لاو تسو، المعلِّم الأول
سيرته وكتابه
تبدأ الفلسفة الصينية بالمعلِّم الأول لاو تسو، ومع ذلك فإن الضباب يلف شخصية هذا المعلِّم، وكل ما استطاع قدامى المؤرِّخين قوله بشأنه هو أنه عاش حياةً مديدةً بين أواسط القرن السادس وأواسط القرن الخامس قبل الميلاد؛ أي قبل نحو قرنٍ من سقراط المعلِّم الأول للفلسفة اليونانية. ولدينا خبرٌ عن لقاءٍ جَمَعه مع كونفوشيوس الأصغر منه سنًّا، والذي قصده عندما كان يعمل قيِّمًا على أرشيف القصر الملكي في عاصمة دولة تشو. وقد صاغ كونفوشيوس انطباعه عن ذلك اللقاء بالكلمات المؤثِّرة التالية: «أعرف أن الطيور تحلِّق في الأجواء، والسمك يسبح في الماء، والدبابات تدب على اليابسة. وأعرف أن ما يدب على الأرض يمكن الإيقاع به، وأن ما يسبح في الماء يمكن اصطياده بشص، وما يطير في الأجواء يمكن ملاحقته بسهم. ولكن هناك التنين الذي لا أعرف كيف يمتطي الرياح ويناطح السحاب فيصعد إلى السماء. اليوم رأيت لاو تسو ولا أستطيع مقارنته إلا بالتنين.»
أمَّا عن باقي التفاصيل في حياة لاو تسو، فلا نعرف سوى أنه ترك عمله في القصر بعد أن ساءت أحوال الأسرة المالكة وسادت الاضطرابات في الدولة. وعند بوابة المدينة طلب منه رئيس تحرير الحرس أن يخط كتابًا يلخِّص فيه حكمته، فجلس وأنجز كتاب التاو تي تشينغ، ثم اختفى ولم يسمع به أحدٌ بعد ذلك؛ فلقد كان لاو تسو، على حد وصف أحدهم، شخصيةً فذةً متفوِّقة، ولكنه أحبَّ أن يُبقي نفسه مجهولًا.
كلمة «تشينغ» في عنوان الكتاب تعني كتابًا كلاسيكيًّا، واﻟ «تاو» هو المبدأ الأول على ما سنشرح بعد قليل، واﻟ «تي» هي قوته. هذا الكتاب الكلاسيكي هو أقصر كتاب فلسفي في تاريخ الثقافة الإنسانية؛ فهو يتألَّف من خمسة آلاف شارة كتابية صينية، تكفي اليوم لكتابة مقالةٍ في صحيفة يومية، ولكنه احتوى على فلسفة لاو تسو كلها، والسبب في ذلك أنه اعتمد أسلوبًا مكثَّفًا ومختصرًا حتى بالنسبة إلى اللغة الصينية القديمة التي دُوِّن بها، والتي تتميَّز عن الصينية الحديثة (لغة المندارين) بشدة إيجازها؛ وهذا ما جعل منه نصًّا إشكاليًّا على درجةٍ كبيرة من الغموض.
أخذ الكتاب بالانتشار في الثقافة العالمية منذ أن قُدِّمت له ترجمة لاتينية إلى الجمعية الملكية بلندن عام ١٧٨٨م. وبحلول عام ١٨٤٤م كان مترجمًا إلى الفرنسية والإنكليزية، وورد ذكره في بعض مؤلَّفات الفيلسوفَين الألمانيَّين هيجل وشوبنهاور. أمَّا الفيلسوف الألماني الثالث هايدجر (١٨٨٩–١٩٧٦م) فقد طوَّر خلال النصف الثاني من حياته منهجًا فلسفيًّا يقوم على الأفكار الرئيسية للتاو تي تشينغ. وخلال القرن العشرين تتالى ظهور ترجماته إلى اللغات الأوروبية لا سيما إلى الإنكليزية. وإلى اللغة العربية صدرت في دمشق ترجمة للباحث العراقي الهادي العلوي، وأخرى في القاهرة للباحث علاء ديب، إضافةً إلى ترجمتي التي صدرت عام ١٩٩٨م مع مقدِّمةٍ عن الفلسفة الصينية وشروح وافية على المتن. وقد اعتمدتُ في ترجمتي على أربعة نصوص لباحثَين صينيَّين مرموقَين، فجاءت صياغةً عربيةً للكتاب أكثر منها ترجمةً عن نصٍّ واحد. وفي عام ٢٠٠٨م صدر كتابي هذا بطبعةٍ جديدةٍ في الصين عن دار النشر باللغات الأجنبية في بكين، بعد أن قام الباحث الصيني المستعرب د. شوي تشينغ قوه بمراجعة ترجمتي على الأصل الصيني، واتفقنا على إدخال تعديلات طفيفة عليها.
بقيت تعاليم المعلِّم الأول فاعلةً في الحياة الفكرية والروحية للشعب الصيني، وتعاونت مع الكونفوشية على تشكيل موقف الإنسان الصيني من الكون والحياة والمجتمع، ولكن تاوية لاو تسو التي طوَّرها من بعده تلاميذه، لا سيما تشوانغ تزو الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، والتي ندعوها اليوم بالتاوية الفلسفية، بدأت منذ مطلع العصر الميلادي بالتحوُّل إلى ديانة تبنَّت العديد من أفكار الكيمياء السحرية (= الخيمياء أو السيمياء) والممارسات اليوجية، وصار لها كهنة ومعابد وطقوس وشخصيات سماوية قدسية، وكتاب مقدَّس جُمعت فيه النصوص التاوية، وانحرفت بذلك عن الطريق الذي رسمه لها المعلِّم.
فما الذي قاله لاو تسو؟
ويقول تشوانغ تزو في موضعٍ آخر: «في السماء حركةٌ دائبة وفي الأرض ثبات. هل يتنازع القمر والشمس فلكَيهما؟ من يحكم فوق هذه الأمور ويعمل على تنظيمها؟ من يحافظ على اتساقها وتناغمها؟ انظر إلى السحب كيف تُغدق مطرها، وإلى ماء المطر كيف يرتفع ثانيةً ويغدو سحابًا. من يحرِّك السحب لتعطي خيرها؟ ومن بدون جهدٍ ابتدر هذا ويعمل على دوامه؟ رياحٌ تهب من الجهات الأربع، أية أنفاس تحرِّكها، ومن بدون جهدٍ ينظِّم هبوبها؟ ما هي العلة؟»
إن ما يريد تشوانغ تزو قوله من وراء أسئلة العارف هذه هو أنه لا وجود لعلةٍ خارجيةٍ لكل ما عدَّده من مظاهر حركية في الكون والطبيعة؛ لأن ظهور الكون وصيرورته يتبعان مبدأ نشوء الكائنات المتعضية، حيث تنبثق الفعالية الخلَّاقة من الداخل لا من الخارج، على غرار ما يحدث في نمو نبتة أو تفتُّح زهرة. من هنا فإن الفكر التاوي، والصيني عمومًا، لا يطرح سؤالًا جديًّا حول مَن خلق العالم والكيفية التي ظهر بها؛ لأنه لو كان العالم قد خُلق لكان له صانعٌ صنع أجزاءه ثم ركَّبها، أمَا وأنه قد نما انطلاقًا من مبدأ كلي يمكن تشبيهه بالقانون الأزلي، فإن السؤال عن صانعه يغدو بلا معنًى.
إن كل عناصر الكون الذي يشبه العضوية الحية تتبادل الأثر والتأثير في سلسلةٍ مترابطةٍ لا تعرف العلة والمعلول، حيث التاو هو الخميرة الفاعلة في الباطن، والعمليات الجارية في العالم المادي هي الظاهر؛ فالتاو هو الباطن والظاهر، تجده في كل شيء، وهو المستقل عن كل شيء، على ما تنطوي عليه هذه المحاورة التي يُوردها تشوانغ تزو في كتابه:
«توجَّه المعلِّم الكونفوشي تونغ كاو إلى تشوانغ تزو بالسؤال قائلًا: أين يوجد ذلك الذي تدعونه بالتاو؟ أجابه تشوانغ تزو: إنه في كل مكان. فقال تونغ كاو: أريد أن أعرف أين يوجد بالتحديد. أجابه تشوانغ تزو: إنه في النملة. فقال تونغ كاو: كيف يوجد في هذه الدرجة السفلى!؟ فقال تشوانغ تزو: إنه في بلاطة الأرض هذه. فقال تونغ كاو: هذا لعمري أدهى وأمَر. فقال تشوانغ تزو: بل إنه يوجد حتى في روث البقر. وهنا سكت تونغ كاو وخانته الكلمات، فتابع تشوانغ تزو قائلًا: عليك ألَّا تسأل عن أشياءَ محدَّدة يوجد فيها التاو؛ لأنه لا وجود لأي شيء بدون التاو.»
- (١)
الشمولية. فهي تسري في كل مكان وعبر كل الأزمنة من تاريخ الكون.
- (٢)
الثبات. فهي لا تتغيَّر بمرور الزمن، ولا تعتمد في فعاليتها على أي شيء آخر، بينما تعتمد عليها كل المنظومات الفزيائية.
- (٣)
السرمدية. أي إنها لا زمانية على ما يتبدَّى من البنى الرياضية المستخدمة في وضع نماذج للعالم الفيزيائي.
- (٤)
كلية السيطرة. فلا شيء يُفلت من سيطرتها، ولا تحتاج لأن تزوِّدها أي منظومة فيزيائية عن التغيُّر في أحوالها لكي يقوم القانون بإصدار التعليمات الخاصة بكل حالة.
ومع وجود القوانين لا يغدو حدوث العالم معجزة؛ فقد كانت حاضرةً لحظة الانفجار البدئي الكبير الذي نجم الكون عنه، وهي التي تحكَّمت في تشكُّل المجرَّات وتباعدها عن نقطة الانفجار بسرعاتٍ محسوبةٍ بدقة، بحيث لو أنها كانت أقلَّ أو أكثر بمقدارٍ بسيطٍ لا يمكن التعبير عنه إلا برقمٍ رياضيٍّ متناهٍ في الصغر؛ لانهار الكون وتحوَّل إلى فوضى مطلقة. قد يجادل البعض في أن القوانين الطبيعية ظهرت مع ظهور العالم الفيزيائي، ولكن إذا كان الأمر كذلك فإننا لا نستطيع تفسير ظهور العالم بواسطة القوانين؛ لأنها لا تتمتَّع في هذه الحالة بوجودٍ سابقٍ على ظهور العالم، وبالتالي لا يمكن أن تكون سببًا له. أمَّا إذا كان للقوانين وجودٌ مستقل وسابق، فإن ذلك يشرح لماذا صار العالم على ما هو عليه الآن.
إن كل عنصرٍ في هذا الكون يبدو وكأنه نقطة المركز، تمامًا كما هو الحال على سطح كرة حيث تتخذ كل نقطة عليه دور المركز. وفي هذا الكون لا يوجد مسيِّر ولا يوجد مسيَّر؛ فهو كونٌ تشاركي يحدث كل شيء فيه في ترابطٍ وتزامنٍ مع حدوث كل شيء آخر. إن أية نملةٍ تدب على الأرض هي مركز الكون؛ فلكي تعيش هذه النملة تحتاج إلى الْتقاط ما يتساقط على التربة من حبوب، والحبوب تحتاج إلى التربة وإلى دورة الفصول، ودورة الفصول تحتاج إلى الشمس، والشمس إلى المجرة، والمجرة إلى باقي النظام الكوني، والعكس صحيح؛ فمنذ اللحظة الأولى للانفجار الكبير يبدو أن تنامي التعقيد على المستوى الكوني كان يسير في طريق إنتاج الحياة، وبالتالي إلى إنتاج هذه النملة.
الوجود والعدم
في الفصل الافتتاحي من التاو تي تشينغ يقدِّم لنا لاو تسو مفهوم التاو في ارتباطٍ مع النظرية التاوية في الوجود والعدم:
ثم يأتي تشوانغ تزو ليُلقي ضوءًا على مقولة لاو تسو هذه:
فبالنسبة إلى الفكر التاوي فإن العدم والوجود هما تعبيران آخران عن اللامسمى والمسمى؛ ولذلك فإن بعض نُسَخ كتاب التاو تي تشينغ تضع في مقابل قول لاو تسو في المقتبَس السابق: «اللامسمى هو السابق على السماء والأرض»، صيغةً بديلةً هي: «العدم هو السابق على السماء والأرض.» وشرح ذلك فيما يلي: إن جميع مظاهر الطبيعة عبارة عن كمٍّ وكيفٍ وصورة، وهي تتمتَّع بالوجود ولها أسماء أو يمكن أن نطلق عليها الأسماء. أمَّا التاو فليس كمًّا ولا كيفًا ولا صورة، وبالتالي فإنه لا يتمتَّع بوجودٍ يشبه وجود مظاهر الكون والطبيعة. فإذا كانت هذه المظاهر موجودةً فإن التاو عدمٌ بالنسبة إليها؛ ولهذا لا يمكن وصفه أو التحدُّث عنه بكلام؛ فهو بلا اسم ولكنه في الوقت ذاته مصدر كل ما له اسم. وبهذا المعنى يقول تشوانغ تزو: «إن ما يجعل الأشياء أشياءً ليس في حد ذاته شيئًا.»
وبما أن التاو يملأ المكان ويتخلَّل كلَّ حيزٍ فإنه يمتَدُّ في المكان بلا نهاية، وبما أنه ليس هنالك من نهاية، فإن حركته عكوسية ترجع إلى نقطة البداية وتصل النهاية بالبداية في دائرةٍ مغلقة. في هذه الحركة الدائرية تعبيرٌ عن الكمال وعن الثبات وعدم التغيُّر، يقول لاو تسو في الفصل ٢٥:
ونحن إذا أردنا تقريب هذه الحركة إلى الأذهان يمكن أن نستحضر حركة الضوء في فيزياء الكون الحديثة؛ فالكون لا نهائي ومغلقٌ في الوقت نفسه، لا نهائي لأن المجرَّات تتباعد عن مركزه بسرعاتٍ خيالية، وتلك التي تقع على حوافه تخلق في هروبها على الدوام مكانًا جديدًا يضاف إلى مساحته، فهو مثل البالونة التي تتوسَّع بالنفخ، ولكنه في الوقت ذاته مغلقٌ لأنه لا وجود لمكانٍ خارج حواف تلك البالونة؛ فنحن إذا أطلقنا شعاعًا من مصدرٍ ضوئيٍّ وافترضنا وصوله إلى حافة الكون، فإن حركته نحو الأمام حينذاك سوف تنعكس ويرجع عائدًا إلى المكان الذي صدر عنه. وإذا نظر أحدنا في منظارٍ قادرٍ على سبر حواف الكون، فإن أبعد ما يراه هذا الناظر هو نقرة رأسه.
وهنالك شبهٌ آخر بين حركة التاو وحركة الضوء، يقول لاو تسو عن حركة التاو في الفصل ١٤:
هذه الصورة المبدعة التي تَفتَّق عنها حدس المعلِّم تضعنا في قلب نظرية النسبية العامة لأينشتاين؛ فالضوء هو الثابت الكوني والمطلق الوحيد في عالم الظواهر المادية، وهو يتحرَّك بسرعةٍ ثابتةٍ مقدارها ٣٠٠٠٠٠كم/ثا. وما نعنيه بقولنا إن للضوء سرعةً ثابتةً هو التالي: إذا كنت تقود سيارةً بسرعة ١٠٠كم/سا، وأمامك سيارة أخرى تسبقك بسرعة ١٥٠كم/سا، وقست من أمامك سرعة السيارة الأمامية فإنك ستجدها حتمًا ٥٠كم/سا، وهذا الرقم هو حاصل طرح السرعتَين من بعضهما. أمَّا إذا كانت السيارتان تنطلقان نحو بعضهما في اتجاهَين متعاكسَين، فإن سرعة السيارة الأخرى مُقاسَة من قِبَلك ستكون ٢٥٠كم/سا، وهذا الرقم هو حاصل جمع السرعتَين المتعاكستَين، إلا أن الضوء، وعلى عكس كل ما يتحرَّك في الطبيعة، يسير بسرعةٍ ثابتةٍ بصرف النظر عن الوضع الحركي للمراقب. فإذا عمدت إلى قياس سرعة ضوء قادم إليك من مصدرٍ ساكن، لوجدتها ٣٠٠٠٠٠كم/ثا. وإذا تحرَّكت نحو مصدر الضوء بسرعة ١٠٠٠٠٠كم/ثا، لوجدت أن سرعته أيضًا هي ٣٠٠٠٠٠كم/ثا لم تتغيَّر. ولو أنك لاحقت شعاعًا منطلقًا نحو الأمام، وأنت تتحرَّك بسرعة ٢٥٠٠٠٠كم/ثا لوجدت أيضًا أن سرعته ٣٠٠٠٠٠كم/ثا لم تتغيَّر، ولَمَا استطعت أبدًا تقصير المسافة بينك وبينه؛ أي إنك لن تستطيع أبدًا رؤية ضوءٍ ساكنٍ لا يتحرَّك.
الفراغ الخلاق
ويطابق لاو تسو بين العدم والفراغ. يقول في الفصل ٤:
ثم يطابق بين العدم والصمت فيقول في الفصل ٢٥:
وهذه المطابقة بين التاو والفراغ والصمت تُحضر إلى الذهن قول المتصوِّف المسيحي الألماني إيكهارت (ت١٣٢٨م): لا شيء يشبه الله في هذا العالم مثل الصمت.
وكما يتصف فراغ التاو بأنه «حالة فعالية» منتجة، لا حالة عطالة، كذلك هو حال الفراغ في عالم الظواهر المادية. يقول في الفصل ١١:
يعطينا لاو تسو هنا أمثلةً عن فعالية اللاشيء أو الفراغ في الحياة العملية؛ فالدولاب يدور على محوره بفضل الثقب الفارغ الذي تلتقي عنده أقطار الدولاب، والإناء لا يصلح للاستعمال إلا بفضل الفراغ الحادث في داخله، والغرفة لا تصلح للسكن إلا بفضل الفسحة الخالية بين جدرانها. هذا الفراغ المنتج يشبه المنفاخ الذي يعطيك قدر ما تشاء من الهواء لأنه مجوَّف.
كما أن للفراغ دورًا هامًّا في السعي الروحي للإنسان، وعلى قلب المريد أن يكون فارغًا لكي يحل فيه التاو. إن فراغ القلب (= الذهن) هو كل ما تسعى إلى تحقيقه تقنيات التأمُّل الباطني لمختلِف المدارس تاويةً كانت أم بوذيةً أم هندوسيةً أم تصوفيةً إسلامية، حيث يصرف المتأمِّل ذهنه عن كل ما يُحيط به من تبدُّلاتٍ وتغيُّرات، ويركِّز على الثابت الذي لا يتغيَّر. وهذا ما يدعوه لاو تسو بتثبيت القلب على الفراغ، أو تأمُّل الفراغ:
وأيضًا:
وأيضًا:
إن التاو الذي يطلبه المريد هو بلا خصائص، وما لا خصائص له ليس موضوعًا للمعرفة التقليدية القائمة على شحن الذهن، بل لمعرفةٍ ليست بالمعرفة تقود إلى التطابق معه، وهذا لا يتأتَّى بالتعليم التدريجي الذي يقوم به شيخ المريد، وإنما يحصل دفعةً واحدةً وفي لحظة استنارة مفاجئة، تشعر فيها مرةً واحدةً وإلى الأبد بأن الكون واحد. وفي هذا يقول تشوانغ تزو: «عندما يصل عالمك الداخلي حالة السكون التام فإنه يشع نورًا سماويًّا. من يشع بنوره السماوي يشعر بذاته الحقيقية، ويقبض على الأبدية في الحاضر. عندما يقبض على الأبدية في الحاضر تسقط عنه عناصره البشرية وتسنده خصائص السماء.»
المبدأ الكلي والبشر
بما أن التاو ليس إلهًا خالقًا للكون يسيِّره من موضعٍ مفارق، فإن التاوي لا يتعامل معه باعتباره سلطةً عُليا يتوجَّب عليه إظهار الطاعة لها، والشكر والامتنان على عطاياها، والتقرُّب إليها بالعبادات والقرابين، طلبًا لنعمتها أو ردًّا لنقمتها؛ ولذلك لم يكن لدى التاوية الفلسفية معابد ولا كُهَّان ولا كتب مقدسة، بل شيوخٌ يعلِّمون الطريقة من خلال التوجيه والتدريب لا من خلال الكتب. وقد عبَّر أحد شعراء الزن عن هذا الموقف اللاديني للطريقة بقوله:
ونحن هنا أمام توجيهٍ روحيٍّ يستغني عن البوذا نفسه كشفيعٍ للخلاص، أو عن يسوع المسيح الذي قال: ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلا بي (إنجيل يوحنا ١٤: ٦).
وقد عبَّر لاو تسو عن هذه العلاقة الحرة بين المبدأ الكلي والبشر بقوله:
وأيضًا:
أي إن عطاء التاو يشبه عطاء الطبيعة التي تهب خيراتها دون مقابل، ودون أن تجعل من نفسها سلطةً على مَن تُعيلهم.
في الأخلاق
هذه العلاقة بين المبدأ الكلي والبشر تستتبع نوعًا آخر من الأخلاق غير التي تقول بها الأديان الإلهية؛ فالإنسان في هذه الأديان لا يتمتَّع بوازعٍ خلقيٍّ أصلي، وهو لا يتَّبع سُبل الخير إلا امتثالًا للأمر الإلهي، وطمعًا في ثواب أو تفاديًا لعقاب، بينما يرى لاو تسو أن الفضيلة مزروعة في صميم نظام الطبيعة والنفس الإنسانية، وما على الإنسان إلا أن يضع نفسه في توافقٍ مع هذا النظام لكي يسلك بشكلٍ أخلاقيٍّ دون قصدٍ منه، أو حاجةٍ إلى اتباع منظومةٍ أخلاقية مفروضة من قِبَل سلطة ما، إلهية كانت أم زمنية. وفي هذا يقول:
ويقول تشوانغ تزو: «كان الناس في الأيام الخوالي مستقيمين في سلوكهم دون أن يعرفوا أن في ذلك استقامة. كانوا يحبون بعضهم بعضًا دون أن يعرفوا أن في ذلك خيرًا. كانوا مخلصين دون أن يعرفوا أن في ذلك صدقًا. كانوا يساعدون بعضهم دون أن يعرفوا أن في ذلك تعاونًا؛ لذا فإن أعمالهم لم تترك أثرًا ولا نملك سجلات عن شئونهم.»
ويقول لاو تسو:
عندما تبذل الحسنة دون أن تشعر بأنك محسن، ودون التفكير بأجرٍ مادي أو معنوي؛ فإنك تتشبَّه بالتاو الذي يفيض بنعمه دون مقابل.
لذلك، ومن أجل إتاحة الفرصة أمام الإنسان لكي يتلمَّس منابع الخير في داخله، علينا ألَّا نضع له لوائح بالمعايير السلوكية على طريقة الكونفوشية وبقية المدارس الأخلاقية، وهذا معنى قوله:
وهذا ما يحيلنا إلى آراء لاو تسو في المعرفة.
في المعرفة
أقوال لاو تسو في المعرفة لقيت الكثير من سوء الفهم، وفُسِّرت على أنها تدعو إلى نبذ المعرفة. ولإزالة هذا اللبس ألفت النظر إلى أن التاو تي تشينغ يحتوي على خطابَين في المعرفة؛ الأول: موضوعه معرفة التاو. والثاني: موضوعه المعرفة العامة التي تقود الإنسان إلى فهم محيطه الطبيعي وتحسين أحوال المجتمع المادية والمعنوية. ففي معرفة التاو يقول:
وأيضًا:
وأيضًا:
ويقول تشوانغ تزو: «لا ينتمي التاو إلى مجال المعرفة ولا إلى مجال غير المعرفة. المعرفة فهمٌ زائف واللامعرفة جهلٌ أعمى. هل تريد فهم التاو؟ إذن انظر إلى السماء الفارغة.» وأيضًا: «من يتصدَّى للإجابة عن سؤالٍ بخصوص التاو لا يفهم التاو؛ لأنه ما من سؤالٍ حول التاو وما من أجوبةٍ … التاو يُعرف بدون مفاهيم وبدون تفكُّرٍ عقلي، ويمكن مقاربته بالمكوث في اللاشيء، بطلب اللاشيء. الحكيم يعلِّم مبدءًا لا سبيل إلى التعيبر عنه بكلمات.»
إن تعبير «التعليم بدون كلمات» الذي يرد مرارًا في الأدبيات التاوية لا يعني عدم التعليم، وإنما عدم استخدام نصوص مكتوبة في تعليم المريد، بل تدريبه على تحقيق حالة «الصحوة» أو «الاستنارة» بمجهوده الخاص؛ ولذلك قال أحد معلِّمي الزن لتلميذٍ جديدٍ سأله عمَّا يتوجَّب عليه أن يتعلَّمه أولًا: «هل انتهيت من تناول غدائك؟» أجابه: «نعم.» فقال له: «إذن اذهب واغسل قصعتك.» وقال معلِّمٌ آخر لتلميذٍ جديد سأله عن طبيعة البوذا: «إنها ثلاث كيلاتٍ من الأرز.» وقال معلِّمٌ ثالث في جوابه على أسئلةٍ مماثلة لتلميذٍ جديد إن عليه أن يقوم بما كان يقوم به في حياته العادية، ثم أضاف: «واغسل فمك كلما ذكرت البوذا.»
وفيما يتعلَّق بالنوع الثاني كان للاو تسو أقوال عديدة، ومنها: لكي تعرف لا تحتاج إلى تعلُّمٍ ودراسة.
التعلُّم والدراسة يبعدانك عن المعرفة (الفصل ٨١).
لا يوجد في مقولة لاو تسو هذه، ولا في أشباهها، ما يدعو إلى رفض المعرفة على إطلاقها، بل إلى رفض ذلك النوع من المعرفة القائم على اتباع سنن السابقين ودراسة ما كتبوه؛ أي رفض السبيل الكونفوشي إلى المعرفة الذي يبتدَّى في أقوال كونفوشيوس نفسه. ومنها على سبيل المثال:
«أنا ناقل علمٍ أكثر مني منشئًا. أثق بالتعاليم القديمة وأنعم بها» (الحوار ١٧: ١).
«الرجل النبيل الذي هذَّب نفسه بقواعد الأدب والمعاملات (التي نصَّ عليها كتاب الطقوس)، لا يمكن أن يخرج عن جادة الصواب» (الحوار ٦: ٢٧).
«إن من لم يدرس الفصل الأول والثاني من كتاب القصائد القديم، هو في طريق العلم أمام جدار» (الحوار ١٧: ١٠).
«قضيتُ نهارًا بطوله دون طعام وليلةً بطولها دون نوم وأنا أفكِّر، ولكنني لم أخرج من ذلك بشيء. الأفضل من ذلك هو الدراسة والتعلُّم» (الحوار ١٥: ٣١).
فالكونفوشيون يشغلون أنفسهم بالمعرفة التقليدية التي يفرض الإنسان من خلالها أفكاره على الطبيعة، وهم في ذلك مثل اللاهوتيين المسيحيين الذين لم يجادلوا غاليلو فيما توصَّل إليه من حقائق بخصوص النظام الشمسي استنادًا إلى المنطق العلمي، وما توصَّلوا إليه أنفسهم من حقائق مغايرة، وإنما جادلوه استنادًا إلى ما قاله أرسطو قبل أكثر من ١٥٠٠ سنة. أمَّا التاويون فينكَبُّون على دراسة الطبيعة لتبوح بأسرارها. وفي هذا يقول العلامة جوزيف نيدهام، الذي عاش ردحًا من حياته في الصين خلال القرن العشرين، وعكف على دراسة ثقافتها في كتابه الموسوعي «العلم والحضارة في الصين»، ما يلي: «إن التاويين من خلال خبرتهم المباشرة بالطبيعة، قد قدَّموا للعلم الصيني أكثر بكثيرٍ ممَّا قدَّمته الكونفوشية؛ فقد حفلت الأدبيات التاوية بمعلوماتٍ وافرةٍ عن النباتات والمياه والرياح وسلوك الحيوانات والحشرات، اعتمد مدوِّنوها على الاستقصاء والملاحظة المباشرة المتحرِّرة من النظريات المسبقة، وكان شعارهم في ذلك: «ابحث عن الأسباب»؛ فلكل ظاهرةٍ من ظواهر الطبيعة سبب، وإن لم نكن الآن قادرين على معرفته. والبحث عن الأسباب كان دومًا وراء الاكتشافات العلمية الكبرى في تاريخ الإنسانية. وقد قادتهم هذه المعرفة القائمة على الملاحظة إلى إجراء التجارِب، وصارت المعرفة التجريبية سمة الفكر الصيني قبل أوروبا بزمنٍ طويل، وتجلَّت هذه المعرفة التجريبية بشكلٍ خاصٍّ في الكيمياء والتعدين. كما كان التاويون على درايةٍ بعلم الحركة، أو الميكانيك، حتى إن أحدهم صنع إنسانًا آليًّا يتحرَّك (وكان بمثابة النموذج الأبكر للروبوط)، وصنع آخر طائرًا خشبيًّا قادرًا على الطيران لمسافةٍ قصيرة.»
ويورد نيدهام شاهدًا من التراث الصيني يعبِّر عن المعرفة التجريبية والتعلُّم من الطبيعة؛ فقد رفض الفنان هان الذي صار فيما بعدُ أعظم رسَّامي الخيول في عصره، عرض أحد أباطرة أسرة تانغ (٦١٨–٩٠٠م) بالتتلمذ على أيدي أشهر الرسامين في الصين، وفضَّل بدلًا من ذلك قضاء وقته في حظائر الخيول الملكية، يراقب عاداتها وطباعها وأدقَّ تفاصيل حياتها.
وقد عبَّر الأدب التاوي عن حكمة الطبيعة هذه على طريقته. يقول شاعرٌ تاوي:
كما قدَّر التاويون العمل اليدوي ومارسوه بأنفسهم، واعتبروه وسيلةً للبحث عن أسرار الطبيعة، وهذا التقدير هو الذي أتاح للمخترعين الصينيين تقديم خدماتٍ جُلَّى للإنسانية. أمَّا الكونفوشيون فقد ترفَّعوا عن العمل اليدوي، واعتبروه من شئون العامة، على ما نجده في أقوالٍ عديدةٍ لكونفوشيوس نفسه تنم عن الطبيعة الأرستقراطية لفلسفته؛ فقد سأله سائلٌ عن الزراعة، فقال له: لماذا لا تسأل فلاحًا عجوزًا؟ ثم عاد فسأله عن البستنة، فقال له: لماذا لا تسأل بستانيًّا عجوزًا؟ (الحوار ١٣: ٤). وفي حادثةٍ أخرى سمع كونفوشيوس من تلاميذه أن رجلًا قال فيه: ما أعظم كونفوشيوس وما أعمق تعاليمه! ومع ذلك فإنه لم يُشتهر بحرفةٍ من الحرف. فعلَّق كونفوشيوس على ذلك ساخرًا: أية مهنةٍ أتخذ؟ هل أغدو حوذيًّا أم نبالًا؟ أعتقد أنني سأغدو حوذيًّا (الحوار ٩: ٢).
فلسفة التغيُّرات
قادت ملاحظة الطبيعة والتعلُّم منها إلى ملاحظة التغيُّر الدائم الذي يحكم الكون ونظام الطبيعة؛ فعندما يبلغ الصيف أوجه يأخذ بالانحدار نحو الخريف، وعندما يبلغ الخريف أوجه يبدأ بالانحدار نحو الشتاء، وعندما يبلغ الشتاء أوجه يبدأ بالصعود نحو الربيع. وفي تتابع الفصول هذا نجد أن الحرارة بعد أن تصل أقصى مدًى لها في الارتفاع تتحوَّل تدريجيًّا إلى برودة، والبرودة بعد أن تصل أقصى مدًى لها في الانخفاض تتحوَّل تدريجيًّا إلى حرارة. ثم إن الشمس عندما تصل أقصى مدًى لها في الصعود نحو خط الهاجرة في كل سنة، تبدأ بالانحدار نحو الجنوب. كل شيء يتحوَّل إلى نقيضه في حركةٍ عكوسية ترجع به إلى نقطة المبتدى، وكل شيء يحتوي في صميمه على بذرةٍ من نقيضه تنمو تدريجيًّا. وهذه أطروحة رئيسية لدى كتاب الإي تشينغ أو التغيُّرات، ومن بعده التاو تي تشينغ:
هذه الحركة العكوسية هي أساس كوزمولوجيا (= نظرية نشوء الكون) كتاب التغيُّرات؛ ففي البدء كان التاو عدمٌ ينطوي على حالةٍ فعالية، ودارة مغلقة يتصل أولها بآخرها. حالة الفعالية هذه أنتجت في داخل الدارة قوةً موجبةً هي اﻟ «يانغ» دارت على نفسها، وعندما بلغت الأوج أنتجت قوةً سالبةً هي اﻟ «يِن» دارت على نفسها، وعندما بلغت القاع عادت فأنتجت اﻟ «يانغ». ومن تتابع دوران القوتَين على بعضهما نتج التمايز من حالة اللاتمايز الأولى، وظهرت إلى الوجود الآلاف المؤلَّفة من مظاهر الكون والطبيعة. يقول لاو تسو في الفصل ٤٠:
في كتاب التغيُّرات جرى تمثيل دائرة التاو بصريًّا على الشكل التالي:
وفي كتاب التغيُّرات يُرمز للكم الذي تحتويه الظاهرة من قوة اليِن بخطٍّ متقطِّع، وللكم الذي تحتويه من قوة اليانغ بخطٍّ متصل على الشكل التالي:
وقد تمَّ جمع هذَين الرمزَين في أزواجٍ للدلالة على اختلاف ما تحتويه الظاهرة من هذَين الكمَّين، ونتج عن ذلك أربعة رموز هي كل الاحتمالات لاجتماع خطَّين متصلَين أو متقطِّعَين أو مختلفَين:
ولكن التعقيد الذي يميِّز اجتماع الكموم أدَّى إلى إضافة خطٍّ ثالثٍ إلى كل زوجٍ من هذه الأزواج، ونتج عن ذلك ثماني مجموعات هي كل الاحتمالات الممكنة لاجتماع ثلاثة خطوط:
ثم الْتقت هذه المجموعات كل اثنتَين في واحدة، ونتج عن ذلك أربعة وستون رمزًا هي كل الاحتمالات الممكنة لاجتماعها، وهذه الرموز هي صورٌ لكل ما يجري في السماء وعلى الأرض. ولكن هذه الصور ليست ثابتةً بل متحوِّلة، ويمكن أن ينقلب خط واحد سالب إلى خطٍّ موجبٍ لكي يقع التغيُّر في المجموعة، كما هو الحال في هاتَين المجموعتَين:
تحتوي المجموعة الأولى اليمنى على ستة خطوطٍ سالبة، وهي تمثِّل الأرض المتلقية، كما تمثِّل فصل الخريف عندما تكون قوى الطبيعة هاجعة، ولكن تغيُّرًا حصل في الخط المتقطِّع العلوي، وحوله إلى خطٍّ متصلٍ أدَّى إلى ظهور المجموعة اليسرى التي تمثِّل الرعد والحركة المحرِّضة في باطن الأرض عند تبدُّل الفصول.
وحدة الأضداد
يُنتِج التغيُّر الدائم على مستوى الكون والطبيعة والإنسان ثنائياتٍ تؤلِّف نسيج الكون، وهذه الثنائيات على كونها نقائض وأضداد، إلا أن تناقضها أشبه بتناقض قطبَي المغناطيس اللذَين لا وجود لأحدهما إلا بالآخر؛ ولذلك فإن الفكر التاوي والصيني عمومًا، يرى إلى الأقطاب في توازنها وتعاونها لا في صراعها. فالوجود ينجم عن العدم، والعدم يتخذ معناه من الوجود، وكذلك الأمر في ما لا يحصى من الثنائيات. يقول لاو تسو في الفصل ٢:
لذلك على الإنسان أن يعي هذه الوحدة في التناقض، ويعمل على التوافق معها، تاركًا الطبيعة تأخذ مجراها دون إصدار حكم أخلاقي بشأنها؛ لأنه لا خير ولا شر في كل ما يحدث. يقول تشوانغ تزو: «إن الموت والحياة يعملان في خدمة بعضهما، فلماذا اعتُبر أحدهما خيرًا والآخر شرًّا؟ الحياة جميلة لأنها غضة وطرية، والموت كريهٌ لأنه نتِنٌ وعفِن، ولكن العفِن والنتِن يعود فيتحوَّل إلى ما هو غضٌّ وطري، وبعدها يحدث التحوُّل العكسي.»
فالعاقل الذي يتفهَّم طريق الطبيعة يقدِّر التغيُّر وما ينتجه من ثنائيات، فلا يطلب أحد قطبَي الثنائية ويرفض الآخر؛ لأن التوفيق بينهما يتم من خلال العمليات السماوية. العاقل يساوي بين صيغة «إن» وصيغة «ليس» ويترك القسمة بينهما إلى السماء. يقول لاو تسو في الفصل ٢٠:
ويقول تشوانغ تزو: «النفي ينشأ عن الإثبات والإثبات ينشأ عن النفي؛ لذلك فإن الحكيم يصرف ذهنه عن الفوارق ويستمد رأيه من السماء. إن «هذا» هو أيضًا «ذاك»، و«ذاك» هو أيضًا «هذا». هل من فرقٍ بينهما؟ هل ليس من فرقٍ بينهما؟ عندما لا نكرِّس هذا وذاك باعتبارهما نقيضَين نفهم جوهر التاو. النفي والإثبات يتمازجان في الواحد اللانهائي.»
عندما نَصِف شيئًا ما بأنه كبيرٌ لأنه أكبر من أشياء أخرى، فإن كل الأشياء في العالم تبدو كبيرة. وعندما نَصِف شيئًا بأنه صغيرٌ لأنه أصغر من أشياء أخرى، فإن كل الأشياء في العالم تبدو صغيرة. والجدلية التاوية تخلص من هذا القول بأن كل الأمور نسبية؛ فلا الصغير صغيرٌ بشكلٍ مطلق، ولا الكبير كذلك. إن حالة القطبية التي تميِّز وجود الأشياء تشفُّ عن حقيقةٍ مفادها أن صفات هذه الأشياء ليست ملازمةً لها، بل إنها معرَّضةٌ للتحوُّل إلى نقيضها. ويبدو لنا هذا جليًّا عندما نحاول ممارسة الفعل على صفةٍ ما لتغييرها. يقول المعلم:
هذه القطبية ليست وقفًا على مظاهر الطبيعة، وإنما تتعدَّاها إلى الإنسان الذي تتداول حياته أحوال العسر واليسر، والشدة والفرج، والأتراح والأفراح. فإذا حلَّ به العسر ظنَّ أنها خاتمة المطاف، وأن الحال سيبقى على ما هو عليه، وإذا حلَّ به اليُسر ظنَّ أنها أيضًا خاتمة المطاف. أمَّا العاقل الذي يعي الثنائيات فيلبث ساكنًا هادئًا في كلا الحالتَين؛ فلا يفرح إن حلَّ به خير، ولا يجزع إن حلَّ به شر؛ لأنه:
وخلاصة ما يتعلَّمه المرء من مراقبته لتداول الأقطاب في الطبيعة والحياة هو: «أن يعرف متى يتوقَّف.» ومن يعرف متى يتوقَّف لا يصل في كل ما يقوم به إلى المدى الأقصى، كي لا يحصل على نقيض ما يطلبه لأنه:
فلسفة اللافعل
يقول لاو تسو في الفصل ٦٣:
وأيضًا:
ولدينا أبياتٌ من شعر الزن متداولة في كل الأبحاث التي تتناول حكمة الزن، يعبِّران أفضل تعبير عن مبدأ اللافعل التاوي:
هذا ويجد لاو تسو في حركة الماء أفضل مثالٍ عن تحقيق الغاية بدون جهد؛ فالماء يتدفَّق دون كدٍّ من منبعه ويجري بيسيرٍ وسهولة إلى مصبه، وإذا جوبه بتلَّه التفَّ عليها أو بسدٍّ صنع بحيرة. يقول لاو تسو في الفصل ٤:
وأيضًا:
وهو في ذلك يشبه التاو:
ويقول تشوانغ تزو: «إن تدفُّق الماء لا ينجم عن جهدٍ يبذله، بل عن خصيصةٍ كامنةٍ فيه، ومثله فضيلة الرجل الكامل. السماء بطبيعتها عالية، والأرض بطبيعتها صلبة، والشمس والقمر بطبيعتهما منيران. هل اكتسبت هذه خصائصها أم إنها كامنة فيها؟»
ومثل الماء أيضًا الإنسان إذا تماثل مع التاو في سلوكه. يقول لاو تسو:
وتعبِّر رياضة الجيدو اليابانية ورياضة التاي شي الصينية عن فضيلة اللاجهد التاوية هذه. تقوم رياضة الجيدو على الإفادة من قوة الخصم نفسه من أجل إيقاعه على الأرض، وكل لاعبٍ يؤدِّي أقلَّ عددٍ من الحركات دون ممارسة الجهد لكي يجعل الخصم في وضعٍ يسهل معه الإخلال بتوازنه. أمَّا رياضة التاي شي التي ابتكرها تاوي يُدعى جانغ سان سينغ؛ فرياضة فردية قوامها تنفيذ حركات مركَّبة وبطيئة جدًّا لا جهد فيها ولا قسر، تهدف إلى سريان قوتَي اليانغ والين في الجسم الإنساني؛ أي إنها تتَّبع المبدأ الذي يقوم عليه العلاج بواسطة الإبر الصينية، عندما يتم غرس الإبر في المسارات غير المنظورة للطاقتَين، والتاي شي ما زالت منتشرة في الصين، وبإمكان السائح أن يرى العشرات من الرجال والنساء يمارسونها في الحدائق العامة كلٌّ على حدة غير آبهٍ لِمَا يجري من حوله.
وقد قرن لاو تسو فضيلة اللاجهد بالإفادة من قوة الخصم في الفصل ٦٨، حيث قال:
فلسفة اللين
أقوال لاو تسو في فلسفة اللين تُبدي تناقضًا مع كلِّ ما عرفَته البشرية عبر تاريخها، ومنها:
وأيضًا:
ثم يعمد لاو تسو إلى تقديم الأمثلة الحية على صدق مقولته من حياة الطبيعة:
وقدرة الماء على مقاومة القوي والصلب تتمثَّل في تفتيته لشواطئ البحر الصخرية وتحويلها إلى ذرات رملٍ دقيقة، وفي جبروت الأمواج العالية والسيول الجارفة ومساقط المياه.
ثم يتتبَّع مظاهر اللِّين والصلابة في الطبيعة ليجد أن اللِّين هو شعار الحياة والصلابة شعار الموت.
وبما أن اللين هو خَصِيصة من خصائص اﻟ «يِن»، وأيضًا خَصِيصة من خصائص المرأة التي يغلب فيها اﻟ «يِن» على اﻟ «يانغ»، فإن على الرجل الذي يغلب فيه اﻟ «يانغ» على اﻟ «يِن» أن يقلِّد في جنوحه إلى اللِّين دور المرأة.
نلاحظ هنا كيف قرن لاو تسو اللِّين بالتواضع؛ ولذلك يقول في موضعٍ آخر:
وقال في التواضع أيضًا:
وأيضًا:
وفي الحقيقة فإن اللِّين والتواضع ما زالا إلى يومنا هذا سمة لشخصية الإنسان الصيني، وهذا ما يلاحظه كل من عاش في الصين ردحًا من الزمن، وخالط أهلها من كل المستويات الاجتماعية.
في الحكم والسياسة
فلسفة لاو تسو في الحكم والسياسة هي امتدادٌ لفلسفته في اللافعل واللِّين والتواضع. يقول في الفصل ١٧:
فالحاكم التاوي يفعل ما خلال اللافعل، ولا يتدخَّل في شئون الرعية إلا بالحد الأدنى، تاركًا الأمور تسير في المجتمع سيرها في حياة الطبيعة، حتى إذا اتخذ كلٌّ مساره التلقائي دون تلقين أو قسر، ساد التناغم في المجتمع مثلما يسود في عالم الطبيعة؛ لذلك فإن أفضل الحكام من شابه الظل عند رعيته فلا يشعرون بوجوده أو وطأته، يليه الحاكم الذي يحبُّون ويمدحون ويشعرون بوجوده، فإذا ازداد تدخُّله في شئونهم صاروا يخافونه ويرهبونه، وإذا جنح إلى الطغيان صاروا يكرهونه ويحتقرونه. ولعل أفضل ما يحقِّقه الحاكم الظل هو أن يبدو وكأنه ليس له يدٌ فيما تحقَّق.
ويقول في الفصل ٦٦:
وأيضًا:
والغفلة التي يقصدها المعلِّم هنا هي الإقلال قدر الإمكان من التدخُّل في شئون الرعية، وعدم الإكثار من الشرائع والنظم والقوانين والعقوبات الرادعة. إن غفلة الحكومة تترك الناس على طيبتهم وبساطتهم الأصلية، أمَّا يقظة الحكومة وتشديد قبضتها على الرعية فتفسد طيبة الناس وتدفعهم إلى الخبث والتحايل على القانون مهما بلغ من شدة العقوبات الرادعة.
وللمعلم في مسألة القوانين والعقوبات الرادعة قولٌ يحتوي على تناقضٍ ظاهري:
فلاو تسو هنا يتحدَّى قناعتنا التي ترسَّخت عبر التاريخ بأهمية العقوبات التي تنص عليها القوانين، وبدورها في ردع من يفكِّر بالخروج على القانون، وهو ينظر إلى المسألة من زاويةٍ مختلفة تمامًا، فإذا لم يكن هنالك في الأصل قوانين لن يكون لدينا بالمقابل خارجون على القانون، إن كل ما سنته الولايات المتحدة من قوانين لمكافحة الاتجار بالمخدرات عبر تاريخها لم يؤدِّ إلا إلى التوسُّع في تلك التجارة، وكل ما قامت وتقوم به حكومات أميريكا اللاتينية من مكافحة صناعة الكوكائين، لم يؤدِّ إلا إلى ازدهارها وزيادة تدفُّق شحنات الكوكائين على أميريكا الشمالية. وفي بعض دول شرق وجنوب شرق آسيا وصلت عقوبة الاتجار بالمخدرات حد الإعدام دون أن يرتدع أحدٌ من العاملين بهذه التجارة. وعلى حد قول لاو تسو:
وأيضًا:
ولدينا من تاريخ الصين أمثلة على فشل التطرُّف في سنِّ القوانين والعقوبات الرادعة؛ ففي أواسط القرن الرابع قبل الميلاد بدأت دولة تشِن بمشروع طموحٍ يهدف إلى التوسُّع الدائم على حساب بقية الدويلات المتحاربة وصولًا إلى توحيد البلاد، وقام رجل الدولة المتميِّز شانغ يانغ بإصلاحات في بنية الجيش والمجتمع بالاعتماد على أفكار المدرسة الشرائعية، التي يقول معلِّموها بأن نظام الدولة يجب أن يقوم على منظومةٍ صارمةٍ من الشرائع والقوانين التي يرعى الحاكم تطبيقها مستعينًا بأشد العقوبات الرادعة. وقد قام ملك تشِن بإلغاء ألقاب النبالة التقليدية المستمدَّة من النسب، وما يتمتَّع به حاملوها من مزايا معنوية ومادية، وأعاد توزيع تلك الألقاب وفقًا للمنجزات الحربية، فكان على النبلاء استعادة مراكزهم السابقة في ميادين القتال، وإلا تمَّ إنزالهم إلى مستوى العامة.
على أن التوسُّع العسكري ترافق مع زيادة معدَّلات الجريمة وانتشار اللصوص وقُطَّاع الطرق لا يردعهم عن غايتهم رادع، وكلما تشدَّدت السلطة في تطبيق العقوبات ارتفعت معدَّلات الجريمة. وعندما أفلحت الأسرة الحاكمة في تشِن أخيرًا في توحيد الصين وتشكيل أول إمبراطورية حقيقية في تاريخ الصين عام ٢٢١ق.م.، أعلن الإمبراطور الأول المدعو تشِن شي هوانغ أنه أسَّس لأسرة إمبراطورية سوف يدوم حكمها ألف عام، ولكن حكم هذا الإمبراطور تميَّز بالطغيان والاستبداد، وعندما تُوفي بعد عشر سنوات، شاعت الاضطرابات في الدولة وقامت ثورة شعبية عارمة ضد خليفته انتهت بالقضاء على أسرة تشِن عام ٢٠٦ق.م. قبل أن تُكمل عقدَين اثنَين فقط من حكمها، وجرى رفع حاكم دولة تشو المدعو ليو بانغ إمبراطورًا، وقد أسَّس هذا الحاكم لسلالةٍ إمبراطورية جديدة حكمت لأربعة قرون قادمة هي أسرة هان.
عندما دخل ليو بانغ مدينة شي آن عاصمة أسرة تشِن، أعلن بيانه السياسي الذي ندَّد فيه بكل وسائل القمع السابقة، وألغى القوانين التعسُّفية التي سنَّتها أسرة تشِن ولم يُبقِ منها إلا على ثلاثة قوانين فقط. وكان على المحاكم أن تستخدم روح هذه القوانين لا حرفيتها، وتتعامل مع كل جريمةٍ وفق ظروفها وملابساتها الخاصة. ويقول مؤرِّخو تلك الفترة إن الأمن والاستقرار ساد البلاد بعد ذلك لمدةٍ طويلة من الزمن.
كل هذا يأتي في اتفاقٍ مع قول لاو تسو على لسان الحاكم المثالي الذي يدعوه بالحكيم:
ومن أهم ما يتمتَّع به الحاكم من صفاتٍ هو التواضع:
وأيضًا:
وينطبق على الحاكم أيضًا قوله:
وتواضُع الحاكم يتحوَّل إلى تواضُعٍ لدولته أمام الدول الأخرى:
وبما أن الحرب امتدادٌ للسياسة فقد رأى لاو تسو أن على الحاكم ألَّا يلجأ إليها مضطرًّا، وأن يعجِّل في إنهائها قدر المستطاع؛ فهي أشبه بالعملية الجراحية ذات الهدف المحدَّد، وليست سبيلًا إلى تحصيل الأمجاد الشخصية أو القومية:
وأيضًا:
هذه الكلمات هي أصدق ما قيل في الحرب عبر تاريخ البشرية، وتجعل من لاو تسو نبيًّا للإنسانية لا مجرَّد حكيم صيني.
لقد نقل لاو تسو تعاليمه للبشرية وهو يعرف أنها أكثر راديكالية من أن يعمل بها أحد؛ فلذلك آثر أن يُبقي نفسه مجهولًا، ولم يَسمع به أحدٌ بعد تدوينه للتاو تي تشينغ: