أولى درامات شو
برنارد شو كاتب مسرحي قبل أن يكون أي شيء آخر، وقد جعل المسرح ميدانًا للبحوث الفلسفية والمناقشات الاجتماعية، ويبدو من تجاربه الأدبية الأولى أنه لم يكن يهدف إلى هذه الغاية التي أرصد لها حياته أو ستين سنة من حياته؛ ذلك أنه بدأ تجاربه بتأليف القصص التي لم يفلح فيها، ولكنه بعد ذلك اشتغل بالنقد المسرحي فبرزت ميزاته ولفتت إليه أنظار المؤلِّفين والناقدين.
وفي هذه الأثناء عرف هنريك إبسن، وكان هذا المؤلف المجدِّد في المسرح الأوربي كشفًا عظيمًا له، وقد تعلَّم منه شو درسًا لم ينسه طيلة عمره، هو أن الدرامة يجب أن تكون للتنوير الاجتماعي الفلسفي وأن ترشد المتفرجين كما لو كانوا في جامعة يتعلمون ويسترشدون.
وبدأ مؤلفاته المسرحية بدرامة عنوانها «حرفة المسز وارينز» وذلك في ١٨٩٤، وأكاد أقول إن جميع مؤلفات أو درامات برنارد شو بعد ذلك إلى ١٩٥٩ حين مات، لم تخرج عن موضوع هذه الدرامة، وأعني صميم الموضوع وهو الفقر؛ فقد عاش عمره كله وهو يرى حقيقة بارزة هي أن الفقر أصل لجميع الرذائل في الدنيا، للجهل، والمرض، والإجرام، والخسة، والبِغاء، والجبن، والهوان، وسائر الرذائل.
وهذه الدرامة الأولى تبرز نتائج الفقر في أعظم مخازيه، وهو البغاء، أو بالأحرى الاتجار بالبغاء، وقد منع الرقيب في لندن تمثيل هذه الدرامة بضع سنوات بدعوى أنها تتحدى الحياء العام وتفشي أشياء اصطلح الناس على إخفائها، ولكنه عاد فأجاز تمثيلها.
ونحن نجد في الدرامة أثر إبسن في أسلوب المناقشة والوضع المسرحي للممثلين، وهذا غير المشابهة في اختيار الموضوع، وهو موضوع اجتماعي، وهذه الدرامة تمثل لنا أسلوب شو في التأليف المسرحي، وهو أسلوب لم يتغير في نحو ستين سنة.
أشخاص الدرامة يتحدَّثون، ومن حديثهم تستنبط ماضيهم وما وقع لهم من أحداث انتهت بالموقف الحاضر على المسرح، وهذه هي طريقة إبسن، والحركة في كل من إبسن وشو قليلة، تكاد تكون معدومة على المسرح، ولكننا نستمع إلى حوار ذكي نفهم منه حياة الأشخاص التي تنتهي إلى الأزمة أو إلى الذروة، وتتضح لنا مشكلة عميقة في الاجتماع يجري الحوار بشأنها كي نصل إلى حلٍّ لها أو إلى شعاع يشير إلى الحل.
نحن في بيت ريفي هو كوخ أنيق في حديقة يحيط بها سياج، وقد قعدت آنسة رشيقة على كرسي أمام الكوخ على العشب، وإذا بأحد يستأذن في الدخول ويسأل إذا كان هنا منزل المسز وارينز، وتجيبه الفتاة بالإيجاب، وتفتح له الباب فيدخل.
ونفهم من الأحاديث الابتدائية أن الفتاة «الآنسة فيفيان» كانت طالبة في الجامعة، وأنها تخرجت بامتياز، وأنها ابنة المسز وارينز صاحبة الكوخ، ونفهم أن القادم شاب مهندس يدعى المستر برايد.
وبعد قليل تأتي المسز وارينز يرافقها السير كروفتس، وكلاهما في الكهولة، ولكن صحتهما توهم الشباب، وبين الفتاة الآنسة فيفيان والأم المسز وارينز كلفة بعيدة عن الألفة التي تربط بين الأم وابنتها، وليس هذا غريبًا إذا عرفنا أن الفتاة أمضت عمرها الماضي كله تقريبًا بعيدة عن أمها؛ إذ كانت هذه الأم في أكثر أوقاتها أو كلها خارج إنجلترا، في بروكسيل أو أوستند أو بودابست لأسباب لا ندريها.
ويدخل البيت زائر جديد هو المستر فرانك ابن القسيس جاردنر، وهو شاب وسيم تلتفت إليه الآنسة فيفيان في حب وإعجاب.
ومع أن الأحاديث تجري بين الجميع في انطلاق ومداعبة فإننا نُحِسُّ أن الجو مُثْقَلٌ بالأسرار، وأن الآنسة فيفيان تكتم هذه الأسرار، أو هي تشتبه فيها، تحب أن تسأل وتتعرف ولكنها تتراجع وتتحفظ.
ثم يزيد الضيوف واحدًا هو القسيس جاردنر، والد الشاب الوسيم فرانك، ولا نكاد نعرف شيئًا من الفصل الأول سوى أن القسيس قد طلب إليه أن يستضيف إلى منزله بعض الضيوف لأن الكوخ ليس مجهَّزًا لقضاء ليلتهم، فهم يتركون الكوخ ويقصدون إلى منزله.
ثم تتكشف الأسرار وكأنها كانت خيوطًا قد التبست واشتبكت ثم أُعِيدَ تنسيقها وترتيبها.
الآنسة فيفيان الجامعية الأنيقة الجميلة هي ابنة المسز وارينز، ولكنها لا تعرف لها أبًا، فهي تسأل أمها عنه، ثم هي تجد ثراء ضخمًا تتقلَّب فيه أمها ولا تعرف مأتاه، فتسأل أيضًا عنه، ثم تتأمل السير كروفتس فتجد فيه رجلًا دوارًا من تلك الحيوانات التي تحيى في الليل وتنام في النهار وتفتأ تجري وراء الشهوات، وهو يتحدث إلى أمها في ألفة وتفاهم كما لو كانا زوجين.
وتسأل فيفيان أمها: أين أبوها؟ ومن أين تعيش وتنفق؟ وهي تبدي لها شكوكها وشبهاتها.
ولكن المسز وارينز، على الرغم من خسة الحرفة التي تحترفها، لا تزال على شيء كبير من الشجاعة، وهي تهدد ابنتها بقطع معونتها عنها، وتطلب إليها أن تتزوج السير كروفتس الذي أبدى إعجابه بها، ولكن الفتاة ترفض في إباء هذا العرض، وتعود فتلح على أمها في السؤال عن ثرائها، كيف جمعته؟ وهل هذا السير كروفتس كان شريكًا لها؟
وتُحرج الأم وتعترف بالأسلوب الذي جمعت به ثراءها الملوث، إنها تدير أربعة «فنادق» في بعض المدن الأوربية، وكلمة «فنادق» هنا تتحمل معاني أخرى، إذ إن المسز وارينز تزودها بالفتيات الجميلات من إنجلترا حيث يقدمن إلى الزبائن لهذه الفنادق خدمات أخرى غير ما يفهمه المترددون من الزائرين العابرين الذين لا يطلبون غير المأوى، وتعرف فيفيان أن هذا الثراء الذي تتمتع به أمها إنما جاء عن طريق الاتجار بالرقيق الأبيض.
وتصطدم الأم بالبنت، وتدافع الأم عن موقفها، أي عن حياتها الماضية، وتقص على ابنتها تلك الدوافع التي دفعتها إلى طريق العار هذا، ونجد برنارد شو هنا في موقف الهجوم الذي يقفه في معظم دراماته، وهو أن المجتمع الحاضر يؤدي إلى فقر الكثير من أبنائه، وأن هذا الفقر هو عجلة جميع الرذائل ومنها هذا الاتجار بالرقيق الأبيض الذي تمارسه المسز وارينز التي تقص على ابنتها قصتها.
لقد وُلِدَتْ في فقر ورأت أقاربها يموتون في الفقر والجوع والمرض، وقد عملت هي وأقاربها هؤلاء في بعض الأعمال الوضيعة التي كانت تطالبهم بمجهود ١٢ ساعة في اليوم مع أجر لا يزيد على بضع شلنات كل أسبوع، وكانت هذه الأعمال مع إيذائها للصحة وحرمانها للراحة «شريفة».
ولكن أختها «ليزا» رفضت هذا الشرف ومارست عملًا محرَّمًا، ولكنه مكسب، يعود على الفتيات اللائي يمارسنه بالربح الكبير، وقيل — أو أشيع — أن هذه الأخت قد انتحرت، ولكن الواقع أنها كانت قد اختفت فقط حتى لا تثير غضب أسرتها أو فضيحتها.
أما المسز وارينز فكانت — وهي فتاة — قد احترفت عملًا في حانة، ليس شريفًا كل الشرف ولكنه بعيد عما انحدرت إليه اختها، وذات يوم وهي في «البار» تُناول الشاربين كئوسهم المترعة بالخمور، إذا بأختها ليزا تدخل لتناوُل كأس من الوسكي وهي في أبهة من الجمال واللباس والفخامة.
وتلاقت الأختان وجرى الحديث بينهما، ثم استؤنف، وانتهت المسز وارينز إلى الأخذ بطريقة أختها في الحياة، وانهالت عليها بعد ذلك الأرباح التي أمكنتها من أن تحيى حياة المترفين وأن تعلم ابنتها في جامعة، وهي تذكر فضل السير كروفتس الذي ساهم في أعمالها بأربعين ألف جنيه.
أربعون ألف جنيه كان يحصل هو منها على ربح سنوي قدره ٣٥٪ وكانت هذه الأعمال لا تزيد ولا تنقص عن البغاء، أي الاتجار بالرقيق الأبيض في تلك «الفنادق» المزعومة في مدن أوربا.
وتعرف فيفيان هذه الحقائق، وتسمع دفاع أمها عن سلوكها، وتعرف أنَّه لولا هذه الحرفة الساقطة لما استطاعت أمها أن ترسلها إلى الجامعة، ولكنها تسأل: من أبوها؟ وتراوغ الأم في الإجابة.
ولكن «فرانك» الشاب الوسيم يتحبَّب إلى فيفيان التي تستجيب لحبه وتلاطفه في رقة ولطف، وتجد الأم هذه العلاقة بين ابنتها وابن القسيس، فتنكرها، وتدعو ابنتها إلى الزواج من السير كروفتس شريكها في البغاء، ولكن فيفيان ترفض وتصر على حبها لفرنك ابن القسيس.
ويدخل القسيس فتخبره المسز وارينز بأن ابنتها تحب ابنه وأنهما يسعيان لعقد الزواج، ويرتاع القسيس، وتتحداه المسز وارينز، وكأنها تتحدى رياءه، بل تتحدى الأخلاق العامة التي تجري في الظلام بغير ما تبدو به في النور أمام الناس، وتتابع الأحاديث فنفهم أن فيفيان هي ابنة القسيس الذي كان في بعض صبواته قد أحب المسز وارينز وأعقب منها هذه الفتاة بالزنا.
فيفيان وفرانك أخوان، ولكنهما لا يعرفان ذلك.
وأخيرًا وبعد هذه الارتباكات تعترف المسز وارينز بكل شيء وتبوح لابنتها بأن أباها هو القسيس.
وفي غفلة من الجميع تفر فيفيان إلى لندن حيث تعمل في أحد المكاتب بأجر شهري متواضع، وتحس أنها قد نجت بنفسها من هذا الوسط الموبوء وأنها ستستقل وتعمل وتحيى حياتها كما تحب.
ولكن ما هي العبرة التي أراد برنارد شو إبرازها؟
كانت أمي فقيرة قد حطَّمها الفقر فلم يكن أمامها سوى هذا السلوك الساقط، ولكنك أنت كنت رجلًا ثريًّا فسلكت سلوكها كي تربح ٣٥٪؛ ولذلك أعدُك وغدًا من الأوغاد، وهذا رأيي فيك.
قولي ما تشائين يا آنسة؛ فإنك تسلين نفسك ولا تؤذينني، ولماذا لا أستغل أموالي بهذه الطريقة؟ فأنا أحصل على الفائدة من أموالي كما يفعل غيري، وأرجو ألا تعتقدي أني ألوث يدي بالعمل الذي تستغل فيه أموالي، وأظن أنك لن ترفضي التعرف إلى ابن عمي الدوق بلجرافيا لأنه يجمع الإيجارات من ممتلكاته التي تُستعمل في أغراض غير مألوفة، ولن تقاطعي أسقف كانتر بري لأن الخمَّارين وغيرهم من الخطاة يسكنون في عقاراته ويؤدون له الإيجارات عنها، وهل تعرفين الجائزة السنوية، جائزة كروفتس، في كلية نيونهام؟ إن الذي وقفها على الكلية شقيقي عضو البرلمان، وهو يحصل على ربح قدره ٢٢٪ من المصنع الذي تعمل فيه ٦٠٠ فتاة ليست منهن واحدة تحصل على أجر يكفي قوتها، وكيف تعيش هؤلاء الفتيات إذا لم تكن لهن عائلات يعتمدن عليهن؟ اسألي أمك. وهل تنتظرين مني أن أولي ظهري لربح يبلغ ٣٥٪ في حين يجمع غيري المئات والألوف كما يفعل العقلاء؟! لا، لست أبله إلى هذا الحد، وإذا كنت أنت تنوين اختيار الأصدقاء والمعارف على أساس من المبادئ الأخلاقية، فخير لك أن ترحلي عن هذه البلاد، إلا إذا كنت قد قررت الانفصال من المجتمع الراقي.
وإنك لتستطيع أن ترد علي بأني أنا نفسي لم أسأل: من أين جاءت النقود التي كنت أنفقها؟ واعتقادي أني أنا وأنت سواء في الرذيلة.
وليس شك أنك كذلك، وهذا حسن، وأي ضرر في هذا؟ (ويتابع حديثه في لهجة مازحة) والآن، وبعد أن فكرت، هل تعدينني وغدًا من الأوغاد، أليس كذلك؟
(وينتقم كروفتس منها بأن يقول لها قبل أن يغادرها):
سأقول لك شيئًا قبل أن أذهب، ولعلك تهتمين بهذا الشيء ما دمت تغرمين به كما يغرم بك، إن المستر فرنك هو أخوك، أو هو نصف أخ من الأب القسيس جاردنر، هو أخوك يا فيفيان. (ويخرج).ولم يعد في الدرامة سوى اللمسات الأخيرة؛ فإن الحب الذي كان بين فيفيان وفرانك، وكان على وشك أن يؤدي إلى الزواج قد انتهى أمره وأصبحا صديقين بعد أن كانا محبين. وتنتهي فيفيان إلى مقاطعة أمها وإلى السفر إلى لندن حيث تعمل بكدِّ ذهنها وعرق جبينها لأن تعيش مستقلة.
والقارئ هنا يحس مضضًا من هذه الدرامة التي يحاول فيها المؤلف أن يقنعنا بأن الفساد المختفي في المجتمع لا يجد من يفشيه بل يجد الاحترام، أليس كروفتس قد حاز على لقب سير؟ وأليس هو على حق بأنه ليس هناك من يسأله: من أين جمعت أموالك؟ وأليست المسز وارينز محترمة مرفهة مترفة؟ وأنها لولا ما جمعته من البغايا لما استطاعت تربية ابنتها في جامعة؟ بل أليس من الحق أيضًا أن أصحاب الحانات والمتاجر الأخرى يستخدمن الفتيات الوسيمات لجلب الزبائن؟
وما سبب هذا الفساد كله؟ ما الذي يغري عليه؟ السبب هو: الفقر. ثم الفقر. ثم الفقر.