التصوف عند أفلوطين

انتهى بنا الحديثُ عن مذهب أفلوطين العام إلى بحث موقفه من التصوف، فرأينا أن نزعته الصوفية هي التي يتميز بها مذهبه عن مذهب أفلاطون. وهنا نرى لزامًا علينا أن نَعرِض لتصوف أفلوطين؛ لِنُدرِك الخصائص التي يتصف بها، ولنتبين هل يندرج مع بقية النزعات الصوفية تحت نوع واحد، أم أنه تصوف من نوع خاص.

ولو اعتمدنا على رواية فورفوريوس كما عرَضها في «حياة أفلوطين»، لَبدا لنا أفلوطينُ شخصية صوفية كسائر الشخصيات المألوفة في تاريخ التصوف؛ إذ يُروى عنه أنه قد وصل إلى الاتحاد التام بالله أربع مرات،١ بينما يذكر عن نفسه أنه لم يصل إلى تلك الوحدة إلا مرة واحدة طول حياته. غير أن لنا أن نشك في دقة رواية فورفوريوس؛ وذلك إذا أدركنا أن عادة العصر قد جرت على نسبة أمور خارقة إلى الشخصيات الكبيرة، وأن فورفوريوس قد روى عن أستاذه وقائعَ عجيبة عديدة، لا يمكن أن يقبلها العقل الموضوعي. والواقع أن أفلوطين سرعان ما أصبح شخصية أسطورية في نظر تلاميذه بعد وفاته، بحيث إن أخْذ رواياتهم عنه على علَّاتها يؤدي إلى تشويهٍ وسوء فَهْمٍ لحقيقة الحياة الروحية التي مر بها فيلسوفنا هذا.
وحتى لو سلَّمْنا بصحة رواية فورفوريوس، فإنها لا تذكر عن تصوفه سوى أنه قد اتحد مع الله أربع مرات. ومن المحال أن نُسلِّم بأن الحياة الروحية لأي مفكر لا يمكن أن تتركز كلها حول هذه المرات الأربع، وأن بقية فترات حياته وسائر نواحي نشاطه، لم تكن إلا تمهيدًا لها. بل الأصح أن نقول إن مذهبه كان عقليًّا، ولكنه ليس مما يتعارض مع قيام مثل هذه التجرِبة الصوفية. أي إن التصوف كما قال هويتكر، كان نتيجة لمذهبه وليس أساسًا له.٢

والواقع أن وضع الحد الفاصل بين النزعة العقلية والنزعة الصوفية في مذهب أفلوطين يكاد يكون مستحيلًا؛ ففي وُسعنا — بمعنًى معيَّن — أن نَعُده فيلسوفًا عقليًّا كأقطاب الفلسفة اليونانية مثل أفلاطون وأرسطو، وفي وسعنا — بمعنًى آخر — أن نَعُده مفكرًا عيانيًّا يجعل للحياة الروحية قبل العقل أسمى مكانة. والحق أن لكلٍّ من الرأيَين ما يؤيده؛ فالنزعة العقلية تَظهر عنده بوضوح في تلك الضرورة التي رتب بها المبادئ المختلفة في نظامه الكوني، وذلك القانون الصارم الذي جعل كلًّا منها ينتقل إلى الآخر تبعًا له. ولقد تحدَّث أفلوطينُ عن هذه الضرورة في مواضعَ شتى، وأكد وَحْدة القانون الذي يسري على كل الموجودات من أعلاها إلى أدناها. ثم إنه لا يقول بترتيبٍ زمني تنتقل به الموجودات كلٌّ منها إلى الأخرى، بل يرى أن ذلك الانتقال يتم في الأزل. ومن صفات كل فيلسوف عقلي أنه ينكر الزمان المتطور والصيرورة، ولا يُقيم وزنًا إلا لما يتم في الأزل، وفي هذه الصفة يتبدَّى لنا أفلوطينُ فيلسوفًا عقليًّا خالصًا.

غير أن أفلوطين يبدو لنا، في واقع الأمر، سائرًا في تيار المعقولية إلى مرحلة معينة، ثم يتبين له أن العقل لا يعود آخذًا بيده، وعندئذٍ يتخلى عنه ليقفز إلى عالم ما فوق المعرفة، ويغوص في أعماق الرؤيا المباشرة. ومع ذلك، فليس لنا أن نَعُد هذا الاتجاه الذي يعلو على العقل تصوفًا بالمعنى المعتاد لهذه الكلمة، وإنما الأصح أن يُسَمَّى «نزعة روحية فوق العقلية» فحَسْب. وهذه النزعة تتبدَّى حين يؤكد علو الواحد على كل عقل، وسُموَّه على كل تفكير، بحيث لا يعود من الممكن الاقترابُ منه إلا عن طريق تشبيهات شعرية كتشبيه النبع الفياض أو النور الوهاج.

ثم إن الطابع العام لمذهبه كما قلنا حركي؛ فهو يؤكد الانتقال الدائم بين الحركتَين الصاعدة والهابطة، ويفصل الكلام في هبوط النفس من مقرها الأعلى إلى عالم الأجسام، ثم عودتها بالتطهُّر من العالم المحسوس إلى العالم المعقول. ومثل هذه الصفة الحركية نادرًا ما تظهر في مذهبٍ عقلي خالص، بل تُهيب المذاهب العقلية في أغلب الأحيان بفكرة الثبات والسكون.

وهكذا لا يجد المرء مفرًّا، حين يتعرض لمذهب أفلوطين، من القول إن للتصوف مَظاهرَ لا تُنكَر في ذلك المذهب، غير أنه تصوف من نوع خاص؛ فهو تصوف عقلي، إن جاز هذا التعبير. ورغم أن هذه التسمية تبدو غريبة عما جرت عليه عادة المفكرين من وضع تضاد أساسي بين النزعتَين الصوفية والعقلية، فإن المرء يُضطَر إلى استخدامها بوصفها وسيلةَ التعبير عن ذلك المذهب الذي جمَع بين هذَين الضدَّين. ومن مُؤرِّخي الفلسفة كثيرون لم يجدوا حرجًا في استخدامها، وفي أن يقولوا صراحةً إن تصوف أفلوطين كان عقليًّا.٣

وعلى أية حال، فهناك شواهدُ عديدة تؤيد ضرورة فهم تصوف أفلوطين على نحو خاص؛ فنزوعه وشوقه إلى المبدأ الأول لا يقترن بذلك القلق والانفعال الذي نَلمسه لدى بقية الصوفية؛ فهو لا ينشُد الاتحاد بالله وقد اقترنَت رغبته بالعذاب، أو بالقلق، أو بحِدَّة العاطفة، والانفعال، بل لم يكن يلجأ إلى أسلوب الإثارة الانفعالية على الإطلاق، وإنما يهتم قبل كل شيء بأن يصل الإنسان إلى السكينة الباطنة، وبعد هدوء النفس وطُمَأنينتِها تستطيع أن تنتظر حتى تتكشَّف لها الألوهية. ومع ذلك فهذا الاختلاف بينه وبين الصوفية المعتادة لا يصل عنده إلى حد الجمود العقلي؛ إذ إنه كما قلنا قد اعترف للعقل بحدود، وجعل حاجات القلب، في بعض الأحيان، هي العليا، ووضع الخير لا العقل فوق قمة الوجود، والخير موضوع للرغبة والحب، لا للمعرفة.

ولقد نبَّه «آرنو» إلى خصائص معينة في أسلوب أفلوطين تُبعِد بينه وبين أساليب الصوفية بخصائصها المعروفة؛ فأسلوبه دجماطيقي جازم، حافل بالتأكيدات القاطعة. وهو لا يعرِض فروضًا قابلة للمناقشة، أو يترك مجالًا للتعديل والتغيير أو يتحدث في أسلوبٍ احتمالي، بل يعرض مذهبًا يُفرَض فرضًا. وهنا نجد الفارق واضحًا بين أسلوبه وأسلوب فيلسوف ذي مزاج شعري مثل أفلاطون؛ فهذا الأخير يعرض في محاوراته فروضًا لكي تُناقَش، وكثيرًا ما كانت محاوراته تنتهي دون نتيجة حاسمة. ولقد كانت لأفلاطون قدرة عجيبة على أن يتقمَّص شخصية خَصمه، وأن يتحدث من وجهة النظر المضادة له بحيث لا يدري المرءُ في كثير من الأحيان أي الرأيَين أقوى حُجة؛ رأي أفلاطون كما يُعبِّر عنه سقراط، أم رأي الخصم؟ (وهذا بالطبع لا ينطبق على المحاورات الأخيرة كالنواميس مثلًا). أمَّا أفلوطين فكثير من جمله تبدأ بالعبارات: «تقضي الضرورة بكذا» … «ينبغي أن» … «محال أن يكون»٤ … ومثل هذا الأسلوب التوكيدي يبعد بصاحبه عن أن يكون مِن ذَوي الخيال الجامح والرؤيا الصوفية.
ونتيجةً لاقتراب مذهبه الصوفي من النزعة العقلية؛ فقد شبَّه «هويتكر» صوفية أفلوطين بالنوع الثالث من المعرفة عند إسبينوزا، وهي المعرفة العيانية التي تتجاوز نطاق الاستدلال العقلي التدريجي، وتُبنى على نوع من الاتصال المباشر بموضوعها. فبالاستدلال العقلي نستطيع أن نصل إلى كل المبادئ التي تحتل مكانةً أدنى من الواحد، أمَّا الواحد ذاتُه فلا يرى إلا «بعين النفس»٥ بعد انصرافها عن المحسوس.
والواقع أننا لو وجدنا تعارضًا بين المعرفة العقلية والعيان الصوفي، وقلنا باستحالة جمع شخصيةٍ واحدة بين الناحيتَين، فلا بد أن يزول عجَبُنا بالنسبة إلى أفلوطين ذاتِه، إذا أدركنا أن له في المعرفة رأيًا خاصًّا، من شأنه أن يُزيل إلى حد ما ذلك التعارضَ المألوف بين المعرفة العقلية والرؤيا الصوفية؛ فهو يضع للمعرفة شروطًا من أهمها:
  • (أ)
    التشابه، أي إن المعرفة لا تتم إلا بين طرَفَين بينهما وجهٌ من أوجه التشابه؛ فعلى النفس إن شاءت أن تَعرف الله مثلًا أن تَتشبَّه به، وأن تتخلى عن طبيعتها الفردية، وتَسعى إلى المشاركة لله الكل الشامل.٦
  • (ب)
    التعاطف sympathie؛٧ فأفلوطين ينظر إلى العالم على أنه كائن حي كبير. ومن شأن كل كائن عضوي حي ألا يُؤدِّيَ أيُّ جزء فيه وظيفتَه إلا تبعًا لصِلته بالمجموع، وألَّا يُمكِنَ تصورُ أي عضو فيه على حدة. ومن هنا كان بين كل أطراف العالم وأجزائه اتصالٌ متبادَل وشعور مشترك هو الذي يُسمِّيه أفلوطينُ بالتعاطف. فمِن المحال أن يُعرَف شيء لا يكون متصلًا بنا أو متعاطفًا معنا على نحو ما؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة ما هو خارج عَنَّا من كل الوجوه.

وهكذا نجد هذَين الشرطَين اللذَين وضعَهما أفلوطين للمعرفة، يُقرِّبان الشُّقة بين المعرفة العقلية والوحدة الصوفية إلى حد بعيد؛ ففي معرفتي لأي شيء ينبغي أن أشابهه وأتعاطف معه، أي إن أجعل بيني وبينه نوعًا من الاتصال المباشر، ومثل هذا الاتصال المباشر هو قوام التصوف؛ فليست المعرفة عند أفلوطين علاقةً بين حدَّين يخرج كلٌّ منهما عن الآخر، بل هي اتصال وثيق بين حدَّين متشابِهَين في طبيعتهما. فإذا كانت النزعات العيانية (كما عند برجسون مثلًا) تُؤكِّد بدَورها هذا التعاطفَ الذي يتصل بموضوعه اتصالًا مباشرًا، وينتقل إليه ويتَّحِد به، فإن التعارض يكاد يُمحى بين المعرفة العقلية عن أفلوطين، وبين أية رؤيا عيانية أو وحدة صوفية.

وإذن ففي وُسع المرء أن يقول دون أن يقع في تناقض: إن تصوف أفلوطين كان عقليًّا، أو إن معرفته العقلية كانت تُبنى على شروط شبه صوفية، وفي الحالتَين يكون لكلمة التصوف عنده معنًى فريد قائمٌ بذاته. وهذا المعنى أقرب ما يكون إلى القضاء على التعارض بين الذات والموضوع. ومن هنا كان ياسبرز Jaspers على حق إلى حد معين، في قوله إن أفلوطين — من وجهة النظر هذه — أكبر متصوفي الغرب. فهنا يحاول ياسبرز أن يُقدِّم تفسيرًا لتصوف أفلوطين في ضوء فلسفته الخاصة، ويفهم التصوف في حدود فكرة أساسية في مذهبه، هي فكرة «الشطر إلى ذات وموضوع Subjekt-Objekt Spaltung»؛ فكل تفكير لنا إنما هو شطر إلى ذات وموضوع، بحيث لا يكون هناك موضوع بلا ذات، ولا ذاتٌ بلا موضوع. فلا يمكن أن تكون الحقيقة الأولى هي واحد من هذَين الحدَّين فحسب، بل هي الجامع أو الشامل (للحدَّين) Das Umgreifende الذي نقسمه إلى ذات وموضوع، والذي لا يمكننا إدراكه مباشرة، بل نُدمِج كل ما نُدرِكه فيه، وإذا أدركناه فإنما يكون ذلك دائمًا بطريق غير مباشر.
وتفسير ياسبرز الخاص للتصوف هو أن فيه تجاوزًا لهذا الشطر إلى ذات وموضوع، بحيث يُمزَج الحدان مزجًا تامًّا، فيقضي على الموضوع من جهة، ويتلاشى الأنا من جهة أخرى، وعندئذٍ يتَّسع الطريق إلى الموجود المطلق، ويَظل الإنسان عند يقظته هذه يشعر بمعنًى أعمقَ من أي معنًى آخر، يجِل عن كل وصف.٨ وفي هذه الحالة يشعر المرء حقًّا بأنه قد وصل إلى أعلى درجات المعرفة، واتصل بالهدف الذي تتجه إليه رؤياه اتصالًا مباشرًا. وبهذه الفكرة يُفسِّر ياسبرز تلك الفِقرةَ المشهورة التي يستهلُّ بها أفلوطين المقال الثامن من التساعية الرابعة وهي:

كثيرًا ما أتيقَّظ لذاتي، تاركًا جسمي جانبًا، وحين أغيب عن كل ما عداي، أرى فيَّ في أعماق ذاتي جمالًا بلَغ أقصى حدود البهاء. وعندئذٍ أؤمن إيمانًا راسخًا بأنني أنتمي إلى عالم أرفع، وأحسُّ بالحياة في أسمى مراتبها، وأشعر بوَحْدتي مع الألوهية.

ففي هذه الفقرة يُعبِّر أفلوطين عن حالة الوحدة مع الله، وكيف أنها تمثل اليقظة الحقيقية بالنسبة إلى النفس؛ فالاندماج التام بين الذات والموضوع هنا، أي بين النفس وموضوع تَجارِبها الروحية، وهو الواحد، هو اليقظة التامة، رغم أن النفس تغيب عن هذا العالم. أمَّا حالة الانتباه إلى أمور هذا العالم، وهي الحالة التي لا تَتم فيها معرفةٌ إلا عن طريق الشطر إلى ذات وموضوع ينفصل كلٌّ منهما عن الآخر — هذه الحالة هي التي يخلُق بنا أن نسمِّيَها خمولًا ونومًا، وهي التي يدَعُها المتصوف جانبًا، فيغيب عن كل ما عدا ذاته. أي إن التفكير الواعيَ المعتاد يُمثِّل في التجربة الصوفية حالة الخمول والنوم، أمَّا اليقظة الحقة فهي غياب الذات واندماجها في موضوعها اندماجًا تامًّا.

هذا هو المعنى الذي يُفسِّر به ياسبرز تَجرِبة التصوف عند أفلوطين — معنى القضاء على الانفصال بين الذات والموضوع. وفي هذه الحالة كما في بقية الأحوال، سنرى لزامًا علينا — إن شئنا أن نُسَمِّي أفلوطينَ صوفيًّا — أن نُحدِّد أوَّلًا المعنى الذي نَقصده بالتصوف، وسنجد أن المعانيَ المعتادة لهذه الكلمة لا تَنطبق كلَّ الانطباق على تَجرِبته الروحية، وهي التجربة التي إذا كانت قد انتهَت على نحو روحيٍّ عياني، فقد داخَلَتها عناصرُ عقلية لا تُنكَر.

١  Vita Plotini, S. 23.
٢  Whittaker …, p. 100.
٣  انظر مثلًا: Arnou …, p. 11. Whittaker …, p. 100. Rivaud …, p. 535.
٤  Arnou …, p. 18.
٥  Whittaker …, p. 102.
٦  IV, 4, 23.
٧  انظر معنى اللفظ، ملحق (٣): التعاطف.
٨  K. Jaspers: Introduction à la philosophie (Trad. fran.), Paris, 1951, p. 39.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤