دنيا الأحلام والأماني

قَلَّ أن نجد عظيمًا في شأن من الشئون البشرية إلا وله هوسة أو لوثة قد أصابته وهو في شبابه، وهذه الهوسة واللوثة على الرغم مما يبدو لأصدقائه أو عارفيه كما لو كانت غفلة أو سماجة أو وقاحة، إنما تدل على يقظة الوعي، وأنه قد شرع يستقل في تفكيره ويسأل: لماذا الحكومة؟ لماذا الدين؟ ما هي السعادة؟ ما هي الحضارة؟ ما هو الحب؟

وهو في شبابه يتحسس المبادئ ويُقَارِنُ بين الأحلام والحقائق ويرفض التسليم بالقواعد، ويحاول أن يبتكر في نظم المجتمع أو نظام حياته، وقد يسخف في بداياته ومحاولاته، ولكنه ينتهي منها إلى الدرس الجاد وإلى الأفكار الناضجة التي يستقرُّ بها على فلسفة ويقين.

وكلنا سواء في رؤية المساوئ التي تحفل بها الحضارة، بل الحضارات قديمها وحديثها، وليس منَّا من ينكر المظالم التي تقع بالملايين من البشر، والبؤس الذي عاناه ويعانيه الناس من الحرق قديمًا والاستعمار حديثًا، وإرهاق العواطف بسوء العلاقات البشرية، والتكاليف الباهظة التي تطالبنا بها الحضارة.

وكثيرون من الشبان وقفوا فيما بين العشرين والثلاثين من أعمارهم يسألون: لماذا كل هذا العذاب؟ لماذا لا يكون هناك مجتمع عادل نعيش فيه في بساطة لا ترهق وحرية لا تستباح، وإخاء عام يشملنا بالحب؟

ونحن في هذه الفترة نحلم ونتمنى، وتزيد أحلامنا وأمانينا عندما يزيد الإرهاق وتكثر المظالم؛ ولذلك ننفجر بالثورة لتحقيق بعض من هذه الأحلام والأماني في تلك الأوقات.

ونحن نحلم لأنفسنا ونحلم للمجتمع.

والشاب حين يحلم لنفسه وشخصه — بشأن الحب والزواج والعمل والكسب — إنما يبني حياته أو بالأحرى يؤسسها، وهو يدرس ويكد كي يحقق ما يحلم به، بل كثيرًا ما أجد الموظف الذي دخل في العقد السادس من عمره يحلم ببضعة الفدادين التي يشتريها عند بلوغه سن الإقالة، ويحيا فيها حياة السذاجة والقناعة ويتخلص بها من تكاليف الحضارة الباهظة التي يعانيها في إقامته بالمدينة، وكلنا نهفو في أي وقت من أعمارنا، إلى تمضية بضعة أسابيع في المصايف الساذجة حيث نستطيع التخلص من تكاليف الحضارة وحيث نسترخي دون أن نُقَيَّدَ بنظام أو ميعاد.

والريف بنضرته وسذاجته، وحيواناته وأشجاره، وقناعة سكانه، هو أقرب الحقائق إلى الأحلام، وريفنا في مصر يحفل بالبؤس والقذر والمرض وسائر مخلفات الإقطاعين المستكرشين، ومع ذلك نجد بيننا من الشيوخ المتعبين من يحلم ويبني أمانيه على تمضية سني العمر الأخيرة فيه، أما ريف أوربا فمن أجمل الأرياف في العالم؛ ولذلك يصح أن يكون من الأماني وأن يحلم به الحالمون، ولعل أعظم ما يفصل بين الريف الأوربي والريف المصري أن الأول عرضة لأن تغسله الأمطار ثلاث أو أربع مرات في الشهر؛ ولذلك تُبنى قُراه بالحجر ويبقى نظيفًا، بل ناصعًا، كما يخلو من الغبار، أما ريفنا الذي تُبنى منازله بالطوب الأخضر، والذي يجف فيه الهواء، فيمتلئ بالغبار ويحفل بالقذر، ومع كل ذلك ما يزال موضع الأماني لما فيه من سذاجة العيش واسترخاء الحياة عند الذين تعبوا وتوتروا من حضارة المدن.

ولكن الحالمين الذين يمعنون في أحلامهم لا يقنعون أحيانًا بالريف، فيتجاوزونه إلى البكر من الأقاليم النائية عند البدائيين أو المتوحشين، وهم ينزعون إليه بخيالهم بحسبان أنه يخلو تمامًا من تلك المركبات الحضارية التي تُرْبِكُ المتحضرين وتُعَقِّدُ حياتهم وترهقهم بالتكاليف والنظم.

وعندما تفسد الحضارة وتحفل بالمظالم يهفو الخيال إلى هذا الحلم.

وكانت الحضارة على أفسدها في فرنسا قبيل الثورة الفرنسية؛ ولذلك رأينا اثنين من أعظم الأدباء يُدعوان إلى السذاجة والفرار من الحضارة، أولهما «جان جاك روسو» الذي عزا إلى الحضارة جميع الكوارث حتى كارثة زلزال لشبونة ودعا إلى العيش الساذج، وثانيهما «برناردان سان بيير» الذي نقلنا في «الكوخ الهندي» إلى مكان ناءٍ في أقصى أفريقيا حيث يعيش المحبَّان في كوخ لا يزعجهما حسد من المجتمع أو ضرائب من الحكومة، أو ترف مزعج من اللباس والطعام، أو مواعيد مؤقتة بالساعة والدقيقة للعمل والكسب.

وقد قرأ نابليون هذه القصة ودعا المؤلف وطلب إليه أن يؤلِّف كوخًا هنديًّا «آخر»، والعبرة هنا أن نابليون على الرغم من أنه كان على قمة الحضارة، يسعد بكل ما فيها من وسائل الإسعاد، كان ما يزال مثلنا جميعًا يهفو إلى حياة السذاجة والقناعة التي رسمها المؤلف في «كوخ».

غاندي مع عنزته وفي شملته، وتولستوي في ريفه، وطعام النبات بدلًا من طعام اللحم، والحياة الجديدة الخالصة من شوائب المجتمع، كل هذه أحلام حلم بها بعضنا، وهو وإن لم يستطع النزول على شروطها والعمل بقواعدها، قد انتفع بها؛ لأنها حفزته إلى التفكير والمراجعة، وما أسميه «يقظة الوعي» لأنه صحا وسأل وحاول.

والشاب الذي يستسلم للقواعد الاجتماعية، ولا يكابد قَطُّ مثل هذه الارتباكات، ولا يفكر في المشكلات التي يخلقها لنفسه، مثل هذا الشاب لن يصل إلى يقظة الوعي ولن يفلسف ولن يبتكر، وهو عجوز في سن الثلاثين يحيا بإيمان العجائز في سن الثمانين.

•••

في سنة ١٨٨١ ظهر رجل أمريكي في لندن به لوثة أو هوسة (كما ذكرنا في أول هذا المقال) يدعى «دافيدسون» دعا إلى ما يُسَمَّى «الحياة الجديدة».

وكان لهاتين الكلمتين إغراء له قوة السحر في نفوس الشبان والفتيان والكهول والشيوخ، فما هو أن كان يعلن عن اجتماع يلقي فيه خطبة عن هذا الموضوع حتى كانت المئات تهرع إليه، وكل منهم في شوق لأن يسمع شيئًا جديدًا في وسط هذه الحياة اللندنية التي كانت تحفل وقتئذٍ بالمظالم الاجتماعية والتفاوت في الكسب وقلة الطمأنينة على العيش، بل كانت الحكومة البريطانية نفسها تُعِدُّ العدوان تلو العدوان لضرب الشعوب وخطف أرزاقها كما فعلت بنا في السنة التالية (١٨٨٢).

وكان الناس يسمعون من هذا الخطيب أننا يجب أن نحيا حياة جديدة، لها قيم جديدة، تلغي التقاليد والعادات القديمة، فلا ننشد الثراء بل نكتفي بقناعة العيش الرخيص الساذج الذي لا يكلفنا الثمن الباهظ، بل لا يرهقنا الحصول عليه، وعلينا أن نلبس اللباس الساذج، ولا نتزوج إلا عن حب، ولا نعامل إلا بالعدل، ولا نسكن إلا الأكواخ، ويجب ألَّا يستأثر حب الكسب بوقتنا؛ لأننا يجب أن نقنع من الكسب بما يكفينا، وأن نرصد معظم وقتنا للدرس الجاد والاستمتاع الناضج والتفكير الفلسفي.

حياة «الكوخ الهندي» من جديد، ولكن بلا رحلة إلى أفريقيا.

ولم ينجح دافيدسون في إقامة مجتمع على هذه القواعد، ولكنه نجح في إنشاء جمعية يرتبط أعضاؤها بالنية والعزم على أن يحيوا حياة جديدة، وكانت المحاضرات تلقى، والمناقشات تحتدم في هذه الجمعية عن الجديد والنافع والسامي في الحياة.

ثم يكون من المناقشات والمحاضرات انبعاثات جديدة في التفكير والفهم إلى رحاب واسعة من التجارب والاقتحامات في «يقظة الوعي»، فنجد عشرات من المطاعم النباتية تنشأ في لندن ويقصد إليها الإنسانيون الذين يأنَفون من جعل بطونهم قبورًا للحيوانات، ويبدأ برنارد شو حياته في مقاطعة اللحوم، ويعيش سبعين سنة لا يذوق اللحم، ويترك الأديب الإنجليزي «إدوارد كاربنتر» أعماله في لندن ويقصد إلى الريف الإنجليزي حيث يزرع بيده الكرنب والبطاطس ويأكل من عرق جبينه ويؤلِّف كتابًا بعنوان: «مرض الحضارة وكيف نعالجه؟»، ونجد العالم الطبيب «هافلوك أليس» يؤلف ستة مجلدات عن الحب والزواج والعلاقات الجنسية، ويتزوج الآنسة لي، ويحيا كل من الزوجين في منزل منفصل عن الآخر، ويشرع «رمزي مكدونالد» في الدعوة إلى الاشتراكية ويرأس حزب العمال.

ويؤلف ثلاثة من الأدباء، هم: وليم موريس وتشسترون وبيلوك مؤلفاتهم عن ضرورة ترك الحضارة الحديثة والرجوع إلى حضارة القرون الوسطى، بل إنهم دعوا إلى العمل باليد بدلًا من العمل بالآلة.

وتؤلِّف «الجمعية الفابية» لإيجاد سياسة جديدة غير سياسة المحافظين والأحرار تستهدف العدالة الاجتماعية.

وتنمحي جمعية الحياة الجديدة، ولكن تبقى الخمائر التي بعثتها في أعضائها والتي لا تقل في قيمتها عن الخمائر التي بعثها جان جاك روسو في دعوته السخيفة إلى ترك الحضارة والعودة إلى سذاجة الطبيعة، فقد نسينا هذه الدعوة ولكن بقي منها لنا بعد ١٥٠ سنة جملة مركبات سيكولوجية تمس أساليبنا في العيش مثل الاستحمام في البحر، والإقامة على الشواطئ، ودراسة الزهور وغرسها، والتجوال في الريف، إحساس ديني جديد نحو الطبيعة يحملنا على درسها بالميكرسكوب ورسمها بالألوان.

كان البحر موجودًا منذ آلاف السنين، كما كانت الحقول موجودة، ولكننا كُنَّا في غيبوبة لا نراهما، ففتح روسو عيوننا وأيقظ عقولنا فرأيناهما.

وكذلك الشأن في جمعية الحياة الجديدة التي ألَّفها دافيدسون الأمريكي، فقد ماتت هذه الجمعية ولكن خمائرها بقيت تنمو أفكارًا حية، فكانت منها تلك المعاني الجديدة بشأن الاستعمار ومعاملة المجرمين وتربية الأطفال وحرية المرأة وضمان العيش للعمال وتعويض المعطلين وبناء الدولة للمساكن وإيجاد المستشفيات المجانية وحزب العمال … إلخ.

اعتبارات جديدة في الحياة الاجتماعية كان يحلم بها دافيدسون في غموض الأحلام وظلالها، وكان يهتف بها قلب إدوارد كاربنتر وهو يزرع الكرنب، كما شرع برنارد شو يفكر فيها ويشرحها ويقلبها في دراماته الأربعين أو الخمسين.

أجل، إن مثل هذا الوسط الحي الذي يجيز تأليف الجمعيات التي تبعث الأحلام في الشبان هو الذي يربي الأدباء لأن يتيح لهم جوًّا يتحمل التفكير البكر المثمر والأحلام الجريئة الذكية، وهو جو ما زلنا في مصر نفتقده ولا نجده.

إننا نبدأ حالمين وننتهي محققين، فلا تعاكسوا أحلامنا لأنكم بهذه المعاكسة تمنعون تفكيرنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤