طبيعة النفس وماهيتها

نقد المادية الرواقية

للبحث في طبيعة النفس عند أفلوطين وجهان؛ وجه سلبي ينقد به الآراء السابقة، ووجه إيجابي يعرض به آراءه الخاصة. وسنبدأ بالجانب السلبي الذي ينقد فيه المادية الرواقية، وكذلك رأي أرسطو والفيثاغوريين في النفس، وبذلك نمهد للبحث الإيجابي في ماهية النفس كما يراها أفلوطين.

ولقد كان ضروريًّا لأفلوطين أن يعرض لفكرةِ لامادية النفس في بحثه لموضوع خلودها؛ إذ إن من أكبر الأسس التي يقوم عليها إثبات خلود النفس؛ القولَ بلامادِّيتها، وذلك منذ أن وضع أفلاطون براهينه المشهورة على خلود النفس وخاصة في «فيدون». فإذا ثبت أن النفس لا مادية، الصبح القول بخلودها هيِّنًا؛ لأن الفساد يسري على ما هو مادِّي فحسب.

وهكذا نجد أفلوطين يُفرِد أكثر من نصف المقال السابع من هذه التساعية، وهو المقال الذي يبحث في موضوع «خلود النفس» لدحض القول بمادية النفس، وهو القول الذي اشتَهر خاصة عند الرواقيين. والواقع أن هذه الفصول المتلاحقة، التي تتسلسل منطقيًّا إلى حدٍّ بعيد، هي من أدق أجزاء هذه التساعية، وتمتاز براهينها بالتماسك وبالدقة المنطقية، وبتتبع كل فروع المناقشة واستنفاد جميع أوجهها.

فالرأي المتطرف الذي يحرص أفلوطين منذ البداية على تفنيده، هو الرأي القائل بأن النفس مادية. وطريقة تفنيده للمادية هي أن يفترِض مع القائلين بها أن النفس جسمية بحق، ثم يستخلص النتائج الممتنعة التي تترتب على ذلك. ورغم أنه قد وجه عنايته إلى تفنيد الرواقية بوجه خاص، فإنه لا ينسى أن يخص الأبيقورية ببعض حديثه، حين ينقد أولئك الذين يرون النفس متكونة من تجمع ذرات أو أجزاء لا تتجزأ. فلو صح هذا، فكيف نُفسِّر ظاهرة التعاطف والتضافر بين جميع أجزاء النفس؟ إن الذرات بطبيعتها تنفصل كلٌّ منها عن الأخرى، وإذا تجمعت فإنما تدخل في «علاقات خارجية» فحسب، كما نقول الآن في مصطلحنا الفلسفي الحديث. وإذن فلا يمكن أن تتدخل هذه الذرات، أو تتحد فيما بينها على النحو الذي نراه في النفس المتعاطفة المتوحدة.١

أمَّا الرواقية، فهي التي اشتهرت من بين سائر المدارس المادية في هذا الباب. فالنفس عندها جسمية، وإن كان جسمها من طبيعة أرق، هو نفس تتخلله النار، أي مزيج من الهواء والنار يتحرك بذاته، وجوهرها النار الإلهية المستمدة من زيوس. وهي في رأيهم تشتمل على جزء مدبر مقره هو القلب، ومن القلب تتفرع الأنفاس السبعة التي تُحيي أعضاء الحس والحركة والصوت.

ويُفنِّد أفلوطين مادية الرواقين ببراهينَ مفصَّلة؛ هي:
  • (١)
    من الصفات الضرورية للنفس الحياة؛ لأن النفس هي مبدأ الحياة في الجسم الذي تتحد به. ولكن أي جسم لا يملك في ذاته حياة، وإذا اتصف بالحياة فإنما تكون هذه حياةً مستفادة فحسب. فإذا لم يكن للأجسام في ذاتها حياة، فمن المحال أن تنشأ عن تجمعها الحياة؛٢ لأن تجمع غير الحي لا يخلق الحياة.

    وقد يُرَدُّ على ذلك بأن الجسم ليس متجانسًا تمام التجانس، وإنما ينقسم إلى هيولى وصورة، وأن الصورة هي مبدأ الحياة فيه، وهنا يجيب أفلوطين بأن الصورة في هذه الحالة إمَّا أن تكون جوهرًا قائمًا بذاته أو لا تكون؛ فإن كانت جوهرًا كانت هي النفس غير المادية؛ لأنها مبدأ آخر مستقل عن الهيولى، وإن لم تكن جوهرًا، وإنما مجرد صفة أو حال متعلق بالهيولى، لكانت عاجزة عن أن تُضفِيَ الحياة على ذاتها؛ لأنها شيء لا قِوام له، بل يقوم في الهيولى.

  • (٢)

    ويُكمِل ذلك البرهانَ أن نتساءل: هل في وسع الهيولى أن تجلب لذاتها الحياة؟ إن الهيولى ليست هي التي تعطي لذاتها صورة؛ لأن من يعطي الصورة لا بد أن يكون مبدأً منظَّمًا، والهيولى عاجزة عن أن تُنظِّم نفسَها بنفسها. ولو قلنا إن ما يبعث النظام في الكون مادة من أي نوع، ولتكن هواءً أو نفسًا كما يقول الرواقيون، فإن العقل والنظام سيختفي تمامًا من الكون، ولا يسوده إلا الاضطراب والتخبط. فوجود النظام في العالم برهانٌ آخر على أن النفس لا يمكن أن تكون مادية، بل ذات طبيعة معقولة.

  • (٣)
    لو افترضنا جسمية النفس، فلن نستطيع أن نفسر ظاهرة هامة من ظواهر الحياة، وهي ظاهرة النمو؛ ففي هذه الحالة سيتم النمو بواسطة إضافة جسم جديد؛ إمَّا من نوع النفس (التي افترضنا جسميتها)، وإمَّا غير حي. ففي الحالة الأولى سنتساءل: «من أين يأتي، وكيف يدخل، وكيف يُضاف؟»، وفي الحالة الثانية سنتساءل: «كيف ينتقل إلى الحياة، وكيف يكون على وفاق مع ذلك الجزء من النفس الذي يوجد من قبل؟»٣ لا شك أن الجزء الذي يُضاف يحتاج إلى قوة أخرى خارجة، حتى تتمَّ وحدته مع الجزء الأول، وإلا لتبدَّدَت النفس وتعددت أجزاؤها. وقد يُقال، للتدليل على أن مبدأ الحياة قد يكون جسمًا كالنفس أو الدم، إن الكائن الحي يهلِك إذا ما فارقه هذان الجسمان. غير أن هذا ليس دليلًا على أنهما معًا، أو أحدهما، مبدأ الحياة؛ فكون الحياة تستحيل بدونهما ليس معناه أنهما قِوام النفس.٤ فالحياة تستحيل بدون الكبد أو الأمعاء مثلًا، ولكن ليس معنى ذلك أن قوام النفس هو الكبد أو الأمعاء. فلا يمكن أن تكون النفسُ واحدًا من هذه الأجسام.
  • (٤)
    للأجسام عادةً طبيعةٌ واحدة، أي إن الجسم لا يقبل الامتداد، بينما النفس تقوم بأفعال متضادة، وتنتج عنها آثار مختلفة، أي إنها تقوم بأفعال يعجز عن إتيانها الجسم.٥
  • (٥)
    وإذا كان الجسم ينتصف أساسًا بأنه ذو مقدار، فلسنا نستطيع أن ننسب هذه الصفة إلى النفس؛ لأنها إن كانت ذات مقدار، فستنقسم إلى أجزاء. وكل جزء منها إمَّا أن يكون نفسًا كالمجموع، وإمَّا ألَّا يكون؛ فإن قيل إنه نفس ولا يختلف في ذلك عن المجموع، فما قيمة الكم في هذه الحالة؟ وما قيمة جعلِنا النفسَ ذاتَ مقدار وذاتَ عِظَم؟ إن زيادة الكم أساسية في الأشياء ذات المقادير، ومع ذلك فهي لم تُغيِّر من الأمر شيئًا في حالة النفس، أي إن كونها ذاتَ مقدار هو صفة لا جدوى منها. وإن قيل إن كل جزء من النفس ليس نفسًا، فلن يكون مجموع هذه الأجزاء نفسًا؛ لأن كلًّا منها غير حي. فالنفس إذن ليست بذات مقدار، ودليل ذلك ما نراه من أن انقسام النفس بالتوالد لا يؤثر فيها؛ فالجزء فيها معادل للكل، أي إن مقولة الكم والمقدار لا تسري عليها، وهذه كما رأينا مقولة أساسية للأجسام.٦
    وما يُقال عن النفس بوجه عام، يُقال أيضًا عن قوى النفس؛ فينبغي ألا تكون قُوى النفس جسمية؛ لأن الكيف بطبيعته لا يتغير بالتقسيم، «فمثلًا إن كانت حلاوة العسل لا تَقل في كل جزء عنها في الكل، فينبغي ألَّا تكون الحلاوة جسمًا.»٧ فالقوى كالكيفيات ليست بذات مقدار؛ وبالتالي ليست أجسامًا. ولدينا على ذلك الدليل العملي، وهو أن القوى لا تتناسب مع الامتداد أو المقدار، فقد تَعظُم القوة مع صِغَر المقدار، أو العكس.
  • (٦)
    والنفس تتخلل الجسم في كل موضع منه، فإن كانت جسمًا، كان علينا أن نقول إن هناك جسمًا يتخلل الآخر في كل موضع منه، أي يختلط به اختلاطًا تامًّا، وتعريف الخليط التام أنه هو ذلك الذي يحلُّ فيه أحد الجسمَين في نفس المحل الذي يحل فيه الآخر، ولا يزداد حجم الأول عندما يُضاف إليه الثاني.٨ غير أن الخليط التام بين الأجسام مستحيل؛ لأن الجزء فيه سيكون مساويًا للكل، وهو مُحال كما بَيَّنَّا من قبل. وإذن فلا يمكن أن يكون هناك خليطٌ تام إلا بين جسم وشيء آخر من طبيعة لا مادية. ولما كانت النفس تتخلل الجسم تخلُّلًا تامًّا، فهي إذن غير مادية.
  • (٧)
    والقول بجسمية النفس يستتبع القول بانقسامها، وهذا يؤدي إلى العجز عن تفسير ظاهرة الإحساس. فالإحساس لا يمكن أن يتم إلا على أساس وحدة النفس. حقًّا إن كل عضو من أعضاء الحس لا يُدرِك إلا نوعًا واحدًا من المحسوسات كاللون أو الصوت أو الطعم، غير أن المرء لا يدرك كلًّا من هذه الإحساسات على حدة، بل يكون منها جميعًا صورة واحدة عامة، ويجمع كل الإحساسات في وحدة لا يقوم بها أي جزء على حدة.٩ فينبغي إذن لكي يتم الإحساس ألَّا تكون النفس منقسمة كالأجسام.

    وفضلًا عن ذلك فكيف يتم الإحساس لو كان القائم به جسمًا؟ إنه سيتم كما تنطبع العلامة على الشمع بواسطة الخاتم. وهذا الانطباع إمَّا أن يكون متغيرًا، يتبدَّد بعد قليل، وعندئذٍ لا تعود تتذكَّر ما حدث من قبل، أو أن يكون ثابتًا، فلا يمكن أن تنطبع علامات أخرى جديدة، إلا إذا شوهت الانطباعات السابقة، بينما الإحساس يقتضي — لو كان يتم بانطباع علامات — أن تنطبع علاماتٌ جديدة كلما وردَت إحساسات جديدة؛ فتفسير الإحساس والذاكرة ماديًّا هو تفسير فاشل من كل الوجود. وسنعود إلى مناقشة هذا الموضوع عند الحديث عن الإحساس والذاكرة.

  • (٨)
    وإذا كان الإحساس، الذي يُستخدَم فيه الجسم بجانب النفس؛ لأنه لا يتم بدون الحواس، إذا كان الإحساس لا يُفسَّر إلا على أساس القول بأن النفس لا مادية، فالأحرى ألا يكون التفكير ممكنًا على الإطلاق إذا افترضنا مادِّية النفس؛ لأن التفكير بطبيعته لا يتم باستخدام الجسم؛ فالجسم يتصف أساسًا بالامتداد والقابلية للانقسام، فمن المحال أن يتسنَّى له التفكير في غير الممتدِّ وغير المنقسم، وهي صفات المعاني العقلية، والأفكار بطبيعتها مجردة، ولا يمكن أن تقوم مادةٌ بتجريد فكرةٍ عن المادة.١٠
    كذلك الحال في القيم، كالخير والجمال، والفضائل الأخلاقية، كالعدالة أو الشجاعة؛ فهذه كلها لا يمكن أن تُفسَّر على أساس افتراض مادية النفس. فالمادية لا شأن لها بالتقويم والتفضيل، بينما كل هذه المعاني تفترض «التقسيم تبعًا للرتبة»، أي ما نُسَمِّيه بالقيمة في المصطلح الحديث.١١

نقد الفيثاغورية ومذهب أرسطو

ولا يكتفي أفلوطين بهذا النقد المفصَّل، الذي يُفنِّد به زعم الرواقيين بأن النفس مادية، بل ينتقل إلى نقد الرأي الفيثاغوري ورأي أرسطو في ماهية النفس؛ ذلك لأن أفلوطين، حرصًا منه على أن يجعل ماهية النفس عقلية بريئة من المادة، لا يكفيه أن يُفنِّد آراء الماديين، بل يحرص على نقد أولئك الذين جعلوا النفس مرتبطة بالمادة ارتباطًا وثيقًا، وإن لم يقولوا إنها هي ذاتها مادية، ومن هؤلاء: الفيثاغوريون في قولهم إن النفس انسجام للأجسام، وأرسطو في قوله إن النفس كمال للجسم.

  • (١)

    فقول الفيثاغوريين بالانسجام معناه أن النفس صفة من صفات الجسم؛ لأن الانسجام إحدى الخصائص التي تتصف بها الأجسام. ولو كانت النفس انسجامًا للجسم لما أمكنها أن تقف في سبيله وتفرض عليه أحكامها. كما أن النفس جوهر، والانسجام ليس له قوام جوهري. ثم إن الانسجام يقتضي دائمًا علة فاعلة للقيم به، وليس هو ذاتُه فعَّالًا، أي إنه لا بد من وجود نفس قبل الانسجام، تُضفي هي الانسجام على الجسم.

  • (٢)
    وقول أرسطو إن النفس «كمال أول الجسم طبيعي عضوي له حياة بالقوة»، هذا القول يجعل من النفس صورة لنوع معين من الأجسام؛ هو النوع الذي حدده في التعريف. وعيب الفكرة القائلة بأن النفس كمال enteleheia أنها تجعل النفس مرتبطة بالجسم ومتوقفة عليه؛ لأن الكمال لاصق بالجسم ومُعتمِد عليه، وإن لم يكن هو ذاتُه جسمًا. والواقع أن أرسطو ذاته، كما لاحظ أفلوطين، قد اضطُرَّ إلى افتراض مبدأ آخر بجانب النفس التي رآها كمالًا للجسم العضوي؛ هو العقل، الذي رآه مفارقًا وخالدًا. فالفكر يستلزم ألا تكون النفس كمالًا مرتبطًا بالجسم ومتوقفًا عليه، وكذلك الإحساس لا يمكن أن يرتبط بالجسم كما أثبتنا من قبل، والنمو في النبات لا يفترض نفسًا مرتبطة بجسم النبات؛ لأن النفس تظل ثابتة بينما يتغير جسم النبات على الدوام؛ ففكرة الكمال مرتبطة بجسم واحد بعينه، ومن المحال أن يُفسَّر انتقال النفس بين عدة أجسام كما في النبات والحيوان بهذه الفكرة.١٢

وهكذا يُصِر أفلوطين على ألا يجعل النفس مرتبطة بالجسم ومتوقفة عليه بأي معنًى من المعاني؛ سواءٌ أكانت له انسجامًا، أم كمالًا. فهو يأبى أن يعُدها صفة أو كيفية تعتمد على الجسم، بل يؤكد أنها جوهر قائم بذاته، مستقل من الجسم، إيجابي فعال، طبيعته الأصلية مضادة تمامًا للطبيعة الجسمية؛ لأنها تنتمي أصلًا إلى عالم المعقولات، وإن كانت في عالمنا هذا ترتبط بجسم وتمارس فاعليتها عليه.

ماهية النفس عند أفلوطين

يُصنِّف أفلوطين الموجودات من حيث القابليةُ للانقسام إلى موجودات من طبيعتها أن تكون منقسمة، وأخرى ليس من طبيعتها أن تقبل الانقسام، وثالثة تجمع بين الطبيعتَين. ومن قبيل النوع الأول، أي القابل للانقسام بطبيعته، الحجوم الحسية والكتل المادية. أمَّا النوع الثاني، الذي لا يقبل انقسامًا على الإطلاق، فمن أمثلته الأفكار العقلية، التي لا توجد في محل.١٣ وأساس التمييز بين النوع الأول والثاني هو أن نتساءل: هل كل جزء من الشيء في هوية مع بقية الأجزاء، وهل يصح أن نقول إن الجزء فيه أقلُّ من الكل بالضرورة؟ فإن كان الجواب بالإيجاب، كان الشيء قابلًا للانقسام بطبيعته، وإن كان بالسلب كان غيرَ قابل للانقسام؛ لأن المعقولات ليس فيها جزء ولا كُل، ولا تنطبق عليها معاني الأصغر والأكبر.
وهناك ماهية ثالثة تجمع بين الطبيعتَين، وتتمثل في النفس؛ فالنفس منقسمة ولا منقسمة في نفس الآن. وقد عبر أفلاطون عن هذا المعنى في محاورة طيماوس، فقال: «من النفس التي لا تتجزأ، والتي هي في هوية دائمة مع ذاتها، ومن تلك التي تغدو منقسمة في الأجسام؛ تكونَت ماهيةٌ ثالثة بين الاثنَين.»١٤ ووجد أفلوطين في هذه العبارة ما يتفق مع مذهبه الذي يجعل للنفس مرتبةً وُسطى بين الموجودات، فعلق عليها تعليقًا مفصَّلًا نستشف من خلاله رأيه الخاص في ماهية النفس.
فالنفس قريبة من المعقولات، تليها مباشرة في المرتبة، وهي تَستمد عدم انقسامها من المعقولات لقربها منها. غير أن من طبيعة النفس ألا تظل دائمًا مع المعقولات، ولا لما اختلفَت عنها، بل إنها تحل ضرورة في بدن. وهكذا يسري عليها الانقسام في الأبدان، فتجمع بين الطبيعتَين؛ «فهي منقسمة؛ لأنها في كل جزء من أجزاء البدن الذي تُوجَد فيه، وهي لا منقسمة؛ لأنها توجد بأكملها في جميع الأجزاء، وفي كل جزء معين من ذلك البدن»،١٥ فورود النفس إلى الأبدان هو الذي أدى إلى انقسامها؛ لأن البدن المنقسم بطبيعته لا يمكن أن يقبل النفس غير المنقسمة، أمَّا لو ظلت النفس في ذاتها فستكون غير منقسمة بالضرورة.
والدليل الذي يُبرهِن به أفلوطين على أن النفس غير تامة الانقسام، هو تلك الوَحدة العضوية والنفسية التي تَسود الكائنَ الحي، بحيث يُحِس كله بأي مؤثر يقع على جزء معين من جسمه، مما يقطع بأن النفس ليست أجزاءً منفصلة تمامَ الانفصال، وإنما وَحدة واحدة لا امتداد فيها ولا أجزاء. والقول بعدم انقسام النفس إلى أجزاء منفصلة يستتبع حتمًا رفض الرأي الرواقي، القائل بوجود جزء رئيسي أو مدبر للنفس، تنتقل إليه كلُّ الإحساسات التي تُؤثِّر في سائر أجزائها بالتدريج.١٦ على أن النفس كذلك لا يمكن أن تكون تامةَ الوحدة؛ لأنها لو كانت كذلك لما بعَثت الحياة في كل أجزاء البدن الذي تَشغله؛ وإذن فهي جامعة بين الانقسام وعدم الانقسام.
ولهذا القولِ بجمع النفس بين الطبيعة المنقسمة واللامنقسمة؛ نتيجةٌ على أعظم جانب من الأهمية في مذهب أفلوطين؛ فالنفس بهذا المعنى تحتل الموقع الأوسط في تسلسل الموجودات، أي إنها حَلْقة الاتصال بين العالم المعقول والعالم المحسوس. فالنفس لم تكن منقسمة وهي تحيا في العالم المعقول، أمَّا بعد هبوطها إلى الأبدان فإنها تتخذ صفة جديدة بجانب صفتها السابقة، وهي القابلية للانقسام. وإن احتفاظ النفس في عالمنا هذا بالصفتَين معًا لَدليل على أن النفس، وإن كانت قد هبطت إلى العالم المحسوس، فإنها تظل على صلةٍ بالعالم المعقول، الذي وردَت منه؛ ففي النفس جزءٌ يظل على الدوام مرتبطًا بمصدره الأعلى.١٧
فإذا كانت النفس تحتلُّ هذا الموقع الوسط، فإن لدراسة النفس، كما لاحظ أفلوطين ذاته، أهميتَها القصوى؛ إذ إنك لو درَست العالم المعقول وحده، فسيظل العالم المحسوس غائبًا عن ذهنك، ولو اكتفيتَ ببحث العالم المحسوس فلن يرتقيَ ذهنك إلى العالم المعقول على الإطلاق. أمَّا دراسة النفس فتُعين الباحث في الاتجاهَين معًا؛ «اتجاه الأشياء التي تَتخذ من النفس مبدأً، واتجاه الأشياء التي تَرِد منها النفس.»١٨ ومن هنا كانت دراسة النفس هي حجرَ الزاوية في مذهب أفلوطين؛ إذ تفتح أمامنا مجال الجمع بين كل أطراف المذهب. وإن بحث طبيعة الموجود الذي يتوسط بين العالَمَين المعقول والمحسوس، لَيكشف لنا ضرورةً عن هذَين العالَمَين، وبهذا نصل إلى معرفة كل المبادئ المتدرجة عن طريق دراسة هذا المبدأ الوسط.
١  IV. 7, 3.
٢  IV, 7, 2.
٣  IV, 7, 5.
٤  IV, 7, 8.
٥  IV, 7, 5.
٦  IV, 7, 5.
٧  IV, 7, 8 (1).
٨  IV, 7, 8 (2).
٩  IV, 7, 6.
١٠  IV, 7, 8.
١١  Ibid.
١٢  IV, 7, 8 (5).
١٣  IV, 2, 1.
١٤  Timaeus 35A.
١٥  IV, 2, 1.
١٦  IV, 2, 2.
١٧  IV, 1.
١٨  IV, 3, 1.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤