يجب أن نعيش ألف سنة
تذكر التوراة أن متوشالح عاش ٩٦٩ سنة.
وعبرة هذا القول أن الرغبة في طول العمر أصيلة في الإنسان، بل هي الأصل في أساطير عديدة لجأ إليها البشر في مختلف أطوارهم الاجتماعية؛ فإن المصريين القدماء عبروا عن هذه الرغبة بتحنيط الجثمان، حتى يحتفظ بأعضائه ويستطيع أن يحيا حياة خالدة في العالم الآخر.
ولكن إذا كان المصري القديم قد استسلم للأساطير حين جعل من التحنيط وسيلة للخلود؛ فإن الإنسان العصري لا يزال يرغب في إطالة العمر، ولكن بوسائل علمية، فهو يسأل: لماذا تعيش الببغاء قرابة مائة سنة، وتعيش السلحفاة ضعفي هذا العمر؟ ولماذا لا نعيش نحن البشر أكثر من ٧٠ أو ٨٠ سنة؟
وليس الحافز على هذا السؤال هو النفور من الموت والتشبث بالحياة لمحض الحياة كما كانت الحياة عند أسلافنا، وإنما الحافز عندنا فلسفي علمي، فقد أصبح الإنسان المتمدِّن وجوديًّا سواء أراد أم لم يرد، كما أنه أيضًا قد انتهى في عصرنا إلى عقلية تطوُّرية، يقول بإمكان التغيير للمادة البشرية بإيجاد سلالات جديدة منها على نحو ما أوجدنا أكثر من مائتي سلالة لكل من الكلاب أو الحمام أو الخراف.
وهذا إلى أننا قد اتجهنا أيضًا هذا الاتجاه الوجودي الذي يحثنا على أن نحيا في هذه الدنيا ملء كفاءاتنا وأن نستمتع فيها بأكثر ما نستطيع من استمتاعات عالية تتفق وإنسانيتنا.
رجل العلم ورجل الفلسفة، كلاهما يشتغل بالوسائل التي تطيل عمر الإنسان، رجل العلم مثل «متشنيكوف» الذي أمضى كل عمره تقريبًا يبحث عن البكتيريا «المضادة» التي تستطيع قتل جراثيم الفساد في أمعائنا فتطول أعمارنا بذلك، وقد خاب في سعيه، ولكن خيبته فتحت الأبواب لغيره من العلميين الذين لا يزالون يبحثون هذا الموضوع والذين سوف يهتدون إلى الوسائل التي تحقِّق هذا الهدف.
ثم رجل الفلسفة مثل برنارد شو، الذي يهدف إلى زيادة الفهم بزيادة العمر، أليست الفلسفة فهمًا؟
ولكن كيف نفهم كل هذه المعارف التي تَشَتَّتَتْ وتَعَدَّدَتْ من كيمياء إلى فيزياء، ومن إليكترونات إلى فلك، ومن طب إلى هندسة، ومن تاريخ إلى اقتصاد، ومن أدب إلى فن، كيف نفهم كل هذه الأشياء وندرسها هي وغيرها دراسة التعمُّق والتفرغ إذا كنَّا لا نعيش سوى ثمانين أو تسعين سنة؟
إننا نقتصر على دراسة علم واحد أو فن واحد لأن أعمارنا قصيرة، ودراستنا تتخذ صيغة التخصُّص الذي يعمينا عن سائر العلوم والفنون، فنحن نعرف علمًا ونجهل مائة علم، وأولئك الذين يحاولون التعميم بدلًا من التخصص يجدون أنفسهم في قصور لا يمكنهم التغلب عليه، ومرجع هذا القصور إلى أن أعمارنا قصيرة.
إن العلوم كشوف، كل كشف منها ينير العقل ويفتح البصيرة، ويجب أن نتعلَّمها؛ ولذلك نحن في حتمية فلسفية تطالبنا بإطالة أعمارنا حتى نستطيع استيعابها، وحتى يزول هذا التخصص الذي كثيرًا ما يؤذي أكثر مما يؤذي الجهل.
ذلك أن المتخصص — كما قلنا — يحدُّه تخصصه ويعميه عن شئون الحياة الأخرى، بل هو يعميه عن الأثر الحسن أو السيئ لما تخصص فيه من علم أو فن، فلو أن العلميين الذريين الذين اشتغلوا باختراع القنبلة الذرية كانوا على شيء من مهارة الذهن وعمق الذكاء في فهم الخير الإنساني كما كانوا في فهم الذرة لما ارتضوا اختراعها، هذا الاختراع الذي تجاوز القنبلة الذرية إلى القنبلة الهيدروجينية التي تخيم على عالمنا غيمة سوداء تهدد بمحو الحضارة وفناء الإنسان.
إن رجل العلم يجب أيضًا أن يكون فيلسوفًا، وإلا فهو خطر.
وهل أحتاج إلى أن أذكر أن رجلًا من رجال العلم الإنجليز اقترح قبل سنوات حرمان الأمم المتخلفة — التي ترفض تحديد النسل ومنع الحمل — من العقاقير الجديدة «المضادات» التي تقتل بكتيريا الأمراض، وكانت حجته في هذا الاقتراح أنه ما دامت هذه الأمم تسرف في التناسل فلنتركها حتى تموت بالأمراض الميكروبية بلا دواء.
هذا النقص في الإحساس بالخير الإنساني هو ثمرة التخصص؛ إذ لو كان هذا الوحش قد درس الأدب والفلسفة والشعر والفنون الجميلة، كما درس العلم، لما أجاز لقلمه أن يكتب هذه الكلمات الكافرة.
ولكنه لم يجد الوقت لهذا التعميم في الدراسة لأن العمر قصير، فتخصص وقنع بالتخصص.
وقد بصر برنارد شو بهذه المشكلة وألَّف مسرحية بعنوان «العودة إلى متوشالح» يوضِّح فيها ضرورة الإطالة لعمر الإنسان.
لقد عاش متوشالح ٩٦٩ سنة كما تقول التوراة، ولكن برنارد شو يطمع في ٣٠٠ سنة يحياها كل منَّا، أو بالأحرى من أعقابنا، على الأرض.
وقد عاش برنارد شو ٩٤ سنة وكان يفكر كثيرًا في قيمة العمر الطويل، وكان يمكن أن يعيش أكثر من هذا العمر لو لم تقع له حادثة أدَّت إلى كسر ساقه، فلما لزم السرير بسببها وقع في نزلة شعبية كانت سبب وفاته.
واهتمامه بإطالة العمر هو اهتمام يمكن أن نصفه بأنه «وجودي»؛ فإن الوجودية كانت كامنة في جميع المفكرين الماديين قبل أن يصرح بها ويشرحها سارتر، فقد كان إبسن وجوديًّا عندما أخرج الزوجة من بيت زوجها في الليل تبحث عن استقلال شخصيتها وتربية ذهنها واقتحام الدنيا، وبرنارد شو وجودي عندما يطالبنا بأن نحيا في هذه الدنيا أقصى ما نستطيع من العمر الطويل كي ندرس العلوم ونسيح في الأقطار ونختبر ونتعلم ونستمتع.
إن أسلافنا أيام الفراعنة لم يكونوا يجدون أيَّة دلالة لوجودهم على هذه الأرض، وكانت الحياة لذلك في العالم الآخر كل ما يهتمون له، شيدوا مقابرهم بالحجر، وبنوا مساكنهم بالطوب النيء، وكان العالم الآخر مجسمًا في أذهانهم كأنهم يعرفون شوارعه وأَزِقَّتَهُ.
ولكن الوجوديين في أيامنا لا يسلمون بعقائد مصر الفرعونية، وكأن لسانهم يقول: «فلنعش في هذه الدنيا ولنستمتع بأقصى ما نستطيع بحياتنا.»
والسخفاء من الشبان والفتيات الوجوديين في باريس يفهمون من هذا الاستمتاع أنه استهتار وعبث، ولكن الجادين الناضجين يفهمون منه أنه استقلال، وحرية في الاختيار، ودرس وثقافة واختبار.
يقول برنارد شو إن أعمارنا تجعلنا لا نعنى بهذه الدنيا؛ إذ إننا بمثابة المستأجر لمسكنه شهورًا أو سنوات قليلة لا يبالي فيها أن يصلح بناءه، إذ هو سيتركه بعد قليل، لو أنه كان على يقين بأنه سيقيم، هو وأبناءه، ثم أحفاده بعده، نحو مائتي سنة فإنه كان يبنيه مع العناية والدرس، ويزينه مع السخاء والفن، بحيث يعود متحفًا في الجمال والأناقة.
وهذا هو شأننا نحن البشر في هذه الدنيا؛ فإن عنايتنا بها قليلة أو معدومة، ولكن لو كان كل مِنَّا يعيش نحو ألف أو ثلاثة آلاف سنة لعنينا بها، بحيث نجعل من غاباتها متاحف، ونزرع بحارها كما نزرع يابسها، ونقيم المصايف على هملايا وفي القطبين الجنوبي والشمالي، ونلغي الحكومات المتعددة ونقنع بحكومة مفردة تشرف على جميع البشر، ونعمم الخير بين الناس، ونلغي الحرب ونعيش في سلام.
ولكن، لأننا لا نعمر طويلًا، لا نبالي أن نبني دنيانا كما يجب أن تبنى، بل نتركها في فوضاها ودمارها الحاضرَين وفي اختلافات أبنائها وجهلهم بل وتوحشهم.
وليس هذا فقط، فإن برنارد شو يذكِّرنا بأننا عندما نعمر طويلًا، مئات وآلاف السنين؛ فإننا نستطيع أن نصل إلى ما ننشده من تربية لأنفسنا، لا نحصل، ولا يمكن أن نحصل على مثلها أو نصفها ونحن في أعمارنا القصيرة الحاضرة، بل كذلك استمتاعاتنا التي لا نجد الوقت لأن نمتلئ بها وننغمس فيها ونتعمق الحياة عن سبيلها.
لو كان أحدنا يستطيع أن يعيش ألف سنة لاستطاع أن يحيا جملة حيوات من حياتنا الحاضرة الموجزة؛ فإن ألف سنة من العمر تتيح لنا أن نعيش فرنسيين عشر سنوات في فرنسا، وصينيين عشرين سنة في الصين، ثم في روسيا وألمانيا … إلخ. وهذا إلى أن نمضي سنوات في دراسة الذرة، ومثلها في دراسة الكيمياء، ومثلها في دراسة الفيزياء ونحو مائة سنة في دراسة الفلسفة.
هذه هي الاستمتاعات على مستواها العالي كما يفهمها برنارد شو عندما يقول بضرورة إطالة الأعمار، هي استمتاعات الحكمة التي تثمرها الدراسات المتعددة والاختبارات الشخصية في القارات الخمس.
إن السلحفاة تعيش نحو مائتي سنة، فلماذا لا نعيش نحن ألف أو ألفي سنة؟
إن فكرة التطور بارزة في كل ما يكتبه برنارد شو، وهو يذكر لوحة الأحياء وتطورها من الخلية المفردة إلى الإنسان الحاضر في ٧٠٠ مليون سنة، ثم يفكر في إيجاد كفاءات جديدة في إنسان المستقبل.
وأولى هذه الكفاءات أن يطول عمره حتى يكفي لأن يحيله من طفل كبير يحب الحروب، وينغمس في الخمر والجنس، ويشتهي المخدرات، ويقتني المال، ويؤثر الجهل والكسل على الجد والدرس، إلى إنسان حكيم قد كسب حكمته من السنين المديدة واستمتع بحياته.
وهو حين يصل إلى هذه الغاية يجد معنى ودلالة للوجود، ولذة في الحياة، لا يجدهما الآن.