مذهب أفلوطين العام

الشائع أن يُوصَف مذهب أفلوطين بأنه من مذاهب وَحدة الوجود. غير أن لِوَحدة الوجود مظاهرَ مختلفة؛ فمن الممكن أن نصف الفلسفة الإيلية مثلًا بأنها من مذاهب وحدة الوجود، ومع ذلك فالطابَع العام لنظرة بارمنيدس إلى الكون يختلف كل الاختلاف عن طابع مذهب أفلوطين؛ فصورة العالم عند الأول سكونية، والكون عنده يكون كُلًّا متجانسًا لا تَدرُّج فيه ولا تنوُّع، أمَّا عند أفلوطين فصورة العالم حركية، أو متدرجة على الأصح. والفكرة الأساسية عنده هي تسلسل مراتب الوجود ابتداءً من المركز الأول، وامتدادها حتى أكثر درجات الوجود تفرُّقًا وتبدُّدًا.

ومن شأن كل مذهب يُبنى على تدرج الموجودات هبوطًا من المبدأ الأول، أن يقول بحرَكتَين أساسيتَين؛ حركة هابطة وحركة صاعدة. أمَّا الحركة الهابطة فهي وصفية عقلية، يشرح فيها الفيلسوف سَير موكب الوجود من الواحد تدريجًا، حتى ينتهيَ إلى المادة التي تُعَد أحطَّ الموجودات مرتبة، وأمَّا الحركة الصاعدة فهي في ارتقاء هذا السلم مرة أخرى، والعودة إلى الواحد الأول. وهذه الحركة الأخيرة لن تكون عقلية هذه المرة، بل لا بد أن تكون عيانية صوفية، أساسها هذا التطهر وتصفية النفس، حتى يتَسنَّى لها الارتقاء تدريجًا، والعودةُ إلى الاتحاد بمصدرها الأول. وإذا كان الاستدلال العقلي هو أساسَ إدراكنا للحركة الهابطة، فإن الاستدلال يفقد بالضرورة معناه في الحركة الثانية، ولا يعود في وُسعِنا أن نصل إلى الموجود العالي على العقل إلا عن طريق الاتحاد الصوفي.

ولقد كان أفلوطين يركز اهتمامه تارة على الحركة الكونية، حركة الهبوط التي تصف الفاعلية التلقائية للواحد، وتارة أخرى على حركة العودة، أي حركة النفس في عودتها إلى الواحد الأول؛ ففي وصفه للحركة الأولى كان فيلسوفًا ميتافيزيقيًّا بمعنى الكلمة، وفي وصفه للثانية كان متصوفًا روحيًّا. وليس هدفنا في هذا الفصل إلا أن نَعرِض لمذهبه الميتافيزيقي، تارِكين الكلام عن تصوفه إلى الفصل التالي.

فأفلوطين من حيث هو فيلسوف عقلي، ينشُد الوحدة دائمًا. ومن أهم خصائص كل نزعة عقلية أنها لا تطمئن حتى تَهتديَ إلى وحدة وثبات. أمَّا الكثرة والتعدد، وأمَّا التغير والتطور، فتلك كلها أفكار ينفر منها أصحاب النزعات العقلية على الدوام. وهكذا كان عقل أفلوطين يسعى دائمًا إلى رد كل كثرة إلى وحدة أشمل، تُنظِّمها وتنطوي عليها.

فالنفس مثلًا إذا قُورِنَت بالجسم كانت مصدرَ وحدته؛ لأنها تُحييه كلَّه وتجمع كلَّ أطرافه لتُكوِّن منها وحدة لا تتفرق. غير أن النفوس الفردية كثيرة، فهي في حاجة إلى أن تُستمَد من مبدأ واحد جامعٍ بينها. هذا المبدأ في نظر أفلوطين هو النفس الكلية، وهي المنبع الذي تُستمَد منه كل نفس فردية. غير أن النفس الكلية، رغم كونها واحدة، فليست هي الوحدةَ المطلقة؛ إذ لا بد لتصور النفس الكلية من تصور العالم الذي تحييه تلك النفس وتبعث فيه الحركة. وهكذا يكون علينا أن نَعلو خطوة أخرى، فنجد العقل الذي هو ثابت ثباتًا مطلقًا، وأفكاره هي المثل الأزلية التي يشارك فيها كل ما يوجد في زمان ومكان. ولا شك في أن وحدة العقل أرقى من وحدة النفس؛ لأن في وُسع العقل أن يكتفيَ بالتفكير في ذاته وتأملها، أمَّا النفس فلا بد لها من عالم أو جسم تنظمه وتبعث فيه الحياة. ومع ذلك فوَحدة العقل بدورها ليست مطلقة؛ إذ إن كل تعقل وتفكير — حتى لو كان تفكيرًا للعقل في ذاته — ينطوي على نوع من الثنائية؛ إذ يضع العقل ذاته كموضوع يفكر فيه، أي إن فكرة العقل تتضمن بالضرورة ثنائية القائم بالتفكير وموضوع التفكير.

وإذن فالمبدأ الأول، والواحد وحدة مطلقة، لا يمكن أن يكون عقلًا، بل ينبغي أن يكون ماهية تعلو على العقل، وتظل دائمًا في هوية مع ذاتها. هذا المبدأ الأول يُسمِّيه أفلوطينُ بالواحد أو الخير، ويندر جدًّا أن يُسميَه بالله. فإذا شئنا أن ننسب إلى هذا الواحد صفات، لَتبيَّن لنا استحالةُ وصفه بأية صفة من الصفات المألوفة التي تنطبق على الموجودات الأدنى منه، بل إن صفة الوجود ذاتها، إذا ما نسبناها إليه، لكانت تنطوي على نوع من الثنائية؛ إذ إننا سنَحمل عليه الوجود، فيكون هناك موضوع، ومحمول يُحمَل عليه، وبهذا يفقد الأول وحدته المطلقة. فأحرى بنا، والحال كذلك، ألَّا نَصِف الموجود الأول بأية صفة إيجابية، بل نكتفي بالوصف السلبي، ونؤكد أنه بخلاف كل ما نعلم فحسب. وأقصى ما يمكننا أن نُطلِق عليه من صفات إيجابية، هو تأكيد كماله المطلق بالقياس إلى كل ما عداه. والواقع أن الواحد، بهذه الأوصاف، يقترب أكثر من أية فكرة أخرى نادت بها الفلسفة اليونانية، من فكرة الله، كما نفهمها حديثًا، وكما قالت بها المسيحية بوجه خاص.١

ومن هذه الوحدة تَصدُر أو تَفيض كل المراتب الأخرى للموجودات. ولأفلوطين في وصف هذا الصدور صورٌ وتشبيهات مختلفة، أشهرها تشبيه فيض النور من منبعه، وفيض الماء من ينبوع، وصدور أنصاف الأقطار عن المركز. والصفة المشتركة بين هذه التشبيهات هو تأكيدها بقاء المصدر أو المركز الأول ثابتًا، مع خروج غيره منه. فالواحد حين يخلق الموجودات لا ينتشر أو يتغلغل فيها، أو يأخذ من ذاته ليعطيها، بل يظل في وحدته الأصلية، ولا يخرج عن ذاته على الإطلاق. ومع ذلك يفيض موكب الموجودات عنه في عملية تسير سيرًا منتظمًا من البداية إلى النهاية، وتتحكم فيها ضرورةٌ واحدة، وقانون واحد. وكذلك الحال في كل مبدأ آخر؛ فالعقل الذي تَصدر عنه النفس يظل كما هو، بينما تَفيض عنه المبادئ الأدنى منه. وعنصر التشبيه يمتد في كل مراحل وصف أفلوطين لتسلسل الموجودات. فقوله إن كل موجود يكون «في» المبدأ السابق عليه، لا يعني وجود علاقة مكانية بينها، أي احتواء المبدأ الأول على التالي له، وكل ما يعنيه هو أن التاليَ معتمِد على السابق ومتوقف عليه فحسب، وكل لفظ يُعبِّر عن علاقة مكانية إنما هو تشبيه فحسب. وسنعرض فيما بعد للتفنيد المفصَّل الذي وجَّهه أفلوطين لفكرة مكانية النفس.

فإذا كانت فكرة المكان لا تنطبق على المبادئ العليا، وهي الواحد والعقل والنفس، وتنطبق على المادة وحدها، فإن الزمان لا ينطبق على الواحد والعقل، ولكنه يسري على النفس، بحكم موقعها المتوسط؛ فالنفس تتصل من جهةٍ بالوجود الأزلي، ومن جهةٍ أخرى بالأشياء الزمانية التي تنشأ عنها بواسطة القوة التي تَستمدها النفسُ من علتها السابقة عليها. وهكذا نجد النفس الكلية في تأملها الدائم للعقل الذي يعلوها، لا تخضع للزمان، أمَّا النفوس الفردية فتتعرض للتغير؛ وذلك لأن لها صلةً بالعالم المتغير، بخلاف صلتها مع العالم المعقول. وسيكون أمامنا فيما بعد مجالٌ للحديث عن آراء أفلوطين في ماهية النفس بالتفصيل، وحسبُنا الآن هذه الإشارةُ العابرة إلى موقع النفس المتوسط بين مراتب الموجودات.

أمَّا المادة، فهي آخر سلسلة الموجودات وأدناها. وهي تنشأ عن النفس التي تَود دائمًا أن تُحاكيَ المبدأ الأول في فيضه، وفي خلقه موجودات أدنى منه، ولذا تخلق المادة. والمادة هي المرتبة الأخيرة، وهي تتصف بالاضطراب واللاتَحدُّد، وبالقدرة على تلقِّي كل الصور. وهي وإن كانت مصدرَ الشرور في هذا العالم، فإنها ضروريةٌ له؛ لأنها هي الأصل الذي تتكون منه الأشياء في عالمنا هذا، بعد تشكيلها.

وفي هذا الصدد يعرِض للمرء سؤال هام؛ فإذا كانت المادة هي مصدرَ الكثرة والشر، أي هي الطرف المضاد للواحد، فمن أين أتتها هذه القدرة على جلب الكثرة، وعلى الوقوف في مقابل الواحد؟ وهل يتضمَّن هذا الواحد في ذاته نقيضَه؟ لو كان هذا صحيحًا، لانطوى الواحد على نوع من الثنائية،٢ فينهار بذلك مذهب أفلوطين من أساسه؛ لهذا عمل أفلوطين على نقد الثنائية بشدة، وأكَّد أن المادة ليست شيئًا إيجابيًّا على الإطلاق، وإنما هي لا وجود سلبي خالص. وما كان وضعها في مذهبه إلا لأنها في نظره ضرورة عقلية يُحتِّمها إكمال سلسلة الموجودات حتى أدنى درجاتها. ولا شك في أن مذهبًا يعتمد على الحركة الدينامية لا بد أن يسير بموكب الموجودات حتى نهايته، ثم يعود فيؤكد ارتقاء هذه الموجودات ورجوعها إلى مبدئها الأول. فلو لم يكن هناك طرف آخر كهذا، تنتهي إليه الحركة الهابطة وتبدأ منه الحركة الصاعدة، لما كانت للعالَم حركةٌ أو حياة، ولظل كلُّ ما فيه ساكنًا مجدِبًا. ولا بد أن تستمر الحركة بين الطرَفَين؛ الواحد في عليائه، والمادة في سلبيتها وكثرتها، حتى تَسريَ في الكون الحياة، وتَستمرَّ فصول العملية الكونية متتابعة بلا توقف.
فإذا شئنا أن نَتلمَّس اسمًا واحدًا نُطلِقه على مذهب أفلوطين العام، لوجدنا الآراء في هذا الصدد متضاربة. ومن أهم هذه الآراء رأي «تسلر» الذي يُطلَق عليه اسم مذهب «وحدة الوجود الدينامية dynamische Pantheismus».٣ ويُبرِّر تسلر رأيَه هذا بقوله: إن العلاقة بين المتناهي وبين المبدأ الأول — أو الله — في هذا المذهب، من شأنها ألا يكون للمتناهي أيُّ وجود مستقل، بل يكون مجرد عرَضٍ بالنسبة إليه. كما أن كل ما ينشأ إنما ينشأ بفعل القوة الصادرة من الماهية الأولى، وهذه القوة لا تنفصل عن أصلها، وإنما تجمع بين كل مظاهرها فاعلية واحدة. كما أن أفلوطين قد ذكر صراحةً أن كل ما يوجد إنما يوجد في الله؛ فالماهية الأولى حاضرة في كل شيء، ولكل شيء منها نصيب، أي إن كل شيء فيها.٤ على أن تسلر يستدرك بعد ذلك فيقول: إن حضور الله في سائر الموجودات هنا ليس بجوهره، كما هو الحال عند الرواقيين، بل بفاعليته وتأثيره فحسب. أمَّا الجوهر الأول فيظل دائمًا في ذاته، ولا يتجه أبدًا إلى الكثرة حتى يصبح هو الكثرة، وتصبح الأشياء المتناهية أجزاءً منه؛ فالأول يحتفظ بذاته، ولا يمتد منه إلى الأشياء سوى الفاعلية فحَسْب. وفي هذه الحالة يكون في وُسعنا أن نقول إن الكثير في الواحد، وليس الواحد هو الذي في الكثير. ولا يمكننا أن نقول إن الأشياء «في» الأول، إلا بمعنى أنها صادرة عنه فحسب.٥
وحضور الله في العالم يتم في المراحل السُّفلى بتوسط المراحل الأعلى منها؛ فعالَم الأجسام في النفس، والنفس في العقل nous، والعقل في الواحد، على شرط أن نفهم كلمة «في» هنا، كما قلنا، على أنها مجرد تشبيه لا يُعبِّر عن علاقة مكانية حقيقية، بل عن علاقة اعتماد فحسب.
هذا هو مجمل رأي تسلر في هذا الموضوع، ويقابله رأي «كيرد Caird» الذي يؤكد الصفة المتعالية للمبدأ الأول؛ فبينما حرَص تسلر على أن يُظهِر فكرة اعتماد كل الموجودات على فاعلية الأول؛ وبالتالي كونها «فيه» بهذا المعنى، نرى كيرد يهتم بتلك الفقرات العديدة التي يؤكد فيها أفلوطين علو الواحد على كل ما يدخل في نطاق المعرفة والعقل. فالوحدة المطلقة للمبدأ الأول لا تسمح في داخلها بوجود أي تعدد أو كثرة. وإذا كانت الموجودات الدنيا في حاجة دائمة إلى الأول، فإن الأول ليس في حاجة إليها على الإطلاق، وإنما يظل في علوه مكتفيًا بذاته، بعيدًا عن كل ما هو أدنى منه.
ولقد عرَض «أرنو Arnou» رأي تسلر وكيرد على أنهما متعارضان، وحين حكَم بينهما رأى أن لكلٍّ منهما ما يؤيده؛ فرأيُ تسلر — في نظره — يؤيده تأكيدُ أفلوطين أن الكثرة تعتمد على الواحد وتَستمد وجودها منه، ورأيُ كيرد يؤيده خروجُ الأول عن كل حد ووصف، واكتفاؤه بذاته، وبقاؤه كما هو رغم كل ما ينتج ويصدر عنه.٦

والذي نراه أن تسلر لم يخرج عن جوهر مذهب أفلوطين، ولم يقل بما يتعارض مع تعالي الواحد؛ فقد كان هو ذاتُه الذي أكد أن وحدة الوجود تُقال من ناحية الموجودات لا من ناحية المبدأ الأول؛ فالموجودات هي التي يمكن أن يُقال إنها كامنة فيه، وليس هو الكامِنَ فيها، وإذا نُظِر إلى وحدة الوجود بهذا المعنى كانت مختلفة عن المعنى المعتاد، الذي يكون الله فيه حاضرًا بجوهره في هذا العالم، كما هو الحال في وحدة الوجود الرواقية. ولا شك أن هذا المعنى لا يتعارض على الإطلاق مع القول بتعالي المبدأ الأول في ذاته؛ إذ إنه سيظل في تعاليه وستكون الموجودات هي التي تقترب منه باعتمادها عليه، أمَّا هو فمن الممكن أن تتحقق ماهيته دون أن يكون في حاجة إلى أي موجود آخر.

وخير ما يُعبِّر عن هذا المعنى الخاص الذي تتخذه وحدةُ الوجود عند أفلوطين، هو فكرة الفيض أو الصدور Emanation، وهي الفكرة التي تُوفِّق بين تعالي الأول عن كل ما يوجد، وبين حضور قُواه في كل الموجودات. فبواسطة فكرة الفيض يمكن أن يظل الأول في تعاليه، ويكون أشبهَ بمصدرٍ للنور يُشِع دون أن يفقد من ذاته شيئًا، ويُضيء الأشياءَ البعيدة دون أن ينتقل إليها. ولقد لاحظ «هويتكر» أن تشبيه فيض النور أقربُ إلى توضيح فكرة امتداد فاعلية الأول إلى كل الأشياء دون فقدانه شيئًا من ذاته؛ لأن الضوء عند أفلوطين طاقةٌ لا مادية تبعث دون فقدان شيء.٧

وإذن ففكرة الفيض أو الصدور هي الصفة المميزة لوحدة الوجود عند أفلوطين، وهي التي تفرق بينها وبين مذاهبَ عديدة أخرى قالت بوحدة الوجود دون الفيض. وهناك فارق آخر بين مذهب أفلوطين وبين بقية المذاهب القائلة بوحدة الوجود؛ فتسلسل الموجودات في مراتب كلٍّ منها تَلي الأخرى وتعتمد عليها، هي فكرة غريبة إلى حد ما؛ لأن الموجودات في مذاهب وحدة الوجود تظل لها كلِّها نفسُ المكانة، وتستوي كلها من حيث هي مظاهرُ للقوة الإلهية. وقد يُقال إن هذا الاختلاف لا يُمكننا من أن ننسب إليه القول بوحدة الوجود، ولكن الواقع أن أفلوطين إنما أتى بفكرة تسلسل الموجودات لِيُثبت امتداد قُوَى الأول حتى آخر مراتب الوجود وأدناها؛ فقوة الواحد، وفيضه، تَظل متمثلة حتى آخر الموجودات، متنقلة من موجود إلى الأدنى منه. وفي امتداد قوة الواحد إلى كل مراحل الوجود ما يؤيد إمكانَ انتساب مذهبه إلى وحدة الوجود، بشرط أن ندرك هذا المعنى الخاص، الذي يتخذه المذهب هنا؛ معنى انبعاث قوة الأول وفاعليته في كل مراتب الوجود مع بقائه في ذاته دون أدنى تبدد.

فإذا حاولنا أن نحدد موقع ميتافيزيقا أفلوطين بالنسبة إلى بقية الفلسفات اليونانية، وجَدْنا الأصل الأفلاطوني معترفًا به، حتى من أفلوطين ذاته؛ فسلسلة المبادئ تبدأ عند أفلاطون بالخير الذي هو فوق الوجود والعقل، ثم عالم المثُل الذي يتمثل فيه كل كمال يفتقر إليه العالمُ المحسوس، وأخيرًا المادة التي هي مبدأ الاضطراب والشر، ولا تعرف إلا التغير والصيرورة الدائمة. ولقد اعترف أفلوطين ذاته بأثر أفلاطون في فكرة تدرج المبادئ على هذا النحو ذاتِه.٨ ويقول «ريفو» بوجود شَبه آخر مع صورة العالم عند أرسطو؛ حيث يكون المحركُ الذي لا يتحرك هو المبدأَ الأول، وتَليه الصور الطبيعية؛ من نباتٍ ومَعدِن، ونجوم وعقول. كما يقول بنوع من التشابه بين فكرة امتداد القُوى الإلهية إلى كل الموجودات، وبين الكونيات الرواقية، التي تتمثل فيا نار زيوس في كل الأشياء، وتمتد العناية الإلهية حتى أبسطِ الموجودات الطبيعية.٩
ولا شك أن أقوى الفلسفات السابقة تأثيرًا على أفلوطين في هذا الصدد هي فلسفة أفلاطون. ومع ذلك فلنَحذر دائمًا القولَ إن أفلوطين إنما كان مجددًا للفلسفة الأفلاطونية، كما يحلو له هو ذاته أحيانًا أن يقول؛ فالفارق بين عصرَيِ الفيلسوفَين كبير، والنظرة العقلية التي بلَغَت أوجَها في عصر أفلاطون وأرسطو قد مرت بأطوار عديدة، وتأثرت بتيارات مختلفة عَمِلت كلها على تقوية الجانب الصوفي من حياة الإنسان. ومن هنا كان لا بد أن تتجه كل نواحي فلسفة أفلوطين إلى فكرة الوحدة مع المبدأ الأول، وهي فكرة يتمثل فيها الطابع الصوفي بوضوح، ولم تتمثل من قبل عند أفلاطون على الإطلاق. فرغم أن أفلاطون يتحدث عن تخليص النفس من حياتها الأرضية، وفرارها إلى الخير الإلهي، فإن الهدف الذي يرمي إليه من هذا الزهد هو «التشبه بالله بقدر الإمكان» كما صرح مرارًا. والتشبه بالله فكرة تختلف كثيرًا عن الوحدة الصوفية؛ إذ إن أقصى ما تهدف إليه هذه الفكرة هو أن يسعى الإنسان إلى الكمال عن طريق «المعرفة» بقدر طاقته؛ ليصل إلى إدراك الخير الإلهي، وليست فيها أية إشارة إلى أن النفس تسعى إلى تحقيق الاتحاد التام مع الله؛ ففي مذهب أفلاطون ثنائية تظل قائمة دومًا، وتجعل من المحال علينا أن ننسب إليه صوفية كاملة.١٠

والفارق الذي يوضح الحد الفاصل بين الفيلسوفَين، هو أن المثُل التي هي قوام العقل ومحتواه، تكون عند أفلوطين مبدأً ثانيًا صادرًا عن المبدأ الأول. أمَّا عند أفلاطون فالمثُل لا تصدر عن الله قط، بل لا يسري عليها أيُّ نوع من أنواع الكون، كالفيض أو الصدور، وإنما تكون لها بالله صلةٌ كالصلة بين النجوم الثابتة والشمس؛ فهي حقًّا أقلُّ منه مرتبة، ولكنها لم تَنشأ عنه، كما أن النفس الكلية لا تَصدر عن المثُل عند أفلاطون، بل هي الانتظام الرياضي الكامن في الكون، ومبدأ الحياة فيه. ثم إن العلاقة بين النفس الفردية وبين المادة مختلفة عندهما؛ فأفلوطين يقول بصدور عالم المادة عن النفس، التي تود أن تُحاكِيَ الأولَ فتخلق ما هو أدنى منها. أمَّا أفلاطون فلا يتصور على الإطلاق أن يصدر الماديُّ عن النفس؛ إذ إن المادي المحسوس لا يمكن أن يصدر عن النفس الخالصة، البريئة عن كل مادة. ولو عرَضَت لأفلاطون فكرةُ الصدور، لرد بأن هذا يفترض نوعًا من الاتصال بين النفس والجسم، أي الاستمرار من الأوَّلي إلى الثاني، وهو ما تأباه فلسفة أفلاطون منذ البداية.

ففكرة الاتصال أو الاستمرار بين مختلف مراحل الوجود هي التي يتعارض فيها الفيلسوفان؛ إذ إن الاتصال والاطِّراد يحل محلَّهما التضادُّ والثنائية المتطرفة بين العالَمَين المعقول والمحسوس عند أفلاطون. وكل ذلك يشهد بنزوع أفلاطون إلى المعرفة وتنمية قُوى النفس، وخاصة العقلية منها. أمَّا أفلوطين فينزع إلى نوع من الوحدة الصوفية مع الأول، وذلك يقتضي إزالة التعارض بين المراتب المختلفة للموجودات.

فإذا كنا نُلاحظ بين مذهبَيْ أفلاطون وأفلوطين تشابهًا، وإذا كنا نجد أن المبادئ الثلاثة الأُوَل عند أفلوطين، وهي الواحد والعقل والنفس، مناظرة للثلاث الأفلاطوني المعروف؛ الخير والحق والجمال (بحيث يكون الواحد هو الخير، وعالم المثل أو العقل هو الحق، والنفس هي مبدأ النظام والجمال فيما تتصل به من أجسام)؛ إذا كنا نُلاحظ مثل هذا التشابه القوي فلنعلم أن النزعة التي كانت تتحكم في كل منهما تختلف عن نزعة الآخر، وأن التصوف عند أفلوطين ظاهرة لا يمكن إغفالها، وهي التي أدت به إلى القول بمذهبٍ في الصدور أو الفيض لم تَعترف به ثنائيةُ أفلاطون على الإطلاق.

١  Armstrong: Intr…, p. 182.
٢  Rivaud: Hist…, p. 543.
٣  Zeller: Ibid., S. 561.
٤  V. 5, 9.
٥  Zeller, S…, 562.
٦  R. Arnou: Le désir de Dieu dans la phil. De Plotin, pp. 156–161.
٧  Whittaker …, p. 55.
٨  V, 1, 8.
٩  Rivaud …, p. 524.
١٠  Hoffmann: Platon …, S. 30.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤