عكس ما يجلبه؛ فهناك إذن طبيعة حية فعالة.
-
(١٢)
وفضلًا عن ذلك، فإن قيل إن كل نفس تتعرَّض للفساد، لوجب أن يكون الفساد قد دبَّ في كل شيء منذ عهد بعيد. وإن قيل إن بعض النفوس تَفسد دون البعض الآخر، أي إن نفس العالم مثلًا خالدة ونفسنا ليست كذلك، فلا بد أن يذكر سبب هذا الاختلاف؛ إذ إن كِلَيهما معًا مبادئُ حركة، وهما متصلان بأشياء واحدة، بواسطة ملَكة واحدة، عندما يُفكِّران في الموجودات التي في السماء وفيها وراء السماء، وعندما يبحثان عما هو في ماهية الموجودات، وعندما يصعدان إلى المبدأ الأول. وتصورها لكل موجودة في ذاته، الذي تستمده بذاتها من الموضوعات التي تتأملها في ذاتها، يأتيها من التذكر. وهذا التصور يجعل لها وجودًا سابقًا عن الجسم، ويُمكِّنها — وهي تنعم بمعرفة أزلية — من أن تكون هي ذاتها أزلية.
إن كل ما يتضمن من أجل وجوده تركيبًا يتحلل بطبيعته إلى العناصر التي يتركَّب منها، غير أن النفس طبيعة واحدة بسيطة، توجد كلها بالفعل في حالة حياة؛ فهي إذن لن تفنى. وقد يُقال إنها قد تفنى بالانقسام والتجزيء، وردُّنا على ذلك أنها ليست كتلة ولا كمًّا، كما أثبتنا.
– فهل يطرأ عليها الفساد بالاستحالة؟
– إن الاستحالة حين تكون علة للفساد، تقضي على الصورة، ولكن تترك المادة. وهذا لا يحدث إلا لموجود مركَّب. فإن كان يستحيل إذن أن تفسد على أي نحو من هذه الأنحاء، فهي بالضرورة لا فانية.
-
(١٣)
فما دامت المعقولات مفارقة، فكيف تدخل النفس في جسم؟
– إن كل ما هو عقل فقط لا ينفعل؛ فهو منذ الأزل هناك، حيث يحيا بين المعقولات حياة عقلية خالصة، لا يحس فيها ميلًا ولا شوقًا. ولكن الوجود الذي يُضاف إليه الشوق لأنه يأتي من بعد العقل، يكون تاليًا له بفضل هذه الإضافة؛ فهو يميل إلى خلق نظام يتفق مع ما رآه في العقل، وكأنه حاملٌ بهذا النظام ويَشعر بآلام الوضع، وهكذا يحاول أن ينتج ويخلق.٨ والنفس التي يدفعها هذا المجهود الذي تقوم به في المعقول، والتي ترتبط بالنفس الكونية، وتسود معها كلَّ الموجودات الخارجية التي تتحكم هي فيها، وتمارس معها حكمتها على الكون؛ هذه النفس تريد أن تُدبِّر من هذا الكون جزءًا بمفردها. ولكنها مع ورودها إلى هذا الجزء الذي تكون فيه، لا تنتمي بأسرها إلى الجسم، بل تحتفظ بشيء خارج عنه. بل إن عقلها لا يتأثر بالجسم، أمَّا هي ذاتها، فتارةً تكون في الجسم وتارة خارجه. وهي إذ تخرج من المرتبة الأولى، تسير حتى المرتبة الثالثة، بينما يظل العقل في موضعه، ويملأ كلَّ شيء جمالًا ونظامًا بتوسُّط النفس؛ فهو موجود خالد له وسيط خالد، يظَل موجودًا أبدًا في فعل لا ينتهي. -
(١٤)
وتتصف نفوس الكائنات الحية الأخرى، وهي النفوس التي هبطَت من تلك المجالات ووصلت حتى أجسامِ الكائنات الحية، تتصف هذه النفوس أيضًا بالخلود ضرورة. فإن كان ثمة نوعٌ من النفوس غير هذه، فينبغي أن يكون مصدره الأوحد هو تلك الطبيعةَ الحية، ما دامت هي ذاتها علةَ الحياة لسائر الكائنات الحية، وهذا القول ينصبُّ على نفس النباتات أيضًا؛ فكلها صدَر عن مصدر واحد، ما دامت لها كلها حياة خاصة بها، وما دامت لا مادية ولا منقسمة، وما دامت جواهر.
فهل يُقال إن النفس الإنسانية تتحلل لأنها مركبة، ما دامت تنقسم إلى أقسام ثلاثة؟ عندئذٍ ٍنرد بأن النفوس المجردة والخالصة تتخلى عن الصور الزائدة التي كانت لها في الصيرورة، وأن بقية النفوس تحتفظ بهذه الصور وقتًا طويلًا جدًّا. غير أن هذا العنصر الأدنى، حين يُترَك لا يفنى بدوره، طالما أنه يظل حيث يكون مبدؤه؛ إذ إنه ما من موجود حقيقي يفنى.
-
(١٥)
لقد قلنا ما يجب أن يُقال لأولئك الذين يرُومون برهانًا. أمَّا الذين يطلبون دليلًا ملموسًا، فعليهم أن يستخلصوه من التراث الضخم الذي يرتبط بهذه المشكلة، من نبوءات الآلهة التي تأمر بتهدئة نقمة النفوس التي أُسيءَ إليها، وتدعو إلى تكريم الموتى على اعتقاد أن لديهم مشاعر، وهو أمر يُمارِسه الناس بإزاء الراحلين بالفعل. وكم من نفس كانت من قبل في أناس، لا تكف عن أن تُضفِيَ الخيرَ على الناس، فتنفعنا بأن تُعرِّفنا النبوءات، وتُعلِّمنا كل الأشياء. وذلك يُثبِت لنا أن بقية النفوس بدورها لم تَفْن.