المقال الثامن
-
(١)
كثيرًا ما أتيقظ لذاتي، تاركًا جسمي جانبًا. وإذ أغيب عن كل ما عداي، أرى في أعماق ذاتي جمالًا بلغ أقصى حدود البهاء. وعندئذٍ أكون على يقين من أنني أنتمي إلى مجال أرفع، فيكون فعلي هو أعلى درجات الحياة، وأتحد بالموجود الإلهي، وحين أصل إلى هذا الفعل، أَثبُت عليه من فوق كل الموجودات العقلية. ولكني، بعد مقامي هذا مع الموجود الإلهي، حين أعود من معاينة العقل إلى الفكر الواعي، أتساءل كيف يتم هذا الهبوط الحاليُّ، وكيف أمكنَ أن تُرَد النفس إلى الأجسام، ما دامت طبيعتها كما بدَت لي، وإن كانت في جسم.١ولقد قال هرقليطس، الذي دعانا إلى بحث هذا الموضوع، بضرورة التبادل بين الأضداد، فتحدث عن «طريق إلى أعلى وإلى أسفل»، وقال إن «الشيء مع تغيره يظل في سكون» و«إن تَكْرار مجهود مُطَّرد واحد أمر ممل.»٢ تلك هي المجازات التي يستخدمها، ولكنه أغفل توضيحَ أقواله، وربما كان هدفُه من ذلك هو أن يحضَّنا على أن نبحث بأنفسنا عما اهتدى إليه هو ذاته في بحثه.
وقال أنبادقليس إن الهبوط إلى هنا قانون مُحتَّم على النفوس الخاطئة، وإنه هو ذاته بعد أن كان نائيًا إلى جوار الآلهة، قد أتى إلى هذا العالم، مُطيعًا لحمق الخلاف، فلم يكشف لنا في هذا الصدد أكثر مما كشف فيثاغورس. وقد فسر تلاميذُه هذه الفقرة وفقراتٍ غيرَها تفسيرًا أسطوريًّا، ولكن الأسلوب الشعري لم يُمكِّنه من أن يكون واضحًا.
ويبقى أمامنا أفلاطون الإلهي، الذي قال عن النفس أمورًا جميلة عديدة، وتحدث في مواضعَ كثيرة من أبحاثه عن ورودها إلى هذا العالم، ولذا نَأمُل أن نستخلص منها شيئًا واضحًا.
فماذا يقول هذا الفيلسوف؟ ليس في وسعنا أن نعرف ما يعنيه بسهولة؛ إذ يبدو أنه لا يقول دائمًا نفس الشيء. ولكنه يظل دائمًا على احتقاره للمحسوس، ويَعيب على النفس حلولها في البدن، فيقول إنها في سجن، وإنها فيه كأنها في مقبرة، وإن المرء في «الأسرار» لينطق بحقيقة كبرى حين يقول إن النفس في سجن. والكهف٣ عنده، كالجحر عند أنبادقليس، يعني — على ما يبدو لي — عالمنا، حيث يكون السير نحو العقل، كما قال، تحريرًا للنفس من علائقها، وصعودًا إلى خارج الكهف. وفي «فيدرس» نرى فقدان النفس لأجنحتها علةً لوصولها إلى عالمنا الأرضي، وهي تعود إلى الصعود، ثم يرجع بها إكمال الدورة إلى هنا مرة أخرى. وما يبعث بنفوس أخرى إلى هنا هي أحكام، أو مصير، أو قدر أو اتفاق.وهكذا نرى ورود النفس إلى الجسم، تبعًا لكل هذه الفقرات، أمرًا مذمومًا. ولكنه حين يتحدث في «طيماوس» عن الكون المحسوس، يُثني على العالم ويَعُده إلهًا خيِّرًا؛ فالنفس هِبة من فضل الصانع، ترمي إلى بث العقل في الكون؛ إذ إن وجود العقل فيه لازم، وهذا لا يتأتَّى إن لم تكن له نفس. ولهذا أرسل الله للكون نفسًا مثلما أرسل نفسًا لكل منَّا، حتى يكون الكل كاملًا؛ إذ لا بد أن توجد في العالم المحسوس من الصور الحسية بقدر ما يوجد في العالم المعقول، ومثلها.
-
(٢)
ويترتب على ذلك أننا حين نبحث لدى أفلاطون عن تعاليم عن نفسنا فإنما نتعرض ضرورةً لهذا السؤال عن النفس بوجه عام: على أي نحو ترتبط النفس طبيعةً بجسم؟ ثم نعرض بعد ذلك لسؤال عن طبيعة العالم، هو: ماذا يجب أن يكون هذا العالم الذي تُقيم فيه النفس طوعًا أو كرهًا أو على أي نحو آخر؟ وأخيرًا نعرض لسؤال عن الخالق: هل أحسنَ صنعًا أم أساء بخلق هذا العالم، وبجمعه بين نفس العالم وجسمه، وبين نفسنا وجسمنا؟
ربما كان يلزم نفوسنا، لكي ندبر الأجسام السفلى، أن تتخللها إلى أعماقها، إن كان ينبغي على الأقل أن تسيطر عليها، ولولا ذلك لدب التفرق في كل الأشياء، ونقل كل منها إلى موضعه الخاص؛ إذ إن لكل شيء في الكون محلًّا طبيعيًّا خاصًّا، ولاحتاجت هذه الأجسام إلى عناية تتعدد وتتنوع؛ إذ إن الأجسام تتقابل مع كثير من الأجسام الغريبة، ولا بد لها في خضوعها الدائم للحاجة من معونة مستمرة فيما يواجهها من صعاب جمة.
أمَّا الموجود الكامل، الذي لا يشوبه نقص، أي الموجود المستقل الذي لا ينطوي على شيء مضاد لطبيعته (أي العالم)، فليس في حاجة إلا إلى نظام طفيف. وأمَّا النفس، فما دامت لا تعرف رغبات ولا انفعالات، فإنها تظل على النحو الذي تَقتضيه طبيعتها، ولن تكون لها رغبات ولا انفعالات ما دامت لا تَقبل أية زيادة أو نقصان.
ولذا قال «أفلاطون»: إن الكمال يتحقق لنفسنا بدورها إذا اتحدَت بهذه النفس الكاملة، التي تَسري في السماء وتتحكم في العالم بأسره. وطالما ظلت نفسنا مع تلك النفسُ الكونية. بحيث لا ندخل في الأجسام أو في موضوع مادي، فإنها تتحكم بسهولة في الكون كنفس للكل؛ إذ ليس مما يضير النفس مطلقًا أن تهب الجسمَ قوةَ الحياة، طالما أن العناية التي تُمارِسها على الموجود الأدنى لا تعوقها من أن تظل في مقرٍّ خير منه؛ ذلك بأن السيطرة على نوعَين: سيطرة المجموع الذي يُنظِّم الأشياء بسُلطة ملَكية عن طريق أوامر لا يتولى تنفيذها، وسيطرة الموجودات الجزئية التي تُمارَس بفعل شخصي، وباتصال مع موضوع الفعل، حيث يتأثر الفاعل بطبيعة الموضوع الذي يقع فعله عليه. فالنفس الإلهية تتحكم في السماء بأسرها على النحو الأول، وهي تعلو عليها بخير أجزائها، وترسل إليها آخِرَ قُواها.
فليس لنا إذن أن نأخذ على الله أنه خلق النفس في محلٍّ أدنى؛ إذ إن النفس لا تُحرَم من الأشياء الكامنة في طبيعتها قط، بل هي تملك منذ الأزل، وستظل تملك على الدوام، هذه القدرةَ التي لا يمكن أن تكون بالنسبة إليها طبيعة مضادة. أي إن هذه القوة تنتمي إليها دوامًا، وهي لم تبدأ قط.
وحين يقول «أفلاطون» إن نفوس النجوم هي لأجسامها بمثابة النفس الكونية للعالم — إذ إنه يضع أجسام الكواكب أيضًا داخل حركات دائرية للنفس — نراه يُبقي للنجوم ما هي خليقةٌ به من سعادة؛ ذلك بأن هناك سببَين يجعلان اتحاد النفس والجسم أمرًا لا يُحتمَل، فذلك الاتحاد أوَّلًا عقبة في سبيل التفكير، وهو بعد ذلك يملأ النفس ملذَّاتٍ ورغبات ومخاوف. على أن شيئًا من هذا لا يطرأ على نفس النجوم. فهي لا تغوص في باطن الأجسام، وهي لا تنتمي إلى شيء، وهي ليست مِلكًا لجسمها، بل جسمها مِلك لها، وليس من شأنها أن تخضع لأي نقص أو عيب. فهي إذن ليست مليئة بالرغبات والمخاوف؛ إذ إنها لا تنتظر شيئًا تخشاه مِن جسم مماثل لجسمها، وليس هناك أي شيء يتجه بها إلى أسفل، ويصرفها عن تأملِها الخيرَ السعيد، وهي دائمًا قريبة من المثُل العليا، تُنظِّم الكون بقوتها، دون أن تُنفِّذ هي ذاتها شيئًا.
-
(٣)
ولكن ما القول في النفس البشرية التي توجد بأسرها — على ما يُقال — في الجسم، حيث تعاني الشر والألم، وحيث تحيا في أسًى، ورغبة، ورهبة، وكل ضروب الشر، والتي يُعَد الجسم لها سجنًا ومقبرةً، والعالم كهفًا وجحرًا؟ ألا يتنافى هذا الرأي عنها مع ما قيل عنها؟
فلنقل الآن إن أسباب هبوط النفس ليست واحدة؛ فكل العقول، ومنها العقل الكُلي وغيره، توجد في مجال التعقُّل الذي نُسمِّيه بالعالم المعقول. وهذا العالم يشتمل أيضًا على القوى العقلية التي ينطوي عليها العقل الكلي والعقول الفردية؛ إذ إن العقل ليس واحدًا، بل هو واحد وكثير في نفس الآن. ولا بد أن تكون النفس بدورها واحدة وكثيرة؛ فعن النفس الواحدة تَصدر نفوس كثيرة ومختلفة، مثلما تَصدر الأنواع، العُليا منها والدنيا، عن جنس واحد. وبعضها قد وُهِب عقلًا بوفرة، وبعضها وُهِبَه أقلَّ من سابقه، وذلك في العقل الفعال على الأقل. إذ إن هناك عقلًا ينطوي بالقوة على الكائنات الأخرى كأنه كائن حي كبير، وهناك عقول أخرى يحتوي كلٌّ منها بالفعل على ما يحتويه غيره بالقوة. فالأمر هنا أشبه ما يكون بمدينة لها نفس تتضمن سكانًا لكل منهم نفس، ولكن نفس المدينة أكمل وأقوى، وإن لم يكن هناك ما يمنع من أن تكون لبقية النفوس طبيعة مماثلة لها. والأمر هنا أيضًا كأن نيرانًا كبيرة وصغيرة تنشأ عن مجموع النار. فالحقيقة الكاملة للنار هي حقيقة مجموع النار، أو بالأحرى تلك التي تَصدُر عنها حقيقة تلك النار بأسرها. ووظيفة النفس العاقلة هي التفكير، ولكنها لا تكتفي بالتفكير وحده؛ إذ لو كانت تلك هي مهمتها الوحيدة، لما تميزت عن العقل في شيء. فهي إذ تضيف إلى ملكتها العقلية شيئًا آخر هو الذي يميز وجودها الخاص بها، لا تظل عقلًا، بل لديها أيضًا وظيفة خاصة، شأنها شأن كل الأشياء الحقيقية. وهي حين تُلقي بنظرتها إلى الحقيقة السابقة عليها، تُفكِّر، وحين تنظر إلى ذاتها، تبقى على ماهيتها، وحين تنظر إلى ما يليها، تنظم وتدبر وتتحكم؛ إذ ليس التوقف عند المعقول ممكنًا على الإطلاق، إن كان يمكن أن تنشأ حقيقةٌ أخرى بعده، هي أدنى منه ولا شك، ولكنها موجودة بالضرورة، ما دامت الحقيقة السابقة عليها ضرورية بالمثل.
-
(٤)
إن النفوس الفردية تُمارِس ميلها العقلي حين تعود إلى الموضع الذي أتت منه، ولكن لها قدرة تُمارسها على الموجودات الدنيا، فهي أشبهُ بالشعاع المضيء الذي يرتبط بالشمس من أعلى، ولا يأبى أن يُمِد الموجود الأدنى بالضوء.
ولو كانت النفوس تظل في المعقول مع النفس الكونية، لوجب أن تتخلص من الألم، فهي معها في السماء، تشاركها السيطرة، كالملوك الذين يظلون مع العاهل الأعظم، فيحكمون معه دون أن يهبطوا إلى مكانة رجال الحاشية، ففي ذلك المجال تكون كل النفوس معًا وفي موضع واحد. ولكنها تتغير وتنتقل من الكون إلى أجزائه؛ فكل نفس منها تود أن توجد مستقلة بذاتها، وتسأم حياتها مع شيء آخر، فتنطوي على ذاتها. وحين تظل طويلًا في هذا الابتعاد والانفصال عن الكل، دون أن تُوجِّه أنظارها صوب المعقول، تغدو جزئية، وتنعزل وتضعف، وتدب الكثرة في فعلها، ولا تتأمَّل إلا أجزاء. ففي استنادها إلى موضوع واحد منفصل عن المجموع، تبتعد عن كل الباقين، وترد إلى هذا الموضوع الواحد الذي يصطدم به كلُّ الباقين وتتوجه نحوه، فتبتعد عن المجموع، وتحكم موضوعها الخاص بصعوبة، وتغدو متعلقة به، تضمن له موضوعات خارجية، وتصبح ماثلة ومتغلغلة فيه إلى حد كبير.
ذلك هو ما يُسَمَّى بفقدان الأجنحة، والسجن في الجسم، للنفس المنحرِفة عن الطريق السويِّ الذي كانت تحكم فيه الموجودات العليا، مسترشدة بالنفس الكونية، وهي الحالة السابقة التي يقتضي خيرها ذاته أن تعود إليها.
فالنفس إذن قد قُيِّدَت وغُلِّلت بعد هبوطها، ولا يتم فعلها إلا بواسطة الحواس؛ لأنها تُعاق منذ البداية عن أن تفعل بالعقل. فهي، على ما يُقال، في قبر وسجن، ولكنها حين تعود إلى التفكير، تتخلص من هذه العلائق، وتعود إلى الصعود عندما تبدأ تتذكر لتتأمل الموجود؛ إذ إنها تظل مشتملة، رغم كل ذلك، على جزء أعلى. فللنفوس بالضرورة حياة مزدوجة؛ هي تحيا تلك الحياة الأخرى تارة، وهذه الحياة الدنيا تارة أخرى، وتنهمك في حياتها الأولى عندما تُوثِّق صِلتَها بالعقل، أمَّا حياتها الثانية فلا تنغمس فيها إلا إذا اضطرتها إلى ذلك طبيعتُها أو الظروف العارضة.
هذا، على وجه التقريب، هو ما يرمي إليه أفلاطون، حينما يجعل في خليط المجال الأدنى أقسامًا وأجزاءً. فمن الضروري، كما يقول، ألا تصل النفوس إلى الميلاد إلا حين تكون قد شُكِّلَت بواسطة هذا الجزء أو ذاك من الخليط.٤ وحين يقول إن الله يبذر النفوس، فعلينا أن نفهم هذا القول بالمعنى الذي يُصوِّر به الله متكلمًا ومتحدثًا؛ إذ إن أفلاطون يُصوِّر لنا الأشياء المغروزة في طبيعة الكون متولدة مخلوقة، ويكشف لنا بالتسلسل والتعاقب عن الحوادث والحقائق الأزلية.٥ -
(٥)
وإذن، فليس هناك تعارض بين كل هذه التعبيرات؛ بذر النفس في تربة الصيرورة، وهبوطها الذي يرمي إلى كمال الكون، والعقاب، والكهف وضرورة هذا الهبوط وحريته — إذ إن الضرورة تنطوي على الحرية — والحلول في الجسم، بوصفه حلولًا في شيء مرذول. كذلك لا تختلف تعبيرات أنبادقليس: المنفى الذي يفصلها عن الله، والرحلة الهائمة، والخطيئة. وكذلك تعبير هرقليطس: الراحة في الفرار.
ونستطيع أن نقول بوجه عام إن الحرية في الهبوط لا تتناقض مع الضرورة؛ فالمرء لا يتوجه إلى الأسوأ إلا كرهًا، ولكنه لما كان يتوجه إليه بحركته الخاصة، ففي وُسعنا أن نقول إنه يتحمل عقوبة ما اقترفه. ومن جهة أخرى، فما دام هناك قانون أزلي للطبيعة هو الذي يتحكم في هذه الأفعال والانفعالات، وما دام الموجود الذي يضم إلى الجسم بهبوطه من المجال الأعلى يُلبِّي عند وصوله حاجاتِ موجود آخر، فإن المرء لا يكون متجنيًّا على نفسه أو على الحقيقة حين يقول إن الله هو الذي أرسله. والواقع أن آخر آثار المبدأ ترتبط دائمًا بالمبدأ الذي صدرَت منه، حتى لو كان الوسطاء عديدين.
أمَّا عن الخطيئة فهي مزدوجة؛ هي تلك التي تهتم بها النفس لهبوطها، وتلك التي يكون قوامها الأفعال المرذولة التي ترتكبها النفس حين تأتي هنا. فالأولى هو حالة هبوطها ذاتها، أمَّا عن الثانية فحين يكون غوص النفس في الجسم أقلَّ عمقًا، وحين تنسحب منه بسرعة أكبر، فهي خليقةٌ بأن يحكم عليها تبعًا لمزاياها، وهنا تعني كلمة الحكم أن الأمر يتوقَّف على قانون إلهي، ولكن الإفراط في الرذيلة يستحق عقابًا يُشرِف عليه زبانية القصاص.
وهكذا تأتي النفس، ذلك الموجود الإلهي الذي يصدُر عن المجالات العليا، إلى داخل الجسم. والنفس، آخر الألوهيات، تأتي هنا بميل إرادي، لتمارس قوتها وتبثَّ النظام فيما هو تالٍ لها. فإذا فرَّت النفس من هذا العالم في أسرع وقت ممكن، فلن ينالها أيُّ أذًى نتيجةً لكونها قد عرَفَت الشر، وعرَفَت طبيعة الرذيلة، ومارست قُواها وأنتجت أفعالًا وآثارًا؛ فكل القوى التي تظل في العالم اللامحسوس غيرَ فعالة، تغدو عقيمةً إن لم تنتقل إلى الفعل، بل إن هذه القوى إن لم تتكشَّف وتصدر عن النفس، لجهلت هذه أنها تملكها؛ إذ إن الفعل يكشف دائمًا عن قُوًى كامنة خفية ليست في ذاتها حقيقة فعلية. والواقع أن كل امرئ يُعجَب للكنوز الباطنة في أي موجود حين يرى تنوع آثاره الخارجية، كما تظهر في الأفعال الدقيقة التي تَصدر عنه.
-
(٦)
لا ينبغي أن يوجد شيء واحد فحسب، وإلا لظل كل شيء خفيًّا، ما دامت الأشياء لا تكون لها في الواحد أية صورة متميزة. ولو ظل الواحد ساكنًا في ذاته لما وُجِد أي موجود خاص. ولو لم توجد من بعد الواحد مجموعةُ الموجودات التي لها مرتبةُ النفوس، لما كانت تلك الكثرة من الموجودات الصادرة عن الواحد.
وبالمثل لا ينبغي أن تُوجَد النفوس وحدها، دون أن تظهر آثار فعلها؛ فمن الخصائص الكامنة في كل طبيعة أن تنتج من بعدها، وأن تنمي ذاتها سائرة من مبدأ غير منقسم، هو نوعٌ من البذرة، إلى ناتج حسي. ويظل الحد السابق في المكان الخاص به، ولكن ما يحدثه ينتج عن قوة كامنة فيه. وليس عليه أن يُبقِيَ هذه القُوى ساكنة، أو أن يغار منها فيجعل لها آثارًا محدودة، بل يجب أن تتقدم هذه القوة دوامًا، حتى تصل كل آثار المبدأ الأسبق إلى آخر الموجودات في حدود الإمكان؛ نتيجةً لعِظَم هذه القوة التي تمدُّ هباتها إلى كل الموجودات ولا تترك شيئًا دون أن يناله منها نصيب؛ إذ لا شيء يمنع موجودًا من أن يكون له من الخير النصيب الذي يمكنه تلقِّيه. وإذا كانت طبيعة المادة أزلية، فمن المحال — ما دامت موجودة — ألا يكون لها نصيبها من المبدأ الذي يُمِد كل شيء بالخير، بقدر ما يكون في وسعها تلقيه. وإن كان ظهور المادة نتيجة ضرورية لعلل سابقة عليها، فلا يجب أيضًا في هذه الحالة أن تكون منفصلة عن هذا المبدأ، وكأن هذا المبدأ الذي يُضفي عليها وجودها، يتوقف لعجزه عن المُضيِّ حتى يصل إليها. وإذن فأجمل ما في المحسوسات هو إبانتها عن خير ما في المعقولات وعن قدرتها وخيريَّتها؛ فالحقائق المعقولة والحقائق المحسوسة مترابطتان دائمًا؛ الأولى توجد بذاتها، والثانية تتلقى الوجود منذ الأزل بمشاركتها في الأولى. وهي تُقلِّد الطبيعة بقدر استطاعتها.
-
(٧)
هناك طبيعتان؛ طبيعة معقولة، وطبيعة محسوسة. ومن الخير للنفس أن تكون في الطبيعة المعقولة، ولكن من الضروري — وهذه طبيعتها — أن تشارك في الوجود المحسوس. وليس علينا أن نحمل عليها على أساس أنها ليست موجودًا رفيعًا من كل الوجود؛ إذ إنها تحتلُّ بين الموجودات مكانة وُسطى. فلها من ذاتها قدرٌ إلهي، ولكن لما كان موضعها في نهاية المعقولات وفي أطراف الطبيعة المحسوسة، فإنها تهَب هذه الطبيعة شيئًا من ذاتها. وفي مقابل ذلك تتلقى شيئًا من تلك الطبيعة، تُنظِّمه، مع بقائها هي ذاتها بمأمن، وتغوص فيه من فرط حرارتها، ولا تظل بأكملها في ذاتها. وفضلًا عن ذلك، ففي وُسعها أن تصعد إلى أعلى، ولما كانت قد اكتسبت خبرة بما رأته وبما تقبَّلته هنا، ففي وُسعها أن تَفهم كُنه الوجود في المعقول، وأن تتعلم كيف تعرف الخير بمزيد من الوضوح، بأن تُقارنه بضده؛ إذ إن ممارسة الشر تؤدي إلى زيادة معرفة الخير، في الموجودات التي تَقتصر قوتها دون معرفة الشر بعلم يقيني قبل أن تكون قد مارسَته. والتفكير الاستدلالي هبوطٌ إلى أدنى درجات العقل؛ فهو عاجز عن أن يصعد إلى ما فوق ذلك، ولكن لما كان العقل يفعل بذاته، ولا يستطيع أن يظل في ذاته نتيجةً للضرورة والقانون الطبيعي، فإنه يسير حتى النفس. فهنا نهاية المطاف بالنسبة إليه. وإذ يُعاود العقلُ الصعود في اتجاه مضاد، فإنه يترك الموجود الذي يجيء من بعده. وكذلك الحال في فعل النفس. وما يأتي من بعدها هو موجودات عالمنا هذا، أمَّا ما قبلها فهو تأمل الحقائق. وفي بعض النفوس يتم هذا التأمل شيئًا فشيئًا وعلى التوالي، ويتم التوجه نحو ما هو أحسن في محل أسفل. أمَّا النفس التي نعرفها باسم النفس الكونية فلا تجد ذاتها مطلقًا بسبيل القيام بفعل فيه شر. وهي لا تعاني أي شر، بل تدرك بالتأمل العقلي ما هو أدنى منها، وتتعلق دائمًا بالموجودات العليا، ما دام الأمران مُمكِنَين في نفس الوقت. وهي تأخذ من هذه الموجودات لتعطي موجودات هذا العالم، ما دام من المستحيل — بوصفها نفسًا — ألا تكون على صلة بها.
-
(٨)
وإن كان لنا أن نُغامِر بإبداء رأيٍ يبدو مضادًّا لرأي الآخرين، فلنقل إنه ليس صحيحًا أن كل نفس تغوص بأكملها في المحسوس، حتى نفسنا ذاتها؛ ففيها شيء يظل دائمًا في المعقول. ولكن إن كان الجزء الذي في المحسوس هو السائد، أو بالأحرى إن كان مُسوَّدًا ومضطربًا، فلن يسمح لنا بأن نشعر بالموضوعات التي يتأملها الجزء الأعلى من النفس؛ إذ إن موضوع تفكيره لا يأتينا إلا عندما يهبط حتى يصل إلى شعورنا. ونحن لا نعلم ما يحدث في جزء معين من أجزاء النفس إلا إذا توصلنا إلى معرفة كاملة بالنفس؛ فالرغبة مثلًا إن ظلت في الملكة الشهوية، لما عرَفْناها، وإنما نعرفها عندما ندركها بملكة الحس الباطن، أو بالتفكير المنعكس، أو بهما معًا. فلكل نفس جانب أخسُّ يتجه نحو الجسم، وجانب أشرفُ يتجه نحو العقل. والنفس الكلية، وهي نفس الكون، تنظم الكون بجزئها الذي هو في جانب الجسم. وهي أعلى من الكون، تفعل دون أن ينالها تعب، إذ إنها تُقرر أحكامها، لا بالاستدلال مثلنا، بل بالعيان العقلي كالفن. فالجزء الأدنى من تلك النفس هو الذي ينظم الكون. وللنفوس الجزئية التي هي نفوس أجزاء من الكون، جانب أعلى بدورها، ولكنها تشغل بالحواس وتأثراتها. وهي تُدرِك أشياء كثيرة مضادة لطبيعتها، تؤلمها وتعكر صفوها. والجزء الذي ترعاه ناقص، يُصادِف مِن حوله كثيرًا من الأشياء الغريبة؛ ولذا كانت رغبتها تتجه إلى أمور كثيرة أخرى، تجد فيها لذة، غير أن لذتها تخدعها. ولكن للنفس أيضًا جزءًا لا يتأثر بتلك الملاذِّ الزائلة، يحيا حياة شبيهة بحياة النفس الكلية.