المقدمة
هذه تجربة أولى للترجمة بحياة برنارد شو وأعماله، رجوت أن أحقق فيها بعض ما أريد عن هذا الأديب الفيلسوف الذي حَفَل الصف الأول من هذا القرن بأفكاره وآرائه وتوجيهاته.
وكنت — منذ أكثر من ثلاثين سنة — على نية إخراج كتاب عنه، ولكن كان يمنعني ما أحسُّه من الجمود العام في الجمهور، وهو جمود كانت تؤيده قوات رجعية عديدة مثل القصر، والاستعمار، ودعاة التقاليد.
وقد كان كل هؤلاء في تحالف خفي غير واعٍ، أو واعٍ لأنهم كانوا يستغلون الشعب ويكرهون ارتقاءه الذي يحيف بامتيازاتهم وينتقص من قوة مراكزهم ومبلغ ثرائهم، ولكن الهواء الجديد الذي هبَّت نفحاته منذ قيام الثورة في ١٩٥٢ قد أتاح لي التفكير في هذا الكتاب والتفريج عما اختمر واحتبس في نفسي طوال السنين الماضية.
وكتابي هذا للعقول المفتوحة التي ترحب بالأفكار، وتجترئ على تخطيط المستقبل، وتضع البرامج للحياة، وليس هو للعقول المقفلة التي تضع التقاليد فوق التطور، وتستسلم للغيبيات التي كان يؤمن بها الفراعنة قبل خمسة آلاف سنة، والتي تعتقد أن الفقر من سنن الطبيعة، وأنه خالد لا يمكن محوه من المجتمع البشري.
هؤلاء المستحيلون الذين ارتضوا لأنفسهم إغلاق عقولهم، ووضعوا العقيدة المريحة المرفَّهة فوق الشك المقلق، هم علة تأخرنا، وقد كافحتهم نحو نصف قرن، ولكني لا أستطيع أن أقول إني نجحت في تغييرهم؛ فإن قوات الظلام التي يتخبطون فيها ويعتمدون عليها أكبر من قوات النور، ثم أنا فرد وهم جماعة، ولا أكاد أجد أديبًا آخر يحمل عبء المكافحة لهم غيري؛ لأن أدباءنا أو من يُسَمَّوْنَ «أدباء» قد فرُّوا من معارك القرن العشرين إلى معارك نائية في أعماق التاريخ قبل خمسمائة أو ألف سنة؛ ولذلك بدلًا من أن يؤلِّفوا عن الفقر في مصر، أو عن استبداد أسرة محمد علي، أو عن استعمار الإنجليز لوطننا وشعبنا، أو عن الجهل العام بالقيم الانفجارية في العلوم العنصرية، أو عن الاشتراكية الإنسانية التي تدعو إلى الإخاء البشري … أقول قد فرَّ أولئك الذين نسميهم «أدباء» إلى شَغْل أذهانهم بقضايا ومشكلات منفصلة من تاريخنا الحاضر؛ ولذلك رأينا من هؤلاء الأدباء الفارين من يكتب عن أبي نواس أو ابن الرومي أو الخوارج أو المأمون، أو أسلوب الجاحظ، أو أدب المتنبي، أو نحو ذلك، ويوهم الجمهور أنه يعالج بهذه المؤلفات صميم الأدب.
وكل هذا فرار من مشكلات مصر الحاضرة، وكلمة «فرار» هي آدب كلمة أصف بها مؤلفات هؤلاء الكتاب؛ لأني لا أحب أن أقول إنهم تعمدوا الكتابة عن هذه الموضوعات النائية كي يشغلوا شباب الشعب المصري ويغشُّوه بها بدلًا من أن يوجِّهوه إلى مشكلاتنا الحاضرة ويخلصوا له.
والأدب يجب ألَّا ينفصل عن المشكلات الاجتماعية والسياسية، أي يجب أن يُلصق بشئون المجتمع وارتقاء الشعب نحو القيم الإنسانية.
وفي آراء برنارد شو الأدبية ما يحل هذه المشكلات، وقد يجد فيها أصحاب العقول المقفلة ما يعد كفرًا بالعقائد والأخلاق، وليست هذه العقائد والأخلاق سوى عادات اجتماعية أو عادات ذهنية، والتزامها فيه تجمُّد يعوق التطور، وحسبنا تجمدًا مئات السنين الماضية، بل حسبنا هذا التجمد إزاء القوات الجديدة التي تهب علينا بنارها.
إن إسرائيل تصنع الهيدروجين النظير الذي يُعَدُّ أساسًا للقنبلة الهيدروجينية أو جزءًا فيها، فهل نجمد بعد هذا أو نرفض التطور ونؤلف عن أبي نواس؟ أو هل يرضينا أن نؤلف عن الأساطير القديمة — مثل أهل الكهف — ونسمي هذا التأليف فنًّا راقيًا؟
لقد منعنا التفكير اليساري منذ الحرب الكبرى الأولى — والتفكير اليساري هو التفكير العصري — فوجد «أدباؤنا» الطمأنينة والأمن والسلام في الفرار من كل ما يمس العصر الحاضر، وجعلوا يؤلِّفُون عن القرون الماضية، وأحبتهم حكومات المستبدين لهذا السبب، كما كرهت أولئك الكتَّاب اليساريين الذين اشتبكوا في معارك الذهن السياسية والاجتماعية العصرية، لم تكرههم فقط، بل حبستهم وعذبتهم.
يجب أن نقول لأدباء مصر: العبوا كما تشاءون، ولكن اتركوا أولئك الذين يجدون أن عقولهم تبصر كما أن عيونهم تنظر، اتركوهم كي يعالجوا الشئون العصرية في مصر، اتركوا اليساريين واتركوا الاشتراكيين، اتركوا الأحرار كي ينبهوا الشعب إلى الأخطار التي تواجهه وأيضًا إلى الفرص التي تنتظره.
إننا نحتاج إلى تجديدات لا إلى تقاليد، ونحتاج إلى استخدام العلوم لترقية اقتصادياتنا وأيضًا كي نتعلم منها كيف نصنع الهيدروجين النظير.
ونحتاج إلى أدب يُكتب لأبناء القرن العشرين عن شئون القرن العشرين، وليس عن شئون القرن الرابع أو العاشر.
نحتاج إلى أدب الأفكار، لا إلى أدب الألفاظ.
وسيشبع القارئ أفكارًا من هذا الكتاب، ولكني أرجو أولئك الذين يجهلون الأدب الإنجليزي أن يقرأوا مع هذا الكتاب كتابي الآخر: «الأدب الإنجليزي الحديث»؛ إذ هو تمهيد وتقديم لدراسة شو.