مذهب أفلوطين العام
الشائع أن يُوصَف مذهب أفلوطين بأنه من مذاهب وَحدة الوجود. غير أن لِوَحدة الوجود مظاهرَ مختلفة؛ فمن الممكن أن نصف الفلسفة الإيلية مثلًا بأنها من مذاهب وحدة الوجود، ومع ذلك فالطابَع العام لنظرة بارمنيدس إلى الكون يختلف كل الاختلاف عن طابع مذهب أفلوطين؛ فصورة العالم عند الأول سكونية، والكون عنده يكون كُلًّا متجانسًا لا تَدرُّج فيه ولا تنوُّع، أمَّا عند أفلوطين فصورة العالم حركية، أو متدرجة على الأصح. والفكرة الأساسية عنده هي تسلسل مراتب الوجود ابتداءً من المركز الأول، وامتدادها حتى أكثر درجات الوجود تفرُّقًا وتبدُّدًا.
ومن شأن كل مذهب يُبنى على تدرج الموجودات هبوطًا من المبدأ الأول، أن يقول بحرَكتَين أساسيتَين؛ حركة هابطة وحركة صاعدة. أمَّا الحركة الهابطة فهي وصفية عقلية، يشرح فيها الفيلسوف سَير موكب الوجود من الواحد تدريجًا، حتى ينتهيَ إلى المادة التي تُعَد أحطَّ الموجودات مرتبة، وأمَّا الحركة الصاعدة فهي في ارتقاء هذا السلم مرة أخرى، والعودة إلى الواحد الأول. وهذه الحركة الأخيرة لن تكون عقلية هذه المرة، بل لا بد أن تكون عيانية صوفية، أساسها هذا التطهر وتصفية النفس، حتى يتَسنَّى لها الارتقاء تدريجًا، والعودةُ إلى الاتحاد بمصدرها الأول. وإذا كان الاستدلال العقلي هو أساسَ إدراكنا للحركة الهابطة، فإن الاستدلال يفقد بالضرورة معناه في الحركة الثانية، ولا يعود في وُسعِنا أن نصل إلى الموجود العالي على العقل إلا عن طريق الاتحاد الصوفي.
ولقد كان أفلوطين يركز اهتمامه تارة على الحركة الكونية، حركة الهبوط التي تصف الفاعلية التلقائية للواحد، وتارة أخرى على حركة العودة، أي حركة النفس في عودتها إلى الواحد الأول؛ ففي وصفه للحركة الأولى كان فيلسوفًا ميتافيزيقيًّا بمعنى الكلمة، وفي وصفه للثانية كان متصوفًا روحيًّا. وليس هدفنا في هذا الفصل إلا أن نَعرِض لمذهبه الميتافيزيقي، تارِكين الكلام عن تصوفه إلى الفصل التالي.
فأفلوطين من حيث هو فيلسوف عقلي، ينشُد الوحدة دائمًا. ومن أهم خصائص كل نزعة عقلية أنها لا تطمئن حتى تَهتديَ إلى وحدة وثبات. أمَّا الكثرة والتعدد، وأمَّا التغير والتطور، فتلك كلها أفكار ينفر منها أصحاب النزعات العقلية على الدوام. وهكذا كان عقل أفلوطين يسعى دائمًا إلى رد كل كثرة إلى وحدة أشمل، تُنظِّمها وتنطوي عليها.
فالنفس مثلًا إذا قُورِنَت بالجسم كانت مصدرَ وحدته؛ لأنها تُحييه كلَّه وتجمع كلَّ أطرافه لتُكوِّن منها وحدة لا تتفرق. غير أن النفوس الفردية كثيرة، فهي في حاجة إلى أن تُستمَد من مبدأ واحد جامعٍ بينها. هذا المبدأ في نظر أفلوطين هو النفس الكلية، وهي المنبع الذي تُستمَد منه كل نفس فردية. غير أن النفس الكلية، رغم كونها واحدة، فليست هي الوحدةَ المطلقة؛ إذ لا بد لتصور النفس الكلية من تصور العالم الذي تحييه تلك النفس وتبعث فيه الحركة. وهكذا يكون علينا أن نَعلو خطوة أخرى، فنجد العقل الذي هو ثابت ثباتًا مطلقًا، وأفكاره هي المثل الأزلية التي يشارك فيها كل ما يوجد في زمان ومكان. ولا شك في أن وحدة العقل أرقى من وحدة النفس؛ لأن في وُسع العقل أن يكتفيَ بالتفكير في ذاته وتأملها، أمَّا النفس فلا بد لها من عالم أو جسم تنظمه وتبعث فيه الحياة. ومع ذلك فوَحدة العقل بدورها ليست مطلقة؛ إذ إن كل تعقل وتفكير — حتى لو كان تفكيرًا للعقل في ذاته — ينطوي على نوع من الثنائية؛ إذ يضع العقل ذاته كموضوع يفكر فيه، أي إن فكرة العقل تتضمن بالضرورة ثنائية القائم بالتفكير وموضوع التفكير.
ومن هذه الوحدة تَصدُر أو تَفيض كل المراتب الأخرى للموجودات. ولأفلوطين في وصف هذا الصدور صورٌ وتشبيهات مختلفة، أشهرها تشبيه فيض النور من منبعه، وفيض الماء من ينبوع، وصدور أنصاف الأقطار عن المركز. والصفة المشتركة بين هذه التشبيهات هو تأكيدها بقاء المصدر أو المركز الأول ثابتًا، مع خروج غيره منه. فالواحد حين يخلق الموجودات لا ينتشر أو يتغلغل فيها، أو يأخذ من ذاته ليعطيها، بل يظل في وحدته الأصلية، ولا يخرج عن ذاته على الإطلاق. ومع ذلك يفيض موكب الموجودات عنه في عملية تسير سيرًا منتظمًا من البداية إلى النهاية، وتتحكم فيها ضرورةٌ واحدة، وقانون واحد. وكذلك الحال في كل مبدأ آخر؛ فالعقل الذي تَصدر عنه النفس يظل كما هو، بينما تَفيض عنه المبادئ الأدنى منه. وعنصر التشبيه يمتد في كل مراحل وصف أفلوطين لتسلسل الموجودات. فقوله إن كل موجود يكون «في» المبدأ السابق عليه، لا يعني وجود علاقة مكانية بينها، أي احتواء المبدأ الأول على التالي له، وكل ما يعنيه هو أن التاليَ معتمِد على السابق ومتوقف عليه فحسب، وكل لفظ يُعبِّر عن علاقة مكانية إنما هو تشبيه فحسب. وسنعرض فيما بعد للتفنيد المفصَّل الذي وجَّهه أفلوطين لفكرة مكانية النفس.
فإذا كانت فكرة المكان لا تنطبق على المبادئ العليا، وهي الواحد والعقل والنفس، وتنطبق على المادة وحدها، فإن الزمان لا ينطبق على الواحد والعقل، ولكنه يسري على النفس، بحكم موقعها المتوسط؛ فالنفس تتصل من جهةٍ بالوجود الأزلي، ومن جهةٍ أخرى بالأشياء الزمانية التي تنشأ عنها بواسطة القوة التي تَستمدها النفسُ من علتها السابقة عليها. وهكذا نجد النفس الكلية في تأملها الدائم للعقل الذي يعلوها، لا تخضع للزمان، أمَّا النفوس الفردية فتتعرض للتغير؛ وذلك لأن لها صلةً بالعالم المتغير، بخلاف صلتها مع العالم المعقول. وسيكون أمامنا فيما بعد مجالٌ للحديث عن آراء أفلوطين في ماهية النفس بالتفصيل، وحسبُنا الآن هذه الإشارةُ العابرة إلى موقع النفس المتوسط بين مراتب الموجودات.
أمَّا المادة، فهي آخر سلسلة الموجودات وأدناها. وهي تنشأ عن النفس التي تَود دائمًا أن تُحاكيَ المبدأ الأول في فيضه، وفي خلقه موجودات أدنى منه، ولذا تخلق المادة. والمادة هي المرتبة الأخيرة، وهي تتصف بالاضطراب واللاتَحدُّد، وبالقدرة على تلقِّي كل الصور. وهي وإن كانت مصدرَ الشرور في هذا العالم، فإنها ضروريةٌ له؛ لأنها هي الأصل الذي تتكون منه الأشياء في عالمنا هذا، بعد تشكيلها.
والذي نراه أن تسلر لم يخرج عن جوهر مذهب أفلوطين، ولم يقل بما يتعارض مع تعالي الواحد؛ فقد كان هو ذاتُه الذي أكد أن وحدة الوجود تُقال من ناحية الموجودات لا من ناحية المبدأ الأول؛ فالموجودات هي التي يمكن أن يُقال إنها كامنة فيه، وليس هو الكامِنَ فيها، وإذا نُظِر إلى وحدة الوجود بهذا المعنى كانت مختلفة عن المعنى المعتاد، الذي يكون الله فيه حاضرًا بجوهره في هذا العالم، كما هو الحال في وحدة الوجود الرواقية. ولا شك أن هذا المعنى لا يتعارض على الإطلاق مع القول بتعالي المبدأ الأول في ذاته؛ إذ إنه سيظل في تعاليه وستكون الموجودات هي التي تقترب منه باعتمادها عليه، أمَّا هو فمن الممكن أن تتحقق ماهيته دون أن يكون في حاجة إلى أي موجود آخر.
وإذن ففكرة الفيض أو الصدور هي الصفة المميزة لوحدة الوجود عند أفلوطين، وهي التي تفرق بينها وبين مذاهبَ عديدة أخرى قالت بوحدة الوجود دون الفيض. وهناك فارق آخر بين مذهب أفلوطين وبين بقية المذاهب القائلة بوحدة الوجود؛ فتسلسل الموجودات في مراتب كلٍّ منها تَلي الأخرى وتعتمد عليها، هي فكرة غريبة إلى حد ما؛ لأن الموجودات في مذاهب وحدة الوجود تظل لها كلِّها نفسُ المكانة، وتستوي كلها من حيث هي مظاهرُ للقوة الإلهية. وقد يُقال إن هذا الاختلاف لا يُمكننا من أن ننسب إليه القول بوحدة الوجود، ولكن الواقع أن أفلوطين إنما أتى بفكرة تسلسل الموجودات لِيُثبت امتداد قُوَى الأول حتى آخر مراتب الوجود وأدناها؛ فقوة الواحد، وفيضه، تَظل متمثلة حتى آخر الموجودات، متنقلة من موجود إلى الأدنى منه. وفي امتداد قوة الواحد إلى كل مراحل الوجود ما يؤيد إمكانَ انتساب مذهبه إلى وحدة الوجود، بشرط أن ندرك هذا المعنى الخاص، الذي يتخذه المذهب هنا؛ معنى انبعاث قوة الأول وفاعليته في كل مراتب الوجود مع بقائه في ذاته دون أدنى تبدد.
والفارق الذي يوضح الحد الفاصل بين الفيلسوفَين، هو أن المثُل التي هي قوام العقل ومحتواه، تكون عند أفلوطين مبدأً ثانيًا صادرًا عن المبدأ الأول. أمَّا عند أفلاطون فالمثُل لا تصدر عن الله قط، بل لا يسري عليها أيُّ نوع من أنواع الكون، كالفيض أو الصدور، وإنما تكون لها بالله صلةٌ كالصلة بين النجوم الثابتة والشمس؛ فهي حقًّا أقلُّ منه مرتبة، ولكنها لم تَنشأ عنه، كما أن النفس الكلية لا تَصدر عن المثُل عند أفلاطون، بل هي الانتظام الرياضي الكامن في الكون، ومبدأ الحياة فيه. ثم إن العلاقة بين النفس الفردية وبين المادة مختلفة عندهما؛ فأفلوطين يقول بصدور عالم المادة عن النفس، التي تود أن تُحاكِيَ الأولَ فتخلق ما هو أدنى منها. أمَّا أفلاطون فلا يتصور على الإطلاق أن يصدر الماديُّ عن النفس؛ إذ إن المادي المحسوس لا يمكن أن يصدر عن النفس الخالصة، البريئة عن كل مادة. ولو عرَضَت لأفلاطون فكرةُ الصدور، لرد بأن هذا يفترض نوعًا من الاتصال بين النفس والجسم، أي الاستمرار من الأوَّلي إلى الثاني، وهو ما تأباه فلسفة أفلاطون منذ البداية.
ففكرة الاتصال أو الاستمرار بين مختلف مراحل الوجود هي التي يتعارض فيها الفيلسوفان؛ إذ إن الاتصال والاطِّراد يحل محلَّهما التضادُّ والثنائية المتطرفة بين العالَمَين المعقول والمحسوس عند أفلاطون. وكل ذلك يشهد بنزوع أفلاطون إلى المعرفة وتنمية قُوى النفس، وخاصة العقلية منها. أمَّا أفلوطين فينزع إلى نوع من الوحدة الصوفية مع الأول، وذلك يقتضي إزالة التعارض بين المراتب المختلفة للموجودات.
فإذا كنا نُلاحظ بين مذهبَيْ أفلاطون وأفلوطين تشابهًا، وإذا كنا نجد أن المبادئ الثلاثة الأُوَل عند أفلوطين، وهي الواحد والعقل والنفس، مناظرة للثلاث الأفلاطوني المعروف؛ الخير والحق والجمال (بحيث يكون الواحد هو الخير، وعالم المثل أو العقل هو الحق، والنفس هي مبدأ النظام والجمال فيما تتصل به من أجسام)؛ إذا كنا نُلاحظ مثل هذا التشابه القوي فلنعلم أن النزعة التي كانت تتحكم في كل منهما تختلف عن نزعة الآخر، وأن التصوف عند أفلوطين ظاهرة لا يمكن إغفالها، وهي التي أدت به إلى القول بمذهبٍ في الصدور أو الفيض لم تَعترف به ثنائيةُ أفلاطون على الإطلاق.