هل أصاب؟
خطأ الشهداء
خروج الحسين من مكة إلى العراق حركة لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية؛ لأنها حركة من أندر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية أو الدعوة السياسية. لا تتكرر كل يوم، ولا يقوم بها كل رجل، ولا يأتي الصواب فيها — إن أصابت — من نحو واحد ينحصر القول فيه، ولا يأتي الخطأ فيها — إن أخطأت — من سبب واحد يمتنع الاختلاف عليه. وقد يكون العرف فيها بين أصوب الصواب وأخطأ الخطأ فرقًا صغيرًا من فعل المصادفة والتوفيق، فهو خليق أن يذهب إلى النقيضين.
هي حركة لا يأتي بها إلا رجال خلقوا لأمثالها فلا تخطر لغيرهم على بال؛ لأنها تعلو على حكم الواقع القريب الذي يتوخاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب والدرب المطروق.
هي حركة فَذَّةٌ يقدم عليها الرجال أفذاذ، من اللغو أن ندينهم بما يعمله رجال من غير هذا المعدن وعلى غير هذه الوتيرة؛ لأنهم يحسون ويفهمون، ويطلبون غير الذي يحسه ويفهمه ويطلبه أولئك الرجال.
هي ليست ضربة مغامر من مغامري السياسة، ولا صفقة مساوم من مساومي التجارة، ولا وسيلة متوسِّل ينزل على حكم الدنيا أو تنزل الدنيا على حكمه، ولكنها وسيلة من يدين نفسه ويدين الدنيا برأي من الآراء هو مؤمن به ومؤمن بوجوب إيمان الناس به دون غيره. فإن قبلته الدنيا قبلها وإن لم تقبله فسِيَّانِ عنده فواته بالموت أو فواته بالحياة، بل لعل فواته بالموت أشهى إليه.
هي حركة لا تقاس إذن بمقياس المغامرات ولا الصفقات، ولكنها تقاس بمقياسها الذي لا يتكرر ولا يُستعاد على الطلب من كل رجل أو في كل أوان.
ولا ننسى أن السنين الستين التي انقضت بعد حركة الحسين، قد انقضت في ظل دولة تقوم على تخطئته في كل شيء، وتصويب مقاتليه في كل شيء.
•••
إن القول بصواب الحسين معناه القول ببطلان تلك الدولة، والتماس العذر له معناه إلقاء الذنب عليها. وليس بخافٍ على أحد كيف ينسى الحياء وتبتذل القرائح أحيانًا في تنزيه السلطان القائم وتأثيم السلطان الذاهب. فليس الحكم على صواب الحسين أو على خطئه إذن بالأمر الذي يُرجع فيه إلى أولئك الصنائع المتزلِّفين الذين يرهبون سيف الدولة القائمة، ويغنمون من عطائها، ولا لصنائع مثلهم يرهبون بعد ذلك سيفًا غير ذلك السيف، ويغنمون من عطاءٍ غير ذلك العطاء.
إنما الحكم في صواب الحسين وخطئه لأمرين لا يختلفان باختلاف الزمان وأصحاب السلطان، وهما البواعث النفسية التي تدور على طبيعة الإنسان الباقية، والنتائج المقررة التي مثلت للعيان باتفاق الأقوال.
وبكل من هذين المقياسين القويين حركة الحسين في خروجه على يزيد بن معاوية، فنقول إنه قد أصاب.
أصاب إذا نظرنا إلى بواعثه النفسية التي تهيمن عليه، ولا يتخيل العقل أن تهيمن عليه بواعث غيرها.
وأصاب إذا نظرنا إلى نتائج الحركة كلها نظرة واسعة، لا يستطيع أن يجادل فيها من يأخذ الأمور بسُنَّةِ الواقع والمصلحة، أو من يأخذ الأمور بسنة النجدة والمروءة.
فما هي بواعث النفسية التي قامت بنفس الحسين يوم دعي في المدينة بعد موت معاوية لمبايعة ابنه يزيد؟
هي بواعث تدعوه كلها أن يفعل ما فعل، ولا تدعو مثله إلى صنيع غير ذلك الصنيع، وخير لبني الإنسان ألف مرة أن يكون فيهم خلق كخلق الحسين الذي أغضب يزيد بن معاوية، من أن يكون جميع بني الإنسان على ذلك الخلق الذي يرضى به يزيد.
فأول ما ينبغي أن نذكره لفهم البواعث النفسية التي خامرت نفس الحسين في تلك المحنة الأليمة، أن بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرة ولا بالبيعة التي يُضمن لها الدوام في تقديرٍ صحيح.
فهي بيعة نشأت في مهد الدس والتمليق، ولم يجسر معاوية عليها حتى شجعه عليها من له مصلحة ملحة في ذلك التشجيع.
•••
كان المغيرة بن شعبة واليًا لمعاوية على الكوفة، ثم هَمَّ بعزله وإسناد ولايته إلى سعيد بن العاص جريًا على عادته في إضعاف الولاة قبل تمكُّنِهِم، وضرب فريق منهم بفريق حتى يعينه بعضهم على بعض ولا يتفقوا عليه. فلما أحس المغيرة نية معاوية، قدم الشام ودخل على يزيد وقال له كالمستفهم المتعجِّب: لا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟!
ولم يكن يزيد نفسه يصدق أنه أهل لها، أو أن بيعته ممَّا يتم بين المسلمين على هينة. فقال للمغيرة: أوترى ذلك يتم؟
فأراه المغيرة أنه ليس بالعسير، إذا أراده أبوه.
وأخبر يزيد أباه بما قال المغيرة، فعلم هذا أن فرصته سانحة، وأنه سيبادل معاوية رشوة آجلة برشوة عاجلة. يرشوه بإعانته على بيعة يزيد، ويأخذ منه الرشوة ببقائه على ولاية الكوفة إلى أن يقضي في أمر هذه البيعة، وله في التمهيد لها نصيب.
فلما لقي معاوية سأله هذا عمَّا أخبره به يزيد، فأعاده عليه وهو يزخرفه له بما يرضيه. قال: قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف فاعقد له، فإن حدث بك حادث كان كهفًا للناس وخلفًا منك، ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة.
فسأله معاوية وهو يتهيب ويتأنى: ومن لي بذلك؟
قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.
فرده معاوية إلى عمله كما كان يتمنى، وأوصاه ومن معه ألا يتعجلوا بإظهار هذه النية. ثم استشار زياد بن أبي سفيان، فأطلع هذا بعض خاصته على الأمر وهو يقول: إن أمير المؤمنين، يتخوف نفرة الناس ويرجو طاعتهم. ويزيد صاحب رسلة وتهاوُن مع ما قد أولع به من الصيد. فالقَ أمير المؤمنين وأدِّ إليه فعلات يزيد وقل له رويدك بالأمر، فأحرى أن يتم لك ولا تعجل فإن دركًا في تأخيرِ خير من فوت في عجلة.
فأشار عليه صاحبه «ألا يفسد على معاوية رأيه ولا يبغضه في ابنه»، وعرض عليه أن يلقى يزيد فيخبره أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في البيعة له، وأنك تتخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه؛ لتستحكم له الحجة على الناس.
•••
وقالوا: إن يزيد كفَّ عن كثير ممَّا كان يصنع بعد هذه النصيحة، وإن معاوية أخذ برأي زياد في التؤدة فلم يجهر بعقد البيعة حتى مات زياد.
وقد أحس معاوية الامتعاض من بيته قبل أن يحسه من الغرباء عنه. فكانت امرأته «فاختة» بنت قرطة بن حبيب بن عبد شمس تكره بيعة يزيد، وتود لو أثر بالبيعة ابنها عبد الله، فقالت له: ما أشار به عليك المغيرة؟ أراد أن يجعل لك عدوًّا من نفسك يتمنى هلاكك كل يوم.
واشتدت نقمة مروان بن الحكم — وهو أقرب الأقرباء إلى معاوية — حين بلغته دعوة العهد ليزيد فأبى أن يأخذ العهد له من أهل المدينة، وكتب إلى معاوية: «إن قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك.» فعزله معاوية من ولاية المدينة وولاها سعيد بن العاص. فأوشك مروان أن يثور، ويعلن الخروج، وذهب إلى أخواله من بني كنانة فنصروه وقالوا له: نحن نَبْلُكَ في يدك وسيفُك في قرابك. فمن رميته بنا أصبناه، ومن ضربته قطعناه … الرأي رأيك، ونحن طوع يمينك.
ثم أقبل مروان في وفد منهم كثير إلى دمشق، فذهب إلى قصر معاوية وقد أذن للناس، فمنعه الحاجب؛ لكثرة من رأى معه فضربوه واقتحموا الباب. ودخل مروان وهم معه حتى سلم على معاوية وأغلظ له القول. فخاف معاوية هذا الجمع من وجوه قومه، وترضَّى مروان ما استطاع، وجعل له ألف دينار كل شهر ومائة لمن كان معه من أهل بيته.
•••
ولم يكن مروان وحده بالغاضب بين بني أمية من بيعة يزيد، بل كان سعيد بن عثمان بن عفان يرى أنه أحق منه بالخلافة؛ لأنه ابن عثمان الذي تذرع معاوية إلى الخلافة باسمه. فقال لمعاوية: يا أمير المؤمنين، علام تبايع ليزيد وتتركني! فوالله لتعلم أن أبي خير من أبيه وأمي خير من أمه، وأنك إنما نلتَ ما نلتَ بأبي.
فسرَّى معاوية عنه، وقال له ضاحكًا هاشًّا: يابن أخي، أما قولك إن أباك خير من أبيه، فيوم من عثمان خير من معاوية، وأما قولك إن أمك خير من أمِّه، ففضل قرشية على كلبية فضل بيِّن، وأما أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك فإنما المُلك يؤتيه الله من يشاء. قتل أبوك رحمه الله فتواكلته بنو العاص وقامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منَّة عليك، وأما أن تكون خيرًا من يزيد فوالله ما أحب أن داري مملوءة رجالًا مثلك بيزيد، ولكن دعني من هذا القول وسلني أُعطك. وولاه خراسان.
فكان أكبر بني أمية أعظمهم أملًا في الخلافة بعد معاوية، وكان بغضهم لبيعة يزيد على قدر أملهم فيها، وهؤلاء — وإن جمعتهم مصلحة الأسرة فترة من الزمن — لم تكن منافستهم هذه ليزيد بالعلامة التي تؤذِن بالبقاء وتبشره بالضمان والقرار.
وعلى هذا النحو ولدت بيعة يزيد بين التوجُّس والمساومة والإكراه.
وبهذه الجفوة قوبلت بين أخلص الأعوان وأقرب القرباء.
وظهر من اللحظات الأولى، أن المغيرة بن شعبة كان سمسارًا يصافِق على ما لا يملك؛ فقد ضمن الكوفة والبصرة ومنع الخلاف في غيرهما، فإذا الكوفة أوَّل من كره بيعة يزيد، وإذا البصرة تتلكأ في الجواب وواليها يُرْجِئُ الأمر، ويوصي بالتمهل فيه، فلا يقدم عليه معاوية في حياته، وإذا أطراف الدولة من ناحية همذان تثور، وإذا بالحجاز يستعصي على بني أمية سنوات، وإذا باليمن ليس فيها نصير للأمويين، ولو وجدت خارجًا يعلن الثورة عليهم لكانت ثورتها كثورة الحجاز.
بل يجوز أن يقال — مما ظهر في حركة الحسين كل الظهور — إن الشام نفسها لم تنطوِ على رجل يؤمن بحق يزيد وبطلان دعوى الحسين. فقد كانوا يتحرجون من حرب الحسين، ويتسلل من استطاع منهم التسلُّل قبل لقائه، إلا أن يُهدَّد بقطع الأرزاق وقطع الرقاب.
والحوادث التي تلت حركة الحسين إلى ختام عهد يزيد أَدَلَّ مما تقدم على اضطراب عهده وقلة ضمانه؛ لأن الأحداث والنذر لم تزل تتوالى بقية حياته وبعد موته بسنين.
ونحن اليوم نعلم من التاريخ كيف انتهت هذه الحوادث والنذر في عهد يزيد أو بعد عهده، فيخيَّل إلينا أن عواقبها لم تكن تحتمل الشك ولم يكن بها من خفاء، ولكن الذين استقبلوها كانوا خلقاء ألا يروا فيها طوالع ملك تعنو له الرءوس ويرجى له طول البقاء.
بواعث الخروج
نعم، كانت هناك ندحة عن الخروج لو كان يزيد في الخلافة رضى المسلمين من العقل والخلق وسلامة التدبير وعزة الموئل والدولة، وكان المسلمون قد توافَوْا على اختياره لحبهم إياه، وتعظيمهم لعقله وخلقه، واطمئنانهم إلى سياسته، واعتمادهم على صلاحه وإصلاحه.
ولكنه على نقيض ذلك، كان كما علمنا رجلًا هازلًا في أحوج الدول إلى الجد، لا يُرجى له صلاح ولا يرجى منه إصلاح. وكان اختياره لولاية العهد مساومة مكشوفة، قبض كل مساهم فيها ثمن رضاه ومعونته جهرة وعلانية من المال أو الولاية أو المصانعة، ولو قبضوا مثل هذا الثمن ليبايعوا وليًّا للعهد شرًّا من يزيد لما همَّهم أن يبايعوه وإن تعطلت حدود الدِّين وتقَّوضت معالم الأخلاق.
وأعجب شيء أن يطلب إلى الحسين بن علي أن يبايع مثل هذا الرجل ويزكيه أمام المسلمين، ويشهد له عندهم أنه نعم الخليفة المأمول، صاحب الحق في الخلافة وصاحب القدرة عليه. ولا مناص للحسين من خصلتين: هذه، أو الخروج! لأنهم لن يتركوه بمعزل عن الأمر لا له ولا عليه.
•••
إن بعض المؤرخين من المستشرقين وضعاف الفهم من الشرقيين ينسَوْن هذه الحقيقة ولا يولونها نصيبها من الرجحان في كف الميزان.
وكان خليقًا بهؤلاء أن يذكروا أن مسألة العقيدة الدينية في نفس الحسين لم تكن مسألة مزاج أو مساومة، وأنه كان رجلًا يؤمن أقوى الإيمان بأحكام الإسلام، ويعتقد أشد الاعتقاد أن تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به وبأهله وبالأمة العربية قاطبة في حاضرها ومصيرها؛ لأنه مسلم ولأنه سبط محمد، فمن كان إسلامه هداية نفس فالإسلام عند الحسين هداية نفس وشرف بيت.
وقد لبث بنو أمية بعد مصرعه ستين سنة يسبُّونه ويسبون أباه على المنابر، ولم يجسر أحد منهم قط على المساس بورعه وتقواه ورعايته لأحكام الدين في أصغر صغيرة يباشرها المرء سرًّا أو علانية، وحاولوا أن يعيبوه بشيء غير خروجه على دولتهم فقصرت ألسنتهم وألسنة الصنائع والأُجَرَاء دون ذلك. فكيف يواجه مثل هذا الرجل خطرًا على الدين في رأس الدولة وعرش الخلافة مواجهة الهوادة والمشايعة والتأمين؟ وكيف يُسام أن يرشح للإمامة من لا شفاعة له ولا كفاية فيه إلا أنه ابن أبيه؟
لقد كان أبوه معاوية على كفاءة ووقار وحنكة ودراية بشئون الملك والرئاسة، وكان له مع هذا نصحاء ومشيرون أولو براعة وأحلام تكبح من السلطان ما جمح وتقيم ما انحرف وتملي له فيما عجز عنه، وهذا ابنه القائم في مقامه لا كفاءة ولا وقار ولا نصحاء ولا مشيرون، إلا من كان عونًا على شرٍّ أو موافقًا على ضلالة. فما عسى أن تكون الشهادة له بالصلاح للإمامة إلا تغريرًا بالناس وقناعة بالسلامة أو الأجر المبذول على هذا التغرير؟
ثم هي خطوة لا رجعة بعدها إذا أقدم عليها الحسين بما أُثِرَ عنه من الوفاء وصدق السريرة. فإذا بايع يزيد فقد وفى له بقية حياته كما وفى لمعاوية بما عاهده عليه، ولا سيما حين يبايع يزيد على علم بكل نقيصة فيه قد يتعلل بها المتعلِّل لنقض البيعة وانتحال أسباب الخروج.
فمُلك يزيد لم يقُم على شيء واحد يرضاه الحسين لدينه أو لشرفه أو للأمة الإسلامية، ومن طلب منه أن ينصر هذا المُلك فإنما يطلب منه أن ينصر مُلكًا ينكر كل دعواه، ولا يحمد له حالة من الأحوال، ولا تنسَ بعد هذا كله أن هذا الملك كان يقرر دعائمه في أذهان الناس بالغض من الحسين في سمعة أبيه وكرامة شيعته ومريديه. فكانوا يسبون عليًّا على المنابر وينعتونه بالكذب والمروق والعصيان، وكانوا يتحرون أنصاره حيث كانوا فيقهرونهم على سبه والنيل منه بمشهد من الناس، وإلا أصابهم العنت والعذاب، وشهروا في الأسواق بالصلب والهوان. فمجاراة هذه الأمور كلها في مفتتح مُلك جديد معناه أنها سُنَّةٌ قد وجبت واستقرت الجيل بعد الجيل بغير أمل في التغيير والتبديل. فمن أَقَرَّ هذه السنة في مفتتح هذا المُلك الجديد فقد ضعف أمله، وضعف أمل أنصاره فيه يومًا بعد يوم، وازداد مع الزمن ضعفًا كما ازدادت حجة خصومه قوة عليه.
هذه هي البواعث النفسية التي كانت تجيش في صدر الحسين يوم دعاه أولياء بن أمية إلى مبايعة يزيد والنزول عن كل حق له ولأبنائه ولأسرته في إمامة المسلمين، كائنًا من كان القائم بالأمر وبالغًا ما بلغ من قلة الصلاح وبطلان الحجة. وهي بواعث لا تثنيه عن الخروج، ولا تزال تُلِحُّ عليه في اتخاذ طريق واحد من طريقين لا معدل عنهما، وهما الخروج إن كان لابد خارجًا في وقت من الأوقات، أو التسليم بما ليست ترضاه له مروءة ولا يرضاه له إيمان.
مصرع وانتصار
أما نتائج الحركة كلها — إذا نظرنا إليها نظرة واسعة — فهي أنجح للقضية التي كان ينصرها من مبايعة يزيد.
فقد صرع الحسين عام خروجه، ولحق به يزيد بعد ذلك بأقل من أربع سنوات.
ولم تنقضِ ست سنوات على مصرع الحسين حتى حاق الجزاء بكل رجل أصابه في كربلاء، فلم يكد يسلم منهم أحد من القتل والتنكيل مع سوء السمعة ووسواس الضمير.
ولم تعمر دولة بني أمية بعدها عمر رجل واحد مديد الأجل، فلم يتم لها بعد مصرع الحسين نَيِّفٌ وستون سنة! وكان مصرع الحسين هو الداء القاتل الذي سكن في جثمانها حتى قضى عليها، وأصبحت ثارات الحسين نداء كل دولة تفتح لها طريقًا إلى الأسماع والقلوب.
ولإصابة هذه الحركة في نتائجها الواسعة دخل في رُوع بعض المؤرخين أنها تدبيرٌ من الحسين رضي الله عنه، توخَّاه منذ اللحظة الأولى وعلم موعد النصر فيه؛ فلم يخامره الشك في مقتله ذلك العام، ولا في عاقبة هذه الفعلة التي ستحيق لا محالة بقاتليه بعد أعوام.
فقال ماريين الألماني في كتابه (السياسة الإسلامية): «إن حركة الحسين في خروجه على يزيد إنما كانت عزمة قلب كبير عَزَّ عليه الإذعان وعز عليه النصر العاجل، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.»
فإن لم يكن رأي الكاتب حقًّا كله، فبعضه على الأقل حق لا شك فيه، ويصدق ذلك — في رأينا — على حركة الحسين بعد أن حِيل بينه وبين الذهاب لوجهه الذي يرتضيه، فآثر الموت كيفما كان ولم يجهل ما يحيق ببني أمية من جراء قتله … فهو بالغ منهم بانتصارهم عليه ما لم يكن ليبلغه بالنجاة من وقعة كربلاء.
•••
وقد جرى ذكر الموت على لسان الحسين من خطوته الأولى، وهو يتهيأ للرحيل، ويودِّع أصحابه في الحجاز. فقال لهم: «إن الموت حق على ولد آدم.» ولم يخْفَ عليه أنه يركب الخطة التي لا يبالي راكبها ما يصيبه من ذلك القضاء.
لكنه لم يكن ييأس من إقناع الناس والتفافهم به منذ خطوته الأولى. ولم يعقد عزمه على ملاقاة الموت حتى ساموه الرغم، وأَبَوْا عليه أن ينصرف إلى أي منصرف قبل التسليم المبين — مسوقًا على الكره منه — إلى عبيد الله بن زياد.
وتتباين آراء المتأخرين خاصة في خروج الحسين بنسائه وأبنائه، أكان هو الأحزم والأكرم أم كان الأحزم والأكرم أن يخرج بمفرده حتى يرى ما يكون من استجابة الناس له أو إعراضهم عنه وضعفهم في تأييده.
وليس للمتأخرين أن يقضوا في مسألة كهذه بعقولهم وعاداتهم؛ لأنها مسألة يُقضى فيها بحكم العقل العربي وعاداته في أشباه هذه المواقف. وقد كان اصطحاب النساء والأبناء عادة عربية في البعوث التي يتصدَّى لها المرء متعمدًا القتال دون غيره فضلًا عن البعوث التي قد تشتبك في القتال، وقد تنتهي بسلام كبعثة الحسين.
فكان المقاتلون في وقعة ذي قار يصطحبون حلائلهم وذراريهم، ويقطعون وضن الرواحل — أي أحزمتها — قبل خوض المعركة، وكان المسلمون والمشركون معًا يصطحبون الحلائل والذراري في غزوات النبي ﷺ، وكان مع المسلمين في حرب الروم صفوة نساء قريش وعقائل بيوتاتها، وكان النبي ﷺ يصطحب زوجة أو أكثر من زوجة في غزواته وحروبه، وحكم الواحدة هنا حكم الكثيرات، وهي عادة عربية عريقة يقصدون بها الإشهاد على غاية العزم وصدق النية فيما هم مقبلون عليه، وفي معلقة ابن كلثوم إشارة مجملة إلى معنى هذه العادة العربية من قديم عصورها حيث يقول:
وقد كان الحسين — رضي الله عنه — يندب الناس لجهاد يخوضونه إن قضي عليهم أن يخوضوه فلا يبالون ما يصيبهم في أنفسهم وفي أبنائهم وأموالهم؛ لأنهم يطلبون به ما هو أعز على المؤمن من النفس والولد والمال، فليس من المروءة أن يندبهم لأمر ولا يكون قدوة لهم فيه.
وكان على الحسين — وقد أزمع الخروج — أن يجمع له أقوى حجة في يديه، ويجمع على خصومه أقوى حجة تنقلب عليهم، إذا غلبوه وأخفق في مسعاته، فيكون أقوى ما يكون وهو منتصر، ويكونون أبغض ما يكونون وهو مخذول.
والمسلم الذي ينصر الحسين لنسبه الشريف أولى أن ينصره غاية نصره وهو بين أهله وعشيرته، وإلا فما هو بناصره على الإطلاق، وتنقلب الآية في حالة الخذلان، فينال المنتصر من البغضاء والنقمة على قدر انتصاره الذي يوشك أن ينقلب عليه.
صواب الشهداء
وجملة ما يقال أن خروج الحسين من الحجاز إلى العراق كان حركة قوية لها بواعثها النفسية التي تنهض بمثله، ولا يسهل عليه أن يكبتها أو يحيد بها عن مجراها.
وإنها قد وصلت إلى نتائجها الفعَّالة من حيث هي قضية عامة تتجاوز الأفراد إلى الأعقاب والأجيال، سواء أكانت هذه القضية نصرة لآل الحسين أم حربًا لبني أمية.
إنما يبدو الخطأ في هذه الحركة حين ننظر إليها من زاوية واحدة ضيقة المجال قريبة المرمى، وهي زاوية العمل الفردي الذي يُراضُ بأساليب المعيشة اليومية، ويدور على النفع العاجل للقائمين به والداعين إليه.
فحركة الحسين لم تكن مسددة الأسباب لمنفعة الحسين بكل ثمنٍ وحيثما كانت الوسيلة.
وعلة ذلك ظاهرة قريبة، وهي أن الحسين — رضي الله عنه — طلب الخلافة بشروطها التي يرضاها، ولم يطلبها غنيمة يحرص عليها مهما تكلفه من ثمن، ومهما تتطلب من وسيلة.
وهنا غلطة الشهداء.
بل قل: هنا صواب الشهداء.
ومن هو الشهيد إن لم يكن هو الرجل الذي يُصاب، ويعلم أنه يصاب؛ لأن الواقع يخذله، ولا يجري معه إلى مرماه؟
ومن هو الشهيد إن لم يكن هو الرجل الذي «يكلف الأيام ضد طباعها» ويصدق الخير في طبيعة الإنسان، والخير عزيز والدنيا به شحيحة؟
منذ القدم، أخطأ الشهداء هذا الخطأ، ولو أصابوا فيه؛ لما كانوا شهداء، ولا شرفت الدنيا بفضيلة الشهادة.
فالحسين — رضي الله عنه — قد طلب خلافة الراشدين حيث لا تتسنى خلافة الراشدين، أو حيث تتسنى الدولة الدنيوية التي يضن بها أصحابها، ويتكالبون عليها، ويتوسلون إليها بوسائلها.
فكانت عنايته بالدعوة والإقناع أعظم جدًّا من عنايته بالتنظيم والإلزام.
نزل رسوله الأول مسلم بن عقيل بالكوفة صفر اليدين من المال حتى احتاج فيها أن يقترض سبعمائة درهم هي التي أوصى بردها إلى أصحابها قبل قتله.
وتلك عقبة من العقبات التي تعوق الدعوات الكبار، ولكنها على هذا لم تكن بالعقبة العصية التذليل.
فلو أنه قد طلب المال من وسائله الدنيوية أو السياسة، لما استعصى عليه أن يأخذ منه ما يكفيه. فلعله كان ميسورًا له بعد أن تجمع حوله الأنصار، وبايع الحسين على يديه ثلاثون ألفًا كما جاء في بعض الروايات. ففي تلك اللحظة لعله كان يستطيع أن يحيط بقصر الوالي الأموي، ويستولي عليه، وينشئ الحكومة الحسينية فيه. ثم لعله كان يستطيع بعد ذلك أن يوجه الدعاة إلى أطراف الدولة الشرقية ليلتقى البيعة، ويقيم الولاة، ويحشد الأجناد.
فإذا كان هذا فاته حتى خف الأمويون لدرء الخطر عنهم وبعثوا إلى الكوفة بعبيد الله بن زياد، فقد سيق عبيد الله هذا في يوم من الأيام إلى يديه، وكان في وسعه أن يبطش به، ويستوي على كرسيه، ويحرم يزيد بن معاوية نصيرًا من أعنف أنصاره.
وقد فاته هذا؛ لأن شريعة الخلافة لا تبيحه في رأيه، أو لأنه اعتقد أن الحق بيِّن وأن الباطل بيِّن؛ فلا حاجة به بعد التمييز بينهما إلى فتكة الغدر كما سماها، ولا محل عنده لإهدار الدماء، وهو ينعي على الدولة القائمة أنها تهدر الدماء بالشبهات.
ولقد رأى مسلم أن حق صاحبه في الخلافة قائم على شيء واحد، وهو إقبال الناس إليه طائعين، ومبايعتهم إياه مختارين. فأما وقد تفرقوا عنه رهبة من السلطان أو ضعفًا في اليقين، فالرأي عنده أن يكتب إلى صاحبه يعلمه بانفضاض الناس عنه، ويثنيه عن القدوم، ولا حق له عليهم بعد ذلك حتى يثوبوا إليه.
وقيام الخلافة على هذا الاختيار عقيدة لا نفهمها نحن الآن، ولكن قد يفهمها يومئذٍ من كان على مقربة من عهد النبوة وعهد الصديق والفاروق.
فقد كان الصراع بين الحسين ويزيد أول تجربة من قبيلها بعد عهد النبوة وعهد الخلفاء الأولين.
لم يكن الصراع بين عليٍّ ومعاوية على هذا الوضوح الذي لا شبهة فيه بين الحق والباطل وبين الفضيلة والنقيصة.
لكنه في بيعة الحسين كان قد وضح وضوح الصبح لذي عينين.
وكان ذلك كما قلنا أول تجربة من قبيلها بعد عهد الفداء في سبيل العقيدة والإيمان، بعد العهد الذي كان الرجل فيه يخرج من ماله، وينفصل من ذويه، ويتجرد لحرب أبيه أخيه وبنيه إن خالفوه في أمر الإسلام، بعد العهد الذي كان القليل فيه من المسلمين يصدون الكثير من المشركين وفي أيديهم السلاح والعتاد ومن ورائهم المعاقل والأزواد، بعد العهد الذي تغير فيه الناس، وخيل إلى من كان يعهدهم على غير تلك الحال أنهم متغيرون.
الناس عبيد الدنيا
فكيف ينخذل الحسين وينتصر يزيد في عالم شهد النبوة وشهد الخلافة على سنة الراشدين؟ إن كلمة واحدة قالها الحسين في ساعة يأسه تشف عن مبلغ يقينه بوجوب الحق، وعجبه من أن يكون الأمر غير ما وجب، وذلك حيث قال: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت به معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.»
إن الطبائع الأرضية لا تنخدع في صلاح الناس، ولا تعجب هذا العجب؛ لأنها لا تخرج من نطاقها المحدود، ولا تصدق ما وراءه من الآمال والوعود.
إنها لا تضل عن طريق المنفعة؛ لأنها لا تعرف غيرها من طريق، إنها تؤثر القنديل الخافت في يدها على الكوكب اللامع في السماء، لا لأنها لا ترى الكوكب اللامع في السماء؛ بل لأنها ترى القنديل والكوكب فتعلم أن هذا قريب وأن ذاك جد بعيد.
إنها لا تنخدع بالسراب؛ لأنها لا تخرج من عقر دارها، ولا تشعر بظمأ الفؤاد، ولا تنظر إلى السراب.
ولكن طبيعة الشهداء غير طبيعة المساومة على البيع والشراء.
طبيعة المساومة موكلة بالحرص على الهنات.
وطبيعة الشهادة موكلة ببذل الحياة لما هو أدوم من الحياة.
وشتان طبيعة وطبيعة، وشتان خطأ الشهداء وخطأ المساومين.
وليست موازين المساومة بالموازين الفذة التي يصلح عليها أمر بني الإنسان، فإن بني الإنسان ما بهم عن غنى قط عن الذين يخطئون؛ لأنهم أرفع من المصيبين، وأنهم لهم الشهداء.
وإنهم لعلى صواب في المدى البعيد، وإن كانوا على خطأ في المدى القريب، مدى الأجواف والمعدات والجلود لا مدى الأرواح والأخلاد.
من هؤلاء كان الحسين — رضي الله عنه — بل هو أبو الشهداء، وينبوع شهادة متعاقبة لا يقرن بها ينبوع في تاريخ البشر أجمعين.
فلا جرم يصيب في المدى البعيد، ويخطئ في المدى القريب، مدى المنفعة التي تناله هو في معيشة يومه، وهو المدى الذي لا يأسف عليها ولا ينص الركاب إليه.