الفصل التاسع
يجب علينا الآن تغيير المشهد إلى منزلٍ ريفي في إحدى ضواحي آشبي يمتلكه إسرائيليٌّ ثري، حيث كان يُقيم إيزاك وابنته في ضيافته.
في غرفةٍ صغيرة حقًّا، ولكنها مجهَّزة بالكثير من الزخارف ذات الطابَع الشرقي، كانت ريبيكا جالسةً على كومة من الوسائد المطرَّزة، التي كانت متراصَّة أمام منصَّة منخفضة أحاطت بالغرفة، بدلًا من الكراسي والمقاعد. كانت تُراقب حركات أبيها، وهو يَذْرع الغرفة جَيئةً وذَهابًا بطلعةٍ مغتمَّة وخطواتٍ مضطرِبة؛ أحيانًا يُشبِّك يدَيه، وأحيانًا أخرى يجول بنظراته في سطح الغرفة. ثم صاح: «يا يعقوب! يا آباء قومنا الاثنَي عشر المقدَّسين! يا لها من مغامرةٍ خاسرة لشخصٍ التزم كما ينبغي بكل صغيرة وكبيرة في ناموس موسى. خمسون من العملات الذهبية انتُزعت مني دفعةً واحدة، وببراثن طاغية!»
قالت ريبيكا: «ولكن يا أبي، بدا أنك قد أعطيت الذهب للأمير جون طواعيةً.»
«طواعيةً؟! فلتُصِبه الضربات التي أصابت مصر! أتقولين طواعيةً؟ أجل، طواعيةً كما حدث لي في خليج ليون، عندما رميت بضائعي لأخفِّف حمولة السفينة، بينما كانت العاصفة تتقاذفها، كاسيًا الأمواج المُتلاطمة الهائجة بحرائر مُنتقاة، وعطرت زبدها المالح بالمُر والألوة. ألم تكن تلك ساعةً من البؤس الذي يعجز اللسان عن وصفه، على الرغم من أني قمت بهذه التضحية بيديَّ هاتين؟»
أجابت ريبيكا: «ولكنها كانت تضحيةً فرضَتها علينا السماء لإنقاذ أرواحنا، وقد بارَك إله آبائنا بضائعك ومكاسبك منذ ذلك الحين.»
أجاب إيزاك: «أجل، ولكن ما العمل إن أمسك بها الطاغية كما فعل اليوم، وأرغمني على الابتسام له وهو يسرقني؟ يا ابنتي، إن أسوء شر يحدث لقومنا، نحن المحرومين من الإرث والمُتجولين، هو أنه عندما نكون مظلومين ومسلوبين يضحك العالم أجمعُ من حولنا، ونُجبَر على كَبْت شعورنا بالأذى وعلى الابتسام في خضوع، بدلًا من أن نثأر لأنفسنا بشجاعة.»
قالت ريبيكا: «لا تُفكر في الأمر هكذا يا أبي، فنحن نستمتع أيضًا بمميزات؛ فهؤلاء المسيحيون، مع قساوتهم وظلمهم، يعتمدون نوعًا ما على أبناء صِهيَون المُشتَّتين، الذين يحتقرونهم ويضطهدونهم. فبدون عون ثروتنا لا يستطيعون أن يُجهزوا أعدادهم الغفيرة أيام الحرب أو مسيرات انتصارهم أيام السِّلم. وحتى مسابقة اليوم ما كانت ستُعقَد دون رضًا من اليهودي المشتَّت، الذي زوَّدهم بوسائلها.»
قال إيزاك: «يا ابنتي، لقد عزفت على وترٍ آخر من أوتار تعاستنا. الجواد الأصيل والدرع الثمين، إنها خسارةٌ فادحة أيضًا، أجل، خسارة تبتلع مكاسب أسبوع، أجل، الفترة بين سبتَين. ولكن قد ينتهي الأمر على نحوٍ أفضل مما أظن الآن؛ لأنه شابٌّ صالح.»
قالت ريبيكا: «بالتأكيد لن تندم على رد الجميل الذي أسداه لك الفارس الغريب.»
قال إيزاك: «أثق في ذلك يا ابنتي كثِقتي في أننا سنُعيد بناء صِهيَون، ولكن كما آمُل أن أرى بأم عيني جدران المعبد الجديد وأبراجه، آمُل أن أرى مسيحيًّا، نعم من أفضل المسيحيين، يرد دَينًا إلى يهودي، لا خوفًا من قاضٍ أو سجَّان.»
كان ظلام الليل قد بدأ يحل عندما دخل خادمٌ يهودي إلى الغرفة، ووضع على الطاولة مصباحَين فِضيَّين ممتلئين بزيتٍ عطري، وفي الوقت نفسه كان خادمٌ إسرائيلي آخر يُقدم أغلى أنواع النبيذ وأطيب الأطعمة الخفيفة على طاولةٍ صغيرة من الأبنوس المرصَّع بالفضة. في الوقت نفسه كذلك أخبر الخادم إيزاك بأن نصرانيًّا يرغب في التحدث إليه. على الفور وضع إيزاك على الطاولة كأس النبيذ اليوناني التي لم يتذوقها، والتي كان لتوِّه قد رفعها إلى شفتيه، وقال في عجل لابنته: «ضعي حجابك يا ريبيكا.» ثم أمر بدخول الغريب.
بمجرد أن أسدلَت ريبيكا على ملامحها الجميلة ساترًا من نسيجٍ رقيقٍ فضي اللون يصل إلى قدميها، فُتِح الباب ودخل جيرث مُلتفًا في طيات عباءته الواسعة.
قال جيرث: «هل أنت إيزاك يهودي يورك؟»
رد إيزاك: «أنا هو، ومن تكون؟»
أجاب جيرث: «هذا لا يُهِم.»
رد إيزاك: «بل يُهمني كما أن اسمي مهم لك؛ فكيف أتحدَّث إليك وأنا لا أعرف اسمك؟»
أجاب جيرث: «الأمر سهل؛ فبما أنني سأدفع لك مالًا يجب أن أتأكَّد من أنني أسلِّمه للشخص المقصود، وأعتقد أنك، يا من ستتلقى المال لن تهتمَّ كثيرًا باليد التي تسلِّمه لك.»
قال اليهودي: «أوه، أنت آتٍ لتدفع لي مالًا؟ يا أبانا إبراهيم المقدَّس! إن هذا يُغير علاقتنا. وممَّن أتيت بالمال؟»
قال جيرث: «من الفارس المحروم من الميراث المنتصر في مباراة اليوم. إنه ثمن الدرع الذي أمدَّه به كيرجاث جايرام أوف ليستر بِناءً على توصيتك. أما الجواد، فقد أُعيد إلى إسطبلك. وأرغب في معرفة المبلغ الإجمالي الذي سأدفعه مقابل الدرع.»
صاح إيزاك مُهللًا بابتهاج: «لقد قلتُ إنه شاب صالح!» وأضاف وهو يملأ شرابًا من أثمن الأنواع التي لم يتذوَّقها جيرث من قبل، ويُعطيه له: «لن يضرَّك إن شربت كأسًا من النبيذ.» ثم استكمل إيزاك حديثه قائلًا: «وكم من المال أحضرت معك؟»
قال جيرث واضعًا الكأس بعد أن شرب ما فيها: «يا سيدتنا العذراء! ما هذا الشراب الإلهي الذي يشربه هؤلاء الكلاب الكفَرة، بينما يفرح المسيحيون المخلصون بجِعة المِزْر الموحلة والسميكة كبقايا الطعام التي نُطعمها للخنازير؟! أتسأل كم من المال أحضرت معي؟ إنه ليس إلا دفعة صغيرة؛ إنه المبلغ المُتاح حاليًّا. ماذا يا إيزاك؟! يجب أن يكون لديك ضمير، حتى وإن كان ضميرًا يهوديًّا.»
قال إيزاك: «كلا، ولكن سيدك قد ربح جيادًا أصيلة ودروعًا ثمينة بقوة رمحه وبيُمناه، ولكنه شابٌّ صالح؛ لذلك سيأخذها اليهودي وفاءً بالالتزام الحاضر ويرد له الزيادة.»
قال جيرث: «لقد رفض سيدي بالفعل أن يأخذ الجياد والدروع.»
قال اليهودي: «آه، كان ذلك خطأً. كان ذلك تصرفًا أحمق؛ فليس ثَمة مسيحي هنا يُمكنه شراء الكثير من الجياد والدروع، وليس ثَمة يهوديٌّ غيري سيُعطيه إياها بنصف القيمة.» ثم قال وهو يختلس النظر أسفل عباءة جيرث: «ولكن معك في تلك الحقيبة مائة قطعة ذهبية؛ فهي تبدو ثقيلة.»
قال جيرث بسرعة بديهة: «إن معي فيها أسهمَ نشاب.»
قال إيزاك: «حسنًا إذن، إن قلتُ إنني سآخذ ثمانين قطعةً ذهبيةً مقابل الجواد الأصيل والدرع الثمين دون أن أربح جيلْدرًا واحدًا، فهل معك المال لتدفع لي؟»
مع أن المبلغ المطلوب كان معقولًا أكثر مما توقَّع، قال جيرث: «بالكاد، وسيترك ذلك سيدي معدومًا تقريبًا. ومع ذلك إن كان هذا هو أقل عرض تُقدمه، فيجب أن أرضى به.»
قال اليهودي: «املأ لنفسك كأسًا أخرى من النبيذ. آه! ثمانون قطعةً ذهبية مبلغٌ صغير جدًّا. لن يبقى لي أي مكسب مقابل الانتفاع بالمال، إلى جانب أن الجواد الأصيل ربما يكون قد أُصيب في مواجهة اليوم.»
أجاب جيرث: «وأنا أقول لك إنه سليم البِنية والتنفس والأوصال، ويُمكنك أن تراه في إسطبلك. وأقول، مرارًا وتكرارًا، إن سبعين قطعةً ذهبية كافيةٌ مقابل الدرع، وآمُل أن تلقى كلمة مسيحي عندك استحسانًا ككلمة اليهودي. إن لم تأخذ السبعين قطعةً ذهبية، فسأرجع بهذه الحقيبة (ورجَّها حتى رنَّت محتوياتها) إلى سيدي.»
قال إيزاك: «كلا، كلا! ضع الطالِنتات — الشيكلات — الثمانين قطعة ذهبية، وسترى أنني سأُجازيك بسخاء.»
أذعن جيرث في النهاية، وأخرج ثمانين قطعةً ذهبية ووضعها على الطاولة، وأعطاه اليهودي إبراءَ ذمة عن الجواد والبدلة المدرعة. كانت يد اليهودي ترتجف من الفرح وهو يلفُّ أول سبعين قطعةً ذهبية. أما العشرة الأخيرة، فقد عدَّها بقدرٍ كبير من التروِّي، ثم توقَّف برهةً وقال شيئًا وهو يأخذ كل قطعة من فوق الطاولة ويُسقطها في كيس نقوده.
«واحد وسبعون، اثنان وسبعون، إن سيدك شابٌّ صالح، ثلاثة وسبعون، شابٌّ ممتاز، أربعة وسبعون، هذه القطعة ثُقِبت من داخل حافتها، خمسة وسبعون، وهذه تبدو أخفَّ وزنًا، ستة وسبعون، عندما يُريد سيدك المال فليأتِ إلى إيزاك أوف يورك، سبعة وسبعون؛ أعني ومعه ضمانٌ معقول.» هنا توقَّف لبعض الوقت، ولكنه استمر في العد: «ثمانية وسبعون، إنك لتابعٌ صالح، تسعة وسبعون، وتستحق شيئًا لنفسك.»
هنا توقَّف اليهودي مرةً أخرى، ونظر إلى القطعة الذهبية الأخيرة، ينوي، بتردد، أن يهبها لجيرث. وزنها على أنملة إصبعه، وجعلها ترنُّ بأن أسقطها فوق الطاولة، ولكن لسوء حظ جيرث كان صوت رن العملة عاليًا ويدل على أنها أصلية؛ فقد كانت عملةً سميكة ومسكوكة حديثًا، وتزيد عن الوزن بمقدار حبة. لم تُطاوع إيزاكَ نفسُه في أن يُفرِّط فيها، فأسقطها في كيس نقوده كما لو كان فعل ذلك سهوًا، وقال: «ثمانين تُكمل العدد، واثقٌ أن سيدك سيُكافئك بسخاء.» ثم أضاف وهو ينظر بلهفة إلى الحقيبة: «بالتأكيد، لديك المزيد من النقود في تلك الحقيبة.»
ابتسم جيرث ابتسامةً عريضة، وكاد يضحك وهو يُجيبه عليه قائلًا: «تقريبًا المبلغ نفسه الذي عدَدتَه للتَّو بحرصٍ شديد.» ثم طوى الصكَّ ووضعه تحت قبعته، مُضيفًا: «فلتهلك لِحيتك أيها اليهودي، انظر إلى تلك الكأس المُمتلئة الوافرة الشراب!» وملأ بنفسه كأسًا ثالثة من النبيذ، دون أن يأذن له اليهودي، ثم غادَر الغرفة دون أن يُلقي عليه التحية.
قال اليهودي: «يا ريبيكا، إن هذا الإسماعيلي قد تفوَّق عليَّ بعض الشيء. ومع ذلك فسيده شابٌّ صالح، أجل. وأنا سعيد للغاية أنه حصل على شيكلات من الذهب وشيكلات من الفضة، حتى وإن كان بسرعة جواده وقوة رمحه الذي، مثل رمح جالوت الفلسطيني، قد يُباري نول النسَّاجين.»
عندما التفت ليسمع رد ريبيكا، أدرك أنها قد غادرت الغرفة، دون أن يُلاحظ، أثناء مساومته مع جيرث.
في تلك الأثناء كان جيرث قد نزل الدرج، وعندما وصل إلى غرفة الانتظار أو الردهة المُظلمة، وقف مُتحيرًا يبحث عن المدخل، وحينئذٍ أشار له طيف امرأة، تتَّشح بالبياض، وتبدو على ضوء مصباح فضي كانت تحمله في يدها، إلى غرفةٍ جانبية. أذعن جيرث لدعوة طيف المرأة الذي يلوِّح له، وتبعها إلى داخل الغرفة التي أشارت إليها، حيث فُوجئ مفاجأةً سارَّة بأن مُرشدته الجميلة كانت اليهوديةَ الفاتنة.
سألته عن تفاصيل معاملته المالية مع إيزاك، فذكرها لها بتفصيل ودقة.
قالت ريبيكا: «ما كان أبي إلا مُمازحًا لك أيها الرجل الطيب؛ فهو مَدين لسيدك بمعروفٍ أكبر من أن يُسدده ثمنُ هذه الأسلحة وهذا الجواد ولو بعشرة أضعاف قيمتها. كم دفعت لأبي الآن؟»
قال جيرث وقد فاجأه السؤال: «ثمانين قطعةً ذهبية.»
قالت ريبيكا: «في هذه الحقيبة ستجد مائة. أرجِعْ لسيدك ما هو حق له، واحتفِظْ بالباقي. انصرِفْ بسرعة ولا تنتظر لتقديم الشكر! وكن حذرًا في سيرك عبر هذه البلدة المُزدحمة؛ حيث قد تفقد بسهولةٍ ما تحمله وكذلك حياتك.»