شو وويلز
الْتَمَعَ الأدب الإنجليزي في النصف الأول من هذا القرن باسمين هما شو وويلز، وكانت رسالتهما واحدة وإن اختلفت أساليبهما في التعبير عنها، هذه الرسالة هي أن الحضارة الانفرادية القائمة تُبنى على ظلم وفساد، وأنها أيضًا في انهيار، وأن العلاج هو تغييرها إلى حضارة اشتراكية.
وكان كلاهما من الكتَّاب الحافزين الذين يبعثون حولهم جوًّا من التفاؤل والاستطلاع ومحاولة الاستقرار على حقائق المجتمع وطبيعة الإنسان والكون، وما من أديب في إنجلترا لم يتأثر بهما ويسير شوطًا بعيدًا في طريقهما.
وكلاهما يكفر بالأديان، ويجد في الاشتراكية البدل العملي للدين، فإذا كان الدين يدعو إلى الإحسان، وإلى الرحمة بالفقراء، وإلى الإخاء والتعاون؛ فإن المذهب الاشتراكي لا يدعو هذه الدعوة فقط بل يضع الأسس لبناء المجتمع الذي يمارس كل هذه الأشياء دون أن يحس أحد من أفراده فضلًا على آخر.
المذهب الاشتراكي يقوم مقام الدين لأنه التطبيق العملي للإنسانية؛ ذلك أن المجتمع الاشتراكي يلغي الفقر، ويتجه نحو إلغاء التفاوت الاقتصادي بزيادة الإنتاج، وهو أيضًا يلغي ما هو أسوأ من الفقر، أي الاستعمار؛ لأن الدولة الاشتراكية لا تستطيع غزو شعب والاستيلاء على بلاده واستغلال أبنائه.
إذ لمن تستغل؟
إن المجتمعات الانفرادية التي يستغل فيها الأثرياء الفقراء، وتتألَّف فيها الشركات لتنظيم هذا الاستغلال، تنتهي إلى الاستعمار، وهو الاستغلال في أوجه وعلى أعلى مراتبه، فالفرد أو الشركة من الأمة الغازية السائدة يستغلان أبناء الأمة المهزومة، ولكن ليس في المجتمع الاشتراكي فرد أو شركة يستغلَّان أبناء الشعب؛ ولذلك لا توجد الوسيلة لاستغلال أبناء المستعمرات.
فالاشتراكية هي الديانة العملية التطبيقية، الديانة الإنسانية، وهي قد تكون ملحدة أو مؤمنة، إذ لا دخل للإيمان الشخصي في النظام الحكومي الاشتراكي، ولكن ليس شك في إحساس الاشتراكي بأن مذهبه يدعو و«يعمل» بنظام معين لتعميم الإنسانية، ومنع استغلال فرد لآخر، وأن هذا النظام يلغي الفقر ويزيد الإنتاج، وهذا الإحساس يجعل الاشتراكي قانعًا بالتفكير العملي دون التفكير الغيبي.
وشو وويلز كلاهما ملحد، أي غير مؤمن بالإله الذي تعتمد عليه الكتب المقدسة، وإلحاد شو مهذب، وإلحاد ويلز بذيء، ومنبع إلحادهما هو العلم.
شو يحترم «شخصية» المسيح ويحبه، وقد دعا إلى الأخلاق المسيحية في كثير من دراماته، ولكنه يجحد فكرة الفداء والتضحية والآخرة، ومع ذلك يجد في الكون ما يسميه «قوة الحياة» وهي أقرب الأشياء إلى «نهضة الحياة» عند بيرجسون؛ أي إن هناك اتجاهًا في المادة نحو الحياة، ثم اتجاهًا في الحياة نحو العقل، أي نحو الإنسان، ثم اتجاهًا نحو الارتقاء الإنساني حتى يخرج السبرمان من نسل الإنسان، وله في هذه الموضوعات جملة مؤلفات ودرامات.
ولكن ويلز في إنكاره لله قد بذئ كثيرًا؛ فإنه لما شرع في التأليف إلى ما قبل ١٩٢٠ كان يُكبر من شأن الدين ويظن أنه يجد فيه الخير أكثر مما يجد الشر، ولكنه انتهى إلى الإلحاد وصار يؤلِّف في الدعوة إلى إنكار الله، ويستخرج من التوراة والإنجيل كلمات وعبارات يستنتج منها ما يشاء، مما يجرح إحساس المؤمنين، أو قد يحيل بعضهم إلى الإلحاد.
وكلاهما، شو وويلز، قد دعا إلى أخلاق جديدة أساسها العلم، وكلمة «أخلاق» تعني العقائد السياسية والاقتصادية والثقافية، وليست الاشتراكية عندهم نظامًا للرحمة أو الإنسانية، وإنما هي قبل كل شيء إنتاج علمي يزيد الثراء، ومتى زاد الثراء فإن الفقر ينمحي، وعندئذ نجد أن الإنسانية ممكنة، ممكنة بالنظام وليس بالإحسان.
والفن عند شو هو الدرامة، والفن عند ويلز هو القصة.
ولكن إلى جنب ذلك ألَّف كل منهما مؤلفات أخرى تناولت الاقتصاد والأخلاق والدين ونحو ذلك، وقد انتفع كل منهما بالآخر. ومستقبل الإنسان، ومستقبل العالم، ومستقبل اللغة والثقافة، كل هذا يهتم كلاهما به ويكتب عنه بطريقته ووسائله الخاصة. فإن ويلز يؤلف موسوعة في تاريخ البشر كما لو كان تاريخ أسرة متعددة الأفراد ولكنها تنتمي إلى أرومة واحدة، وهو يكتب ويؤلف بشأن حكومة عالمية تحكم البشر جميعهم بلا تفرقة في السلالة أو اللغة، وهو ينشد لغة عامة للبشر، وهو يؤلف القصص الرومانسية عن المستقبل العلمي للإنسان.
كان ويلز كبير الإيمان بالعلم، حتى إنه قال ذات مرة إن رجل الأدب لا قيمة له، ولكن قبل أن يموت بأقل من عام انفجرت القنبلة الذرية فوق هيروشيما وناجازاكي، فانهار إيمانه وداخلته الشكوك التي أظلمت أيامه الأخيرة وجعلت من تفاؤله الدائم تشاؤمًا لازمًا.
والواقع أن انهياره العصبي هو الذي جعله يتشاءم أكثر مما يجب؛ فإن هذه القنبلة أثبتت للمثقفين ضرورة الأخذ بأفكاره: العالم هو قريتنا الكبرى، والشعوب أمة واحدة، ولا بد أن تؤلف للإنسان حكومة موحدة تحكم الأرض.
كانت هذه الفكرة رسالة حياته، وقد أيَّدها العلم باختراع القنبلة الذرية التي تصرخ في وجوهنا: إذا لم تتحدوا وتنشئوا حكومة موحدة للعالم فليس أمامكم سوى الدمار والعودة إلى الغابة، وهذا إذا لم يفنِ النوع البشري كله، بل الحياة كلها.
ولكن قبل تحقيق هذه الأحلام لا بد من الاشتراكية تعم أقطار العالم وتضع الإيثار مكان الأثرة ومصلحة الجماعة فوق مصلحة الفرد.
كان ويلز عالمي الذهن يفكر في تأليف موسوعة عامة تشترك فيها جميع الأمم وتخرجها حية بالمعارف البشرية، بل إنه يكتب التفاصيل في طريقة الطبع لهذه الموسوعة؛ إذ هي يجب أن تُربط على طريقة الورقة السائبة، بحيث يمكننا أن ننزع إحدى الورقات ونضع مكانها أخرى تحتوي على معارف جديدة، فالموسوعة تبقى بالبيت طيلة العمر وتتجدد بأوراق تُرسل من وقت لآخر إلى الذين اقتنوها، فتتجدد.
وكان كبير التقدير لرجل العلم حتى لقد قال ذات مرة — كما ذكرنا — إن رجل الأدب لا قيمة له. وهو هنا يختلف مع شو الذي يحترم الأدب كما يقدر العلم، ولكن الواقع أن عقليهما أقرب إلى العلم منهما إلى الأدب.
وقد استنار الشعب بل الشعوب الإنجليزية من هذين الكاتبين، وارتفع مقام التأليف والصحافة بهما؛ فإنهما صحفيان قبل أن يكونا مؤلِّفين، بمعنى أن اهتمامهما بالأحداث الجارية كان كبيرًا بحيث لم تكن هناك صحيفة كبرى تهمل رأيهما بشأنها، وكان اتفاقهما في الوسائل والأهداف أقل من اختلافهما، أما الموضوعات التي عالجاها فلم تخرج قَطُّ عن التطور، الإنسان في المستقبل، الاشتراكية، الثقافة، الزواج، الحكومة، قيمة العلم … إلخ.
وإذا شئنا أن نفضل ونميز بين شو وويلز جاز لنا أن نقول إن عقلية شو انتقادية في الأكثر بنائية في الأقل، أما ويلز فيبني ولا يكاد ينتقد إلا قليلًا؛ أي إنه إيجابي، يشرع المشروعات للبناء في السياسة والاقتصاد والأخلاق. والإصلاحات الاجتماعية العديدة التي سارت فيها الحكومة الإنجليزية في النصف الأول من هذا القرن هي من إيحاء مؤلفات شو وويلز أكثر من أي كاتب آخر.
ولقد كان من سعادة حياتي أني جاريت هذين الاثنين من السنين العشر الأولى من هذا القرن إلى يوم وفاتهما، ولم أكن أهمل حرفًا مما كتباه، وإليهما أعزو نشأتي العلمية واتجاهي الاشتراكي الإنساني.