هبوط النفس إلى الجسم
تكلمنا في الفصل السابق عن النفس الكلية، وأوضحنا علاقتها بالعالم، فإذا شئنا أن
نتحدث عن علاقة النفس الفردية بذلك الجزء الخاص الذي تُدبِّره من العالم، وهو
الجسم، فلا بد أن نُجيب أوَّلًا عن هذا السؤال: كيف هبطَت النفس إلى البدن؟
إن النفس بطبيعتها تتوسط بين العالم المعقول والعالم المحسوس. «وهي حين تُلقي
بنظرتها إلى الحقيقة السابقة عليها، تفكر … وحين تنظر إلى ما يليها، تنظم وتدبر وتتحكم.»
١ وطالما كانت النفس في العالم الأعلى، أي العالم المعقول، فلن يكون هناك
مجالٌ للحديث عن هبوطها. وإنما يبدأ البحث في هبوط النفس حين ينصرف المرء عن
الاستغراق في العالم المعقول، ويتأمل مصير النفس في هذا العالم. فالنفس — ذلك
المبدأ الرفيع، الذي يؤدي بنا أحيانًا إلى الوحدة مع الموجود الإلهي
٢ — تحيا مع ذلك في عالمنا هذا. فكيف تركت عالمها المعقول إلى جسم يصرفها
عن تأمل أصلها الأول بين المعقولات؟
للفلاسفة السابقين على أفلوطين آراء خاصة في فكرة هبوط النفس. وأقربهم إليه،
وأجدرُهم بأن يُقارَن به، هو أفلاطون. وقد تولى أفلوطين ذاته إجراء هذه المقارنة،
فعرَض رأي أفلاطون في هبوط النفس، وتوصل إلى كشف ذلك التناقض الذي طالما لاحظه
المفكرون في فَهم أفلاطون لفكرة الهبوط؛ ففي معظم الأحيان نرى أفلاطون يحمل على
هبوط النفس، ويَعُده نَقيصة كبيرة تنتابها؛ فهبوط النفس عنده أمر مذموم، وهي في
الجسم كأنها في مقبرة، أو سجن، أو كهف؛ كما قال في الجمهورية، وهي لا تهبط إلى هذا
العالم إلا إذا «فقدَت أجنحتها» كما قال في «فيدرس». ولكن أفلاطون يأتي في طيماوس
برأي آخر؛ إذ يكف عن حملته على العالم المحسوس، ويُؤكِّد ما فيه من نظام وجمال، وهو
النظام الذي تتولَّاه النفس، أي إن هبوط النفس إلى عالم الأجسام أمر ضروري لبعث
النظام والجمال فيه. ومعنى ذلك أن أفلاطون يحل مشكلة هبوط النفس في طيماوس على أساس
فكرة الضرورة، أمَّا في بقية المواضع فعلى أساس فكرة الخطيئة؛ لأن النفس لا يمكن أن
تهبط إلى مقر مذموم إلا إذا كانت قد أخطأت وعُوقِبَت على خطئها.
والرأي الذي يأتي به أفلوطين هو توفيق بين هذَين الاتجاهَين؛ فهو يؤكد تحكُّم
الضرورة المحتومة في هبوط النفس، ولكنه يعود فيصبغ هذه الضرورة بصِبغة تقويمية، أي
يجعلها مرتبطة بنوع من الخطأ ترتكبه النفس. وسنتكلم الآن عن هذا الموضوع
بالتفصيل.
ففكرة الضرورة تحتل في مذهب أفلوطين موقعًا هامًّا، وهي التي تتحكم في انتقال كل
مبدأ إلى المبدأ الذي يليه. وهو يُردِّد هذه الفكرة في أسلوب يُذكِّرنا كثيرًا
بأسلوب الرواقية؛ فكل شيء في العالم خاضع لمبدأ واحد، «وكل شيء فيه منظم، سواءٌ في
ذلك هبوط النفس وصعودها، ومع النفوس كل شيء آخر.»
٣ فكل نفس لا تهبط لا إلى الجسم الذي خُلِق قادرًا على تَلقِّيها،
وملائمًا لطبيعتها الخاصة. ويتم ذلك الهبوط في وقت مقدر؛ «فهي ليست في حاجة إلى
كائن يرسلها ويدفعها في اللحظة المنشودة حتى تدخل جسمًا معيَّنًا، بل إن هذه اللحظة
إذا ما حانت هبطت إليه النفس تلقائيًّا ودخلَت حيث ينبغي لها أن تدخل … وكأنها
تستجيب لدعوة داعٍ، حتى ليَظن المرء أن قدرةً سحرية قد حركتها وجذبَتها بقوة لا تُقاوَم.»
٤
وهنا قد نتساءل: كيف تَنفُذ إرادة العقل إلى النفس، وعن أيِّ طريق تصل هذه
الضرورة المتحكِّمة في الكون إلى النفس؟ إن الجواب عن هذا السؤال هو في فكرة
«المبادئ البذرية العاقلة»؛ فهذه المبادئ «عللُ كل الكائنات، وعلل حركات النفوس
وقوانينها الصادرة عن العالم المعقول.»
٥ ومهمتها هي أن تنقل أحكام العالم المعقول؛ فهي تُلخِّص ما في ذلك
العالم وتبعث به إلى النفس، وهي أشبهُ بالنماذج العقلية التي تنظم بها النفس ما
تُدبِّره من مادة، وهي التي تحدد لكل نفس عند هبوطها الموضع الخاص الذي ستحل فيه.
فالضرورة تنتقل من العقل إلى النفس عن طريق المبادئ البذرية العاقلة.
فما هي إذن تلك المظاهر التي تتبدى عليها فكرة الضرورة هذه في النفس؟ وكيف تنطبق
الضرورة على النفس بحيث تُحتِّم عليها أن تهبط إلى جسم تدبره وترعاه؟ قد تظهر
الضرورة في صورة الرغبة في الاستقلال والانفراد. فكل مبدأ مرتبط حقًّا ببقية
المبادئ ارتباطًا وثيقًا، ولكن له في نفس الوقت قوامه وكيانه الخاص. والنفس حين
تحيا في العالم المعقول، تكون في وحدة تامة مع بقية النفوس، ومع النفس الأولى. ولكن
الضرورة تقضي عليها بأن تؤكد استقلالها وانفرادها. فهي تودُّ أن توجد قائمة بذاتها،
وأن تنفرد بنفسها، وتنفصل عن الكل الذي تعيش مندمجة فيه. ولا شك أن الذي يحضُّها
على هذا الاستقلال ضرورةٌ كامنة في كل موجود، تدفعه إلى أن يُؤكِّد ذاته ويُثبِت
فرديته؛ بدليل أن انفصال النفس طويلًا عن العالم المعقول يجلب عليها أضرارًا؛ «فهي
تَغدو جزئية، وتَنعزل وتضعف، وتدبُّ الكثرة في فعلها، ولا تتأمل إلا أجزاء»،
٦ مع أنها في الأصل كانت تُشارِك النفس الكلية في تدبير العالم، ولكنها
مع ذلك تُصِر — في وقت من الأوقات — على هذا الاستقلال؛ لأن الضرورة تَدفعها إليه
في الوقت المعلوم.
ولكنا مع ذلك سنظل نتساءل: ما هي القوة الدافعة التي تُرغِمها على الاستقلال
بذاتها وتدبير جسم خاص بعينه؟ وأي الدوافع تُطيعها النفسُ حين تستقل؟ يُجيب أفلوطين
عن هذا السؤال بقوله: «إن ما يدفع النفسَ إلى الانفراد والاستقلال بذاتها، هو
رغبتها في محاكاة المبادئ التي تَعلو عليها؛ فهي تَودُّ أن تأتيَ من عندها بنظام
يتفق مع ما رأته في العقل، وهي تشتاق إلى تحقيق هذا النظام وكأنها حاملٌ به، تَشعر
بآلام الوضع، فترغب دائمًا في الخلق والإنتاج.»
٧ ولا شك أن فكرة التقليد والمحاكاة هذه، تقترب من فكرة التشبُّه بالله
التي ترددَت كثيرًا في تفكير أفلاطون، وكانت من الدعائم الأساسية التي بنى عليها
مذهبه الأخلاقي. فإذا كانت النفس تريد محاكاة المبدأ الذي يعلو عليها وهو العقل،
فلا شك أن العقل بدوره لا يستمد النظام والحكمة إلا من الواحد، وبهذا تكون النفس
بدورها راغبةً في التشبه بالواحد الأول.
ولكن لِمَ لَمْ يوجد الأول وحده؟ ولماذا قضت الضرورة بأن يُحاكِيَه كل مبدأ تالٍ
له في قدرته على الخلق والتنظيم، وفي طبيعته الفياضة المنتجة؟ وما الذي كان يمنع من
أن يظل الأول في وحدته، فلا يقوم بجانبه مبدأ آخر يستأثر لذاته بجزء من العالم
ينظمه، كما تفعل النفس مثلًا؟ يُجيب أفلوطين عن هذا السؤال إجابةً لها مغزاها
الهام، فيقول: «لا ينبغي أن يُوجَد شيء واحد فحسب، وإلا لظَل كل شيء خفيًّا، ما
دامت الأشياء لا تكون لها في الواحد أية صورة متميزة، ولو كان الواحد يظل ساكنًا في
ذاته، لما وُجِد أي موجود خاص، ولو لم تُوجَد من بعد الواحد مجموعة الموجودات التي
لها مرتبة النفوس لما كانت تلك الكثرة من الموجودات الصادرة عن الواحد. كما أن
النفوس لا ينبغي أن توجد وحدها، دون أن تظهر آثار فعلها، فمن الخصائص الكامنة في كل
طبيعة أن تنتج من بعدها، وأن تُنمِّيَ ذاتها سائرة من مبدأ غير منقسم، هو نوع من
البذرة إلى ناتج حسي، ويظل الحد السابق في المكان الخاص به، ولكن ما يحدث ينتج عن
قوة كامنة كانت فيه.»
٨
ففي هذه الفقرة يحمل أفلوطين على الوحدة المطلقة، كما قالت بها المدرسة الأيلية
مثلًا، ويرى الكثرة ضرورية كالوحدة تمامًا. ولا بد لتحقيق الكثرة من أن يكون لكل
مبدأ فاعليةٌ تُمكِّنه من خلق وتدبير ما يتلوه، فبهذا وحده يتحقق تنوع الموجودات،
ويظهر العالم على صورته المتعددة الأوجه. غير أن هذا التعدد ليس مطلقًا، ولا يشتمل
على كثرة من الموجودات يستقل كل منها عن الآخر ولا تربطه به أية رابطة، وإنما ستظل
القوة الأولى متمثلةً في جميع الموجودات حتى أدناها مرتبة؛ فقوة الواحد هي الخيط
الذي يمتد من أعلى مراتب الوجود حتى أدناها، ويجمع بينها كلها في وحدة شاملة. ومن
هنا كان التعدد والكثرة ضروريًّا؛ لأنه دليل قوة الواحد وبرهان قدرته. وعلى ذلك
فحين تنفرد النفوس بجزء خاص من الكون، هو جسمها؛ لتدبره وتنظمه، فهي إنما تطيع في
ذلك تلك الضرورة التي حتَّمَت عليه أن تعكس قدرة الواحد على الوجه المحسوس، وأن
تنظم هذا الوجود لتواصل بذلك سلسلة الفيض والصدور، التي تمتد فيها قوة الواحد بلا
انقطاع.
فهبوط النفس إلى بدن خاص تُدبِّره هو إذن ضرورة محتومة. وأفلوطين يُعمِّم هذه
الضرورةَ على كل مراتب الوجود، وجميع حوادث العالم، على نحوٍ يُذكِّرنا كثيرًا —
كما قلنا من قبل — بطريقة التفكير الرواقية. فهو مثلًا يقول: «ليس لنا أن نعتقد أن
ثمَّة حوادثَ معينة تَخضع وحدها للنظام، بينما لا يرتبط غيرها بشيء، بل يسير
اعتباطًا. فإن كان يلزم أن يحدث كل شيء وفقًا لعلل ونتائج ضرورية، وتبعًا لمبدأ
واحد ونظام واحد، فلا بد أن نُؤمِن بأن هذا النظام وذلك الارتباط يمتدان إلى كل
صغيرة وكبيرة.»
٩ وفي هذا ما يقطع بأن أفلوطين من أنصار فكرة الضرورة، وبأنه لا يجعل
هبوط النفس إلى الجسم صادرًا عن فعل إرادي على الإطلاق.
ولكن ألا نَلْمس لدى بقية الفلاسفة، وخاصة أفلاطون، رأيًا آخر في هذا الصدد؟ ألم
يرُدَّ أفلاطون هبوط النفس إلى خطيئة ارتكبها فاستحقت عليها هذا الجزاء؟ إن الخطيئة
فعل إرادي حر، وإلا لما عوقبت النفس عليه بالهبوط إلى العالم المحسوس، فكيف نُوفِّق
بين هذه الحرية التي ينطوي عليها مذهب أفلاطون ضمنيًّا، وبين فكرة الضرورة كما قال
بها أفلوطين؟
الواقع أن أفلوطين ذاته قد تنبَّه إلى هذا الاختلاف، ولكنه رأى أن من الممكن
التوفيقَ بين الضرورة والحرية في هذا الصدد. فهو من جهة يعترف بأن النفس قد أخطأت،
وبأن هبوطها إلى هذا العالم إنما هو جزاء لها على خطيئة اقترفتها؛ «فالخطيئة
مزدوجة؛ هي تلك التي تُتَّهَم بها النفس لهبوطها، وتلك التي يكون قوامها الأفعال
المرذولة التي ترتكبها حين تأتي هنا. فالأولى هي حالة هبوطها ذاته …»
١٠ وفي هذا ما يؤكد اعترافه بأن هبوط النفس إلى هذا العالم خطيئة، بل فيه
تلميحٌ إلى فكرة «الخطيئة الأولى» كما ظهرت فيما بعد عند المسيحية؛ إذ يرى أن حالة
هبوط النفس ذاتها هي جزاء على الخطيئة الأولى، وهي خطيئة متميزة عن الخطايا الأخرى
التي ترتكبها النفس بعد هبوطها إلى هذا العالم. وقد نرى في هذا تعارضًا مع ما سبق
أن أورَدْناه من النصوص التي تُؤكد تَحكُّم الضرورة المطلقة في هبوط النفس، ولكن
أفلوطين يُسارع إلى محو ذلك التناقض، ذاكرًا أن الحرية متضمنة في الضرورة، أي إنها
إحدى حالات الضرورة؛ فقد ننظر إلى الخطيئة على أنها فعل تام الحرية، ولكن الواقع أن
الانفعالات التي تُؤدي بنا إلى الخطيئة مرتبطةٌ بالقانون الطبيعي الأزلي الذي
يتحكَّم فيها ويُحدِّدها.
١١ فالخطيئة إذا نُظِر إليها بوصفها حادثًا فرديًّا، كانت بالفعل مظهرًا
من مظاهر الحرية، أمَّا إذا رُبِطَت بالنظام الكوني العام، كانت بدورها حادثًا
يتحكم فيه النظامُ الكوني العام. وبهذا يُوفِّق أفلوطين بين فِكرَتَيِ الضرورة
والحرية في هبوط النفس.
فإذا أصرَّ البعض، رغم علمهم بأن هبوط النفس إلى البدن أمر تتحكم فيه الضرورة
الكونية العامة، على القول بأن هذا الهبوط أمر مذموم كان خيرًا ألا يقع، فإن
أفلوطين يرد على هذا الاعتراض بالحجج الآتية:
- (١)
علينا أن نتذكر دائمًا أن هبوط النفس ليس تامًّا؛ «فليس صحيحًا أن كل
نفس تغوص بأكملها في المحسوس، حتى نفسنا ذاتها؛ ففيها شيء يظل دائمًا
في المعقول.»
١٢ ولقد تكلمنا من قبل عن مشاركة النفس في الطبيعة المنقسمة
والطبيعة اللامنقسمة معًا؛ فهي تنقسم حين تحل في أبدان، ولكنها تظل مع
ذلك ترنو بأبصارها إلى العالم المعقول الذي هبطت منه، ولولا ذلك لما
كان في وسعها أن تُغادِر العالم المحسوس على الإطلاق، ولظلت إلى الأبد
رهينةَ الحس والمادة. فهبوط النفس وورودها إلى العالم المحسوس ليس إذن
اندماجًا تامًّا منها في هذا العالم.
- (٢)
إن لهذا الهبوط نفسِه فائدةً، وإن بدا لأول وهلة أمرًا ضارًّا في كل
الأحوال؛ فبواسطته تتم سيطرة النفس على العالم المحسوس، ويَسري النظام
في كل الأشياء، فلولا تغلغلُ النفس فيها لدَبَّ الاضطراب والتفرق في كل شيء.
١٣ فهبوط النفس إلى عالم الأجسام ضروري لبعث النظام والجمال
فيه؛ بشرط ألَّا تنصرف النفس تمامًا إليه.
ولكن هل تقتصر فائدة هبوط النفس على العالم المحسوس، وهل تستفيد النفس بدورها من
هبوطها؟ الواقع أن أفلوطين يؤكد أن لهبوط النفس فائدةً لها هي ذاتها؛ مما جعله في
هذا الصدد مخالفًا لأفلاطون خلافًا صريحًا. ففي النفس قُوًى عديدة، بعضها يُمارَس
على خير وجه خلال إقامتها في العالم المعقول، وبعضها الآخر يظل في ذلك العالم في
حالة كُمون، ولا يتحقق أو ينتقل إلى الفعل إلا إذا هبطت النفس إلى العالم المحسوس.
١٤ ففي هذا الهبوط إذن تنمية لتلك الملَكات التي لها صلة بالعالم المادي،
بل لملَكة الخلق والفعل فيها. ثم إن في هبوط النفس زيادةً في خبرتها وتوسيعًا
لمعارفها؛ فليس مما يُشرِّف النفسَ على الإطلاق أن تجهل الشر ولا تكون لها به أية
خبرة، بل ينبغي لها أن تهبط إلى العالم المحسوس وتُمارِس شروره فتُفيد من ذلك في
اتجاهَين: اتجاه معرفة الشر وطبيعة الرذيلة،
١٥ واتجاه معرفة الخير بمزيد من الوضوح، بعد أن تقارنه بضدِّه.
١٦ فنفوسنا من ذلك النوع الذي لا يمكنه معرفة شيء إلا بممارسته، وبهذا
تَزيد معرفتُها به وبضده، أمَّا النفس الكلية فليست في حاجة إلى ممارسة الشر لكي
تَعرفه أو تعرف الخير؛ لأنها تدركهما بالتأمل فحسب.
وهكذا تأبى النزعة اليونانية إلا أن تتردد في تفكير أفلوطين رغم كل شيء، فيؤكد
ضرورة هبوط النفس إلى العالم المحسوس، ويُصِر على أن له فائدتَه للنفس وللعالم
المحسوس معًا، رغم أن فلسفته كانت كلها متجهة إلى العالم الأعلى وإلى تأمل
الخير.
علاقة النفس الجزئية بالجسم
فما هي العلاقة الحقيقية التي تقوم بين النفس والجسم حين تهبط إليه، وما هو معنى
كلمة «في» حين نقول إن النفس في الجسم؟
يستعرض أفلوطين مُختلِف الاقتراحات التي تتقدم بها المذاهب المختلفة لتقريب فكرة
الصلة بين النفس والجسم إلى الأذهان، وذلك في الفصول من ٢٠ إلى ٢٣ من المقال الثالث
من هذه التساعية. والواقع أن بحثه المفصل لهذا الموضوع، ومناقشته الدقيقة لكل رأي
قيل في هذا الصدد؛ لَدليل على أن مشكلة اتصال النفس بالجسم، أو الروحي بالمادي بوجه
عام، كانت عنده مشكلة رئيسية ظلت ماثلة طويلًا في ذهنه. ومن هنا نستطيع أن نقول إنه
قد استبق الفكرَ الحديث — إلى حد ما — في الاهتمام بهذا الموضوع. فمن الآراء
الشائعة أن مشكلة الصلة بين المادي والروحي لم تَظهر على حقيقتها، ولم تُصبِح من
مشاكل الفكر الرئيسية، إلا على يد ديكارت، وأن التفكير اليوناني لم يعبأ كثيرًا
بهذا الموضوع. ولكن الواقع أن أفلوطين ينبغي أن يُستثنى من هذا الحكم العام؛ إذ إنه
إن لم يكن قد أتى بحل مُرضٍ لهذه المشكلة، فإنه قد اهتم بها اهتمامًا غير قليل،
وأدرك خطورتها من حيث هي مشكلة فلسفية رئيسية.
فبأي معنًى إذن تكون النفس «في» البدن؟ هل هي فيه وكأنها في محل؟ إنها هي التي
تحوي الجسم، بالأحرى، وليس هو الذي يحويها، ثم إن المحل فكرة مجردة، فلن تكون هي
التي تُفسِّر لنا العلاقة بين الجسم والنفس.
ومن الفلاسفة من قال إن النفس في الجسم بوصفها جزءًا منه، وهؤلاء هم الماديون،
وأخصهم بالذكر الرواقيون. ولكن هل صحيح أن النفس جزء من الجسم؟ الواقع أن البراهين
التي فنَّد بها أفلوطينُ ماديَّة الرِّواقيين، والتي أوردناها عند الكلام عن طبيعة
النفس، تَكفي للرد على هذا الرأي الرواقي. أمَّا إذا قيل — بعكس ذلك — إن النفس هي
الكل، والبدن هو أجزاؤها المختلفة، فالرد على ذلك أن النفس لو كانت كلًّا مركَّبًا
من أجزاءٍ هي البدن، لكان معنى ذلك أنها مادية، وهو الرأي الذي فنده أفلوطين
تفصيلًا في نفس الموضع.
أمَّا رأي أرسطو الذي يُشبِّه علاقة النفس والجسم بعلاقة الصورة بالهيولى، فيرفضه
أفلوطين على أساس أن الصورة مرتبطة بالهيولى لا تنفصل عنها ولا تُفارقها، فهي
متعلقة بها، معتمدة عليها، أمَّا النفس فهي مستقلة عن الجسم، سابقة عليه، بل هي
تُضْفي عليه الصورة، أي إنها ليست صورة، وإنما مصدر الصور.
١٧
وهناك رأي أقرب إلى الصواب، هو القول إن النفس توجد في البدن كما يُوجَد الرُّبان
في السفينة. ووجه الصواب في هذا التشبيه هو أن الرُّبان غالبٌ على السفينة، موجِّه
لها، مستقِل عنها، تمامًا كالنفس بالنسبة إلى الجسم. ولكن تغلغل النفس في الجسم
كله، وفي كل أجزائه، مختلف عن وجود الربان الذي لا يحتلُّ من السفينة إلا جزءًا
ضئيلًا. كما قد يفيد القول إن علاقة النفس بالبدن كعلاقة الربان بدفَّته، فهنا
نستطيع حقًّا تفسير سيطرة النفس على الجسم، ولكنا لا نستطيع تفسير الاندماج بينهما
أو تصوره.
فكل محاولة لتصور العلاقة بين النفس والجسم، على أساس «احتواء» الجسم على النفس
بأية صورة من الصور، هي محاولة فاشلة منذ البداية؛ ولهذا ينحاز أفلوطين إلى جانب
الرأي الأفلاطوني القائل إن البدن بالأحرى هو الذي يوجد في النفس؛ فالنفس هي الحدُّ
الأسبق على الجسم، والأكثر منه اتساعًا؛ لأن فيها جزءًا لا يختلط بالجسم على
الإطلاق؛ لهذا لم يكن ارتباطها بالجسم ارتباطًا يعتمد عليه، بل هو الذي يعتمد
عليها، وهو الذي يمكن أن يُقال عنه إنه داخل فيها، بمعنًى معين.
فعلينا إذن أن نتصور علاقة النفس بالجسم على نحو يختلف تمامًا عن تصور القائلين
باحتواء الجسم عليها. والواقع أننا لن نجد لدى أفلوطين رأيًا إيجابيًّا يُوضِّح فيه
العلاقة بين النفس والجسم على نحو محدد، وكل ما سنهتدي إليه في هذا الصدد هو طائفة
من التشبيهات. ومن أشهر التشبيهات المأثورة عن أفلوطين، تشبيه الأنوار؛ فهو يُشبِّه
مراتب الوجود كلها بسلسلة من الأنوار الصادرة عن منبع واحد ساكن. والنفس هي ذلك
النور الذي يجتذبه الانعكاس الباهر على صفحة الأشياء التي يُنيرها، وهي تتَّجه بكل
عنايتها إلى الأشياء التي تنيرها، «مثلما ينتبه الملاح بكل حواسِّه إلى سفينته حين
تتقاذفها العواصف وينصرف عن ذاته حتى ينسى أنه مهدَّد بأن تَجرفه العاصفة.»
١٨ فالعلاقة هنا هي علاقة نور يشغله الاهتمام بالأشياء التي
يُنيرها.
وفي موضع آخر لا يجد أفلوطينُ في تشبيه الأنوار هذا ما يفي بالغرض عن علاقة النفس
بالجسم تمامًا؛ لأن مصدر النور إذا غاب عن الجسم، لغدا الجسم مظلمًا في الحال،
أمَّا في حالة النفس فإن الجسم يحتفظ بقدر من أثرها بعد مفارقتها له، ودليل ذلك
نموُّ أظافر الموتى وشعرهم إلى حد ما. فالأصح أن يُقال إن العلاقة بين الاثنَين
كعلاقة مصدر للحرارة بشيء ساخن؛ لأن مصدر الحرارة هو أصل سخونة الشيء، وفي نفس
الوقت تظل هذه الحرارة بعض الوقت في الشيء الساخن بعد أن يبعد عنه مصدرها.
١٩
وعلى أية حال، فالعلاقة بين النفس والجسم لا تظهر عند أفلوطين، كما قلنا، إلا من
خلال تشبيهات. ولقد أشار أفلوطين في موضع معين إلى رأي لو توسع فيه لكان عظيم
القيمة، غير أنه اكتفى بأن يُشير إليه تلميحًا فحسب، وذلك حين قال: «… لم يوجد جسم
أبدًا في غياب النفس، ولم يحدث أبدًا أن وُجِدَت مادة عدمت النظام، ولكن من الممكن
تصوُّر تلك الألفاظ؛ النفس والجسم، والمادة والنظام، بأن نَفصل أحدَهما عن الآخر
بالفكر، فللمرء أن يفصل بفكره وعقله عناصر كل مركب.»
٢٠ فهنا يُشير إلى أن الفصل بين النفس والجسم عقلي بحت، وأنه من نوع
التحليل الذي نقوم به على المركبات دون أن تَفقد هذه وحدتَها وتماسكها. ولا شك في
أن رأيه عن النفس والجسم بوصفهما حقيقة واحدة لا يُفصَل وَجْهاها إلا بالتجريد، هذا
الرأي يتعارض تمامًا مع ما أكده مرارًا من أولوية النفس وسبقها على الجسم وخلقها
له، ومع تلك التفصيلات التي تحدث بها عن هبوط النفس من مقرها الأعلى، الذي كانت فيه
بريئةً من كل مادة. فرأيه هنا أشبهُ بآراء المذاهب النسبية الحديثة، ولا يمكن أن
ننظر إليه إلا على أنه لمحة سريعة، طافت بخاطره، ولكنها لم تحتفظ فيه طويلًا
بآثارها، ولم تتردَّد بعد ذلك على ذهنه.
وعلى أية حال، فلا شك في أن رأي أفلوطين عن العلاقة بين النفس والجسم لم يكن
مستقرًّا؛ فهو من جهة يؤكد أن النفس والجسم شيئان متميزان لا يمكن أن تقوم بينهما
أية علاقة، وإنما يتعارضان تعارضًا تامًّا، مما يجعل تصور أي نوع من التداخل بينهما
مستحيلًا. ومن جهة أخرى نراه يُؤكِّد أن الجسم ليس سوى نتيجةٍ صادرة عن النفس،
وأنها هي التي تخلقه. ورغم أنه لم يحدد في هذه الحالة الأخيرة كيف تنشأ المادة عن
النفس، فإننا سنظل نتعجَّب لِمَ يقوم بين العلة والمعلول هذا التضادُّ التام، ولِمَ
كان اختلاف الجسم عن النفس أشدَّ كثيرًا من اختلاف النفس عن العقل، والعقل عن الواحد.
٢١ فتفكير أفلوطين في هذا الصدد لم يكن محدَّدًا واضح المعالم، ولم يكن في
وسعه أن يصل إلى رأي قاطع بشأن العلاقة بين النفس والجسم، وإن كان قد أدرك كثيرًا
من مواطن الضعف في المذاهب السابقة عليه.
والنتيجة التي نَخلص إليها من بحث أفلوطين في علاقة النفس بالجسم أننا إذا نظرنا
إلى هذه العلاقة بوصفها علاقة مكانية، فلن نصل على الإطلاق إلى فهم طبيعة الصلة
بينهما. فليست النفس في الجسم كأنه محلٌّ حاوٍ لها. ولكن، هل تنعدم العلاقة
المكانية بين قوى النفس، بدورها، وبين الجسم؟ وهل لا توجد كل من قوى النفس في موضع
معين من الجسم، وتُبدي فاعليتها بواسطته؟ لا بد أن يكون لكل قوة من هذه القوى موضعٌ
أو مكان من الجسم تتخذه أداةً لها، وإلا لما عرَفَت الحياةُ إلى الجسم سبيلًا.
٢٢ فالنفس تهَب كلَّ عضو قدرة مطابقة للوظيفة التي يمكنه أداؤها، ومن هنا
كان لا بد من تحديد موضع معين للقوى المختلفة؛ فالإبصار في العين، والسمع في الأذن،
والذوق في اللسان، واللمس في الجسم كله.
٢٣ أمَّا إذا تمادينا في فكرة وضع كل قوة من قوى النفس في محل، فسوف ننتهي
إلى القول بنوع صريح من المادية. فإذا قلنا مثلًا إن الأعصاب هي أصل الحركة،
والحركة هي أصل الحياة، ثم رأينا الأعصاب تنتهي عند المخ، فسوف نستنتج من ذلك أن
المخ هو أصل الحركة وبالتالي أصل الحياة، وفي هذا الرأي مادية واضحة.
٢٤ وينقد أفلوطين ذلك الاتجاه على نحوٍ يُذكِّرنا كثيرًا بالنقد الحديث
الذي وُجِّه إلى مدرسة السلوكيين في علم النفس فيقول: «إن أنصار هذا الرأي كانوا
يأخذون كقضية مسلَّمة القولَ إنه حيثما تكون نقطة بداية الأعضاء، تكون القوة التي
تسيرها. ولكن كان الأحرى بهم أن يقولوا إن تلك النقطة بداية نشاط هذه القوة.»
٢٥ فلا ينبغي أن نَخلط أبدًا بين محلِّ قوة من القوى أو نقطة بداية فعلها،
وبين هذه القوة ذاتها. ولا يكاد المرء يجد فارقًا بين هذا النقد وبين نقد برجسون
للسلوكيِّين، في فكرة مشابهة من أفكارهم، هي تلك التي جعَلوا بها المخ مصدرًا أو
عضوًا للتفكير، لا لشيء إلا لأنه إذا تعطل المخ، تعطل التفكير، ولأن في المخ مراكزَ
خاصة لقوًى معيَّنةٍ في الجسم. فبرجسون أيضًا يردُّ بأن على المرء ألَّا يخلط بين
نقطة بداية القوى النفسية، وبين هذه القوى ذاتِها؛ فالمخ ليس إلا أداة — ضرورية
حقًّا — للتفكير، ولكنه ليس هو التفكيرَ ذاته.
وعلى ذلك فالإحساس، ومعه التخيُّل، لا يكونان في المخ إلا بمعنى أن قوتهما تنتهي
إليه. ولما كان العقل متصلًا بالإحساس والتخيُّل، ففي وُسعنا أن نقول إن العقل في
المخ، بهذا المعنى وحده، «وإذن فالعقل ليس في الرأس من الوجهة المكانية، وإنما هو
فيها؛ لأن الملَكات التي في الرأس تشارك فيه.»
٢٦ ولنلاحِظ أن أفلوطين حين جعل المخَّ مركزيًّا بهذا المعنى، قد انحاز
إلى رأي أفلاطون، لا إلى أرسطو الذي جعل المركز هو القلب.
أمَّا بقية الملكات، فإن أفلوطين يحاول أن يُحدِّد لها نقطة بداية في مواضعَ
معينة، نلاحظ فيها أحيانًا تأثره بالعلم الشائع في عصره. فالقلب هو مُستقَر القوة
الغضبية؛ وذلك تبعًا لتقليدٍ قديم متوارَث من أفلاطون. والتبرير العلمي الذي يأتي
به أفلوطين هو أن الدم يكون أنشط، والقوة الغضبية يلائمها الدم النشيط. أمَّا القوة
الغاذية والمنمية، التي يمتد فعلها إلى الجسم كله، فإنها ترجع إلى الكبد؛ لأن
الغذاء ينتقل في الدم، والشرايين التي تحمل الدم تتخذ نقطة بدايتها من الكبد، وكان
ذلك الرأيُ بالطبع متأثرًا بالحالة العِلمية السائدة؛ إذ إن من المعروف منذ جالينوس
أن حركة الدم في الشرايين، إنما هي حركة من الكبد وإليه، أي إن الكبد هو مركز حركة الدم،
٢٧ أمَّا الدورة الدموية التي تبدأ وتنتهي عند القلب، فلم تُكشَف إلا على
يد «هارفي» في العصر الحديث.
والذي ننتهي إليه من هذا كله أن النفس بأكملها لا تتخذ من الجسم محلًّا، وكذلك
قواها، ولكن هذه القوى تستخدم أعضاء معينة من الجسم، وبهذا المعنى وحده نستطيع أن
نقول: إن قوى النفس تكون في أعضاء الجسم. وبهذا يكون الطريق ممهدًّا للكلام عن
الموضوع التالي؛ وهو قوى النفس.