التصوف عند أفلوطين
انتهى بنا الحديثُ عن مذهب أفلوطين العام إلى بحث موقفه من التصوف، فرأينا أن نزعته الصوفية هي التي يتميز بها مذهبه عن مذهب أفلاطون. وهنا نرى لزامًا علينا أن نَعرِض لتصوف أفلوطين؛ لِنُدرِك الخصائص التي يتصف بها، ولنتبين هل يندرج مع بقية النزعات الصوفية تحت نوع واحد، أم أنه تصوف من نوع خاص.
والواقع أن وضع الحد الفاصل بين النزعة العقلية والنزعة الصوفية في مذهب أفلوطين يكاد يكون مستحيلًا؛ ففي وُسعنا — بمعنًى معيَّن — أن نَعُده فيلسوفًا عقليًّا كأقطاب الفلسفة اليونانية مثل أفلاطون وأرسطو، وفي وسعنا — بمعنًى آخر — أن نَعُده مفكرًا عيانيًّا يجعل للحياة الروحية قبل العقل أسمى مكانة. والحق أن لكلٍّ من الرأيَين ما يؤيده؛ فالنزعة العقلية تَظهر عنده بوضوح في تلك الضرورة التي رتب بها المبادئ المختلفة في نظامه الكوني، وذلك القانون الصارم الذي جعل كلًّا منها ينتقل إلى الآخر تبعًا له. ولقد تحدَّث أفلوطينُ عن هذه الضرورة في مواضعَ شتى، وأكد وَحْدة القانون الذي يسري على كل الموجودات من أعلاها إلى أدناها. ثم إنه لا يقول بترتيبٍ زمني تنتقل به الموجودات كلٌّ منها إلى الأخرى، بل يرى أن ذلك الانتقال يتم في الأزل. ومن صفات كل فيلسوف عقلي أنه ينكر الزمان المتطور والصيرورة، ولا يُقيم وزنًا إلا لما يتم في الأزل، وفي هذه الصفة يتبدَّى لنا أفلوطينُ فيلسوفًا عقليًّا خالصًا.
غير أن أفلوطين يبدو لنا، في واقع الأمر، سائرًا في تيار المعقولية إلى مرحلة معينة، ثم يتبين له أن العقل لا يعود آخذًا بيده، وعندئذٍ يتخلى عنه ليقفز إلى عالم ما فوق المعرفة، ويغوص في أعماق الرؤيا المباشرة. ومع ذلك، فليس لنا أن نَعُد هذا الاتجاه الذي يعلو على العقل تصوفًا بالمعنى المعتاد لهذه الكلمة، وإنما الأصح أن يُسَمَّى «نزعة روحية فوق العقلية» فحَسْب. وهذه النزعة تتبدَّى حين يؤكد علو الواحد على كل عقل، وسُموَّه على كل تفكير، بحيث لا يعود من الممكن الاقترابُ منه إلا عن طريق تشبيهات شعرية كتشبيه النبع الفياض أو النور الوهاج.
ثم إن الطابع العام لمذهبه كما قلنا حركي؛ فهو يؤكد الانتقال الدائم بين الحركتَين الصاعدة والهابطة، ويفصل الكلام في هبوط النفس من مقرها الأعلى إلى عالم الأجسام، ثم عودتها بالتطهُّر من العالم المحسوس إلى العالم المعقول. ومثل هذه الصفة الحركية نادرًا ما تظهر في مذهبٍ عقلي خالص، بل تُهيب المذاهب العقلية في أغلب الأحيان بفكرة الثبات والسكون.
وعلى أية حال، فهناك شواهدُ عديدة تؤيد ضرورة فهم تصوف أفلوطين على نحو خاص؛ فنزوعه وشوقه إلى المبدأ الأول لا يقترن بذلك القلق والانفعال الذي نَلمسه لدى بقية الصوفية؛ فهو لا ينشُد الاتحاد بالله وقد اقترنَت رغبته بالعذاب، أو بالقلق، أو بحِدَّة العاطفة، والانفعال، بل لم يكن يلجأ إلى أسلوب الإثارة الانفعالية على الإطلاق، وإنما يهتم قبل كل شيء بأن يصل الإنسان إلى السكينة الباطنة، وبعد هدوء النفس وطُمَأنينتِها تستطيع أن تنتظر حتى تتكشَّف لها الألوهية. ومع ذلك فهذا الاختلاف بينه وبين الصوفية المعتادة لا يصل عنده إلى حد الجمود العقلي؛ إذ إنه كما قلنا قد اعترف للعقل بحدود، وجعل حاجات القلب، في بعض الأحيان، هي العليا، ووضع الخير لا العقل فوق قمة الوجود، والخير موضوع للرغبة والحب، لا للمعرفة.
- (أ) التشابه، أي إن المعرفة لا تتم إلا بين طرَفَين بينهما وجهٌ من أوجه التشابه؛ فعلى النفس إن شاءت أن تَعرف الله مثلًا أن تَتشبَّه به، وأن تتخلى عن طبيعتها الفردية، وتَسعى إلى المشاركة لله الكل الشامل.٦
- (ب) التعاطف sympathie؛٧ فأفلوطين ينظر إلى العالم على أنه كائن حي كبير. ومن شأن كل كائن عضوي حي ألا يُؤدِّيَ أيُّ جزء فيه وظيفتَه إلا تبعًا لصِلته بالمجموع، وألَّا يُمكِنَ تصورُ أي عضو فيه على حدة. ومن هنا كان بين كل أطراف العالم وأجزائه اتصالٌ متبادَل وشعور مشترك هو الذي يُسمِّيه أفلوطينُ بالتعاطف. فمِن المحال أن يُعرَف شيء لا يكون متصلًا بنا أو متعاطفًا معنا على نحو ما؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة ما هو خارج عَنَّا من كل الوجوه.
وهكذا نجد هذَين الشرطَين اللذَين وضعَهما أفلوطين للمعرفة، يُقرِّبان الشُّقة بين المعرفة العقلية والوحدة الصوفية إلى حد بعيد؛ ففي معرفتي لأي شيء ينبغي أن أشابهه وأتعاطف معه، أي إن أجعل بيني وبينه نوعًا من الاتصال المباشر، ومثل هذا الاتصال المباشر هو قوام التصوف؛ فليست المعرفة عند أفلوطين علاقةً بين حدَّين يخرج كلٌّ منهما عن الآخر، بل هي اتصال وثيق بين حدَّين متشابِهَين في طبيعتهما. فإذا كانت النزعات العيانية (كما عند برجسون مثلًا) تُؤكِّد بدَورها هذا التعاطفَ الذي يتصل بموضوعه اتصالًا مباشرًا، وينتقل إليه ويتَّحِد به، فإن التعارض يكاد يُمحى بين المعرفة العقلية عن أفلوطين، وبين أية رؤيا عيانية أو وحدة صوفية.
كثيرًا ما أتيقَّظ لذاتي، تاركًا جسمي جانبًا، وحين أغيب عن كل ما عداي، أرى فيَّ في أعماق ذاتي جمالًا بلَغ أقصى حدود البهاء. وعندئذٍ أؤمن إيمانًا راسخًا بأنني أنتمي إلى عالم أرفع، وأحسُّ بالحياة في أسمى مراتبها، وأشعر بوَحْدتي مع الألوهية.
ففي هذه الفقرة يُعبِّر أفلوطين عن حالة الوحدة مع الله، وكيف أنها تمثل اليقظة الحقيقية بالنسبة إلى النفس؛ فالاندماج التام بين الذات والموضوع هنا، أي بين النفس وموضوع تَجارِبها الروحية، وهو الواحد، هو اليقظة التامة، رغم أن النفس تغيب عن هذا العالم. أمَّا حالة الانتباه إلى أمور هذا العالم، وهي الحالة التي لا تَتم فيها معرفةٌ إلا عن طريق الشطر إلى ذات وموضوع ينفصل كلٌّ منهما عن الآخر — هذه الحالة هي التي يخلُق بنا أن نسمِّيَها خمولًا ونومًا، وهي التي يدَعُها المتصوف جانبًا، فيغيب عن كل ما عدا ذاته. أي إن التفكير الواعيَ المعتاد يُمثِّل في التجربة الصوفية حالة الخمول والنوم، أمَّا اليقظة الحقة فهي غياب الذات واندماجها في موضوعها اندماجًا تامًّا.
هذا هو المعنى الذي يُفسِّر به ياسبرز تَجرِبة التصوف عند أفلوطين — معنى القضاء على الانفصال بين الذات والموضوع. وفي هذه الحالة كما في بقية الأحوال، سنرى لزامًا علينا — إن شئنا أن نُسَمِّي أفلوطينَ صوفيًّا — أن نُحدِّد أوَّلًا المعنى الذي نَقصده بالتصوف، وسنجد أن المعانيَ المعتادة لهذه الكلمة لا تَنطبق كلَّ الانطباق على تَجرِبته الروحية، وهي التجربة التي إذا كانت قد انتهَت على نحو روحيٍّ عياني، فقد داخَلَتها عناصرُ عقلية لا تُنكَر.