الفصل الثاني عشر

في صباح اليوم التالي، غادَر الفارس الملقَّب بالكسول الأسود مبكرًا، عازمًا على خوض رحلة طويلة، ولم تكن حالة جواده، الذي كان قد استخدمه بحذر في القتال خلال صباح أمس، تسمح له بالسفر بعيدًا دون الحاجة إلى كثير من الراحة، لكن المسارات المُلتوية التي قاد فيها جواده حالت بينه وبين غايته؛ فعندما حلَّ المساء عليه وجد أنه لم يبلغ إلا حدود ويست رايدينج بيوركشاير. وكانت الشمس، التي كانت غالبًا هي المرشِد في مسيره، قد توارت حينئذٍ خلف تلال ديربي شاير عن يساره، وكل جهد يُمكن أن يبذله في مواصلة رحلته قد يحيد به عن طريقه بقدر احتمال أن يجعله يتقدم في مسيره. بعدما اجتهد دون جدوى في اختيار أكثر طريق مطروق، وبعدما وجد نفسه أكثرَ من مرة عاجزًا تمامًا عن أن يستقرَّ على اختيار، عزم الفارس على الوثوق في فطنة جواده.

ولم يكَد الجواد الجيد، الذي كان متعَبًا بشدةٍ من الرحلة الطويلة التي قطعها خلال اليوم أسفلَ راكبه المتسربِل بدرعٍ مزرَّد، يشعر من اللجام المُتراخي أنه قد تُرِك ليقود نفسه، حتى بدا أنه يمضي بنشاط وحيوية أكبر، مُتوليًا زمامَ نفسه، وإذ بدا الجواد واثقًا في اختياره ترك الراكب نفسَه لتقديره.

جاءت الأحداث مُوافِقة لظنونه؛ إذ سرعان ما بدا ممرُّ المُشاة أعرضَ قليلًا ومطروقًا أكثر، كما جعل رنين جرس صغير الفارس يعي أنه كان بجوار كنيسة صغيرة أو دير.

ومن ثَم سرعان ما وصل إلى قطعة أرض مفتوحة ومكسوَّة بالعُشب، على الجهة المقابلة لها صخرةٌ مرتفعة بحدة، يُمكن للمسافر أن يرى واجهتها الرمادية ملساءَ بفعل بعوامل التعرية، فوق سهل منحدر بعضَ الشيء. عند قاعدة الصخرة كان مبنيًّا كوخٌ بسيط، وكان، إن جاز القول، يستند عليها. وغُرِس مُنتصبًا بالقرب من الباب جذع شجرة تنُّوب يافع جُرِّد من أغصانه، عليه قطعة من الخشب مربوطة عرضًا بالقرب من القمة، كرمزٍ بدائي للصليب المقدَّس. على مسافةٍ قريبة جهةَ اليمين انبثق من الصخر ينبوعٌ من أعذب المياه، يصبُّ في حجر أجوفَ كان عملُ بشر قد حوَّله إلى حوضٍ بسيط.

بجوار هذا الينبوع كانت توجد أطلال كنيسة شديدة الصغر، ذات سقف قد تداعى جزئيًّا. ولم يكن المبنى، عندما كان كاملًا، يتعدى في طوله ست عشرة قدمًا، وفي عرضه اثنتَي عشرة قدمًا. وكان السقف، المنخفض نسبيًّا، مستندًا إلى أربع أقواس مُتلاقية تنبثق من الأركان الأربعة للمبنى، وكلٌّ منها مدعوم بعمودٍ قصير وضخم. كان المنظر الذي يتَّسم بالسكينة والهدوء بأكمله يقبع مُتألقًا في ضوء الشفق أمام عينَي المسافر، مُعطيًا إياه شعورًا بالثقة في أنه وجد مكانًا للمَبيت في تلك الليلة؛ ومن ثَم وثب الفارس من فوق جواده وضرب باب الكوخ بمؤخرة رمحه؛ حتى يجذب الانتباه ويحصل على الإذن بالدخول.

مر بعض الوقت قبل أن يتلقَّى أي جواب، وعندما جاء الرد لم يكن مُبشرًا بخير.

كان الجواب الذي جاءه بصوتٍ شديد الغِلظة من داخل الكوخ: «امضِ في طريقك كائنًا مَن كنت، ولا تُزعِج خادم الرب والقديس دونستان أثناء صلواته الليلية.»

أجاب الفارس: «أيها الأب الفاضل، أنا عابر سبيل مسكين ضلَّ طريقه في هذه الغابة، ويُقدم لك الفرصة لتُغدِق عليه من إحسانك وكرم ضيافتك.»

ردَّ ساكن الكوخ: «أيها الأخ الصالح، ليس لديَّ زادٌ هنا يُمكن حتى لكلبٍ أن يتقاسمه معي، وأي جواد نشأ نشأةً ناعمة سيحتقر مضجعي. امضِ في طريقك وليرعاك الرب.»

figure
الفارس عند الكوخ، بريشة أدولف لالوز.

رد الفارس: «ولكن كيف أستطيع أن أجد طريقي عبر غابة كهذه، والظلام يوشك أن يحُل؟ أتوسَّل إليك أيها الأب المبجَّل، بحق مسيحيتك، أن تفتح بابك، وتُرشدني على الأقل إلى طريقي.»

رد الناسك: «وأنا أرجوك أيها الأخ المسيحي الصالح ألا تستمرَّ في إزعاجي؛ فلقد قطعت عليَّ بالفعل صلاةً ربانية وصلاتَين مريميتَين وصلاة قانون الإيمان، التي يجب عليَّ وفقًا لنذري، أنا الآثم البائس، أن أؤدِّيَها قبل طلوع القمر.»

صاح الفارس بأعلى صوته: «الطريق، الطريق! أرشدني إلى الطريق إن كان يتوجب عليَّ ألا أتوقَّع منك أكثر من ذلك.»

أجاب الناسك: «يسهل الوصول إلى الطريق. المسار من الغابة يقود إلى مستنقَع، ومنه إلى مخاضة يُمكن الآن عبورها بما أن الأمطار قد توقَّفت. بعدما تعبر المخاضة، انتبِه إلى مَوطئ قدمَيك إلى الضفة اليسرى لأنها منحدرةٌ بعض الشيء، وقد انهار المسار المعلَّق فوق النهر مؤخرًا، حسبما سمعت (إذ نادرًا ما أترك كنيستي)، في عدة أماكن. بعد ذلك تابِعِ السير في خطٍّ مستقيم …»

قاطَعه الفارس قائلًا: «مسار منهار، ومنحدر، ومخاضة، ومستنقع! أيها السيد الناسك، لو كنت أقدِّس مَن أطلق لحيته أو أمسك بمسبحة، فلن تُقنعني بأن أسلك هذا الطريق الليلة. إما أن تفتح لي الباب بسرعة أو، بحق الصليب، سأحطِّمه وأدخل بنفسي.»

رد الناسك: «أيها الصديق عابر السبيل، لا تكن لَحوحًا. إذا ألجأتني إلى أن أستخدم سلاحي المادي للدفاع عن نفسي فسيكون ذلك أشقَّ عليك.»

في هذه اللحظة، أصبحت ضوضاء بعيدة لنُباح وزمجرة، كان المسافر قد سمعها منذ حين، أكثرَ ارتفاعًا وعنفًا، وجعلت الفارس يظن أن الناسك، خوفًا من تهديده له بأن يدخل عليه عَنوةً، قد استدعى الكلاب التي أصدرت هذا الصخب. ثار الفارس غضبًا من ذلك، وضرب الباب بقوة بقدمه، لدرجة أن أعمدته ودعائمه اهتزَّت اهتزازًا عنيفًا.

عندئذٍ صاح الناسك عاليًا: «الصبر، الصبر، وفِّر قوَّتك أيها المسافر الطيب، وسأفتح لك الباب على الفور، مع أن ذلك لن يسرَّك إلا قليلًا.»

وهكذا فُتِح الباب، وظهر الناسك، الذي كان رجلًا ضخمًا، قويَّ البِنية، يلبس عباءةً من الخيش وقلنسوة، ويُحيط خصرَه بحبلٍ من السمار، ووقف أمام الفارس، ولكن عندما سقط ضوء مشعله على شعر عنق الجواد النبيل ومهمازَيه الذهبيَّين، اللذين وقف المسافر دونهما، دعاه لدخول كوخه، مُعتذرًا عن عدم رغبته في فتح باب كوخه بعد غروب الشمس، بزعم كثرة اللصوص والخارجين عن القانون الذين كانوا في الخارج.

قال الفارس ناظرًا حوله: «إن فقر صومعتك أيها الأب الصالح يبدو كفيلًا بالدفاع عنها في مواجهة خطر اللصوص، ناهيك عن مساعدة كلبَين محل ثقة، ويمتلكان من الضخامة والقوة ما يكفي، على ما أعتقد، لإسقاط أيل، وبالطبع الوقوف في وجه معظم الرجال.»

قال الناسك: «سمح لي حارس الغابة الطيب باستخدام هذين الكلبين؛ كي أحمي عزلتي حتى تتحسَّن الأحوال.»

بعد أن قال هذا ثبَّت مشعله في فرعٍ مُلتوٍ من الحديد كان يُستخدم حاملًا للشموع، ووضع كرسيًّا على أحد جانبَي الطاولة، مُشيرًا للفارس أن يفعل مِثله على الجانب الآخر.

جلسا، وحدق كلٌّ منهما في الآخر بوقار شديد، وكان كلٌّ منهما يُفكر بينه وبين نفسه أنه نادرًا ما رأى أحدًا أقوى بِنيةً وأشدَّ عودًا من الجالس أمامه.

قال الفارس بعدما نظر طويلًا وبثبات لمُضيفه: «أيها الناسك الموقَّر، إن لم يكن في الأمر مقاطعة لتأملاتك الورعة، أرجو معرفة ثلاثة أشياء من قداستك؛ أولًا: أين أضع جوادي؟ وثانيًا: ما الذي يُمكنني أن أحصل عليه كعَشاء؟ وثالثًا: أين سأنام ليلتي؟»

قال الناسك: «سأردُّ عليك بإصبعي؛ فمما يُخالف قواعدي أن أتحدَّث بالكلام عندما يُمكن للإشارات أن تفيَ بالغرض.» قال ذلك وأشار تِباعًا إلى ركنين في الكوخ، ثم قال: «إسطبلك هنا، وسريرك هناك.» وأنزلَ من رفٍّ مُجاور طبقًا كبيرًا به حَفنتان من البازلاء الجافَّة ووضعه على الطاولة، ثم أضاف قائلًا: «وها هو عشاؤك.»

هزَّ الفارس كتفيه، وغادَر الكوخ، ثم عاد بجواده، ونزع عنه سرجه بعنايةٍ شديدة، وغطَّى ظهر جواده المرهَق بعباءته.

غمغم الناسك بشيء عن علف تُرِك لحصان الحارس، وسحب من فجوة حُزمةً من العلف، ونثَرها أمام جواد الفارس، وبعد ذلك على الفور فرَش بعض السرخس المجفَّف في الركن الذي كان قد عيَّنه مضجعًا للمسافر. شكره الفارس على لطفه، وبعد أداء هذه المهمة رجع كلٌّ منهما إلى كرسيه بجوار المائدة، حيث كانت الصينية التي فيها البازلاء موضوعةً بينهما. وبعد أن تلا الناسك صلاة شكر طويلة، كانت يومًا ما باللغة اللاتينية، ولكن لم يبقَ من لغتها الأصلية سوى بضعة آثار، عدا النهاية الرنَّانة الطويلة لكلمة أو عبارة تُقال بين الحين والآخر، ضرب مثلًا لضيفه بأن وضع بتواضع في فمه الضخم، الممتلئ بأسنان تُشبِه أسنان خنزير بري في حدتها وبياضها، ثلاث أو أربع حبات من البازلاء الجافَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤