العالم الطبيعي والكونيات
تتردد في كتابات أفلوطين آراء كثيرة له عن العالم الطبيعي والكواكب، والسحر والتنجيم،
فتمتزج نظرته إلى العالم وأبحاثه الطبيعية بقدرٍ غير قليل مما نَعُده اليوم خرافات، وما
كان في ذلك الحين معتقداتٍ شائعة. وإذا كان أفلوطين قد سَلَّم بهذه المعتقدات الشائعة
على علَّاتها، فقد حاول جاهدًا أن يُبرِّرها تبريرًا عقليًّا، وأن يدمجها في مذهبه
الفلسفي العام.
وعلينا قبل أن نَعرِض لآرائه في هذا الصدد، أن نوضح إلى أي حد كانت هذه المعتقدات
متغلغلة في النفوس في ذلك الوقت؛ فمنذ عهدٍ قديم كان في اليونان أناس يدَّعون أنهم على
اتصال بالقوى العليا أو الأرضية، وأن لهم سُلطانًا على الجن، وعلى الماء والرياح. وكان
هؤلاء السحرة يحاولون تنفيذ أغراضهم عن طريق خلط سوائلَ أو موادَّ مختلِفة، وصنع تماثيل
رمزية للأشخاص الذين يُراد إلحاق تأثير حسَن أو سيِّئ بهم، ثم قراءة التعاويذ والرُّقى
والكلمة المبهَمة عليها. ولم يكن للسحر في ذلك الحين أيُّ أساس عقلي، بل كان يُمارَس
بوصفه مهنة يقوم بها أناس لا يربطهم بالبحث العقلي صلة. ولم تعترف الفلسفة بالسحر
اعترافًا جديًّا، وتدمجه في أبحاثها وتحاول بناءه على أساس عقلي، إلا عند الرواقيين؛
فقد تمشَّت فكرة السحر مع مذهبهم العام في وحدة الوجود، الذي يقول بتبادل التأثير بين
كل أجزاء الكون البعيدة منها والقريبة، بحيث يمكن أن تؤثر القوى الخفية أو المادية
الظاهرة على الأشخاص ومصائرهم وطبائعهم.
ويرتبط بالاعتقاد بالسحر الإيمانُ بالتنجيم، أي إمكان الاستدلال على المستقبل من
النجوم، التي تؤثر على حياة البشر. وهذا الاعتقاد يرجع كما هو معروف إلى أصول شرقية
قديمة، وكان له في حياة بابل دور عظيم. أمَّا دخوله
إلى اليونان فربما كان في عهد الفيثاغوريِّين الذين كانت لهم أبحاث فلَكية قيمة.
ولنلاحظ أن كثيرًا من آلهة اليونان كانوا في نفس الوقت نجومًا مثل «أفروديت» و«كرونوس».
ويرى «ريفو» أن القول بأن للنجوم تأثيرًا مباشرًا على حياة الإنسان لم يتخذ صبغة محددة
واضحة المعالم عند اليونانيين إلا في عهد متأخر، ولم يظهر بصورة واضحة إلا عند أقطاب
مدرسة الإسكندرية من السابقين على أفلوطين، ومن أهم هؤلاء بطليموس الفلكي، الذي يُستفاد
من مذهبه أن حياة الأفراد تَخضع لتأثير الكواكب والنجوم، والذي تحدث بالتفصيل عن أنواع
النجوم من حيث تأثيرُها على الطالع.
١
وإذن فقد ظهر أفلوطينُ في عصر لم يكن المثقفون ذاتهم يخجلون فيه من الكلام عن السحر
والتنجيم. على أنه بينما كان غير المثقفين يؤمنون بهذه المعتقدات الخرافية إيمانًا
أعمى، فإن الطبقات المثقفة كانت تحاول أن تأتيَ بتبرير عقلي لهذه المعتقدات، بحيث لا
تعود في نظرها تُمثِّل خوارقَ خارجةً عن المألوف، بل ظواهر طبيعية تقتضيها نظرتنا
العامة إلى الكون. وعلى أية حال، فقد كان التنبؤ ظاهرة شائعة، بحيث لم يكن الناس
يُقْدِمون على أي عمل هام قبل أن يستشيروا واحدًا من المنجمين. ونظر البعض إلى التنجيم
على أنه «سيد العلوم»، وارتبَط بالعقائد الدينية الشائعة، حتى عُدَّ الشكُّ فيه نوعًا
من التجديف؛ ولذا لم يكن من الهيِّن على فيلسوف يعيش في ذلك العصر أن يُحارِب هذه
المعتقدات، بل كان كل ما عليه هو أن يبررها فحسب.
ولندرس آراء أفلوطين في الكون الطبيعي، ومدى ارتباطها بالمعتقدات الشائعة، لننتهي
إلى
حكم عام على الفلسفة الطبيعية عند أفلوطين.
والواقع أن الأبحاث الطبيعية عند أفلوطين قد تأثرَت بالفلسفة الرواقية إلى حد كبير،
وبالتالي ارتبطَت نظرته العامة إلى العالم بالتراث اليوناني القديم كلِّه؛ ذلك التراث
الذي كان يُؤكِّد قبل كل شيء ما يسود الكونَ من نظام وانسجام، حتى كانت الكلمة التي تدل
على النظام وعلى الكون معًا في لغتهم كلمةً واحدة، هي
Cosmos. ومن هنا، فعلى الرغم من أن أفلوطين قد نظر
إلى العالم المحسوس على أنه صورة ناقصة، وظل باهت للحقيقة، إلا أنه أكد أن ذلك العالم
يحتفظ بآثار مما يسود العالمَ المعقول من نظام، وأن الحياة تَسري في كل أجزائه، حتى
فيما يبدو لنا غيرَ حي. بل إن العالم في مجموعه
لَيُمثِّل كائنًا حيًّا هائلًا، أو حيوانًا واحدًا Zoon
فهو جسم عضوي متكامل، تُحييه نفس واحدة، ولا يكون لأي جزء فيه معنًى إلا وسط المجموع
الكامل، الذي يسوده انسجام رائع. وكما أن أجزاء الجسم العضوي لا يؤثر بعضها على البعض
من حيث هي جواهرُ متفرقة، بل تتضافر كلها لأداء وظائف عضوية مشتركة، وتُمارِس فعلها في
توافق واتحاد، فكذلك تتعاطف أجزاء الكون كلُّها كأنها أعضاء في جسم حي واحد. وهذا
التوافق لا يرجعه أفلوطين إلى تأثير مادي متبادَل فيما بينها، وإنما إلى تأثير الشبيه
على شبيهه. وما دام الكون كلُّه متناسقًا، فإن أجزاءه ستكون متشابهة، وسيؤثر كل منها
في
الآخر ولو عن بُعد، أي حتى دون أن يكون بين هذه الأجزاء اتصال أو تماسٌّ مادي
مباشر.
ففي نظرة أفلوطين العامة إلى العالم كان إذن يونانيًّا أصيلًا، على عكس النزعات
الغنوصية التي كان العالم المحسوس عندها موضوعًا لحملة شديدة. وهو يأبى أن يشك في
النظام السائد في الكون؛ إذ إن العالم ليس إلا انعكاسًا للقوى الإلهية. وإذا كنا نمجد
هذه القوى فعلينا أن نعجب بإنتاجها المباشر، وهو الكون المحسوس. إن أفلوطين ليصف ذلك
الكون المحسوس على نحو لا نشك لحظة واحدة في أنه وصف فيلسوف يوناني أصيل، فيقول: «إن
العالم كائن حي واحد؛ لهذا كانت الضرورة اللازمة تُحتِّم أن يكون في تعاطف مع ذاته.
ومجرى حياته، الذي يسير وفقًا للعقل، هو دائمًا في اتفاق مع ذاته. وليس في حياته تخبُّط
أو اتفاق، بل يسود هذه الحياةَ انسجامٌ ونظام واحد. وأشكاله المختلفة تتبع ترتيبًا
عقليًّا. وكل جزء من أجزائه يسير في حركاته وفقًا لأعداد.»
٢ بل إن لذلك الكون، بوصفه ناتجًا مباشرًا عن الألوهية، عقلًا وكمالًا أسمى
مما لدى الإنسان؛ فالسماء عند أفلوطين محتشدة بالنفوس، ولكل من هذه النفوس مرتبة تسمو
كثيرًا على النفس الإنسانية. والواقع أن أفلوطين قد حشد الكونَ بالنفوس التي تتفاوت
مراتبها، فتقل مرتبتها كلما قربت من الأرض. وسنتحدث أوَّلًا عن نفوس النجوم، لنرى إلى
أي حد كان لرأيه فيها تأثيرُه الهام على فلسفته الطبيعية.
ففي كثير من الأحيان يُطلِق أفلوطين على نفوس النجوم اسم الآلهة، ولكنها آلهة منظورة
تعكس صورة الآلهة غير المنظورة. ونفوس النجوم تُعايِن العالمَ فوق المحسوس دوامًا؛ فهي
أقربُ ما تكون إليه، وحياتها لا تعرف إلا السعادة والانسجام التام. ولما كانت ثابتة لا
يعتريها تغير، ولا تعرف ما هو قبل أو ما هو بعد، فإنها تعلو على الزمان.
ووجودها وفعلها ثابت أبدًا، ومن هنا لم تكن لها إلى
الذاكرة حاجة، بل إن أفلوطين لا يعزو إلى الأفلاك والكواكب تفكيرًا استدلاليًّا؛ لأن
الاستدلال تدرُّج في مراحل التعقل، تحتاج إليه عقولنا القاصرة وحدها. وليست هذه السعادة
التي تتمتع بها النجوم أمرًا شاءته إرادتها، بل إنها نتيجة الضرورة الطبيعية
المحتومة.
وطبيعي أن يُحاول أفلوطين بقدر المستطاع أن ينفيَ عن النجوم كل تأثير ضار، ما دام
قد
جعل لها مثل هذه المكانة في نظرته إلى الكون. ولقد كان الرأي الشائع لدى كثير من
المنجِّمين في عصره أن ينسبوا إلى النجوم كلَّ ما يحدث في عالمنا هذا، أي إن يجعلوا
منها عللًا فاعلةً لحوادث هذا العالم، فأدى بهم ذلك إلى أن ينسبوا إلى هذه
الموجودات — التي يراها أفلوطين إلهية — كلَّ الشرور
والجرائم والرذائل التي يحفل بها عالَمُنا هذا ولم يتردَّد في القول إن النجوم شريرة،
٣ ناسين أن النجم موجود لا يعتريه تغيُّر، وأن حقيقته أزلية ثابتة.
ويَعترض أفلوطين على نسبة أي نوع من الشرور للنجوم، أو على القول إن النجوم يستشعر
كلٌّ منها إزاء الآخر صداقةً أو عداوة؛ تبعًا لموقعه منه. ولكن إن لم يكن الشر يعرف له
سبيلًا إلى النجوم، فكيف نفسر الشر؟ يؤكد أفلوطين أن الكون، رغم وحدته العامة، لا
تَسوده قوة واحدة، وإنما يزخَر الكون بقُوًى عديدة متنوِّعة، ويحيا كلُّ ما فيه حياتَه
الخاصة، بجانب مشاركته في حياة الكون العامة. وهكذا تكون للأنواع الخاصة في الكون
حياتُها المستقلة التي تسير في طريقها الخاص، وتتحكم في حياة الأفراد المنتمين إلى هذا
النوع بجانب تَحكُّم النجوم فيها. ففي توالد أي حيوان تساهم النجوم بشيء، ولكن النوع
أيضًا يتحكم في تحديد هذا التوالد. ثم إن كل شيء يتولد على هذه الأرض، يُضيف بعد نشأته
شيئًا من عنده. «فهناك أشياء معلومة تَنتج عن الموجودات ذاتها»،
٤ وتلك التي تنتج من طبيعة الذات، أو تُضيفها الموجودات إلى ذاتها، هي علة
الشر، أمَّا ما تنتجه الموجودات العليا فهو دائمًا خير، ولا يصدر الشرُّ إلا من اختلاطه
بغيره. وفضلًا عن ذلك فإنه يحدث في الكائن العضوي الواحد أن يُصيب
عضوًا فيه آخرُ بالضرر، رغم اشتراكها بوصفهما أعضاءً
في كائن واحد، «ومن قَبيل ذلك أن تُدمِّر المرارة والغضبُ الناجم عنها أعضاءً أخرى في
الجسم وتمزقها»؛
٥ فالضرر والشر يحدث نتيجةً لكثرة القُوى الكونية التي يتَضارب بعضها مع
البعض، وإن كانت تَشترك مع المجموع في حياة واحدة، فلا يمكن إذن أن نقول: إن الآلهة أو
النجوم تجلب الشرَّ إلى الأرض.
فما هو إذن الأثر الحقيقي الذي تُحدِثه النجوم؟
يخالف أفلوطين في إجابته عن هذا السؤالِ الآراءَ الشائعةَ بين أنصار التنجيم المنتشِرين
في عصره؛ فعند هؤلاء أن النجوم عللٌ فاعلة لما يحدث في هذا العالم، أي إنها تُسبِّب
الحوادث بالفعل، ومن هنا وقعوا فيما رآه أفلوطين خطأً كبيرًا، وهو نسبة الشر إلى
النجوم. أمَّا هو فيرى أن النجوم لا تسبب الحوادث وإنما «تنبئ» بها فحسب؛ فالنجوم ليست
عللًا، وإنما علامات أو نُذُر فحَسب. حقًّا إن للنجوم آثارًا على هذا العالم؛ وبالتالي
على كل ما يحدث فيه، ومن قبيل هذه الآثار أن تُؤثِّر النجومُ تبعًا لموضعها الطبيعي على
العالم في مجموعه؛ وبالتالي تؤثر على الأفراد؛ لأن الميول والمشاعر الحسية المرتبطة
بالجسم، والمصائر المتعلقة بهذه الأجسام، تتوقف على مجموع العالم بوجه عام؛ وبالتالي
على القوى الفعالة للنجوم. ومعنى ذلك أن النجوم لا تتحكم في الأحوال المادية وفي مصائر
الناس إلا من حيث هي تتشارك في تحديد الحياة الطبيعية بوجه عام. أمَّا التأثيرات
الفردية للنجوم على مصائر الأفراد، فهذا ما لا يعترف به أفلوطين.
وإذن فليست للنجوم إلا آثار عامة، وفيما عدا ذلك فهي تنبئ فحسب. وليس النجم الواحد
هو
الذي ينبئ، بل مجموعاتُ النجوم أو التركيبات النَّجمية، وكأن النجوم في مجموعاتها تَكتب
لغة تتحقق في هذا العالم، بفضل تضافر قُواها مع العلة الأولى. فالمبدأ الأول هو الذي
أدى إلى أن يقوم بين كل أجزاء العالم انسجامٌ ونظام تام، بحيث تدل النجوم على الحوادث
التي تَحدث معها في عالم واحد. وما دام الكون كائنًا حيًّا واحدًا، يقوم بين كل أجزائه
تعاطف، فإن الكون يُعبر عن ذاته في الأشكال التي تُكونها حركة الأجرام السماوية، بحيث
يمكن التنبؤ بما سيحدث إذا أمكننا فهم مدلول هذه الأشكال. فللأشكال التي تُكوِّنها
النجوم فاعليتها، وهذه الفاعلية هي التي يحدث عنها ما نشاهده من آثاره. بل إن للأشكال
تأثيرَها حتى على الأشياء الأرضية؛ لأننا نخشى أشكالًا معينة، ونجتذب بفعل شيءٍ آخر.
وكل ذلك يستحيل لو لم يكن للأشكال تأثيرها.
٦ فمجرى الحوادث يقضي بأن ينبئ بعضها بالبعض الآخر؛ «ذلك لأن الكون واحد،
ولأن الحوادث هي حوادثُ كون واحد، ولأن كلًّا من الحوادث يُعرَف بواسطة الآخر؛ العلة
يعرفها المعلول، والتالي يعرفه المقدَّم، والمركب يعرفه أحدُ عناصره بفضل اتحاده ببقية
العناصر.»
٧
والواقع أن أفلوطين يحرص على أن يربط بين
الاعتقاد بالتنجيم، وبين فكرة النظام الكوني الدقيق؛ فدلالات النجوم في نظره أمر ضروري
يقتضيه التسلسل العامُّ للقُوى الكونية، وليست النجوم إلا وسائطَ طبيعية تنقل بها القوى
العليا إلى العالم. وبدون الارتباط التامِّ بين كل أجزاء الكون لا يكون للتنبؤ أيُّ
معنًى. فلما كانت الحركات المفرَدة في داخل العالم تتوقف دائمًا على الكل الشامل، ففي
وُسْع المرء، إذا عرف ما يتم في أهم أجزاء العالم من حركات، أن يعلم ما يُناظرها من
حركات أخرى، وذلك مثلما يعرف الخبيرُ في الرقص، إذا رأى موضعًا معينًا لأجسام الراقصين،
ما يرتبط بهذا الوضع من حركات خاصة للأيدي والأرجُل.
٨ فالنجوم أشبهُ بكتاب ترتسم فيه مصائر الناس ومستقبل الحوادث.
وإذا كنا إلى الآن قد تحدثنا عن النجوم
ودلالاتها، فلنذكر أن النجوم هي حلقة في سلسلة الوجود، وأن هناك قُوًى روحيةً أخرى يزخر
بها العالم؛ من هذه القوى الجن، أي تلك الموجودات التي تَحتل الموقعَ المتوسط بين ما
هو
إلهي وما هو أرضي. فالعالم المعقول ذاته قد خلا من الجن، والنجوم في مرتبةٍ أعلى منها،
فليست لها كما قلنا ذاكرةٌ أو عقل استنباطي، أمَّا الجن فيَعزو إليهم أفلوطينُ نوعًا
من
الإدراك الحسِّي والذاكرة والتأثير المتبادل، بل إن لها هي والنفوس في الهواء لغةً
تتحدَّث بها.
٩ ويستمر أفلوطين في سرد سلسلة القُوى الروحية التي تُعزى إلى المحسوسات،
فيقول بوجود نفسٍ للأرض ينسب إليها إدراكًا حسيًّا مختلفًا عن إدراكنا. ويتحدث أفلوطينُ
عن نفس الأرض حديثًا مفصَّلًا، في الفصلين ٢٢ و٢٣ من المقال الرابع من التساعية
الرابعة، يُبين فيها كيف أن من مظاهر وجود هذه النفس ظهورَ النبات ونموَّه، وهو أمر
تختص به القوة الغاذية من نفس الأرض.
ولسنا نودُّ أن نُطيل الكلام في تفاصيل هذه الآراء الطبيعية عند أفلوطين؛ لأنها لا
تحتل عنده — على ما يبدو — مكانة كبرى، بل ننتقل الآن إلى الموضوع الأهم، وهو: هل كان
أفلوطين يُجاري عصره تمامًا في آرائه عن الكون الطبيعي، وهل لتفكيره في هذا الباب
طابَعُ التقدم أم التأخر؟
أمَّا أن أفلوطين قد حاول أن يُبرِّر المعتقداتِ الشائعةَ في عصره تبريرًا عقليًّا،
وفي هذا التبرير استقلال بمعنًى معين؛ فهذا ما يبينُ لنا بوضوح إذا تأملنا الأدلةَ
الآتية:
عندما نُقارن أفلوطين بمن تَلاه في المدرسة الأفلاطونية المحدَثة، نجده أقلَّ إغراقًا
منهم في الإيمان بالتنجيم والسحر. ومن رأي «ثورنديك
Thorndike» أن اتهام الأفلاطونية المحدَثة، وأفلوطين بوجه خاص،
بالإيمان بالسحر والتنجيم والقوى الخفية إيمانًا لا تمييز فيه، هذا الاتهام ناشئ — إلى
حد معيَّن — عن وجهة النظر المسيحية المعادية، التي عملت على تفسير المذهب على هذا النحو.
١٠ ومما يشهد بذلك أن أفلوطين قد عاب على أصحاب الغنوص اعتقادَهم بأن في
وُسعهم تحريكَ القوى اللامادية العُليا بكتابة طلاسم ونطق كلمات وأصوات معينة، وهي أمور
يقول عنها إنها مجرد شعوذة. كما يُهاجمهم لاعتقادهم بأن علة الأمراض شياطينُ خفية،
تُطرَد بقراءة تعاويذَ معينة، ويؤكد أن الأمراض إنما ترجع إلى علل طبيعية فحسب.
١١
ثم إن أفلوطين قد حاول أن يُعدِّل نظُم علم التنجيم الشائعة في عصره، فبدلًا من أن
يُوافق على الرأي القائل إن النجوم هي العلة الفاعلة لحوادث هذا العالم، رأى أن النجوم
تنبئ بهذه الحوادث، وأنها علامات دالَّة عليها فحسب. ولا شك أن ذلك التعديل كان
جوهريًّا بالنسبة إلى عصره، حتى إن بعض المنجِّمين في القرن التالي، مثل «ماترنوس
Maternus» قد عدَّه عدوًّا للتنجيم، وذكر أنه مات
مِيتة شنعاء جزاءً له على هذا العداء.
١٢
وإذا كنا قد رأينا أفلوطين من قبل يُشارك في التراث اليوناني القديم في نظرته إلى
العالم على أنه كلٌّ متناسق يسوده النظام والانسجام، فإنه يعود فيُؤكِّد انتماءه إلى
آبائه الروحيين من فلاسفة اليونان في نظرته إلى تأثير السحر؛ فقد كان للسِّحر عنده
معنًى واسع إلى أبعد حد؛ إذ يمكننا أن نقول إن أي تجمع طبيعي له عنده نصيب من السحر،
وإن أي انفعال ينتاب الإنسانَ ويجعله يرتبط بشيء آخر أو ينجذب إليه هو مظهر من مظاهر
السحر.
١٣ ومن هنا كان قول أفلوطين إن الجانب المادي اللاعاقل في الإنسان هو وحده
الذي يتأثر بالرُّقى والتعاويذ، أمَّا النفس العاقلة ففي وُسعها أن تتحرر من كل تأثير
للسحر.
١٤ ولَكَم كان أفلوطين يونانيًّا بحقٍّ حين قال إن كل مَن يستسلم لسحر الحب أو
العاطفة العائلية، أو يسعى إلى النفوذ والسلطان، أو أي هدف آخر غير الحق والجمال
الخالص، أو حتى ذلك الذي يبحث عن الحق والجمال في أشياء خسيسة؛ كل هؤلاء لا يقِلون
تأثُّرًا بالسحر عن أولئك الذين خضَعوا لتأثير ساحر حقيقي. وإذن فلا شيء يتحرَّر من
السحر حقًّا إلا حياة الفكر الخالص.
١٥ وفي هذا المعنى يكاد السحر أن يكون مُرادفًا لكل انفعال ينتاب المرءَ ويفقد
فيه قدرته على الفعل الإيجابي، وتضيع تلقائيته وسَط الحوادث الخارجية. ولا ينجو من هذا
الانفعال السلبيِّ إلا التأمُّل العقلي الخالص، وهي فكرة أكدها من قبل على أوضحِ صورة
أفلاطونُ وأرسطو، وإن لم يكونا قد ذَكَراها في مَعرِض الكلام عن السحر. فالحكمة هي
وحدها التي تَعصم من الانقياد للانفعالات العنيفة؛ تلك هي الفكرة التي تَوارثها أفلوطين
عن فلاسفة اليونان، وهي التي تُوجِّهه في حديثه هذا عن السحر.
وإلى هذا الحد رأينا تفكير أفلوطين يبدو على شيءٍ من الاستقلال بإزاء الخرافات
الشائعة في عصره، غير أن هذا الاستقلال لم يكن يُمثِّل إلا قدرًا ضئيلًا من آرائه
الحقيقية، وهو ذاتُه ينطوي على نوع من الإيمان الخفي بتلك المعتقدات الشائعة، هذا فضلًا
عما صرَّح به من إيمان بهذه المعتقدات.
فكثير من آراء أفلوطين التي يبدو فيها مخالفًا لخرافات عصره، إنما هي في الواقع سلاحٌ
ذو حدَّين؛ تكشف من جهةٍ عن استقلاله عن هذه الخرافات، ومن جهةٍ أخرى عن تعلُّقه بها
وتأييده لها. ومن قبيل ذلك قوله إن النجوم تُنبئ ولا تُحدِث أو تُسبِّب؛ فهذا القول
يُمكن أن يُفسَّر على أنه محاولة لتبرير التنجيم وربطه بمذهبه العامِّ، بحيث يصبح
للتنجيم أساسٌ عقلي متين. فالاستدلال على الأحداث من أشكال النجوم يرتبط برأي أفلوطين
العامِّ في الكون والألوهية؛ لأنه يقوم على أساس فكرة التعاطف والتوافق بين كل أجزاء
العالم. ومعنى ذلك تدعيم التنجيم والتنبؤ، وبناؤهما على أسس أمتن.
كذلك قوله إن الفكر وحده هو الذي يُخلِّص من تأثير السحر، وهو القول الذي رأيناه
من
قبل دليلًا على تعلق أفلوطين بالروح العقلية الكامنة في التفكير اليوناني. فهذا الرأي
أوَّلًا ينطوي على الإيمان الكامن بحقيقة السحر وتأثيره، مع استبعاد هذا التأثير من
مجال العقل. وإذا كان في وُسعنا أن نُفسِّر هذا الاستبعاد بأنه دليل على قوة النزعة
العقلية لديه، ففي استطاعتنا أيضًا أن نُفسِّره على أنه تدعيم وتأييد للسحر؛ إذ إن قوله
إن حياة العقل الخالصة لا تتأثر بالسحر أو بالنجوم؛ هو في الواقع محاولة منه للتوفيق
بين الاعتقاد بالسحر والتنجيم وبين حرية الإرادة الإنسانية، وبهذا وصَل إلى موقف يُشبِه
إلى حد كبير موقف المسيحية في أوائل العصور الوسطى؛ إذ اعتقد كثير من آباء الكنيسة بأن
التنبؤ حقيقة واقعة، وأكدوا مع ذلك أن النفوس التي تنفض علائقها بالعالم المحسوس — أي
تحيا حياة مسيحية خالصة — تتخلص من تأثير النجوم.
١٦
فإذا حلَّلنا موقف أفلوطين في مسألة التنجيم على حقيقته وجدناه في الواقع لا يهدف
إلا
إلى محاربة الرأي القائل بأن النجوم علل للشر أو أن لها قُوًى شريرة، أمَّا الاعتقاد
في
تأثيرها ونبوءاتها فقد زاده تدعيمًا. ولا جدال في أنه قد دعم علم التنجيم حين وفَّق بين
الحرية الإنسانية وبين التأثير الهام للنجوم، بحيث أمكن أن يستمر هذا العلم قائمًا في
عصور كانت تُحارِب السحَرة وتُنكِّل بهم تنكيلًا شديدًا.
وذهب أفلوطين في تبرير المعتقدات الشائعة في عصره إلى حد أنه برر الدياناتِ المعاصرةَ
له بنفس الأساس الفلسفي؛ فعبادة الأوثان يمكن أن يصبح لها مكانها في مذهبه؛ إذ إنه لما
كان التعاطف هو الظاهرة الأساسية في الكون، فإن كل شيء ينجذب إلى ما هو قريب منه أو
مُشابِه له، وبهذا تنجذب الآلهة إلى الصور أو الأوثان؛ لأنها مماثلة لها ومرتبطة بها
في
علاقةٍ تُماثل علاقة العالم المحسوس بالعالم المعقول.
١٧
وعلى نفس هذا النحو يُفسِّر أفلوطين الصلاة والدعوات؛ فهو يؤكد أن النجوم لا تستمع
إلى دعواتنا، ولا تتذكرها، ولا تُحقِّقها بإرادتها، ولا تُدرِك — بوجه عام — أي شيء
أرضي، وإنما تتحقَّق الدعوات تبعًا للضرورة الطبيعية. فلما كان لكل ما في العالم نفس،
فليس هناك ما يمنع من أن تنجم عن حركاتِ مَن يدعو؛ استجابةٌ أو نتيجةٌ مطابقة لها من
جانب النجوم السماوية التي يتجه إليها الدعاء، وذلك بمجرد التطابق بين الحركات،
والتشابه بين جزأَين متناظرين في الكون، دون أن تتدخل السماء بتفكيرها أو إرادتها الواعية.
١٨ وبهذا تندرج الصلاة والدعاء بدورهما تحت فكرة أعم؛ هي فكرة التعاطف
الكوني.
وإذن فكل مجهود أفلوطين في هذا المضمار هو محاولته تبريرَ المعتقدات الشائعة تبريرًا
عقليًّا. وفي التبرير العقلي، ولا شك، تثبيتٌ لهذه المعتقدات وتدعيم. وإذا قيل إن
كثيرًا من الرِّواقيين قد آمنوا بنفس النظريات التي حاول أفلوطين أن يُبرِّر بها
العقيدة الشائعة، فلنذكر أن أفلوطين كان أكثر منهم افتقارًا إلى الروح النقدية في هذا
الباب، حتى حفلت كتاباته، وخاصة التساعية الرابعة، بالحديث عن السحر والتنجيم والتنبؤ
والجن، وهي كلُّها مَعانٍ لم تعرفها الفلسفة اليونانية في عصرها الذهبي إلا
نادرًا.
ولقد حاول تسلر أن يلتمس لأفلوطين عذرًا عن قصور تفكيره في الأبحاث الطبيعية، على
أساس القول إن موضع الجمال في عالم الظواهر ليس إلا ما يحفل به من قُوًى روحية تبعث فيه
النظام والانسجام، أمَّا المادي بما هو مادي فلا يبدو في نظره إلا على أنه تشويه لهذه
الطبيعة العليا، وليس شرطًا إيجابيًّا لفاعليتها؛ ومن هنا لم يكن يبحث في الأمور
الطبيعية أبحاثًا مفصلة، وكانت دراساته القليلة في هذا المجال تفتقر إلى الدقة.
١٩ غير أن هذا الدفاع من جانب تسلر لا يقوم على أساس متين؛ فالواقع أن أفلوطين
قد أفاض في بحثه عن الكون الطبيعي والنجوم، والتساعية التي نُقدِّم هنا ترجمتَها تَشغل
منها الأبحاثُ الطبيعية جزءًا غير قليل. ونحن لا ننكر أن الطابع العام للعصر كان يتجه
إلى الإيمان بالخرافات، غير أنه لم يكن يُنتظَر من فيلسوف عميق مثل أفلوطين أن يحرص كل
الحرص على تبرير الخرافات الشائعة، وربطها بمذهبه العقلي العام.
وأبسط نتيجة لهذا الضعف في تفكير أفلوطين، أن الفلسفة قد أخذت تسمح للخرافات بالتغلغل
في أبحاثها الخاصة، وبدأت العناصر الغريبة تختلط بالأبحاث العقلية، حتى كاد العقل أن
يُخلِيَ الطريق للأوهام، فكان لذلك أسوأُ الأثر على العقول في العصور التالية.
ولَحِق العلمَ بدوره أكبرُ الضرر؛ إذ إن العلم الطبيعي الذي كان قد أخذ يحاول
الانفصال عن الفلسفة في أواخر عهود الفلسفة اليونانية، قد عاد إلى الاندماج بها مرة
أخرى بتأثير الأفلاطونية المحدَثة، وكان في هذا الاندماج أبلغُ الضرر بتطور العلم.
٢٠ ولو كانت حركات الانفصال هذه قد استمرت في سيرها الطبيعي، لكان من الجائز
أن تَسبق النهضةُ العلمية إلى الظهور قبل موعدها المعروف بكثير. وهكذا عاد الفلاسفة
يدَّعون التدخل في كل مظاهر الطبيعة، ويُوهِمون أنفسهم بأن في وُسعهم شفاءَ المرضى،
واستخدموا السحر ورقيه وتعاويذه بلا تمييز، وأخذ الاعتقاد بالجن والأرواح والمعجزات
يقتحم كل ميادين البحث الإنساني، فطرَدَت شياطينُ هذه المعتقدات العقلَ الصحيح من
مجاله، وأحلَّت الخرافةَ محلَّه. وإذا قيل إن هذا الأثر السيئ لم يكن قد اتضح بعد بأجلى
مظاهره عند أفلوطين، فلا شك في أن فيلسوفنا لم يفعل شيئًا يحول دون انتشار هذه الخرافات
من بعده انتشارًا مريعًا، بل ربما كانت آراؤه الطبيعية قد ساعدت على ذلك في بعض
الأحيان.