كونفوشيوس
حياته وفكره
الاسم كونفوشيوس هو الصيغة اللاتينية التي استخدمها الباحثون الغربيون للاسم الصيني كونغ فو تسو. والكلمة الأخيرة في هذا الاسم (تسو أو تزو) تعني المعلِّم، وكانت تُلحَق بأسماء الفلاسفة مثل لاو تسو وتشوانغ تزو وهسون تزو، أمَّا كلمة فو فتعني المبجَّل. كانت ولادته عام ٥٥١ق.م.، وهو ينتمي إلى أسرةٍ نبيلةٍ تصلها أواصر قربى بأسرة شانغ الملكية، ولكنها قبل ولادة كونفوشيوس كانت قد وصلت إلى حالةٍ من العوز قادتها إلى الرحيل إلى دولة لو الصغيرة للاستقرار هناك.
معلوماتنا عن سيرة حياته مستمدَّة من سِجلاتٍ تاريخيةٍ تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد؛ فقد عاش حياةً متواضعةً خلال طفولته ومطلع شبابه، ولكنه حصَّل تعليمًا عاليًا بجهوده الخاصة ودون معلِّمٍ نظامي، وهذا ما أهَّله للحصول على وظيفةٍ إداريةٍ في دولة لو، فكان مسئولًا عن حسابات الحبوب وحيوانات القربان، وبدأ يكتسب التلاميذ كمعلم. بعد ذلك رحل إلى دولة تشي القريبة حيث قدَّم المشورة لحُكَّامها، ثم عاد إلى دولة لو وتزايد تلاميذه. في سن الخمسين عُيِّن قاضيًا ثم وزيرًا للعدل في لو، ولكنه استقال من منصبه عندما لم يفلح في إصلاح الأمير، وغادر الإمارة وتجوَّل لمدة ١٣ سنةً في تسع مقاطعات باحثًا عن فرصةٍ لتحقيق مبادئه في السياسة والإصلاح الاجتماعي، ولكنه فشل، فعاد إلى موطنه حيث تُوفي بعد ثلاث سنواتٍ في سن الثالثة والسبعين عام ٤٧٩ق.م.
كان التعليم في الصين قبل كونفوشيوس ذا طابعٍ رسمي، وكان المعلِّمون موظَّفين لدى الدولة يقوم كلٌّ منهم بالتعليم في مجال اختصاص الدائرة التي يرأسها، ثم جاء كونفوشيوس ليؤسِّس لنهجٍ جديد، فكان أول معلِّم يمارس التعليم بصفته الخاصة، ودون أن يكون مرتبطًا بوزارةٍ ما من وزارات الدولة، وكانت مدرسته أقدم مدرسة في البلاد. وبذلك فقد حوَّل كونفوشيوس مؤسَّسة التعليم من مؤسَّسةٍ أرستقراطية تُعنى بتعليم النبلاء، إلى مؤسَّسةٍ ديمقراطيةٍ تُعنى بتعليم كل راغبٍ في العلم بصرف النظر عن انتمائه الطبقي. وقد روى عنه تلاميذه في كتاب الحوار قوله: «لم أمنع علمي عن أحد، مِن الفقير الذي أهداني لقاءه حفنة لحمٍ مقدَّد، وصولًا إلى من هم في أعلى المراتب.» وأوصاهم أيضًا بقوله: «في تعليمكم للناس لا تميِّزوا بين الأفراد والجماعات،» وكان يرى أن مسئولية تعليم الرعية تقع على عاتق الحاكم؛ فقد سأله تلميذٌ له قائلًا: عندما يزداد عدد السكان ماذا نفعل بهم؟ أجابه: يجب أن نعمل على رخائهم. فسأله ثانية: وماذا بعد أن يعمهم الرخاء؟ أجابه: علينا أن نعلِّمهم. وقد بلغ مَن تلقَّوا العلم على يديه خلال حياته، وفق بعض الروايات، ثلاثة آلاف، نعرف منهم اثنَين وسبعين تحوَّلوا فيما بعدُ إلى معلِّمين أو شغلوا وظائف إداريةً متنوِّعةً لدى حُكَّام المقاطعات. وقد قام هؤلاء بجمع أقواله التي سمعوها منه في مناسباتٍ متفرِّقة، وصاغوا فلسفته على الشكل الذي وصلنا. وكانت ثُلَّة من هؤلاء التلاميذ ترافقه خلال تجواله بين الدويلات الصينية وإقامته لفترةٍ تطول أو تقصر في هذه الدويلة أو تلك، في بحثه عن أمير دولةٍ قوية يتبنَّى أفكاره في الحكم والإصلاح ويطبِّقها، فيجعل من دولته نموذجًا تتطلَّع إليه رعايا بقية الدول، وعندها يغدو قادرًا على توحيد البلاد ونشلها من حالة الفوضى السياسية والفساد الخلقي والاجتماعي. وعلى الرغم من أنه كان يلقى الترحاب أينما حَل، ويقدِّم له ولمرافقيه مسكنًا لائقًا وضيافةً وافرة، إلا أنه لم يعثر على ضالته؛ لأن أفكاره في الحكم الفاضل كانت أكثر راديكاليةً من أن يقبلها أحد حُكَّام تلك الفترة. ومع ذلك لم تفتر عزيمته، وأمضى سنواتٍ طوالًا في ترحاله قبل أن يعترف بالفشل ويعود إلى موطنه. لقد كان بمقدوره أن يتولَّى أكثر من منصبٍ عالٍ، ولكنه لم يفعل لأن ذلك سيكون على حساب قِيَمه ومبادئه.
وقد روى لنا تلاميذه أكثر من قصةٍ تعبِّر عن تصميمه وعن مثابرته خلال تلك السنوات؛ فقد كان أحد تلاميذه واقفًا عند سور المدينة فسأله الحارس: من أنت؟ فأجابه: أنا تلميذ كونفوشيوس. فقال الحارس: آه، إنه الرجل الذي يحاول إصلاح ما لا يمكن إصلاحه. وفي مناسبةٍ أخرى شبَّه أحد النُّسَّاك كونفوشيوس بالعازف الذي لا يستمع إليه أحد؛ فقد كان كونفوشيوس يعزف بآلة الأجراس عندما مرَّ به زاهدٌ يُدعى إن وي حاملًا دلوًا، وقال: إنك حقًّا مصمِّمٌ على المضي في عزفك. يا لعنادك! إذا لم يطرب لك أحدٌ توقَّف.
يُعتبر كونفوشيوس واحدًا من الرجال القلائل الذين أثَّروا تأثيرًا عميقًا على الثقافة الصينية بفضل قوة شخصيته ومواهبه العقلية، كما استفادت من تعاليمه كلٌّ من الثقافة الكورية واليابانية والفييتنامية؛ فقد كان فيلسوفًا سياسيًّا وأخلاقيًّا ورائدًا في مجال التربية والتعليم، واستطاعت فلسفته أن تُهيمن على الفكر الصيني حتى العصور الحديثة. وفي الحقيقة فإن الصيني يَعتبر نفسه كونفوشيًّا حتى في حال انتمائه إلى الأديان الوافدة إلى الصين كالبوذية والمسيحية والإسلام. ولا أدَلَّ على ذلك من أن العلَّامة الصيني المسلم محمد مكين، الذي درس في شبابه اللغة العربية والإسلام في الجامع الأزهر بالقاهرة، كان أول من ترجم كتاب الحوار لكونفوشيوس وذلك عام ١٩٣٦م.
تميَّزت شخصيته برِقة الطباع والتهذيب والمرح، وعُرف عنه حبُّه للجمال والتأنُّق في الملبس، وتذوُّقه لأنواع الفنون لا سيما الموسيقى والغناء. وقد روى عنه تلاميذه في كتاب الحوار أنه بعد سماعه لأغنيةٍ أعجبته كان يطلب من المغني الإعادة، ثم يشاركه في الغناء، ولكنه إلى جانب ذلك كان شديد القسوة في نقده لمظاهر الفساد والانحراف والترف لدى الحُكَّام، وما يُبديه وزراؤهم ومستشاروهم من تزلُّفٍ وتفانٍ بدلًا من تقديم المشورة الصادقة لهم. وكان مُحبًّا للدراسة والتعلُّم، وكما أنفق حياته في التعليم فقد أنفقها أيضًا في التعلُّم، ويُروى عنه قوله إنه إذا صاحب ثلاثة أشخاص لا بُدَّ له من أن يتعلَّم شيئًا من واحدٍ منهم.
فيما يتعلَّق بنتاجه الفكري شاعت آراءٌ تقول بأنه مؤلِّف الكتب الكلاسيكية الستة أي: التغيُّرات، والقصائد، والتاريخ، والطقوس (وقواعد الأدب والمعاملات)، والموسيقى، وحوليات الربيع والخريف. وفي مقابل هذه الآراء المتطرِّفة التي لا تستند إلى وقائع، شاعت آراءٌ أكثر اعتدالًا تقول بأنه كان مؤلِّفًا لحوليات الربيع والخريف، التي تؤرِّخ لفترةٍ من تاريخ الصين تمتد من عام ٧٢٢ إلى عام ٤٧٩ق.م.، من خلال رصدها لتاريخ مملكة لو وعلاقاتها مع الدول المجاورة. كما تعزو إليه التعليق على كتاب التغيُّرات من خلال ما يُعرَف بالأجنحة (أو التفاسير) العشرة للكتاب، وكذلك تنقيح كتاب الطقوس، وإضفاء لمسة تحريرية على كتاب التاريخ وكتاب القصائد. ولكن الآراء الحديثة بشأنه توصَّلت إلى نتيجةٍ مفادها أن كونفوشيوس ربما كان مؤلِّفًا لحوليات الربيع والخريف، وواحدًا على الأقل من الأجنحة العشرة للتغيُّرات، ولكنه لم يكتب بالتأكيد بقية الكتب الكلاسيكية، ولم يكن له فضل في تحرير أو تنقيح بعضها.
لقد اعتبر كونفوشيوس نفسه معلِّمًا بالدرجة الأولى ينقُل إلى تلاميذه معارف الأولين؛ ولهذا قال عن نفسه في كتاب الحوار: «أنا ناقل علمٍ ولست منشئًا.» على أن إبداعه تجلَّى في تفسيره لِمَا ينقُل، وإضفائه بُعدًا أخلاقيًّا عليه؛ ففي توكيده مثلًا على عادة إقامة الحِداد على أحد الأبوَين بعد وفاته مدة ثلاث سنوات، على ما ورد في كتاب الطقوس قال: «ذلك لأن الطفل لا يترك حضن والديه إلا بعد ثلاث سنوات من ولادته، وعليه بالمقابل أن يُقيم الحِداد عليهما المدة نفسها.» وعندما كان يشرح بعض ما ورد في كتاب القصائد (أو الأغاني) قال: «في الكتاب ثلاثمئة قصيدة، ولكن جوهرها كلها يمكن تلخيصه في جملةٍ واحدة: أبعِد عن ذهنك الأفكار الخبيثة.» وقد سار تلاميذه على نهجه في التفسير، وأنتجوا ثلاثة عشرة مؤلَّفًا احتوت على تعليقاتهم وشروحهم على المؤلَّفات القديمة تحوَّلت إلى كتبٍ كونفوشية تعليمية.
ولكن إبداع كونفوشيوس لم يبلغ حَدَّ التجديد الراديكالي؛ لأنه كان مُحافظًا في تفكيره وسلوكه؛ فقد عاش في أواخر فترة الربيع والخريف التي حفلت بالاضطرابات وما صاحبها من انحلالٍ في القيم والتقاليد، وحاول البحث عن حلولٍ لأزمات البلاد المستعصية، فرأى أن السبيل إلى الإصلاح هو في الحفاظ على تراث الأجداد والقيم الخلقية الفاضلة للماضي. وقد رُوي عنه في تمجيد الماضي قوله في كتاب الحوار: «لم أولد حكيمًا، ولكني عشقت تعاليم القدماء، وفعلت ما بوسعي لكي أبلغ ما بلغوه.» ولذلك لم يكن يتساهل في أي انحرافٍ عن قواعد الطقوس سواء ما تعلَّق منها بالشعائر الرسمية أم بقواعد الأدب والمعاملات الخاصة بكل منصبٍ وبكل شريحةٍ اجتماعية، ونُقل عنه أقوال يشجب فيها مثل هذه الانحرافات، ومنها قوله: «إن ثمانية صفوفٍ من الراقصات يؤدين الرقص في قصر رئيس أسرة تشي. فإذا كان يفعل ذلك فما الذي لا يتورَّع عن فعله؟» وهو هنا يتذمَّر من اغتصاب الأسر المتوسِّطة المكانة لطرائق في المراسم والاحتفالات خاصة بالأسر العالية المكانة؛ فالصفوف الثمانية من الراقصات كانت وقفًا على الملك، أمَّا الصفوف الستة فلأمراء المقاطعات، والصفوف الأربعة لكبار الموظَّفين. وفي إحدى المرَّات انصرف من متابعة طقس القربان الكبير، ولم تعد عنده رغبة في المشاهدة؛ لِمَا رآه من بدعٍ مستحدثة لم تنصَّ عليها الشرائع القديمة.
ففيما يتعلَّق بالمجتمع رأى أن تحقيق المجتمع السليم يبدأ بما دعاه «تصحيح الأسماء»؛ فقد سأله تلميذٌ له قائلًا: «إن أمير دولة وي يتوقَّع منكم عونه على إدارة شئون الدولة، فماذا ستكون أولوياتكم حينئذٍ؟» فأجابه: «علينا أولًا أن نقوم بتصحيح الأسماء.» وما يعنيه كونفوشيوس هنا بتصحيح الأسماء، على ما نفهم من أقوالٍ أخرى له في كتاب الحوار، هو أن كل اسم يحمل معاني ومضامين ينبغي أن تنطبق على حامل هذا الاسم؛ فعلى الحاكم أن يكون حاكمًا وفق ما يتضمَّن هذا الاسم من القيام بواجباتٍ تشكِّل جوهره، وعلى الوزير أن يكون وزيرًا، والأب أبًا، والابن ابنًا، والصديق صديقًا … إلخ. إن حامل كل اسم في شبكة العلاقات الاجتماعية ينبغي أن يكون جديرًا بهذا الاسم وواعيًا لجوهره.
وقد رأى كونفوشيوس أن الطريق الأقصر لإصلاح المجتمع هو إصلاح الحاكم والطبقة الإدارية؛ لأن الحاكم إذا انصلح كان في ذلك صلاحٌ للمجتمع. وقد قال موجِّهًا كلامه للحُكَّام: «إذا قوَّمت نفسك لن تجد صعوبةً في الحكم، وإذا لم تقوِّم نفسك كيف تقدر على تقويم الآخرين؟» وقال أيضًا: «إذا قوَّمت نفسك وجدت الرعية تنقاد إليك دون أن تُصدر لها الأوامر، وإذا لم تقوِّم نفسك لن تلقى الطاعة من الرعية حتى لو أصدرت لها الأوامر.» وأيضًا: «إذا حكمتَ بقوة فضيلتك تغدو مثل نجم القطب الذي يبقى ثابتًا في مكانه، وكل النجوم تدور حوله.» وأيضًا: «ألم يكن الملك الحكيم شون هو الذي حكم البلاد دون بذل جهد؟ ما الذي فعله شون؟ لقد هذَّب نفسه واستوى على العرش.»
مِثل هذا التوجُّه إلى الحاكم بالنصح والإرشاد لم يكن مألوفًا من قبل، في عصرٍ كان فيه أصحاب السلطان يحكمون من خلال مبدأ القوة، فجاء كونفوشيوس ليستبدل مبدأ الحكم بالقوة بمبدأ الحكم بالفضيلة. وهو يرى أن نشر القيم الفاضلة لا يتم بالتعليم فقط وإنما بالتقليد، وعيش الأخلاق الفاضلة عند الحاكم أكثر نجاعةً من الكلام عنها والتبشير النظري بها. وليس من المُجدي في رأيه ردع المفسدين عن الفساد بالعقوبات؛ لأنهم سيعودون إلى الفساد عندما تتراخى قبضة الدولة وتعم الفوضى، والأكثر جدوى هو أن يعوا ويفهموا أن ما يقومون به غير لائق بهم كبشر. وفي هذا يقول في كتاب الحوار: «إذا حكمتَ بالقوانين وضبطتهم بالعقوبات فسوف يتفادَون ارتكاب الجرائم دون أن يشعروا بالعار إذا هم ارتكبوها. أمَّا إذا حكمتهم بالفضائل وضبطتهم بقواعد الأدب والمعاملات فسوف يشعرون بالعار من ارتكابها ويقوِّمون أنفسهم.»
وأول ما يعود على الحاكم من إصلاح نفسه هو اكتساب ثقة الشعب؛ لأن الحكومة إذا فقدت ثقة الشعب فقدت مبرِّرات وجودها. سأله أحد تلاميذه عن الأساس الذي تقوم عليه الحكومة المثلى، فقال له: «طعامٌ وافر وسلاحٌ وافر وثقة الشعب.» فسأله ثانية: «إذا خُيِّرتَ في حذف واحدٍ من هذه الثلاثة فماذا تختار؟» فقال: «السلاح.» فسأله أيضًا: «إذا خُيِّرتَ في حذف واحدٍ من هذَين الاثنَين فأيهما تختار؟» أجابه: «الطعام؛ لأن الموت نصيب كل البشر، أمَّا إذا فقدَت الحكومة ثقة الشعب فلن تقوم لها قائمة (وتتداعى الدولة).» وقال في موضعٍ آخر: «إذا حاز الحاكم ثقة الشعب فسوف يكدحون من أجله، أمَّا إذا فقد ثقتهم فسيرَون فيه طاغية.»
ولمَّا كانت أعباء الحكم لا تقع على الحاكم وحده بل وعلى بطانته أيضًا من وزراء ومستشارين وإداريين في الوظايف المختلفة، فإن على الحاكم أن يستميل الأفاضل من المثقَّفين لشغل الوظائف العامة، وأن يكون معياره في ذلك هو الكفاءة والفضيلة دون النظر إلى المنبت الطبقي. وكانت هذه الفكرة ثورةً في عصر كونفوشيوس عندما لم يكن العامة مهيَّئين لشغل الوظائف الحكومية، فراح كونفوشيوس يستشهد بالملوك الحكماء الأوائل وقال: «عندما ارتقى الملك شون سُدَّة الحكم اختار من العامة كاو ياو لمنصب الوزير الأول فاختفى المفسدون، وعندما ارتقى الملك تانغ سُدَّة الحكم اختار من العامة آي ين فاختفى المفسدون.» وعندما سأله تلميذٌ له عندما تولَّى الوزارة عن أصول الحكم الصحيح قال له: «بادر أولًا إلى تعيين موظَّفين أَكْفاء، وضع رجالًا صالحين في مراكز المسئولية.»
وهكذا نجد أن فلسفة كونفوشيوس في أصول الحكم ترتكز على ثلاثة مبادئ هي: (١) الحكم بالفضيلة لا بالقوة، (٢) ثقة الشعب الحاكم، (٣) موظَّفون أَكْفاء وصالحون من مختلِف الشرائح الاجتماعية. وهذا أعلى مستوًى من الديمقراطية يمكن تحقيقه في ذلك العصر.
هذه هي الأفكار الأصلية التي قدَّمها كونفوشيوس لإصلاح المجتمع. وننتقل الآن إلى أفكاره الأصلية في إصلاح الفرد؛ ففيما يتعلَّق بتنمية الفضائل الفردية ركَّز كونفوشيوس على المفاهيم التالية:
وفي مواضع عديدة من كتاب الحوار يضع كونفوشيوس «الرجل النبيل» في تضادٍّ مع نقيضه «الرجل الوضيع»، فيقول مثلًا: «الرجل النبيل يتطوَّر نحو الأعلى، والرجل الوضيع يتطوَّر نحو الأسفل.» وأيضًا: «الرجل النبيل مُطمئن البال دومًا، والرجل الوضيع قلق البال دومًا.» وأيضًا: «الرجل النبيل حسن المعشر ولكنه لا يتملَّق، والرجل الوضيع يتملَّق ولكنه سيئ المعشر.»
الميتافيزيك عند كونفوشيوس
في هذه الفلسفة الأخلاقية التي تركِّز على إصلاح المجتمع والفرد لا يوجد مُتسع للغيبيات ومسائل ما وراء الطبيعة؛ ولهذا لم يكن لدى كونفوشيوس نظرية في نشأة الكون ومآله، وفي الموت وما بعد الموت، ولم يأتِ على ذكر الآلهة التقليدية في الديانة الصينية. وقد ورد في كتاب الحوار على لسان أحد تلاميذه: «لم يكن المعلِّم يكترث بمناقشة الظواهر الغريبة، والخوارق، وقصص الأشباح.» وعندما سأله تلميذٌ آخر عن خدمة الأموات أجابه: «أنت لم تعرف بعدُ كيف تخدم الأحياء، فكيف تستطيع خدمة الأموات؟» ثم عاد فسأله عن الموت فأجابه: «أنت لم تفهم بعدُ ما هي الحياة فكيف تسأل عن الموت؟» أي إن على الإنسان أن يأبه إلى حياته هذه، ولا يعبأ بما كان عليه قبلها ولا بما سيأتي بعدها؛ لأن ذلك في حكم المجهول الذي لا ينبغي أن نشغل بالَنا به. والكونفوشية تتفق هنا مع التاوية في فلسفة الحياة والموت، والتي عبَّر عنها تشوانغ تزو المعلِّم الثاني للتاوية في هذا المقطع من الكتاب الذي يحمل اسمه: «الناس في الأيام الخوالي لم يعرفوا التعلُّق بالحياة ولا كره الموت. الولوج إلى الحياة لم يكن بهجةً لهم، والخروج منها لم يكن يُثير فيهم جزعًا ومقاومة. بهدوءٍ كانوا يأتون وبهدوءٍ كانوا يمضون. لا ينسَون ما كانت عليه بدايتهم، ولا يتساءلون عمَّا ستئول إليه نهايتهم. لقد قبلوا الحياة واغتبطوا بها، ثم آلوا إلى حالة ما قبل الحياة.»
وقد كان لدى كونفوشيوس إحساسٌ طاغٍ بأنه مكلَّفٌ من السماء برسالته الأخلاقية، وهي التي تعمل على حمايته؛ فعندما كان مُهدَّدًا من وزيرٍ في حكومة إحدى الدول قال لتلاميذه: «السماء زرعت في داخلي الفضيلة، فأي أذًى يمكن أن يلحقه بي هوان تي؟» وعندما شعر بالخطر على حياته عندما كان يعبر مقاطعة كوانغ، وقلق عليه تلاميذه قال لهم: «بعد زمن الملك شون صرتُ قيِّمًا على الثقافة بدلًا عنه. فإذا شاءت السماء للثقافة أن تضمحل فلن تصل إلى الأجيال اللاحقة، ولكن بما أنها لم تشأ ذلك فما الذي يستطيع أهل كوانغ أن يفعلوه بي؟» ويبدو أن فكرة تكليف السماء لكونفوشيوس كانت شائعةً خارج حلقة التلاميذ؛ فبعد خروج أحد المسئولين العسكريين من مقابلةٍ لهم مع المعلِّم قال للتلاميذ: «أيها الأصحاب، لقد ضلَّ العالم عن صراط الحق زمنًا طويلًا، والآن أرى أن السماء سوف تستخدم معلِّمكم كناقوسٍ يُنبِّه كل الناس.»
مكانته التاريخية
شهدت مكانة كونفوشيوس في تاريخ الصين صعودًا وهبوطًا؛ فخلال حياته كان مُعلِّمًا بين معلِّمين كُثُر، وبعد وفاته ارتفع تدريجيًّا إلى مكانة المعلِّم الأول، وعندما حلَّ القرن الأول قبل الميلاد خلال حكم أسرة هان التي وحَّدت الصين لمدة أربعة قرون، تحوَّل إلى شخصيةٍ قدسية. ومع مطلع العصر الميلادي صارت الكونفوشية أقرب إلى الدين، وصار لكونفوشيوس كهنة يقرِّبون له القرابين في المعابد. ولكن هذا المجد لم يدم طويلًا؛ فمع نهاية عصر أسرة هان عاد كونفوشيوس إلى مرتبة المعلِّم الأول. مع نهاية القرن التاسع عشر وتشكيل الجمهورية التي حلَّت محلَّ الإمبراطورية فَقَد مكانة المعلم الأول. واليوم يرى الصينيون فيه معلِّمًا متميِّزًا، ولكنه ليس الأهم.