في عالم الجمال
عاشق الجمال
إذا لحقت السيرة بعالم المثال الذي يتطلع إليه خيال الشعراء، وتتغنى به قرائح أهل الفن، فقد تنزهت عن ربقة الجسد، وأصبحت صورة من الصور المثلى في عالم الجمال.
ومن آيات الجمال أنه يتحدى المنفعة، ويؤثِر البطولة على السلامة.
فإذا تعلقت القريحة بالجمال، فلا جرَم تزن الأمور بغير ميزان الحساب والصفقات، فتعرض عن النعمة وهي بين يديها، وتُقبل على الألم وهي ناظرة إليه، وتلزمها سجية العشق الآخذ بالأَعِنَّة، فتنقاد له ولا تنقاد لنصيحة ناصح أو عذل عاذل؛ لأن المشغوف بالجمال ينشده، ولا يبالي ما يلقاه في سبيله.
وقد تمثلت سجية عاشق الجمال في كل شعر نظمه شعراء الحسين وذويه تعظيمًا لهم وثناء عليهم؛ فلم يتوجهوا إليهم ممدوحين، وإنما اتجهوا إليهم صورًا مُثلى يهيمون بها كما يهيم المحب بصورة حبيبه، ويستعذبون من أجلها ما يصيبهم من ملام وإيلام.
وفي معنى كهذا المعنى يقول الكميت شاعر أهل البيت:
وقد مرَّ بنا حديث زين العابدين — رضي الله عنه — وهو غلام عليل أوشك أن يتخطفه الموت بكلمة من عبيد الله بن زياد؛ لأنه استكبر «أن تكون به جرأة على جوابه».
فهذا الغلام العليل قد عاش حتى انعقد له ملك القلوب حيث انعقد ملك الأجسام لهشام بن عبد الملك سيد ابن زياد وآله.
وذهب هشام بين جنده وحشمه يحج البيت ويترضى الناس، فلم يخلص إلى الحجر الأسود؛ لتزاحم الحجيج عليه. وإنه لجالس على كرسيه ينتظر انفضاض الناس إذا بزين العابدين يقبل إلى الحجر الأسود في وقاره وهيبته، فيتنحى له الحجيج ويحفون به وهو يستلم الحجر مطمئنًّا غير معجل، ثم يعود من حيث أتى والناس مشيعوه بالتَّجِلَّة والدعاء.
وتهول رجلًا من حاشية هشام هذه المهابة التي لم يرها لمولاه فيسأل: «من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟!»
ويخشى هشام أن يطلع جنده على مكانة رجل لم يتطاول إلى مثل مكانته بسلطانه وعتاده فيقول: «لا أعرفه.» ويقتضب الجواب.
وهذا الذي تصدى له شاعر آخر قد غامر بحياته ونواله؛ ليقول بالقصيد المحفوظ ما ثقل على لسان هشام أن يقوله في كلمتين عابرتين.
وذلك هو الفرزدق حيث قال:
•••
وتصدى عبيد الله بن كثير لأمير مكة — خالد بن عبيد الله — فلعنه، وهو قادر على قتله؛ لأنه يلعن عليًّا وحسينًا في خطبه، وأنشد:
•••
وتنقضي السنون، وتتسامع العربية بشاعر فحل لم يسلم من لسانه أحد، ولم ينزِّه أحدًا من المجزلين له أو المقترين عليه من استحقاق الهجاء، فكان ينشد الأبيات المقذعة، ويُسأل عن صاحبها فيقول: «لم يستحقها أحد بعينه بعد، ولسوف يستحقها كثيرون.»
هذا الشاعر العجيب هو دعبل الخزاعي الذي يهز أوتار النفوس بأمثال هذه الأبيات في آل البيت:
إلى أن يقول:
ووهب علي بن موسى الرضا للشاعر جائزة من دراهمه المضروبة باسمه وخلع عليه من ثيابه، فبذل له أهل «قم» ثلاثين ألف درهم ليبيعهم الخلعة فضَنَّ بها. ثم ترصدوا له في الطريق ليأخذوها منه عنوة تبركًا وذكرى؛ فسمح بالمال ولم يسمح بالخلعة، واسترضوه فلم يرض إلا أن يعطوه كمًّا من أكمامها؛ ليدفن معه في كفنه، وتقسموا الخلعة بينهم فخورين بها غير مبالين ما بذلوه في ثمنها.
وانقضت فترة لم تطُل، وتسامعت العربية بشاعر آخر أفحل من دعبل، وأقدر منه على التصرف بالهجاء والمديح.
ذلك هو العباس علي بن الرومي الذي نسي ممدوحيه من آل طاهر وبني العباس؛ ليذكر حق حفيد الحسين يحيى بن عمر الشهيد. ولو كلفه ذكره القتل والحرمان.
وفي بعض ما ساقه من النذر لأمراء زمانه مهلكة له قلما يفلت منها قائل بحياته، وذلك حيث يقول من قصيدته الجيمية:
وكل أولئك شاعر ينسى التقوى في مواطن شتى من عمله وقوله، ولا ينساها في حق الشهداء من آل الحسين وصحبه؛ لأنه يحس الجمال إحساس الشعراء ويهتز «للصورة المثلى» اهتزاز الأريحية التي يحلم بها رواد الخيال. فهم هنا بمربأة من قيود العيش، ووساوس الحاجة، وأعباء النوازع الأرضية، يستوحون سليقة القول فيما ينبغي أن يقال؛ فيجري على لسانهم كأنهم مسوقون إليه.
بل كل أولئك شاعر لا يسخو بالمدح وهو موصول بالعطاء الجزيل، ثم هو يسخو به للشهداء وآلهم على غير أمل في نوال، وعلى خوف شديد من الحرمان والوبال.
•••
وشاعر آخر لم يكن يهجو من الناس هذا أو ذاك، ولكنه كان سيئ الظن بالناس أجمعين، وكان يقول ما بدا له في الدنيا والدين، ولكنه يجامل مع المجاملين فلا يقصر عن شأوهم في السابقين أو اللاحقين.
ذلك هو أبو العلاء المعري حيث قال في الفجر والشفق:
وإن وحي الشعر من سرائر النفوس لأصدق حكمًا من لسان التاريخ إذا اختلف الحكمان.
ولكنهما قد توافيا معًا على مقال واحد، فجلوا لنا من سيرة الحسين — رضي الله عنه — صورة الجمال في عالم المثال، وكذلك يعيش ما عاش في أخلاد الناس.