الدين كما يؤمن به شو
لجميع الأديان — أيًّا كانت — وجهتان: الأولى غيبية، والثانية دنيوية.
فأما الغيبية فهي التي تعين مركز الإنسان في الكون، والالتفات يتجه أكثره نحو موقفه من أصل الدنيا، وأصل البشر، ومصيره بعد الموت، وما يلقى من ثواب أو عقاب في نعيم أو جحيم، وجميع الأديان القديمة تعنى لذلك بشرح ما بعد الموت وكأن هناك حياة هي خير من الحياة على الأرض.
أما الوجهة الدنيوية فهي ما يتصل بمعايش الناس وأخلاقهم.
وبرنارد شو يؤمن بنهائية الموت، فلا نعيم عنده ولا جحيم، ولا حساب في عالم آخر، ولكن ما موقفه من ناحية «الله»؟
هو موقف «سبينوزا» من حيث إن الله كامن في المادة.
برنارد شو لا يذكر كلمة الله، ولكنه يقول إن هناك ما يسميه «قوة الحياة»، وهذا التعبير هو صورة أخرى لتعبير برجسون «النهضة الحيوية» أو «التطور الخالق».
وعندما نحاول أن نفهم هذا الموقف نجد أنه لا مفر لنا من الاعتراف بأنه موقف مادي، بل كذلك موقف سبينوزا نفسه الذي نفهم منه أن القوة الخالقة ليست منفصلة من المادة وإنما كامنة فيها.
وهذه القوة الخالقة عند سبينوزا — بل أيضًا عند برجسون — هي الله، الذي ينأى معناه هنا عن معناه في كتب الدين.
وهذه القوة في المادة عند برنارد شو هي قوة تطورية؛ أي إن في المادة خاصة التطور، وكثيرًا ما نجد برنارد شو يقول «ديانة التطور».
إن العقل كامن في المادة.
والأخلاق والإنسانية والخير كامنة كلها في العقل.
والخير أكبر من الشر في هذه الدنيا، بل في هذا الكون، وبرهان ذلك عند شو أنه لو كان العكس هو القائم، أي الشر أكبر من الخير، لكانت الفوضى ثم انقراض الإنسان، بل الأحياء جميعها. فبقاء الإنسان في نظام ومجتمع برهان على أن الخير، في الطبيعة، في المادة، في الدنيا، أكبر من الشر.
ليس هناك إله خالق منفصل عن المادة، هذا هو موقف الثلاثة الذين ذكرنا.
القوة الخالقة في المادة هي خاصة من خواص المادة، أي إنها خاصة التطور فيها.
ليست هناك قوة روحية، أي روح للكون، كما ليس هناك روح للإنسان، إنما مادة الكون ومادة الإنسان تحتوي كلتاهما قوة التطور.
هذه القوة تسير في تطور من أسفل إلى أعلى في الكائنات الحية، وهي عرضة للصواب والخطأ، وملايين الأحياء التي انقرضت — مثل الزواحف الكبرى قبل نحو ثمانين مليون سنة — برهان على أن المادة تسير في تجارب، تصيب وتخطئ، وليس بعيدًا أن تتجه هذه القوة التطورية وجهة أخرى غير الوجهة التي انتهت بوجود الإنسان، فينقرض هذا أيضًا ثم تسير هذه القوة التطورية نحو إيجاد «إنسان آخر» وإلى تجارب أخرى.
وعند برنارد شو أن هذه القوة هي الله، فكأن الله يصيب ويخطئ، وأنه دائم التجارب في الخلق، ولا يعني هذا القول أكثر من أن الدنيا والكون والإنسان والحيوان والنبات والمادة في تطور.
ونحن نجد هذه التعابير التالية مكرَّرة في مؤلفاته: «ديانة التطور، شهوة التطور، الديانة البيولوجية، تطور الإنسان في المستقبل (بإرادة الإنسان) نحو السبرمان، رجل بلا دين هو رجل بلا شرف.»
ثم نجد أنه أوصى بألَّا يُصَلَّى عليه عند وفاته في كنيسة، كما أنه أوصى بإحراق جثمانه، وقد سبق أن فعل مثل ذلك مع زوجته، ثم يقول في أحد مؤلفاته إن الأمة اليقظة يجب أن تنقح ديانتها مرة كل عام على الأقل.
فكأنَّ نظرته للدين إنكار للغيبيات جميعًا، من إله منفصل عن المادة، إلى نعيم وجحيم بعد الموت، إلى أرواح، ثم فهم للدين على أنه إحساس بالتطور، وأن واجب الأمة، وواجب البشر، وواجب كل فرد منا — ونعني الواجب الديني — هو أن نتطور.
نتطور في الثقافة فنثابر على استيعاب المعارف وزيادتها، ونتطور في الصحة نعيش ٥٠٠ أو ألف سنة، فتتعمق الحياة ونعني بالدنيا، ونتطور في الأخلاق حتى نولد بها أصيلة في كياننا النفسي وليست مكتسبة بالمرانة والتعليم بعد الميلاد.
وما أفهمه من الدين، كما أستخلصه وأستنتجه من برنارد شو، هو اليقظة إلى الوعي الكوني؛ أي ما هو موقفي من الكون والدنيا والبشر.
وزعماء الدين عنده هم موسى، والمسيح، ومحمد، وعمر، وأبو بكر، وغاندي، وتولستوي، وشفيتزر، وبرنارد شو، وسقراط، وابن رشد، ولنكولن، وتوم بين، وكارل ماركس، ولينين، وباستير، وجميع الفلاسفة والأدباء والشعراء والمفكرين والعلميين الذين خدموا الإنسان في زيادة حريته، وإنقاذه من رق العمل أو رق الأفكار، أو من الأمراض، أو من مظالم الاستبداد والاستغلال.
والذي أفهمه من ديانة برنارد شو أيضًا أن الرجل الصالح في عصرنا ليس هو الأناني الذي لا يفكر إلا في إنقاذ نفسه ونجاتها بالصلاة والصوم، وإنما هو الذي يسعى لإصلاح البشر بإيجاد حكومة موحدة للعالم، وإلغاء الحروب، ومحو الأمراض، وتعمير الصحاري والجبال، وصيانة الأحياء والغابات، واختراع الوسائل لزيادة الثقافة والفهم والصحة والذكاء.
والذي أفهمه منه أيضًا أن التعاون في الطبيعة أكبر من التنازع، وأن التعاون هو الوسيلة إلى التطور في الإنسان، وأننا يجب أن نأخذ بالتطور في إيجاد السبرمان، أي الإنسان الأعلى.
وأفهم منه — أي من ديانته التطورية — أن إرادة الإنسان تخلق، فإذا أردنا أن نعمر ألف سنة، فإن هذا الأمل سيتحقق وإن بعد ميعاد التحقيق، وإننا لم نصل إلى ميزاتنا الإنسانية الحاضرة إلا لأننا أردنا ذلك عن وعي أو غير وعي.
ولبرنارد شو نحو أربع أو خمس درامات خصَّها ببحث الموقف الديني للإنسان، وهذا إلى إشارات عديدة إلى هذا الموضوع، تخللت مؤلفاته الأخرى، وعندي أن «العودة إلى متوشالح» و«الإنسان والسبرمان» يشرحان لنا فلسفته؛ أي ديانته، وهما بحث للتطور كما يبصر به في المستقبل، أو هما بحث للدين في مستوياته العليا للمفكرين الذين يتجاوزون التفكير العلمي، وقد ألف درامة عن جان دارك، الفتاة الفرنسية التي قادت الجيش الفرنسي إلى النصر في حرب فرنسا مع إنجلترا في القرن الرابع عشر، ثم وقوع جان دارك أسيرة في أيدي الإنجليز ومحاكمتها بتهمة الهرطقة (الزندقة) لأنها تؤمن بعقائد تخالف المبادئ المسيحية. ثم الحكم عليها بالإحراق.
والنقطة البارزة في هذه الدرامة هي موقف جان دارك بأنها تفهم المسيحية بعقلها المستقل، وأنها لا تتوسل إلى الله بالكنيسة أو القسس، ويشرح لنا القاضي في محكمة التفتيش خطيئتها بأنها تسلك سلوك المسلمين، ويسب نبي المسلمين لأنه أيضًا يقول بأن للإنسان الحق في الشكوى إلى الله ومناجاته دون وسيط من كاهن أو قسيس، ولكن برنارد شو وهو يضع كلمات السباب على لسان هذا القاضي إنما يمدح النبي؛ لأن موقف جان دارك هو موقفه، وهو الموقف الذي يبرره برنارد شو ضد القاضي، أي إن الإنسان لا يحتاج إلى وسيط بينه وبين ربه.
ويومئ برنارد شو إيماءة نحو المستقبل؛ فإن جان دارك هي الرائدة الأولى في الإصلاح الكنسي الذي انتهى بظهور لوثر الألماني في القرن السادس عشر، وقد التبس موقف برنارد شو على بعض كتابنا فحملوا عليه حين ظهرت درامة جان دارك بدعوى أنه سب النبي.
ودرامة أخرى له تدعى «أندروكليس والأسد» تمثل الأسطورة التي عاشت في القرن الأول والثاني للميلاد بشأن الأسد الذي أُطْلِقَ لافتراس أحد المسيحيين في العرين الذي كان في رومة، وكان يُلقى فيه المسيحيون للأسود التي تفترسهم وتأكلهم أمام الجماهير المتفرجة، وهذا الأسد يدخل العرين فيجد رجلًا مسيحيًّا قد أنقذه قبل سنين من شوكة دخلت في ساقه وأعجزته عن الحركة، فيعرفه الأسد، ويأبى افتراسه. وقد عد المسيحيون الأوَّلون هذه القصة، أو بالأحرى الأسطورة، إحدى معجزات الدين الجديد.
- (١)
إن ملكوت الله في نفسك وليس في عالم آخر، أنت ابن الله، والله أبو الإنسان، والله هو أبوك، وأنت هنا في الدنيا تؤدي عمل الله، وأنت والله شيء واحد.
- (٢)
تخلص من ممتلكاتك واجعلها مشتركة بين أعضاء المجتمع، وافصل بين عملك وبين النقود والأجور، واذكر أنك إذا تركت طفلًا يجوع فإنك تجيع الله نفسه، ولا تقلق على غدك، ماذا تأكل فيه وما تلبس.
- (٣)
تخلص من القضاة والعقوبات والانتقامات، واحبب جارك كما تحب نفسك؛ إذ هو جزء منك، وأحب أعداءك إذ هم جيرانك.
- (٤)
تخلص من الاشتباكات العائلية؛ لأن كل امرأة تلاقيها هي أمك، مثل المرأة التي حملت بك، وكل رجل يلاقيك هو شقيقك، مثل شقيقك الذي حملت به أمك بعدك، ولا تضع وقتك في الجنازات العائلية حزنًا على أقاربك، لتكن عنايتك بالحياة وليس بالموت.
هذه هي النقاط الأربع التي يلخص فيها برنارد شو فهمه للمسيحية كما دعا إليها المسيح، وهي أبعد ما تكون عن فهم المجتمع أو الكنيسة لها.
ولكن هل معنى ما ذكرنا أن برنارد شو كان مسيحيًّا؟
الجواب أنه كان مسيحيًّا من حيث فهمه للأخلاق كما دعا إليها المسيح، ولكنه من حيث الغيبيات المسيحية كان كافرًا منكرًا. وهو يرد هذه الغيبيات إلى أقاصيص وعقائد الأمم القديمة.
ويجحد برنارد شو في المسيحية التبرير للاعتراف بحق كل إنسان في دخل من الدولة يكفل به بقاءه هو وعائلته، وبكلمة أخرى يجد في المسيحية دعوة إلى الاشتراكية. وكل من يقرأ الإنجيل، في تأمل، ويتعمق المبادئ المسيحية، يضطر إلى التسليم بصحة هذا الاستنتاج.
وهو يعلل امتناع المسيح عن الزواج بأنه كان صاحب رسالة يريد التفرغ لها وأن يبقى حرًّا من الاشتباكات العائلية، ولكنه مع ذلك، أي المسيح، لم يدعُ إلى إيثار العزوبة على الزواج كما فعل بولس.
ويشرح برنارد شو لنا هذا الموقف، أي موقف العزوبة، فيقول إن كل من يحمل رسالة للبشر، أو يكافح للوطن، أو يمارس الأدب الحر، أو الفلسفة الحرة، أو الذي يدعو إلى مذهب، كل هؤلاء يجدون أنفسهم مضطرين إلى إيثار العزوبة على الزواج؛ ذلك لأن رب العائلة الذي يرتبط بالزوجة والأبناء يضطر في أزمات ضميره إلى المساومة عليه حتى لا تجوع عائلته، وهنا تفسد رسالته. أما إذا كان أعزب حرًّا فإنه لا يبالي ما ينزل به من حرمان أو عذاب.
وهذا مصداق الحديث المشهور: «الولد مجبنة ومبخلة لأبيه».
وليس هذا الموقف بالطبع، موقف إيثار العزوبة على الزواج، لجميع الناس، وإنما هو للخاصة والقادة وأصحاب الرسالات فقط، أما سائر الأفراد فيتزوجون بلا حاجة إلى نصيحة.
•••
والآن، بعد هذا الذي ذكرنا عن الدين كما يعتقد برنارد شو، لنا أن نسأل ما هو برنامجه العملي الذي يستنبطه من الدين؟
هو بلا شك الاشتراكية التي عاش لها وسعى لتحقيقها طيلة حياته، كما قد وجدنا في نشاطه في الجمعية الفابية، وهذا أيضًا هو موقف ﻫ. ج. ويلز.
كلاهما رأى رؤيا الاشتراكية كما لو كانت دينًا يحس الولاء له، وكلاهما خدم هذا الدين بكل ما وسعه من مجهود.
وكلاهما كان ملحدًا في المعنى العرفي للإلحاد، وهو إنكار خالق متصل بالكون له شخصية عاقلة ورعاية شاملة للبشر، كلاهما يجد في التطور ديانة كاملة كافية؛ فالديانة هنا ليست غيبية وإنما هي بيولوجية.
والأخلاق عندهما هي مسئوليتنا قبل كل شيء نحو الحياة التي تفرض علينا التطور والتعلم، وأن نربي أنفسنا، وأن نتوسع في وجداننا، وأن نطيل أعمارنا ونصون صحة أجسامنا وعقائدنا، وأن نرتقي، وأن نحس الولاء لهذا العالم وليس لعالم غيبي آخر.
لسنا مسئولين أمام الله، أو أمام القانون، أو أمام المجتمع، وإنما مسئولون أمام الحياة التي تضطرنا في النهاية إلى أن تكون مسئوليتنا أمام المجتمع والقانون إذا كانا على عدل، أما إذا اصطدمت مسئوليتنا أمام الحياة بمسئوليتنا أمام القانون والمجتمع، فإننا يجب أن ندافع عن الحياة ضد القانون والمجتمع.