المقال التاسع

هل النفوس كلها تُكوِّن نفسًا واحدةً؟
  • (١)

    قلنا إن نفس كل موجود واحدة؛ لأنها حاضرة بأسرها في كل موضع من البدن، فهي إذن واحدة حقيقة، وليس لها جزء في هذا الموضع من البدن وجزء آخر في ذاك؛ فالنفس في الموجودات التي تُحِس، كالنفس الغاذية في النباتات، توجد بأكملها في كل موضع من البدن، وفي كل جزء من أجزائه. فهل تكون نفسي وكلُّ النفوس الأخرى بالمثل، نفسًا واحدةً؟ وهل في الكون كلِّه نفسٌ واحدة لا تنقسم تبعًا للكتلة الجسمية، بل تكون في كل موضع كما هي؟ — فما الذي يمنع من أن تكون النفس التي في الكون واحدة، ما دامت النفس التي فيَّ واحدة، وما دامت لا تنطوي على كتلة مادية ولا جسم؟ فإن كانت نفسي ونفسك تَصدر عن النفس الكونية، فلن تكون كلُّ النفوس بدورها سِوى نفسٍ واحدة. فما هي تلك النفس الواحدة إذن؟

    – علينا أن نبحث أوَّلًا إن كان للمرء الحقُّ في القول إن كل النفوس تُكوِّن نفسًا واحدةً، بالمعنى الذي تكون فيه نفس الفرد واحدة؛ إذ إن من الممتنِع أن تكون نفسي ونفس فرد آخر، أيًّا كان، نفسًا واحدةً. فلو صح ذلك لوجب، حين أشعر بإحساس، أن يشعر به ذلك الفرد أيضًا، وأن يكون خيِّرًا إن كنت خيِّرًا، ويَرغب إن رغبت، وأن تكون لنا عمومًا نفسُ التأثرات، كلٌّ منَّا كالآخر وكالكون، بحيث إنني لو أحسست تأثرًا لأحس به الكون معي. ولو كانت هناك نفس واحدة فحسب، فكيف كانت توجد نفوس عاقلة وأخرى بلا عقل، ونفوس في الحيوان وأخرى في النبات؟ ومع ذلك، فإن لم نُسلِّم بهذا القول، فلن تكون في الكون وحدة، ولن يهتديَ المرء إلى مبدأ واحد للنفوس.

  • (٢)
    ولكنَّا لو فرضنا أوَّلًا أن نفسي ونفس شخص آخر هما نفسٌ واحدة، فليس صحيحًا مع ذلك أن المركب من النفس والجسم واحد في كل مِنَّا؛ فالنفس المتماثلة في جسمَين مختلفَين لا يكون لها في كلٍّ منهما عينُ التأثرات. والأمر هنا كما في «الإنسان»، فهو يتحرك فيَّ إن كنت في حركة، وهو ساكن فيك إن كنتُ ساكنًا.١ فليس من الممتنع ولا من المُحال أن نُسلِّم بأن النفس هي هي فيَّ وفيك، وليس من الضروري تبعًا لذلك أن يستشعر غيري نفس التأثر الذي أُحِس به. بل إنَّا لنَجد في الجسم الواحد ذاته أن التأثير الذي تُحِسه إحدى اليدَين لا تُحِسه الأخرى، بل تُحِسه النفس التي هي في مجموع الجسم. وإذن فإن كان يلزم أن تعرف ما يُؤثِّر فيَّ لَوجب وجودُ جسم واحد يتحد فيه جسمانا، وبهذا يكون للنفسَين حين ترتبطان سويًّا على هذا النحو إحساساتٌ واحدة. ولكن علينا أن نذكر أن كثيرًا من الظواهر التي تقع في الجسم الواحد تغيب عن المجموع، وخاصةً إذا كَبِرَ حجم الجسم. ومما يُقال عن الحيوانات البحرية الضخمة إن الحيوان بأسره لا يكون له أي إحساس بمؤثرات معينة يستشعرها جزء من الجسم، حينما تكون تلك المؤثرات ضعيفة الإثارة، وإذن فليس من الضروري قط إذا تأثر جزء من الجسم وحده أن يكون للحيوان كله إحساس واضح. ولا جدال في أنه ليس مما يمتنع أن نُسلِّم عندئذٍ بوجود تعاطف في المجموع، فهذا أمر لا يُنكَر. ولكن لا ينتج عن ذلك بالضرورة انطباع حسي؛ فوجود الفضيلة فيَّ والرذيلة في آخر، ليس أمرًا عجيبًا على الإطلاق، ما دام الشيء الواحد يمكن أن يكون متحركًا في موجود وساكنًا في آخر.
    وليس معنى كون النفس واحدة أنها لا تشارك في الكثرة قط؛ إذ إن هذه صفة لا يجب أن تُنسَب إلا إلى الموجودات العليا فحسب، وإنما تعني أنها واحدة وكثيرة، وأنها تشارك في آنٍ واحد «في الطبيعة التي تنقسم في الجسم وفي الطبيعة اللامنقسمة أيضًا.»٢ وهكذا نقول مرة أخرى إنه لا توجد سوى نفس واحدة. وكما يحدث فيَّ ألا يتحكم التأثر الذي يطرأ على جزء من البدن في المجموع ضرورة، بل يكون للظاهرة التي تحدث في الجزء الرئيسي مني أثر على الأجزاء الأخرى، فكذلك تكون للكون آثار واضحة على كل فرد إلى حد ما؛ لأن كل فرد متعاطفٌ بوجه خاص مع مجموع الأشياء، ولكنَّا لا نتبين جيدًا ما إذا كان للآثار التي تصدر عن كل منَّا أثرٌ على المجموع.
  • (٣)

    ولكن قد يسير استدلالنا على نحو آخر، فيُنبئنا بخلاف ذلك أنَّا في تعاطف مُتبادَل؛ فقد يُؤدِّي منظرٌ إلى أن يبعث فينا جميعًا ألَمًا أو سرورًا، ونحن نخضع بالطبيعة لجاذبية الصداقة، والصداقة تأتي من وحدة النفوس. وإذا كانت الطلاسم وضروب السحر تقرب وتصل ما بيننا عن بعد بالتعاطف، فعلة ذلك هو وحدة النفوس، وقد يكون لأقوال تُتلى بصوت خفيض أثرٌ بعيد، وتُسمَع من مسافات شاسعة. ومن هذه الحقيقة يتبين لنا وحدة كل الأشياء التي تأتي من وحدة النفس.

    فإن لم يكن هناك سوى نفس واحدة، فكيف يكون ثمة نفس عاقلة ونفس بلا عقل ونفس غاذية؟ ذلك لأن «الماهية اللامنقسمة» للنفس، التي لا تقسم بين الأجسام، لا بد أن تكون لها مرتبة المبدأ العاقل، أمَّا «الماهية التي تقسم بين الأجسام» والتي هي واحدة، فإنها تُحدِث في كل مكان بانقسامها ملَكة الإحساس، وهي ملَكة أولى ينبغي أن نُسلِّم بها. والملكة الثانية هي قدرتها على تصوير الأجسام وإنمائها. ومع ذلك فاشتمالها على أكثر من قوة واحدة لا يعني أنها ليست واحدة؛ ففي البذرة أيضًا أكثر من قوة، ولكنها واحدة، ومن هذه الوحدة تأتي كثرةٌ هي بدورها واحدة.

    وإذن فلِمَ لَم تكن كل الملكات في كل موجود؟ لنتأمل حالة النفس الفردية، التي توجد — كما يُقال — في كل مكان؛ إن ملكة الإحساس ليست واحدة في كل الأجزاء الحاسة، والعقل ليس في الجسم بأسره، والقوة الغاذية ليست واحدة في كل الأجزاء الحاسة، والعقل ليس في الجسم بأسره، والقوة الغاذية تُمارس في أجزاء لا تُحس، ولكن هذا لا يمنع من أن تعود النفس إلى الوحدة عندما يختفي الجسم.

    ولكن إن كانت النفس تستمد من الكون الملكة الغاذية، فذلك لأن تلك الملَكة تنتمي أيضًا إلى النفس الكونية. وإذن، فلم لا تصدر تلك الملكة بدورها عن نفسنا؟ ذلك لأن الملكة الغاذية في الكون هي أيضًا تلك التي تحكم على الأشياء مستعينة بالعقل، وهي لا تعين الملكة المصورة التي تستمدها النفس من الكون في تشكيل الجسم، بل إنها هي ذاتها كانت تستطيع أن تُشكِّله، لو لم تكن تلك الملَكة توجد في الكون.

  • (٤)

    من كل ما قلنا، كنا نرمي إلى ألا يجد المرء في إرجاع النفوس إلى الوحدة أمرًا مستغرَبًا. ولكن الإثبات الجدلي يتطلب أن نسأل عن الطريقة التي تكون بها تلك النفوس نفسًا واحدةً؛ أيكون ذلك بقدر ما هي تَصدر عن نفس واحدة؟ وإن كان الأمر على هذا النحو، فهل تلك النفس ذاتها هي التي تنقسم، أم أنها تُنتِج — مع بقائها كاملة — نفوسًا كثيرةً من ذاتها؟ ولكن كيف يتسنَّى لموجود أن يستخلص من ذاته، مع بقائه على ما هو عليه، موجوداتٍ كثيرة؟ فَلْنهب بمعونة إله لنتبيَّن أنه إن كان ثمة جواهر عديدة، فيلزم أن يكون هناك أوَّلًا جوهر واحد، تَصدُر عنه الجواهر الكثيرة.

    فلو كانت النفس الواحدة جسمًا، لوجب أن تنشأ النفوس الكثيرة بانقسام ذلك الجسم إلى أجزاء، ولكانت النفس الواحدة هي الجوهرَ الشامل الذي تَصدر عنه بقية النفوس. ولو كانت تلك النفس متجانسة، لكانت كل النفوس متجانسة، ولكانت لها ماهية واحدة تملكها كاملة، ولما اختلفت إلا بكتلتها؛ فهي إمَّا أن تكون نفوسًا بفضل تلك الكتل، وعندئذٍ تكون كل منها مختلفة عن الأخرى. وإمَّا أنها نفوس بماهيتها، ولما كانت لها كلِّها ماهيةٌ واحدة، فإنها لا تكون إلا نفسًا واحدةً، وهذا يعني القول إن في الأجسام الكثيرة نفسًا واحدة. ولكن هناك قبل هذه النفس الواحدة الموزعة على الكثرة، نفسًا أخرى ليست موزَّعة عليها قط. ومن هذه النفس الأخرى تأتي النفس التي تكون في الأجسام الكثيرة، وهي كالصورة تتكرر في أماكن عديدة لنفس واحدة تظل في وحدتها، مثلها في ذلك مثل قطع عديدة من الشمع تتلقى علامة واحدة من خاتم واحد؛ ففي الحالة الأولى تنحلُّ النفس إلى كثرة من النقط. وفي الثانية، تكون النفس بحق شيئًا لا ماديًّا. ولو كانت النفس صفة من صفات الجسم، فليس من المستغرب أن توجد تلك الصفات الواحدة التي تأتي من جسم، في أجسام عديدة. وأخيرًا، فلو كانت النفس نفسًا بما هي كتلة وبما هي ماهية لكتلة في آنٍ واحد، فإن انقسام الجوهر الواحد بدوره ليس أمرًا يدعو إلى الاستغراب.٣

    ولكن الحقيقة أن النفس، كما قلنا، ليست مادية، وأنها جوهر.

  • (٥)

    وإذن كيف يوجد جوهر واحد في جواهر عديدة؟ إنه إمَّا أن يكون وعندئذٍ لا يكون هناك سوى جوهر واحد، تُرَد الجواهر الكثيرة إليه، ويهب من ذاته للكثرة، دون أن تتبدد ذاته فيها، أي إن في وسعه أن يُقدِّم من نفسه إلى كل الأشياء، وإن ظل حيث هو وبقي واحدًا؛ إذ إنه يكمن في كل الأشياء معًا ولا ينفصل عن شيء. فهو موجود واحد يتمثل في موجودات كثيرة.

    وليس في هذا شيء بعيد عن التصديق؛ فللعلم الكلي أجزاء، ومع أن هذه الأجزاء تُستمَد منه، فإنه يظل كليًّا شاملًا. والمبدأ البذري أيضًا كلٌّ تأتي منه الأجزاء التي يجد ذاته منقسمًا إليها بطبيعته، وإن ظل كل مبدأ كاملًا دون أن ينتقص من اكتماله شيء. والمادة هي التي تقسمه، ولكن كل هذه الأقسام تكون موجودًا واحدًا.

    وقد يُقال إن الجزء من العلم ليس هو الكل، وردُّنا على ذلك أنه لا شك في أن العالم حين يضع أمام ناظِرَيه في وقت بحثه ذلك الجزءُ الذي يحتاج إليه من العلم، يكون هذا الجزء في المكانة الأولى. ولكن الواقع أن كل الأجزاء الأخرى تتلو من هذا الجزء، وتوجد فيه بالقوة على نحو كامن. وهكذا يكون كلُّ العلم في ذلك الجزء. وهذا بلا شك، هو المعنى الذي يتحدث به الناس عن الكل والجزء في العلم؛ ففي العلم العقلي يكون كل شيء بالفعل في نفس الآن؛ ولهذا كان ينطوي على كل من الأجزاء التي ترغب الآن في بحثها، بحيث تكون كلها ماثلةً تمامًا فيه؛ فكل شيء حاضر في كل من الأجزاء، والجزء يستمد قوته من جواره للكل. وليس لنا أن نعتقد أن نظريةً في العلم تنعزل عن الباقين؛ فلو كانت منعزلة لما عادت من العلم أو الفن في شيء، ولما تعدَّت قيمتها ثرثرة الأطفال. فإذا كانت النظرية علمية، فإنها تنطوي بالقوة على كل الباقين. فالعالم الخبير يُضمِّن هذه النظرية كلَّ النظريات الأخرى، بوصفها نتائجَ لها، وهكذا يُثبِت في تحليله أن النظرية تتضمن كل النظريات السابقة التي يتم التحليل بها، والنظريات التي تنشأ عنها.

    وإذن، فلو بدا لنا شيء كهذا أمرًا مستغربًا، فإنما يكون ذلك راجعًا إلى ضعفنا وظلام نفسنا، أمَّا في العالم المعقول، فكل شيء واضح شفاف.

١  النفوس كلها واحدة، ولكن الاختلافات الفردية ترجع إلى العنصر الجسمي الذي فيها، وكذلك الحال في «فكرة الإنسان» أو «الإنسانية»؛ فهي واحدةٌ فينا جميعًا، ولكنها قد تكون متحركة في شخص وساكنة في آخر تبعًا لحالة كلٍّ منهما؛ فكل مِنَّا «إنسان»، ولكن ليس معنى ذلك أننا جميعًا نشعر شعورًا واحدًا. ويُلاحَظ أن المغالطة هنا واضحة؛ فليست الحركة أو السكون أمورًا تقوم بها فكرة «الإنسان» الموجودة في كل شخص.
٢  راجع معنى هذه العبارة المقتبسة عن أفلاطون، كما شرحها أفلوطين في المقال الأول وبداية المقال الثاني من هذه التساعية.
٣  في كل هذه الحالات يُثبِت أفلوطين وحدة النفس عن طريق التسليم برأي الخصوم، ولكنه يعود في الجملة التالية فيقول إن كل ما قاله كان من وجهة نظر خصومه فحسب، أمَّا هو فرأيه أن النفس لا مادية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤