نهاية المطاف
مَن الظافر؟
غبن أن يفوت الإنسان جزاؤه الحق على عمله وخلقه.
وأثقل منه في الغبن أن ينقلب الأمر فيجزى المحسن بالإساءة، ويجزى المسيء بالإحسان.
وقد تواضع الناس منذ كانوا على معنى للتاريخ والأخلاق، ووجهة للشريعة والدين.
والجزاء الحق هو الوجهة الواحدة التي تلتقي فيها كل هذه المقاصد الرفيعة، فإذا بطل الجزاء الحق ففي بطلانه الإخلال كل الإخلال بمعنى التاريخ والأخلاق، ولباب الشرائع والأديان. وفيه حكم على الحياة بالعبث وعلى العقل الإنساني بالتشويه والخسار.
والجزاء الحق غرض مقصود لذاته يحرص عليه العقل الإنساني كرامة لنفسه ويقينًا من صحته وحسن أدائه، كالنظر الصحيح نحسبه هو غرضًا للبصر يرتاح إلى تحقيقه ويحزن لفواته وإن لم يكن وراء ذلك ثواب أو عقاب؛ لأن النظر الصحيح سلامة محبوبة والإخلال به داء كريه.
ولا يستهدف هذا القسطاس المستقيم لمحنة من محنه التي تزري بكرامة العقل الإنساني، كاستهدافه لها وهو في مصطدم التضحية والمنافع، أو في الصراع بين الشهداء وأصحاب الطمع والحيلة.
ففي هذا المصطدم يبدو للنظرة الأولى أن الرجل قد أضاع كل شيء وانهزم، وهو في الحقيقة غانم ظافر.
ويبدو لنا أنه قد ربح كل شيء وانتصر، وهو في الحقيقة خاسر مهزوم.
ومن هنا يدخل التاريخ ألزم مداخله وأبينها عن قيمة البحث فيه؛ لأنه المدخل الذي يفضي إلى الجزاء الحق والنتيجة الحقة، وينتهي بكل عامل أفلح أو أخفق في ظاهر الأمر إلى نهاية مطافه وغاية مسعاه في الأمد الطويل.
وقد ظفر التاريخ في الصراع بين الحسين بن عليٍّ ويزيد بن معاوية بميزان من أصدق الموازين التي تتاح لتمحيص الجزاء الحق في أعمال الشهداء وأصحاب الطمع والحيلة، فقلما تتاح في أخبار الأمم شرقًا وغربًا عبرة كهذه العبرة بوضوح معالمها وأشواطها، وفي تقابل النصر والهزيمة فيها بين الطوالع والخواتم على اختلاف معارض النصر والهزيمة.
فيزيد في يوم كربلاء هو صاحب المؤزَّر الذي لا يشوبه خذلان.
وحسين في ذلك اليوم هو المخذول الذي لم يطمح خاذله من وراء الظفر به إلى مزيد.
ثم تنقلب الآية أَيَّما انقلاب.
ويقوم الميزان، فلا يختلف عارفان بين كفة الرجحان وكفة الخسران.
وهذا الذي قصدنا إلى تبيينه وجلائه بتسطير هذه الفصول.
•••
وما من عبرة أولى من هذه بالتبيين والجلاء لدارس التاريخ ودارس الحياة وطالب المعنى البعيد في أطوار هذا الوجود.
ولسنا نقول إن الصراع بين الحسين ويزيد مَثَلٌ جامع لكل أوان الصراع بين الشهادة والمنفعة، أو بين الإيمان والمآرب الأرضية؛ فإن لهذا الصراع لألوانًا تتعدد ولا تتكرر على هذا المثال، وإن له لعناصر لم تجتمع كلها في طرفي الخصومة بين الرجلين، وأشواطًا لم تتخذ الطريق الذي اتخذته هذه الخصومة في البداية أو النهاية.
ولكننا نكتفي بحقيقةٍ واحدةٍ توجب الاعتبار بهذه الخصومة وحدها وتفردها بارزة ماثلة للتأمل والتعقيب، وهي أن مسألة الحسين ويزيد قد كانت صراعًا بين خُلُقَيْنِ خالدين، وقد كانت جولة من جولات هذين الخلقين اللذين تجاولا أحقابًا غابرات ولا يزالان يتجاولان فيما يلي من الأحقاب، وقد أسفرا عن نتيجة فاصلة ينفرد لها مكان معروف بين سائر الجولات، وليست جولة أخرى منهن بأحق منها بالتعليق والتصديق.
ووجهتنا من هذه العبرة أن يعطى كل خُلق من أخلاق العاملين حقه بمعيار لا غبن فيه.
فإذا سعى أحد بالحيلة فخدع الناس وبلغ مأربه فليكن ذلك مغنمه وكفى، ولا ينفعه ذلك في استلاب السمعة المحبوبة والعطف الخالص والثناء الرفيع.
وإذا خسر أحد حياته في سبيل إيمانه فلتكن تلك خسارته وكفى، ولا ينكب فوق ذلك بخسارة في السمعة والعطف والثناء.
فلو جاز هذا لكان العطف الإنساني أزيف ما عرفناه في هذا الدنيا من الزيوف؛ لأن خديعة واحدة تشتريه وتستبقيه، وما من زيف في العروض الأخرى إلا وهو ينطلي يومًا وينكشف بقية الأيام.
•••
وإذا كان احتيال الإنسان لنفسه معطيه كل ما تهبه الدنيا من غنم النفع والمحبة والثناء، فقد ربح المحتالون وخسر نوع الإنسان.
وإذا كانت خسارة المرء في سبيل إيمانه تجمع عليه كل خسارة، فالأحمق الفاشل من يطلب الخير للناس ويغفل عن نفسه في طِلابه.
فكفى الواصلَ ما وصل إليه.
وكثير عليه أن يطمع عند الخلف والسلف فيما ادخرته الإنسانية من الثناء والعطف لمن يكرمونها بفضيلة الشهادة والتضحية، ويخسرون.
وهذا الفيصل العادل أعدل ما يكون فيما بين الحسين ويزيد.
فإذا قيل إن معاوية قد عمل وقد أفلح بالحيلة والدهاء، فيزيد لم يعمل ولم يفلح بحيلة ولا دهاء، ولكنه ورث المنافع التي يشتري بها الأيدي والسيوف، فجال بها جولة رابحة في كفاح الضمائر والقلوب.
فينبغي ألا يربح بهذه الوسيلة، فأمَّا وقد ربح؛ فينبغي أن يقف به الربح عند ذاك، وينبغي للعذر الكاذب والثناء المأجور ألا يُحسبا على الناس بحساب العذر الصادق والثناء الجميل.
وقد تزلف إلى يزيد من يتزلفون إلى أصحاب المال والسلطان، ثم أخذوا أجورهم، فينبغي أن يقوم ذلك الثناء بقيمة تلك الأجور، وأن يكون ما قبضوه من أجر غاية ما استحقوه، إن كانوا مستحقيه.
أما أن يضاف ثناء الخلود إلى صفقة أولئك المأجورين، فقد أصبح ثناء الخلود إذن صفقة بغير ثمن، أو هو علاوة مضمونة على صفقة كل مأجور.
إن صاحب الثناء المبذول لا يسأل عن شيء غير العطاء المبذول، ولكن التاريخ خليق أن يسأل عن أعمال وأقوال قبل أن يبذل ما لديه من ثناء.
وليس في تاريخ يزيد عمل واحد صحيح أو مُدَّعًى، ولا كلمة واحدة صحيحة أو مُدَّعَاة، تقيمه بحيث أراده المأجورون من العذر الممهد والمدح المعقول، أو تخوله مكان الترجيح في الموازنة بينه وبين الحسين.
كل أخطائه ثابته عليه ومنها — بل كلها — خطؤه في حق نفسه ودولته ورعاياه، وليس له فضل واحد ثابت، ولا كلمة واحدة مأثورة تنقض ما وصفه به ناقدوه وعائبوه.
فقد كانت له نُدْحة عن قتل الحسين، وكان يخدم نفسه ودولته لو أنه استبقاه حيث يتقيه ويرعاه.
وكانت له نُدْحة عن ضرب الكعبة، واستباحة المدينة، وتسليط أمثال مسلم بن عقبة وعبيد الله بن زياد على خلائق الله.
وكانت له نُدْحَة عن السمعة التي لصقت به ولم تلصق به افتراءً ولا ادعاءً كما يزعم صنائعه ومأجوروه؛ لأن واصفيه بتلك السمعة لم يلصقوا مثلها بأبيه.
ومن كان حقه في النعمة التي نعِم بها مغتصبًا ينتزعه عنوة، لا يكن حقه في الفضل والكرامة جزافًا لا حسيب عليه.
•••
وتسديد العطف الإنساني هنا فرض من أقدس الفروض على الناظرين في سير الغابرين؛ لأن العطف الإنساني هو كله ما يملك التاريخ من جزاء، وهو الثورة الوحيدة التي يحتفظ بها الخلود.
وإننا لندع الخطأ في سياسة النفعيين، وننظر إليهم كأنهم مصيبون في السياسة بُصَراء بمواقع التدبير.
فعلى هذه الصفة — لو تمَّت لهم — لا يحق لخادم زمانه أن ينازع الشهداء في ذخيرة العطف الخالد، وهم خدام العقائد التي تتخطى حياة الأجيال كما تتخطى حياة الأفراد.
فإن حرمان الشهداء حقهم في عطف الأسلاف والأخلاف خطأ في الشعور، وخطأ كذلك في التفكير.
والناس خاسرون إذا بطل عطفهم على الشهداء، وليس قصارى أمرهم أنهم قساة أو جاحدون؛ لأن الشهادة فضيلة تروح وتأتي وتكثر حينًا وتندر في غير ذلك من الأحيان. أما حب المنفعة فإن سميته فضيلة من الفضائل التي لن تفارق الأحياء أجمعين، من ناطقة وعجماء.
•••
على أن الطبائع الآدمية قد أُشْرِبَتْ حب الشهداء والعطف عليهم وتقديس ذكرهم بغير تلقين ولا نصيحة، وإنما تنحرف عن سواء هذه السُّنَّةِ لعوارض طارئة أو باقية تمنعها أن تستقيم معها. وأكثر ما تأتي هذه العوارض من تضليل المنفعة والهوى القريب، أو من نكسة في الطبع تغريه بالضغن على كل خلق سَوِيٍّ وسجية سمحة محببة إلى الناس عامة، أو من الإفراط في حب الدعة حتى يجفل المرء من الشهادة استهوالًا لتكاليفها واستعظامًا للقدوة بها، فيتهم الشهداء بالهوج، ويتعقب أعمالهم بالنقد؛ لكيلا يتهم نفسه بالجبن والضعة، ويستحق المَذَمَّةَ واللوم في رأي ضميره. وإن لم يتهمهم بالهوج ولم يتعقبهم بالنقد، وَقَفَ من فضائلهم موقف ازورار وفتور، وجنح إلى معذرة الآخرين والتفاهم بينه وبين من لا يستشهدون، ثم يعارضون الشهداء فيما يطمحون إليه.
ومعظم المؤرخين الذين يعارضون الشهداء ودعاتهم لغير منفعة أو نكسة هم من أصحاب الدعة المفرطة وأنصار السلامة الناجية، ويغلب على هذه الخلة أن تسلبهم مَلَكَة التأريخ الصحيح؛ لأنها تعرضهم للخطأ في الحكم والتفكير، كما تعرضهم للخطأ في العطف والشعور.
ومن المعقِّبين على تاريخ هذه الفترة عندنا — في العربية — مؤرخ يتخذ منه المثل لكل من العذر والعطف حين يصل الأمر إلى الاستشهاد كراهة للظلم ودرءًا للمنكرات، وهو الأستاذ محمد الخضري صاحب تاريخ الأمم الإسلامية رحمه الله.
ففي تعقيبه على ثورة المدينة التي قدمنا الإشارة إليها يقول: «إن الإنسان ليعجب من هذا التهور الغريب والمظهر الذي ظهر به أهل المدينة في قيامهم وحدهم بخلع خليفة في إمكانه أن يجرد عليهم من الجيوش ما لا يمكنهم أن يقفوا في وجهه. ولا ندري ما الذي كانوا يريدونه بعد خلع يزيد؟ أيكونون مستقلين عن بقية الأمصار الإسلامية، لهم خليفة منهم يلي أمرهم أم حمل بقية الأمة على الدخول في أمرهم؟ وكيف يكون هذا وهم منقطعون عن بقية الأمصار ولم يكن معهم في هذا الأمر أحد من الجنود الإسلامية؟ إنهم فتقوا فتقًا وارتكبوا جرمًا فعليهم جزء عظيم من تبعة انتهاك حرمة المدينة، وكان اللازم على يزيد وأمير الجيش ألَّا يسرف في معاملتهم بهذه المعاملة؛ فإنه كان من الممكن أن يأخذهم بالحصار.»
•••
ويخيل إليك وأنت تقرأ كلام الأستاذ عن هذه الفترة كلها أن لديه أعذارًا ليزيد وليس لديه عذر لأهل المدينة؛ لأنه يفهم كيف يغضب المرء لما في حوزته، ولا يفهم كيف تضيق به كراهة الظلم وغَيْرَةُ العقيدة عن الاحتمال.
وشعوره هذا يحول بينه وبين الحكم الصحيح على حوادث التاريخ؛ لأنه يحول بينه وبين انتظار هذه الحوادث حيث تنتظر لا محالة، واستبعادها حيث هي بعيدة عن التقدير.
فلم يحدث قَطُّ في مواجهة الظلم وانتزاع الدول المكروهة أن شعر الناس كما أرادهم الأستاذ أن يشعروا، أو فكروا في الأمر كما أرادهم أن يفكروا.
ومستحيل حدوث هذا أشد الاستحالة، وليس قصاراه أنه لم يحدث من قبل في حركات التاريخ.
فهذه الحركات التي تواجه الدول المكروهة لا تنتظر — ولا يمكن أن تنتظر — حتى تربى قوتها وعدتها على ما في أيدي الدولة التي تكرهها من قوة وعدة، ولكنها حركة أو دعوة تبدأ بفرد واحد يجترئ على ما يهابه الآخرون، ثم يلحق به ثانٍ وثالث ورابع ما شاء له الإقناع وضيق الذَّرْعِ بالأمور، ثم ما ينالهم من نقمة فيشيع الغضب وينكشف الظلم عمَّن كان في غفلة عنه، ثم يشتد الحرج بالظالم فيدفعه الحرج إلى التخبُّط على غير هدى، ويخرج من تخبط غليظ أحمق إلى تخبط أغلظ منه وأحمق؛ فلا هم يقفون في امتعاضهم وتذمُّرهم ولا هو يقف في بطشه وجبروته، حتى يغلو به البطش والجبروت، فيكون فيه وهنه والقضاء عليه.
وعلى هذا النحو يعرف المؤرخ الذي يعالج النفوس الآدمية ما هو من طبعها، وما هو خليق أن ينتظر منها، فلا يعالجها حق العلاج على أنها مسألة جمع وطرح في دفتر الحساب بين هذا الفريق وذاك الفريق.
وعلى هذا النحو تكون حركة الحسين قد سلكت طريقها الذي لا بد لها أن تسلكه، وما كان لها قط من مسلك سواه.
•••
وصل الأمر في عهد يزيد إلى حد لا يعالج بغير الاستشهاد وما نحا منحاه.
وهذا هو الاستشهاد ومنحاه، وهو — بالبداهة التي لا تحتاج إلى مقابلة طويلة — منحى غير منحى الحساب والجمع والطرح في دفاتر التجار.
ومع هذا يدع المؤرخ طريق الشهادة تمضي إلى نهاية مطافها، ثم يتناول دفتر التجار كما يشاء؛ فإنه لواجد في نهاية المطاف أن دفتر التجار لن يكتب الربح آخرًا إلا في صفحة الشهداء.
فالدعاة المستشهدون يخسرون حياتهم وحياة ذويهم، ولكنهم يرسلون دعوتهم من بعدهم ناجحة متفاقمة فتظفر في نهاية مطافها بكل شيء حتى المظاهر العرضية والمنافع الأرضية.
وأصحاب المظاهر العرضية والمنافع الأرضية يكسبون في أول الشوط ثم ينهزمون في وجه الدعوة المستشهدة حتى يخسروا حياتهم أو حياة ذويهم، وتوزن حظوظهم بكل ميزان فإذا هم بكل ميزان خاسرون.
وهكذا أخفق الحسين ونجح يزيد.
ولكن يزيد ذهب إلى سبيله، وعوقب أنصاره في الحياة والحطام السمعة بعده بشهور، ثم تقوضت دولته ودولة خلفائه في عمر رجل واحد لم يجاوز الستين.
وانهزم الحسين في كربلاء وأصيب هو وذووه من بعده، ولكنه ترك الدعوة التي قام بها مُلك العباسيين والفاطميين، وتعلَّل بها أناس من الأيوبيين والعثمانيين، واستظل بها الملوك والأمراء بين العرب والفرس والهنود، ومثل للناس في حلة من النور تخشع لها الأبصار.
وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان غير مستثنى منهم عربي ولا أعجمي ولا قديم ولا حديث.
أبو الشهداء
فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدة وقدرة وذكرة، وحسبه أنه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين.
وأيسر شيء على الضعفاء الهازلين أن يذكروا هنا طلب المُلك ليَغمزوا به شهادة الحسين وذويه.
فهؤلاء واهمون ضالُّون مغرقون في الوهم والضلال.
لأن طلب المُلك لا يمنع الشهادة، وقد يطلب الرجل الملك شهيدًا قديسًا، ويطلبه وهو مجرم بريء من القداسة.
وإنما هو طلبٌ وطلبٌ، وإنما هي غايةٌ وغايةٌ، وإنما المعول في هذا الأمر على الطلب لا على المطلوب.
فمن طلب الملك بكل ثمنٍ، وتوسَّل له بكل وسيلة، وسوَّى فيه بين الغصب والحق، وبين الخداع والصدق، وبين مصلحة الرعية ومفسدتها؛ ففي سبيل الدنيا يعمل لا في سبيل الشهادة.
ومن طلب الملك وأباه بالثمن المعيب، وطلب الملك حقًّا ولم يطلبه لأنه شهوة وكفى، وطلب الملك وهو يعلم أنه سيموت دونه لا محالة، وطلب الملك وهو يعتز بنصر الإيمان ولا يعتز بنصر الجند والسلاح، وطلب الملك دفعًا للمظلمة وجلبًا للمصلحة كما وضحت له بنور إيمانه وتقواه، فليس ذلك بالعامل الذي يخدم نفسه بعمله، ولكنه الشهيد الذي يلبي داعي المروءة والأريحية، ويطيع وحي الإيمان والعقيدة، ويضرب للناس مثلًا يتجاوز حياة الفرد الواحد وحياة الأجيال الكثيرة.
ومن ثَمَّ يقيم الآية بعد الآية على حقيقة الحقائق في أمثال هذا الصراع بين الخلقين أو بين المزاجين والتاريخين.
وهي أن الشهادة خصم ضعيف مغلوب في اليوم والأسبوع والعام.
ولكنها أقوى الخصوم الغالبين في الجيل والأجيال ومدى الأيام.
وهي حقيقة تؤيدها كل نتيجة نظرت إليها بعين الأرض أو بعين السماء على أن تنظر إليها في نهاية المطاف.
ونهاية المطاف هي التي يُدخلها «نوع الإنسان» في حسابه ويوشج عليها وشائج عطفه وإعجابه، لأنه لا يعمل لوجبات ثلاث في اليوم، ولا ينظر إلى عمر واحد بين مهد ولحد، ولكنه يعمل للدوام وينظر إلى الخلود.