الفصل الثاني
هيئة الفصل الأول عَينها
المنظر الأول
المشهد الأول
(ليلى وحدها)
رأفةً في فؤاد ليلى المعنَّى
ففؤادي المُضْنى
أحبَّ فجنَّا
من زمانٍ ويلَ الغرام أقاسي
وأراني ما نلتُ ما
أتمنَّى
إن شكوتُ الغرامَ قال المُحِبُّو
ن إن شكوتِ
الهوى فما أنتِ منَّا
كاد قلبي يذوب وَجدًا وشَوقًا
وزماني عليَّ
بالوصْل ضنَّا
كنتُ أرجو اللِّقاء خابتْ ظُنوني
كم مُحبٍّ يا
ناس قد خاب ظنَّا
كلُّ أهلي عواذلٌ وَيح قلبي
ليتَهُم يعرفون ما
القلب كنَّا
أيُّها اللائم المُعنِّف دعْني
فعذابي كالمهرجان
وأهنا
ما أُحَيْلى تذكار عهد لِقانا
يوم كنَّا ولا
تسلْ كيف كنَّا
ليتَنا نلتقي ويجمعنا الدهـ
ـر ونَحيَا وبالهوى
نتغنَّى
المشهد الثاني
(ليلى – زينب)
زينب
(تدخل)
:
ما هذه التنهُّدات يا بنتاه، لقد تركتِنا على جمْر الأحزان نتقلَّب وأنتِ
بأحزانِنا لا تَشعُرين. أبوكِ كاد يموت من فرْط الأسى وأنتِ بغرامِك
لاهية!
بالله يا ناس ما أقوى مُصيبتَنا
الناس
نائمة إذ نحن في سهرِ
وصحَّ ما قالتِ الأمثالُ من قِدَمٍ
قلبي
على ابني وقلبي ابني على الحَجَرِ
ليلى
:
أُمَّاه إن مُصابي ليس تحصرهُ الـ
أقلام
حتى بلاني الدَّهر بالضَّجَر
قد صرتُ ما بين عشَّاق الوَرى
مثلًا
أهوى ولستُ أفوز الدَّهرَ
بالوَطَر
قد رقَّ لي الحَجَرُ القاسي فوا
أَسَفى
لكنَّ قلبكمُ أقسى من
الحَجَرِ
زينب
:
يا بُنيَّة، بحق أوجاعي ورُكوعي فوقَ سريركِ، بحقِّ إتعابي في سبيل
تربيتكِ أن تنبِذي غرام هذا الشابِّ ولكِ غنًى عنه بواحدٍ من طُلَّابكِ
الذين بينهم الأغنياء والأُمراء وهم كثيرون.
ليلى
:
لا تُزعِجيني يا أُمَّاهُ؛ فلا أمير يُرضيني ولا غنًي عن قيس يُغنيني.
أنا أهواه ولا أهوى سِواه، وحَسْبي أنَّهُ مجنون بِحُبِّي حتى لا أميل إلى
غيره. وأي سعادةٍ للفتاة إذا اقترنَتْ بمن ليس تهواه؟
زينب
:
أسأل الله أن يَهديكِ يا بنية (تخرج).
ليلى
:
وأسألهُ أن يُرقِّق قلبكِ عليَّ يا أمي.
المشهد الثالث
(ليلى – قيس)
ليلى
:
ليتَك سامِع يا قيس تعنيف الأم وتهديد الوالد.
قيس
(يدخل)
:
أنا سامِع كل شيءٍ يا حبيبتي (يركع).
ليلى
:
ما أحلى لقاك يا حبيبي، انهَض يا مُهجَتي.
قيس
:
قالوا جُنِنتَ بمن تهوى فقلتُ
لهم
الحبُّ أعظم ممَّا
بالمجانينِ
الحبُّ ليس يُفيق الدَّهرَ صاحبهُ
وإنما
يُصرعُ المجنون في الحينِ
نعم جننتُ فهاتوا من جُننتُ به
إن كان
يَشفي جنوني لا تلوموني
ليلى
:
آه! ما أعذبَ لقاءكَ يا مُهجتي!
فكم قد أردتُ الصبر عنك فعاقَني
هُيامٌ
بقلبي من هواك قديمُ
وينفي جفاك النومَ مع كلِّ
لذَّةٍ
ويُقلِقني ذكراك وهو
عظيم
قيس
:
أحنُّ إلى أرض الحجاز وحاجتي
خيامٌ
بنجدٍ دونها الطرف يقصُرُ
وما نظري من نحو نجدٍ بنافعٍ
فؤادي
ولكني على ذاك أنظرُ
أفي كلِّ يومٍ نظرة ثم عَبرة
لعَينيكِ
يجري ماؤها ويُحدَّرُ
فما كلُّ ما تستنزِل العَين
ماؤُها
ولكنها نفسٌ تذوب
وتقطرُ
متى يَستريح القلبُ إمَّا مجاورٌ
حزينٌ
وإما نازح مُتذكِّر؟
ليلى
:
لقد فطرتَ قلبي بأشعارك فأنا بغَيرك لا أرضى ولو صارت السَّماء
أرضًا.
وكم قائلٍ لي اسلُ عنهُ بغَيرهِ
وذلك من
قول الوُشاةِ عجيبُ
فقلتُ وعَيني تستهلُّ دُموعها
وقلبي
بأكناف الحبيب يذوبُ
لئن كان لي قلبٌ يَهيمُ بِذكرهِ
وقلبٌ
بآخَرَ إنها لقلوبُ
فيا قيس جُدْ لي باللقاء فإنَّني
بحبِّك
رهن والفؤاد كئيبُ
وألقى من الوجد المبرَّح سَورةً
لها بين
جِلدي والعظام دبيبُ
وإني لأستحييك حتى كأنَّني
عليَّ بظهر
الغَيب منك رقيبُ
قيس
:
آه من الرُّقباء والعذَّال، وويلي من الوُشاة اللُّوَّام فقد طالما
كدَّروا صفاء أصحاب الغرام. أما أنا:
فلو أن ما بي بالحصى فلقَ الحصى
وبالريح
لم يُسمَع لهنَّ هبوبُ
ولو أنَّ ما بي بالجِبال لهُدِّمت
وكادت
جلاميد الصُّخور تذوب
تُذكِّرني ليلى على بُعد دارها
وليلى
قَتولٌ للرِّجال خلوبُ
فويلي من العُذَّال لا
يَتركونَني
بِغمِّي أما في العاذِلين
لبيبُ
فإنْ عشتُ لا أبغي سِواكِ وإن أمتْ
فما
موت مِثلي في هواكِ عجيبُ
ولو أنَّني أستغفِر الله
كلَّما
ذَكرتُكِ لم تُكتَبْ عليَّ
ذنوب
ليلى
:
أسمع وقْع أقدام! هو أبي مُقبِل … الويل لنا!
قيس
:
لا تخافي.
ليلى
:
قيس، اهرُب.
المشهد الرابع
(ليلى – قيس – مهدي – خالد – بكر – زينب)
(مهدي يدخل ومعه بكر وخالد.)
ليلى
:
أبي، بِحقِّك اقتُلني ودَعْه (تتمسَّك
بهِ).
(قيس يُظهر علامات الارتباك وينظر ليَجِد مَنفذًا يفرُّ منهُ.)
مهدي
:
أمِثلَ قيس يدخل خِباء الحرائر١ والعذارى؟ رجالي، دُونكم هذا الوَغْد.
(بكر وخالد يهجمان على قيس فيفرُّ من أمامهما ويَتبعانِه إلى خارج الملعب.)
(مهدي يرفُس ابنتهُ ويُجرِّد سيفهُ هاجمًا على قيس.)
ليلى
(تسقُط مَغشيًّا عليها وتصرُخ)
:
قتلتَني يا قاسي.
مهدي
(ينشغِل بليلى عن اللَّحاق بقيس ويتقدَّم إلى الباب
ويُنادي)
:
يا خالد، يا بكر، إليَّ إليَّ. (إلى
الجمهور) آه من غرام هذه الابنة، ما أشدَّه، ولولا الحنان
الوالدي لقتلتُها في الحال.
خالد
:
لبَّيك سيدي، لقد كدْنا نُودي بحياته لو لم تأمُرنا بالرُّجوع.
مهدي
(إلى خالد)
:
أعِدَّ لها فراشًا. (إلى بكر) احرِقْ رُقعة٢ لنُنشِقها (ثم يأخُذ قليلًا من الماء
وينضَحُ به وجهَها).
بكر
(يَتقدَّم ويُنشِقها رائحة الرُّقعة)
:
مِسكينة يا ليلى!
زينب
(تدخل)
:
قتلتَها يا كافر. آه ما أقساك!
مهدي
:
اخرَسي يا فاجِرة!
زينب
:
وا لهْفي عليكِ يا ليلى!
مهدي
:
ساعديني لننقلها إلى فراشها (ينقُلانِها).
زينب
(تجلس فَوق رأسِها باكية)
:
ما أتعَسَ حظَّكِ!
مهدي
:
خالد، عليَّ بالطبيب.
(خالد يخرج بعجَلة.)
ليلى
(تهذي)
:
حبيبي اهرُب. أبي، رُحماك اقتُلني. أبي، حبيبي، ليتني فِداك! أمي! أمي!
(تتشنَّج).
زينب
:
عُيون أُمِّكِ أفيقي يا ليلى حبيبتي (تُحرِّكها).
ليلى
(تَستفيق)
:
ما هذا أُمِّي أنتِ هنا؟ ما أتعس حظي! صدري.
زينب
:
أتتألَّمين منهُ يا بُنية؟
ليلى
:
نعم. نعم.
مهدي
:
لا تَجزَعي، سيأتي الطبيب.
زينب
:
لقد كُنَّا في غِنًى عنه لولا قَسوتُك أيُّها الجائر.
مهدي
:
اخرَسي!
ليلى
:
أبي رَحمة!
المشهد الخامس
(علقمة – مهدي – زينب – ليلى – خالد – بكر)
علقمة
:
عِم صباحًا أيُّها الأمير.
مهدي
:
مرحبًا بالطبيب.
علقمة
:
أليلى هي المريضة؟ سلامتُك يا ربَّة العذارى!
ليلى
:
آه صدري.
زينب
(إلى الطبيب)
:
بحقِّك صدرُها يُؤلِمُها.
علقمة
(يقترب من ليلى ويجسُّ نبضَها)
:
لا تخافي يا بُنية ستُشفَين بإذن الله (يُعدُّ
دواءً من جُعبته).
مهدي
:
أمِنْ خطرٍ عليها؟
علقمة
:
لا خطر الآن. (إلى زينب) اسقيها جرعةً
والأمل بالشِّفاء الكبير.
زينب
:
اشرَبي يا بُنية، آه من هذه البلية!
ليلى
(تجرع الدَّواء ثم يَضيع رُشدها)
:
قيس أين أنتَ حبيبي قد سبَّبْتُ لك الشَّقاء. قاسٍ أنت يا أبي! هل أراك
يا قيس؟
علقمة
:
هيُّوا بنا نخرُج وندعْها وحدَها.
زينب
:
لا، هذا لا يكون.
علقمة
:
بلى سيِّدتي فلا خَوف عليها (يخرجون).
المشهد السادس
(ليلى – عسَّاف)
ليلى
(هذيان)
:
هل أرى قيسًا. أبي رُحماك اقتُلني ودعهُ يعيش. (تستفيق) أين هم؟ لقد تركوني وحدي يا للقساوة ولَشَقاء
المُحبِّين (تُغطِّي رأسها بلحافٍ
وتَئن).
عسَّاف
(يدخُل وبعد أن يسير خُطوتين يقف قائلًا)
:
أسمع أنينًا. ما هذا؟ (ثم
يتقدم).
ليلى
(تسمع خُطاه فترفَع اللِّحاف عن رأسِها)
:
من هذا؟ يا عابر الطريق رُحماك اقترِبْ منِّي.
يا أيها الراكب المُزجي٣ مطيَّتهُ
عرِّجْ ليذهب عنِّي بعضُ
ما أجِد
فما أرى الناس من وجدٍ تضمَّنَهم
إلَّا
ووَجْدي بقيسٍ فوق ما وَجدوا
أهوى رضاهُ وإني في مودَّته
حتى إلى
آخِر الأيام أجتهدُ
عسَّاف
:
حيَّاكِ الله يا حرَّة العَرَب، هل من طلبٍ أقضيهِ لكِ؟
ليلى
:
إنْ كنتَ من أهل المروءةِ وكرم الأخلاق تفعل معي هذا الجميل؛ وهو أنك متى
وصلتَ إلى تلك المَعالم تستدلَّ على بيت قيس بن الملوَّح٤ فمتى اجتمعتَ به أَقرِه منِّي السلام وقُل لهُ: إنَّ ابنة
عمِّك ليلى قد أضناها السقام من شدَّة الوَجْد والغرام، وهي لا تلتذُّ
بطعامٍ ولا تذوق أجفانها طِيب المنام حتى صارت مثلًا بين النِّساء في سائر
الأنحاء. بربك اقتربْ وساعِدْني على النُّهوض.
عسَّاف
:
أمركِ سيدتي. (يُجلسها).
ليلى
:
قدِّم لي تلك الدَّواة وذلك القِرطاس.
عسَّاف
:
على الرأس والعَين.
ليلى
:
تَقرأ وتكتُب.
ادفع له هذه الورقة عند وصولك إليه.
وأنتَ الذي أخلفْتَني ما
وعدْتَني
وأشمتَّ بي من كان فيك
يلومُ
وأبرزْتَني للناس ثم تركتْني
لهم غرَضًا
أُرمى وأنتَ سليمُ
فلو أنَّ قولًا يَكْلم الجِسم ما
بدا
بجسمي من قول الوشاة
كلومُ
عساف
:
لبَّيكِ يا بِنت الكرام. (يخرج.)
ليلى
:
آه من لَوعتي وفرْط هُيامي
فغرامي قد
حيَّر الأفكارا
فمتى تنقضي الحياةُ ويُرخِي
فوق ليلى
الموتُ الزؤَامُ ستارا
المنظر الثاني
(في بريَّة)
المشهد الأول
(قيس – الملوَّح)
الملوَّح
:
ما هذا الحبُّ وما هذا الجنون يا ولدي فتُبْ عن الهوى فقد هتكتَ نفسك
وصرتَ مثلًا ما بين الورى، وأُحدوثةً عند من يسمع، وعبرةً لمن يرى؛ فارجعْ
إلى صوابك.
قيس
:
دعْني أبي ولا تَلُمْني، بل لُمْ ذلك القدير الذي أوقد بقلبي شُعلة
المحبَّة. أنا سأموت بِحُبِّها وعنها لا أرجِع فلا تطمَع بالمُحال.
الملوَّح
:
كلُّ ذلك لأجل ابنةِ عمِّك ليلى؟ فأنا أُشير عليك أن لا تعود تذكُرها
بشفةٍ ولا لسان.
قيس
:
أبي، كلَّما حدَّثْتني بهذا الشأن ازددتُ شوقًا وغرامًا وهاجتْ بي
الأشواق وغلبتْ عليَّ غُصَّة الفِراق.
الملوَّح
:
إذًا ليس في اليد حيلة!
قيس
:
بلى إذا شئت.
الملوَّح
:
وما هي؟
قيس
:
هي أن تذهب إلى أبي ليلى وتَخطبها لي فنصير حَليلَين عِوَض أن نكون
عاشقين خَليلَين.
الملوَّح
(على حدة)
:
ماذا أصنع؟ سأفعل ذلك قريبًا يا ولدي فطب نفسًا وقرَّ عينًا (يخرج).
قيس
:
لقد ذهب بالسلامة، فهل ينجح يا ترى؟ ولكن سيَّان عندي نجح أم لم ينجَح
فسأظل أُحبُّها وإن يكن.
لقد لامَني في حبِّ ليلى قرابَتي
أبي
وابن عمِّي وابن خالي وخالِيا
يقولون ليلى أهل بيتي عدوَّةٌ
بنفسي
ليلى من عدوٍّ ومالِيا
أرى أهل ليلى لا يُريدون بَيعها
بشيءٍ
ولا أهلي يُريدونها لِيا
فليتَ نَسيم الرِّيح أدَّى
تَحيَّتي
إليها وما قد حلَّ بي
ودَهانِيا
خليليَّ مُدَّا لي فِراشيَ
وارْفَعا
وِسادي لئلَّا النوم يُذهِب ما
بِيا
وإن متُّ من داء الصبابة بلِّغا
نتيجة
ضوء الشمس منِّي سلامِيا
المشهد الثاني
(قيس – عسَّاف)
عسَّاف
:
سلام يا أخا العرب.
قيس
:
ألف تحية ومرحَبًا.
عسَّاف
:
منذ زمان وأنا أبحث عنك حتى اهتديتُ إليك.
قيس
:
وما تبغي؟
عسَّاف
:
بيدي كتاب أدفعُهُ إليك.
قيس
:
ومِمَّن هذا الكتاب؟
عسَّاف
:
مِن ليلى.
قيس
:
مِن ليلى؟
عسَّاف
:
نعم، وهي مريضة دنِفَة٥ وهذا كتابها.
(قيس يأخُذ الكتاب ويقرؤه بإمعانٍ ثم يقول):
عسَّاف
:
مِسكينة هي تلك الفتاة، فقد أصبحتْ أرقَّ من الخيال، وهي تنتظِر لقاءك
بفارِغ الصَّبر.
قيس
:
أشكُرك يا أخي على جميلك.
عسَّاف
:
أوَدِّعك وأدعو لك بالتوفيق (يخرج).
قيس
:
رافقتْك السلامة. (يتمشَّى بعض خطوات
ويقول):
شكوتُ إلى سِربِ القطا إذ مررنَ
بي
فقلتُ ومِثلي بالبُكاء
جديرُ
أسِرْبَ القطا هل من مُعيرٍ
جَناحهُ
لعلِّي إلى من قد هويتُ
أطيرُ
وكلُّ قطاةٍ لم تُعِرني جَناحها
فعاشتْ
بضرٍّ والجناح كسيرُ
وإلَّا فمن هذا يُؤدِّي رسالتي
فأشكرهُ
إن المُحبَّ شكورُ
طوت أمُّ عمرو حين ولَّت ركابها
وبان
افتِراقي والذين أزورُ
وحالت جِبال البُعد بَيني
وبينَها
وهيهات مَقصوص الجناح
يطيرُ
سلوا أمَّ عمرٍ هل يُنوَّل عاشقٌ
أخو
سقمٍ أم هل يُفَكُّ أسيرُ
ألا قُل لِليلى هل تراها مُجيرتي
فإنِّي
لها في ما لديَّ مُجيرُ
إذا جلسوا في مجلسٍ نذروا دمي
فكيف
تراها دون ذاك تُجيرُ
ودون دمي هزُّ الرِّماح
كأنَّها
تَوقُّدُ جمرٍ ثاقبٍ
وسعيرُ
المشهد الثالث
(قيس – سعاد)
سعاد
:
أخي، ما هذا البُكاء والنحيب؟ فقد هزَأ بك عابرو الطريق. أليس لهذا
الدَّاء دواء؟!
قيس
:
لا يا أُخَيَّة، إنني بهذا الداء سأموت ورحم الله المُحبِّين.
سعاد
:
كن جَلودًا يا أخي واصبِر.
قيس
:
كيف الصَّبر وليلى تُقاسي من العذاب أشكالًا وألوانًا؟!
يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ
فما لك لا
تَضْنى وأنت صديقُ
سقى الله مرضًى بالعراق فإنَّني
على
كلِّ مَرضى بالعراق شفيقُ
فإن تكُ ليلى بالعِراق مريضةٌ
فإنِّي في
بحر الغرام غريقُ
أَهيم بأقطار البلاد وعرْضِها
وما لي
إلى ليلى الغداةَ طريقُ
سبتْني شمسٌ يُخجِل الشمسَ
نُورُها
ويُكسِفُ نورَ البدرِ وهو
شريقُ
برى حُبُّها جِسمي وقلبي ومُهجتي
فلم
يبقَ إلَّا أعظمٌ وعروقُ
فلا تَعذلوا بل إن هلكتُ ترحَّموا
عليَّ
ففقدُ النفس ليس يَعوق
وخطُّوا على قبري إذا متُّ
أسطُرًا
قَتيل لحاظٍ مات وهو
عشيقُ
سعاد
:
فديتُك يا أخي، وناشدتُك اللهَ أن تَسلوَ تلك الفتاة.
قيس
:
وهل تُشترى السَّلوى وتُباع يا مُهجتي؟ وكيف أسلو وأنا:
إذا هتفتْ وَرقاءُ في رَونق الضُّحى
على
غُصن بانٍ أو غصونٍ من الرَّند٨
بكيتُ كما يَبكي الوليد ولم أكنْ
جلودًا
وأبديتُ الذي ما بهِ أبدي
إذا وعدتْ زادَ الهوى لانتِظارها
وإن
بخلتْ بِالوعد متُّ على الوعدِ
وقد زعموا أنَّ المُحبَّ إذا دنا
يميل
وأنَّ البُعد يَشفي من الوجدِ
بكلٍّ تداوَينا ولم يَشفِ ما بنا
على أن
قُرب الدَّار خيرٌ من البُعد
على أن قرب الدار ليس بنافعٍ
إذا كان من
تَهواهُ ليس بذي عهدِ
المشهد الرابع
(الملوَّح – قيس – سعاد)
(الملوَّح يدخل.)
قيس
:
مرحبًا بوالِدي العزيز.
الملوَّح
:
وما العمل يا بُنيَّ ونحن لم نُفلِح؟ لقد قابَلَنا الرجل بوجهٍ كالحٍ
وجبينٍ مُقطَّب.
قيس
:
ذلك ما كنتُ أتوقَّعهُ.
الملوَّح
:
وقد دفعْنا له مائة ناقةٍ بِراعِيها فلم يقبَل، وقال لنا: هذا داء مُعضِل
وأمر مُشكِل. ما فعلهُ أحدٌ غيري سابقًا فلا أدعُ العرَب تقول عنِّي إنَّني
قد زوَّجتُ عاشقًا.
قيس
(يتأوَّهُ ويتنهَّدُ ويُنشِد)
:
ألا أيُّها الشيخُ الذي ما بنا
يرضى
شَقِيتَ ولا هُنِّيتَ في عَيشِكَ
الخَفْضَا
أما والذي أَبلى بليلى بليَّتي
وأصفى
بليلى من مَودَّتي المحضَا
كأنَّ فؤادي في مَخالبِ طائرٍ
إذا
ذُكرتْ ليلى يشدُّ بها قبْضَا
كأنَّ فِجاج٩ الأرض حلْقة خاتمٍ
عليَّ فما
تزداد طولًا ولا عرْضَا
الملوَّح
:
يَظهر أنك عن غَيِّك لا تعود.
قيس
:
لا.
الملوَّح
:
أنا قد فعلتُ الواجِب، أما أنت فافعلْ ما بدا لك، هَلُمِّي بنا نخرُج يا
بُنيَّة (يخرُجان).
المشهد الخامس
(قيس – عمر)
قيس
:
تكاد بلاد الله يا أم مالك
بما رحُبَتْ
يومًا عليَّ تضيقُ
تَتوق إليك النفسُ ثم أردُّها
حياءً
ومِثلي بالحَياء خليقُ
ولو تعلمين الغَيب أيقنتِ أنَّني
حبيبٌ
وأني للحبيب مشوقُ
أروم سُلوَّ النفس عنكِ وما لها
إلى
أحدٍ إلَّا إليكِ طريقُ
عمر
:
حيَّاك الله أيُّها الأمير.
قيس
:
وما وراءك يا غلام؟
عمر
:
كِتاب من سيِّدتي ليلى.
قيس
:
ألف مرحبًا بك، هات الكتاب (يأخُذه ويفُضُّهُ
ويقرؤه جهرًا).
أيُّها الحبيب والسيد الأديب، مُهجة الفؤاد وزِينة الأمجاد، من
فاق سائر الأنام بالكمال وحُسن الخِصال وحِفظ العهود والزِّمام
والمَحبَّة الصالحة الخالية من الآثام، قد بلَغَني ما أنت فيه من
الشَّوقِ والغرامِ والوَجْد والهُيام ومُكابَدَة السَّهر وهُجران
الطعام واحتمال كلام اللُّوَّام حتى اعتراك الهُزال وصرتَ ناحلًا
كالخيال. وحيث الحالة هذه فاحضُر في نصف هذا الليل إلى وادي الأراك١٠ وأنا أُوافيك إلى هناك. ولو خاطرتُ بنفسي في هواك فلا
يُساوي لذَّة رُؤياك.
يا مُنيَتي أنت مقصودي ومَطلوبي
وأنت
رغمًا عن الأعداء مَحبوبي
إن تحتجِب عن عُيون الصبِّ يا أملي
ما
أنت عن قلبي المُضنى بمحجوب
قيس
:
ليلى لقد أضْنى الفؤاد جفاكِ
وأذاب
أحشاء المُحبِّ نَواكِ
أنتِ الحبيبة لا سواكِ من الورى
فوَحقِّ
حُسنك لا أحبُّ سواك
أحيا على أمل اللِّقاء هُنيهةً
ولعلَّ
في وادي الأراك أراكِ
١
الخِباء: كلُّ ما تَختبئ وراءه المرأة عن أعيُن الناظرين إليها،
وهو هنا الخيمة.
الحرائر: جَمع حرَّة، وهي الفتاة العربية السَّيِّدة.
العذارى: جمع عذْراء.
الحرائر: جَمع حرَّة، وهي الفتاة العربية السَّيِّدة.
العذارى: جمع عذْراء.
٢
عادة درَجَت العامَّة على التوسُّل بها مُساعدةً للمُغمَى عليه
كي يعود إليه وَعْيه.
٣
زجَّى الشيء: دفعه برفق، والمطيةُ كلُّ ما يُمتطى من
ناقةٍ أو فرس، والمُزجي مَطيَّته: الذي يَسوق مَطيَّته
برفقٍ يحثُّها على السَّير.
٤
قيس بن الملوَّح: مجنون ليلى شاعر غزل من أهل نَجد، هو قيس بن
الملوَّح العامري، أحبَّ ليلى العامرية ورفَض أهلُها أن يزوِّجوها
له، فجُنَّ بها حبًّا وهام في الفلواتِ يُنشِدها الأشعار.
٥
دنِف المريض، يدنفُ دنفًا: ثقُل من المرض وأشرَفَ على الموت،
ودنِفة مُشرفة على الموت حبًّا.
٦
دلَج: مشى ليلًا، ودَلَج الثرى: إذا واصل المشي
ليلًا حتى مُنبلَج الفجر حيث يتجمَّع الندى
الثرى.
٧
السجوم: صِفةٌ للعين المِدرارة، والدمع السجوم:
الدمع الغزير.
٨
الرند: شجرٌ من شجر البادية طيِّبُ الرائحة.
٩
الفج: الطريق الواضح بين جَبلَين، أوسع من الشِّعب،
والجمع فجاج.
١٠
وادي الأراك: وادٍ قُرب مكَّة المُكرَّمة. وقيل: هو من
مَواقِف عرفة بعضُه من جهة الشام وبعضُه من جهة اليمن.
والأراك في الأصل شَجَر يُستظلُّ به، وترعاه الإبل.