التربية مهمة العمر
المفكر العظيم هو الذي يبقى طيلة عمره طالبًا يدرس ويواصل الجديد في الثقافة ويُلِمُّ بالكشوف الجديدة في العلم؛ ولذلك ليس هناك مفكر لا تشغله مشكلة التربية؛ كيف يربي نفسه؟ وماذا يختار؟ وما هي الثقافة الأصلية التي يحتاج إليها في حياته وينضج بها ذهنه؟ وما هو الفرق بين التعليم والتربية؟
كل هذه مشكلات قائمة، بل بارزة في أذهان المفكرين، ولست تجد واحدًا منهم إلا وله فيها رأي بل آراء، إذ هي تمس شخصه في ارتقائه الذهني كما تمس الشعب بل البشرية التي ينتمي إليها.
إن برتراند رسل الفيلسوف الإنجليزي قد أسَّس مدرسة وعلَّم فيها في بعض سني حياته، وألف كتابًا عن «التربية».
وﻫ. ج. ويلز الأديب الإنجليزي الذي مات قبل سنوات قد ألَّف كتابًا عن مدرسة ساندرسون التي اختطت خططًا جديدة وجعلت التربية منهجًا بدلًا من التعليم، بل إن معظم مؤلفات ويلز تنحو إلى التوجيه في التربية الشخصية والشعبية والعالمية، وهو لم يؤلِّف كتابه العظيم عن تاريخ العالم إلا وهو يسترشد بفكرة التربية لقرائه، بل التربية الإنسانية، حتى يخرج هذا القارئ من حدود الوطنية إلى رحابة العالمية، وقصصه هي مشروعات للتربية.
وما زلت أذكر وصف ﻫ. ج. ويلز للسياسي المشهور جلادستون بأنه رجل ناقص التربية؛ لأنه لم يكن يعرف العلوم ولم يستنر ذهنه بكشوفها في أصل الإنسان وسعة الكون وأسسه الاقتصادية ونحو ذلك، وهذا على الرغم من أنه كان يتقن اللغتين القديمتين الإغريقية واللاتينية.
لقد كان العلم والتاريخ مصباحين استرشد بهما ويلز في التوجيه البشري وألَّف عنهما كثيرًا، بل أكاد أقول إنه لم يؤلِّف غيرهما؛ لأن قصصه نفسها تنزع إلى هذا التوجيه، وكانت دراسة التاريخ عنده وسيلة إلى الوحدة البشرية التي تسمو على الاختلافات المذهبية واللونية والجغرفية: لغة واحدة وعالم واحد، بل إنه ليسمي هذا العالم «قريتنا الكبرى».
ولما قارب الموت كان أعظم ما تعذب به تلك القنبلة الذرية التي حطمت أحلامه وجعلته يحس الخطر منها في انقراض الحضارة والإنسان، مع أني أعتقد أن لهذه القنبلة وجهًا، هو تعميم السلم وتعمير الدنيا وإلغاء الحرب؛ ذلك لأن خطرها أكبر من أن يتيح لإحدى الدول التفكير في الحرب التي قد تقضي عليها كما تقضي على العدو، ثم تنتشر كالوباء المميت إلى سائر أنحاء هذا الكوكب.
وقد دأب ويلز في شرح الدلالات الجديدة من العلم، وكان على الدوام يوضِّح لنا التخلف في العلوم الاجتماعية عن العلوم المادية، وما يحمل هذا التخلف من أخطار فادحة للبشر، فإن المجتمعات القديمة والأخلاق القديمة التي تحمل أعباء من الأساطير والعادات والامتيازات والاحتكارات، لا ترتفع إلى ما سما إليه العلم من ابتكارات للقوات الجديدة التي قد تعمر الدنيا وتُحِيلُهَا إلى جنة، أو تدمرها وتحيلها إلى جهنم.
ومصداق هذه الأقوال يتَّضح في أيامنا عندما نتأمل السياسة؛ فإن مشكلة السويس لم يكن فيها ما يشكل أقل الإشكال لو أن الساسة الأوربيين كانوا على شيء من التربية، فقد أوشكوا على أن يجروا العالم إلى الحرب عامة لأنهم — كما كان يمكن لويلز أن يقول — يجهلون التاريخ وإنسانيته والوحدة البشرية فيه، كما يجهلون العلم وقواته للتعمير والتدمير.
فقد تعلم هؤلاء الساسة الأوربيون في المدرسة والجامعة، ولكنهم لم يتربوا، ولم تحس نفوسهم إحساس الإنسانية.
والتعليم هو مهمة المدرسة والجامعة، ولكن التربية هي مهمة العمر كله، وتربية بلا تعليم خير ألف مرة بل مليون مرة من تعليم بلا تربية، وحسبنا برهانًا أن أحد خريجي كلية الحقوق في القاهرة ألَّف في الشهر الماضي (١٩٥٧) كتابًا يخبرنا فيه عن العفاريت والجن والشياطين، كيف تتزواج، وكيف تتوالد، ولماذا يزيد عددها على المصريين (من الإنس).
التربية ثقافة ننشدها، ونتحرى الصحيح منها، ونغيرها، ونتطور بها، ونحيا على أصولها طيلة العمر، وهي تبدأ بعد الجامعة أو المدرسة، بل تبدأ قبلهما أو بدونهما، ولكن الجامعة والمدرسة لن تستطيعا تحمل عبءَ التربية، إذ هما تُعَلِّمَانِ فقط.
لقد كان برنارد شو حكيم العصر منذ نصف قرن، ومع ذلك لم يحصل من التعليم المدرسي على أكثر من مستوى السنة الثالثة الابتدائية، وإنما وصل إلى الحكمة لأنه اعتمد على «التربية الذاتية»، فاختار من الكتب، ومارس من الأعمال الأدبية والفلسفية، ما أنضج به ذهنه وقدس به حياته، فكان في تفكيره وسلوكه مثالًا للثقافة العالية حتى ارتفع في أخلاقه إلى القيم العالية في الإنسانية والفن وفهم الدلالات في شئون هذا العالم.
أجل، يجب ألا نقتصر على الفهم؛ إذ علينا أن نرتفع إلى الدلالة؛ فإن أبلد البلداء يمكنه أن يفهم ولكنه يعجز عن الوصول إلى الدلالة فيما يفهم.
ما هي دلالة مشكلة قناة السويس في سياسة العالم؟
ما هي دلالة كتاب العفاريت في برنامج التعليم في كلية الحقوق، وأيضًا في المجتمع المصري الحاضر؟ إن المفكرين الناضجين يضعون أصابعهم على الدلالة.
لقد كتب برنارد شو كثيرًا عن التربية، وكانت علامة الاستفهام البارزة في حياته هي هذا السؤال: هل ربيت نفسي؟ هل الدولة تربي الشعب؟
وقد خلص من تأمُّله لهذا الموضوع إلى أن الأقدار قد حابته لأنه لم يتعلَّم في مدرسة أو جامعة وإنما علم نفسه؛ وذلك لأنه كان يدرس بعد الاختيار، وكان يختار وفق حاجته الذهنية كما يختار الجائع الطعام الذي تشتهيه نفسه، ولكن المدرسة أو الجامعة تعطينا أحيانًا ما لا نشتهيه ولذلك قد نعجز عن هضمه.
وهناك بالطبع مواد من المعارف نحتاج إلى أن نتعلمها بالإغراء أو الإجبار، مثل القراءة والحساب والجغرافيا، وأمثال ذلك من المعلومات التي لا نستطيع أن نقرأ جريدة أو نتحدث في فهم أو نرتقي إلى المستويات العليا من الثقافة بدونها، ثم هناك معارف أخرى يجب أن يعرفها كل شاب أو فتاة إجبارًا، مثل تلك التي تتصل بالصحة الجنسية، وصلاح الرجل أو المرأة في التناسل، والأمراض الوراثية التي تؤذي الأجنة وتعقب العاهات، وكذلك الأمراض الزهرية التي تنتقل عدواها إلى الأبناء.
ولكن إجبار التلميذ على حفظ الأدب أو الشعر أو الفنون، التي قد لا يكون هو أهلًا لأن يفهمها، هو إضاعة للوقت والجهد، كما أن هناك من الشئون الثقافية ما لا يجوز أن تعلمه المدرسة أو الجامعة، مثل العقائد أو الأخلاق، إلا إذا جعلت هذا التعليم خاضعًا للمناقشة والمناقضة من جانب التلاميذ؛ وذلك لأن هذه العقائد والأخلاق لم تكن قَطُّ ثابتة عند أيَّة أمة، وإنما كانت في تغيير دائم، والأمة المتطورة يجب أن تكون مستعدَّة على الدوام للتغيير والتحسين في عاداتها الذهنية، أي العقائد والأخلاق الموروثة أو ما نسميه تقاليد. بل إن شو لَيصرح في أسلوبه المسرف بأن الأمة الراقية يجب أن تنقح دينها مرة على الأقل كل عام.
ويحمل برنارد شو على التعليم المدرسي والجامعي بأنه لا يتقدم على المجتمع ولكنه يتأخر عنه، ويضرب المثل بتعليم اللغة اللاتينية إلى وقت قريب في جامعة أكسفورد، وإلى تأخر العلوم العصرية فيها، بل هناك ما هو أكثر من ذلك في جمود المدارس والجامعات؛ ذلك أنها — لانتمائها إلى الحكومات واعتمادها على الحصول على أموالها منها — ترفض ذكر الأحرار الذين قاموا بالثورات؛ فإن «وشنطن» الذي حرَّر أمريكا من الاستعمار البريطاني، وكذلك «توم بين» داعية الثورة على العرش البريطاني، بل كذلك «فولتير» و«روسو» كانوا منفيين لا تذكرهم كلية في جامعة لأنهم كانوا ضد الدولة أو كانوا في رأي أساتذتها ملحدين أعداء للبشر والدين.
إذا كنا سنعلم الصبيان أشياء تتجاوز مجرد القراءة والكتابة فيجب علينا أن نعلمهم علم الفلك العصري منذ كوبير نيكوس، وكذلك الفيزياء الإليكترونية ونظرية التطور، وليس من الحكمة أن نقود الصبي في الساعة العاشرة في الصباح إلى حصةٍ ما كي يقول له القسيس إن الأرض مسطحة وثابتة لا تتحرك، وإن السماء سقف فوقها حيث توجد جنة مؤثَّثة كما لو كانت قصرًا ملوكيًّا. ثم في الساعة الحادية عشرة نقوده إلى حصة أخرى حيث يقول معلم الفيزياء إن الأرض كرة تدور حول نفسها على محورها، وإنها تدور حول الشمس في فضاء لا نهاية له، وإن هناك ألوفًا من الأجسام مثل الأرض تفعل مثل ذلك، وليس من العقل كذلك أن نلقِّن الصبيان في حصة الدين أن جميع الأحياء بأشكالها المختلفة قد خُلِقَتْ في ستة أيام، وأن من هذه الأحياء امرأة كاملة صيغت من ضلع، فإذا دقت الساعة لحصة أخرى تناولنا الصبيان بالشرح لملايين السنين التي انقضت في تجارب لإيجاد أشكال عديدة من الأحياء من العمالقة الضخمة إلى أحياء صغيرة لا تراها العين، وهي تجارب انتهت إلى شكل مركب لا نستطيع بأية حال أن نقول إنه حسن، هو المرأة.
وفي هذه الكلمات التي نقلناها من كتاب «مرشد المرأة إلى الاشتراكية والرأسمالية» يحاول برنارد شو أن يبين التناقض بين الثقافة القديمة التي لا تزال حيَّة في المدارس إلى جنب الثقافة الجديدة التي تصطدم بها، وما يعقبه هذا الاصطدام من بلبلة في عقول الصبيان والشباب تحول دون الفهم الصحيح.
إننا نعلِّم الجهل في المدارس، ونجعل منها مستودعات لقاذورات للقرون الماضية وللخرافات الهمجية، بل إننا نعاقب من يدعو إلى إلغائها.
ومع أن كلماته هنا قاسية، بل أحيانًا فظَّة، فإنها لا تُستغرب منه؛ إذ هو رجل جديد يدعو إلى دنيا جديدة ويحاول أن يحقق هذه الدنيا بالتعليم، وهو يخلص من هذا إلى أن الرجل المثقف في عصرنا إنما يصل إلى هدفه ومجهوده الشخصي وليس بالتعليم الجامعي، وهو بالطبع لا ينكر قيمة الجامعات والمعاهد في التعليم الفني الذي يحتاج إلى المعامل والتجارب، ولكن هنا تعليم للتخصص وليس ثقافة عامة تجعل المثقف حكيمًا مفكرًا في الحياة يستوعب المعارف ثم ينظمها في ذهنه ويقارنها ويستنتج منها فهمًا للكون والإنسان وحكمة للعيش.
أين الدين في التربية؟
يجيب برنارد شو على هذا السؤال بأن رجلًا بلا دين هو رجل بلا شرف.
والذي يجب ألَّا ننساه أن الثقافة مكفولة لكل من يطلبها في أوربا بحيث يمكن الذين حُرِمُوا الجامعة أن يجدوا في مئات وألوف الكتب ما يربيهم ويساعدهم على تعيين القصد في الحياة، فهل الحال كذلك عندنا؟
أعتقد أن الثقافة الصحيحة ليست مكفولة بالمؤلفات في مصر أو في أي قطر عربي آخر، ولكن بعضها مكفولة، ومشروع «ألف كتاب» الذي تقوم به وزارة التربية في الوقت الحاضر بغية نقل الكتب النافعة إلى لغتنا هو خطوة، بل وثبة نحو الأمام نحو إيجاد ثقافة عصرية يستطيع عامة القراء أن يجدوا عن سبيلها التربية التي ينشدونها.
هذه الكتب ليست للتعليم وإنما هي للتربية، هي إنسانية، هي دين يرشدنا إلى المستقبل.
ولكن هل الكتب هي كل ما يربينا وكل ما يثقفنا؟
إن التربية أكبر من الكتب؛ إذ هي أيضًا اختبارات وتجارب حتى ليمكن الأمي الذكي أن يحصل على تربية عالية ولو لم يقرأ كتابًا، وبالطبع كانت تربيته تكون أفضل وأعم وأسمى لو أنه كان يقرأ الكتب، ولكن هناك أفذاذًا، اختبروا الدنيا، يعدون من أسمى الناس إنسانية وصلاحًا، مثل أكبر خان السلطان المسلم في الهند؛ فإن هذا الأمي كان فيلسوفًا من الطراز العالي، وتجربته الدينية التي قصد منها إلى الإخاء البشري، لا تزال محل الإعجاب من جميع المفكرين، حين أراد أن يستنبط دينًا من الأديان الإلهية الثلاثة، ولكن هؤلاء أفذاذ، والثقافة التي تهدف إلى التربية لا تزال تحتاج إلى الكتب.
ما هو القصد من الثقافة، من التربية؟
هو أن أستطيع الإجابة على هذا السؤال: من أنا؟ من أنا في هذا الكون؟
هو أن أبلغ يقظة الوعي الكوني بالفهم، هو أن أحيا الحياة الإنسانية، وأن أحس الفهم ليس للإنسان فقط بل للكون كله.
هو أن أزيد وعيي للإنسان والكون.
هو أن أجد القصد في الحياة.
ولذلك نقول إن التربية هي مهمة العمر.