شو في سنيه الأخيرة
في مثل هذا الشهر (ديسمبر) من سنة ١٩٥٠ مات برنارد شو بعد أن بلغ الرابعة والتسعين، وهذه هي سنيه الأخيرة، في شيخوخته، ومرضه، ثم وفاته، مما يجد فيه القارئ حكمة الفيلسوف وفكاهة الأديب وتصرف الإنسان.
في ١٩٤٦ بلغ برنارد شو التسعين، وكان لا يزال نشيطًا سليم الصحة، يسير كل يوم في الحقول ويشذب الأشجار ويتسلقها، ومعه فأس، يكسر منها تلك الغصون التي لا تتسق وجمالها، وكان لا يزال يضع «التصميمات» لأعمال مسرحية جديدة، وقد كتب وهو في هذه السن كتابه المعروف «ست عشرة صورة ذاتية» وهي ذكريات عن حياته، كما وضع كتيبًا آخر بعنوان «أساطير مستغربة أو مستبعدة».
وسئل عند بلوغه التسعين إذا كان هانئًا بشيخوخته، فأجاب بالإيجاب، وأنه لو لم يكن هانئًا لانتحر وانتهى من حياته، وكان لا يَكُفُّ عن الدرس والعمل وفقًا لحكمته التي قال فيها إننا يجب أن نستهلك كل ما فينا من قوة قبل الموت، وأن نذهب إلى القبر ونحن «خردة» أي ليس فينا عضو سليم نأسف على دفنه.
وحدث وهو في الرابعة والتسعين، سنة ١٩٥٠، أن تسلَّق شجرة لتشذيبها، وبقي على ذلك مدة، وبينا هو ينزل انزلقت قدمه فسقط وانكسرت ساقه.
ونُقل إلى المستشفى حيث كان الأمل كبيرًا عند الأطباء المعالجين بشفائه القريب، ولكن اتضح فجأة أن كُلْيَتَيْهِ لا تؤدِّيان عملهما على الوجه الكامل، وكان هذا العجز في كليتيه السبب الأول لوفاته.
وكان طيلة مكثه بالمستشفى يضاحك الأطباء والممرضات، ويتفقأ لسانه عن النكات، فكان مما قاله للطبيب المعالج: «إني لو متُّ على يديك لأصبحتَ أشهر طبيب في العالم.»
وقال لإحدى الممرضات عقب استحمامه: «اكتبي لي شهادة بأني استحممت على يديك حتى لا أُطَالَبَ من ممرضة أخرى بتكرار هذا العمل.»
وساءت حالته بسبب العجز في الكليتين، وأحس برغبة جامحة في العودة إلى منزله حيث أُجِيبَ إلى طلبه، وبقي أيامًا قليلة مات عقبها، وتقول المسز باتش سكرتيرته التي كانت ترعاه وتقرأ له الخطابات والتلغرافات التي تسأل عن صحته وترجو له الشفاء: إن الموت غشي وجهه بهدوء رائع كأنه قد مات هانئًا إذ أدَّى عمله وأنجز واجبه نحو الحياة.
وما زلنا نذكر ذلك اليوم في ديسمبر من ١٩٥٠ حين أذاعت التلغرافات نبأ وفاته، وكان مجلس الوزراء في الهند معقودًا برياسة نهرو فقرر انفضاض الجلسة، واعتبر اليوم إجازة رسمية للمدارس، كأن نهرو قصد من ذلك إلى إيجاد وعي سياسي فلسفي عالمي بين التلاميذ الذين سيسألون عن السبب لهذه الإجازة وعن قيمة هذا الكاتب الذي أمضى عمره وهو يدافع عن الإنسانية ويجحد الإمبراطورية، وأُغلقت جميع المسارح وسائر الملاهي في نيويورك.
وحدث حادث يُؤْسَفُ له في الصحافة الإنجليزية التي تنحدر أحيانًا إلى أسفل الدركات؛ فإن العادة المألوفة في جميع الجرائد الكبرى بها أن تخص مكانًا من مبناها تجعله «جبَّانة» العظماء، وهي تستكتب الكتاب المختصين تراجم العظماء المشهورين قبل أن يموتوا، وكانت «الديلي إكسبرس» قد استكتبت ﻫ. ج. ويلز ترجمة موجزة لبرنارد شو، ومع أن ويلز مات قبل شو، فإن هذه الجريدة نشرت هذا المقال الذي خرج على الناس كما لو كان عواء من القبر يوم وفاة شو، فقد كانت هناك خصومات قديمة بين هذين الكاتبين لم ينسها ويلز، فبعث أحقادها بكل ما فيها من لؤم وقبح.
ورأت الديلي إكسبرس أن نشر هذا المقال يزيد عدد القراء، وهذا هو ما تتوخاه في جميع نشاطها الصحفي.
ولا نستطيع أن ننسى هنا أن مثل هذه المهمة قد طلبت من برنارد شو عن ﻫ. ج. ويلز، فكتب عنه أنه واحد من أولئك الناهضين الذين انفجرت نهضتهم أولًا في القرن السادس عشر، وأن العالم ارتقى بمؤلفاته التي أرشد قراءه فيها نحو المستقبل، وهنا فرق بين كاتبين.
وتعود الخصومة بين شو وويلز إلى سنة ١٩٠٥ حين أراد ويلز أن يغير خطة الجمعية الفابية الاشتراكية ويزيد عليها نشاطًا آخر رأى شو أنه ليس من شأنها؛ إذ هي مختصة بنشر الاشتراكية فقط، وانهزم ويلز وخرج من الجمعية غاضبًا على برنارد شو، ومن هذه المشاجرة الأولى نشأت خلافات وأحقاد، ولكن حدث أن وقع ﻫ. ج. ويلز في مأزق من تلك المآزق الأخلاقية التي كان كثير الوقوع فيها، أو هكذا على الأقل رواية القصة، ولا ندري عنها أكثر من أن ويلز بعث بخطاب يشكر فيه شو لموقفه العالي نحوه ويرجوه أن ينسى إساءاته القديمة إليه، ولكن هذا الموقف لم يمنع ويلز من كتابة الترجمة الدنيئة لجريدة الديلي إكسبريس.
إني أرغب في أن يُحرق جثماني، ثم يُجمع الرماد ويُخلط بالرماد المتخلف من زوجتي خلطًا لا ينفصل، ورماد زوجتي مودع الآن أمانة في مرمدة جولدرزجرين، ويُحفظ خليط الرمادين في إناء ويُنشر فوق أرض الحديقة بمنزلنا في أبوت سان لورنس حيث عشنا معًا خمسًا وثلاثين سنة، ولكن يمكن منفذي الوصية أن يغيروا في مصير الرماد إذا شاءوا، وأنا شخصيًّا أفضل نشر الرماد في الحديقة.
وقد أنفذت رغبته كما شاء.
بما أن عقائدي الدينية وآرائي العلمية في الوقت الحاضر، لا يمكن أن أضع لها تعريفًا أكثر من أني أؤمن بالتطور الخالق، فإني أرغب في ألَّا يُقام لي نُصب أو يصنع لي تمثال أو صورة فنية، أو تُنقش بشأني كتابة، أو يلقي أحد عني عظة، أو تُعقد بشأني حفلة دينية على سبيل التذكار، ولا يحتوي شيء من هذا على ما يوهِم أني اعتنقت أو قبلت العقائد الخاصة بإحدى الكنائس، وأن يتخذ هذا التذكار علامة الصليب أو أية أخرى للتعذيب أو التضحية الدموية.
وبكلمة أخرى مات برنارد شو ملحدًا في معنى الإيمان بالأديان أو العقائد الدينية.
وترك برنارد شو تركة قُدرت بمبلغ ٧٦٧٣٢٣ جنيهًا حصلت الحكومة منها على الضريبة وقدرها ٣٨٠٥٧١ جنيهًا أي نحو النصف، ومع ضخامة هذه الضريبة فإن برنارد شو لم يكن ليأسف عليها، إذ هو كان من أعظم الدعاة لزيادة الضرائب التي تمكن الحكومة وهيئاتها المختلفة من القيام بالإصلاحات المدنية والاشتراكية والاجتماعية.
وكان أول ما عني به في وصيته أن عَيَّن منها مقادير (غير كبيرة) للمسنين من أسرته خئولة وعمومة، وكذلك فعل لأصدقائه.
ثم خص معظم التركة لمشروع إصلاح الهجاء الإنجليزي، وذلك بتأليف لجنة تدرس هذا الموضوع، وتوالي الدرس، حتى تزيد حروف الهجاء وتخترع حروفًا أخرى لتأدية النطق الذي يتفق مع الحروف ولا يخالفها كما هو الشأن الآن في اللغة الإنجليزية.
- (١)
المتحف الوطني في دبلين عاصمة أرلندا (ولا تنسَ أنه أرلندي الأصل).
- (٢)
المتحف البريطاني في لندن.
- (٣)
المجمع الملوكي للفن المسرحي.
هذا هو بعض ما يُذكر عن السنوات الأخيرة من حياة برنارد شو، الذي مات في ديسمبر من ١٩٥٠ دون أي احتفال بدفنه أو صلاة عليه أو سير جنازته في الشوارع في مظاهرة سخيفة كما يحدث لسائر الناس.
وليس شك أن الإحراق خير من الدفن، وهو نظافة وطهارة بالمقارنة إلى ما في الدفن من قذارة ونجاسة، وهذا إلى الاقتصاد في النفقات، والإحراق عادة قديمة مألوفة عند الهندوكيين الذين ليس في بلادهم جبانات.
ويطيب لنا هنا أن نذكر فكاهة شو عن التزامه للطعام النباتي ٦٤ سنة، فقد كتب يقول إن له الحق عندما يموت أن تشيع جنازته قطعان وأسراب من البقر، والخراف، والخنازير، والدجاج، وأيضًا حوض يحوي جماعة من الأسماك، وكلها في حداد عليه، وعلى أعناقها كوفيات بيضاء؛ وذلك لأنه لم يأكل الحيوانات مدة ٦٥ سنة.
•••
وفي ضوء هذه الأسئلة نستطيع أن نقول إن برنارد شو قد علمنا، ورقَّانا، وطوَّرنا، في هذه الأشياء التالية:
أن المسرح ليس للغرام وحديث العشاق، أو لقعقعة السيوف والبطولة الزائفة، أو للجرائم السينمائية، وإنما هو للدراسة التي نلهو بها جادين، ونتعلم ونحن نطرب ونُسَر.
وأن التربية مهمة العمر كله، وأنها واجبنا الأول نحو الحياة وليس لنا من واجبات أخرى في العالم تقارب هذا الواجب.
وأننا يجب أن نتزوج إلى أعلى بغية التناسل، فنختار الشريك الذي نعتقد أن نسلنا منه سيفضل أبويه.
وأن ندين بديانة التطور، فنهدف إلى تعمير الدنيا، وإطالة عمر الإنسان، وزيادة الصحة في جسمه والذكاء في عقله.
وأن نأخذ بمذهب الاشتراكية، إذ هي الإنسانية في التطبيق.