الفصل الثالث عشر
وضع الفارس جانبًا خوذته والجزءَ الأكبر من درعه، وكشف للناسك عن رأسٍ ذي شعرٍ أصفر شديد التموُّج، وقسَماتٍ نبيلة، وعينَين زرقاوين لامعتين ووامضتين على نحوٍ لافت، وفمٍ حسنِ التكوين يكسو شفتَه العليا شاربٌ أشدُّ دُكنةً من شعره.
أرجع الناسك قلنسوته للوراء، كما لو كان يريد أن يردَّ على ثقة ضيفه، وكشف عن رأسٍ مُستدير صغير لرجل في رَيْعان شبابه. ولم يكن في ملامحه شيءٌ من تقشُّف الرهبان، بل على العكس، كانت ملامح وجهه المُمتلئ تَشي بالجُرأة، بحاجبَين أسودَين عريضين، وجبهةٍ بهيَّة، ووجنتَين مستديرتين وقرمزيتين، كوجنتَي عازف بوق، وتتدلَّى منهما لحيةٌ سوداء طويلة ومجعَّدة.
بعدما أتم الضيف بعناءٍ شديد مضْغَ ملء فمه من البازلاء المجفَّفة، وجد أنه من الضروري للغاية أن يطلب من مُضيفه التقيِّ أن يُمِده ببعض الشراب، فاستجاب لطلبه بأن وضع أمامه قدحًا كبيرًا من أنقى المياه من الينبوع.
وقال: «إنها من بئر القديس دونستان، الذي عمَّد فيه، بين مطلع شمس ومطلعها التالي، خمسمائة من البريطانيين والدنماركيين الوثنيين. فليتبارك اسمه!»
قال الفارس: «يبدو لي أيها الأب المبجَّل أن تناولك للُقَيماتٍ قليلة مع الشراب المقدَّس الخفيف نوعًا ما، قد أكسبك صحةً على نحوٍ مُدهِش؛ إذ تبدو كرجلٍ يُلائمه أكثر أن يفوز بكبش في مباراة للمصارعة من أن يُمضيَ وقته في هذه البرِّية المهجورة مُرددًا للصلوات ومُقتاتًا على البازلاء الجافَّة والماء البارد.»
أجاب الناسك: «سيدي الفارس، إن أفكارك تتبع الجسد كأفكار أولئك العلمانيين الجهلاء. لقد سرَّ سيدتَنا العذراء وقديسي الشفيع أن يُباركا قُوتي الزهيد الذي أضبط به نفسي.»
قال الفارس: «أيها الأب المقدَّس، الذي سعدت السماء أن تفعل مثل هذه المعجزة في ملامحه، اسمح لعلمانيٍّ آثمٍ أن يطلب ملتمِسًا معرفة اسمك.»
أجاب الناسك: «يُمكنك أن تدعوَني كاهن كوبمانهيرست؛ إذ هكذا أُدعى في هذه الأنحاء. ويُضيف الناس حين يُنادونني، وهم مُحقُّون في ذلك، نعت «المقدَّس»، ولكني غير جدير بذلك. والآن، أيها الفارس الشجاع، أتسمح لي أن أعرف اسم ضيفي الكريم؟»
قال الفارس: «في الواقع، يا كاهن كوبمانهيرست المقدَّس، يُناديني الناس في هذه الأنحاء بالفارس الأسود، ويُضيف كثيرون منهم، يا سيدي، نعت الكسلان، الذي لا أطمح على الإطلاق لأن أكون مشهورًا به.»
لم يستطع الناسك أن يمنع نفسه من الابتسام لرد ضيفه.
وقال: «أرى أيها السيد الفارس الكسلان أنك رجلٌ حذرٌ وحكيم، وأرى أيضًا أن طعام الرهبان الفقير لا يُعجبك؛ لأنك ربما تكون مُعتادًا على رغد القصور ومعسكرات الفُرسان وترَف المدن. والآن تذكَّرتُ، أيها السيد الكسلان، أنه عندما ترك لي الحارس الخيِّر لهذا الجزء من الغابة هذين الكلبين لحمايتي وكذلك تلك الحُزَم من العلف، ترك لي أيضًا بعض الطعام، ولكنه لما كان غير مُناسب لعاداتي في الطعام، فقد غاب عن ذهني وسط تأمُّلاتي التي تفوقه الأكثر أهميةً.»
قال الفارس: «أجرؤ أن أُقسِم على أنه فعل ذلك؛ فقد كنت مُقتنعًا بأن ثَمة طعامًا أفضل في صومعتك أيها الكاهن المقدَّس منذ أن نزعتَ قلَنسُوتك. لِنرَ إذنْ عطية الحارس دون إبطاء.»
رمق الناسك الفارس بنظرةٍ مُتأملة بها نوع من التعبير الهزلي عن التردد، كما لو كان غير متأكد إلى أي حد ينبغي عليه أن يتصرف بحذر بشأن الوثوق في ضيفه.
بعدما تبادلا نظرةً صامتة أو نظرتين، ذهب الناسك إلى الجانب الأقصى من الكوخ، وفتح كوةً كانت مغلقة بعنايةٍ شديدة وبشيء من البراعة. ومن أعماق خِزانة سوداء تؤدي هذه الكوةُ إليها، جلب فطيرةً كبيرةً مخبوزة في صفيحة من القصدير ذات أبعادٍ غير مُعتادة. وضع هذه الفطيرة الضخمة أمام ضيفه، الذي شقَّها بخنجره، ولم يُضِع وقتًا في أن يعرف محتوياتها.
قال الفارس لمُضيفه بعدما ابتلع بسرعة عدةَ لُقَيمات من هذا المدد من طعام الناسك الجيد: «كم مرَّ على وجود الحارس الصالح هنا؟»
أجاب الأب على الفور: «ما يقرب من شهرين.»
قال الفارس: «أُقسِم بالرب الحق أن كل شيء في صومعتك مُعجِز أيها الكاهن المقدَّس! إذ أكاد أُقسِم أن الظبيَ السمين الذي حُشِيت هذه الفطيرة من لحمه كان يعدو على أقدامه هذا الأسبوع. لقد كنتُ في فلسطين يا سيدي الكاهن …» ثم توقَّف قليلًا فجأة، وعاد يقول: «وأذكر أنه كان من عادة أهل تلك البلاد أنه يتعين على كل مُضيف يستقبل ضيفًا أن يُثبِت له سلامة طعامه بأن يُشاركه إياه. وسأكون ممنونًا لك بشدة إن امتثلت لهذه العادة الشرقية.»
أجاب الناسك: «كي أريحك من شكوكك غير الضرورية، يا سيدي الفارس، سأحيد هذه المرة فقط عن قواعدي.» ونظرًا لأنه لم تكن ثَمة شوكاتٌ في تلك الأيام، أنشب أصابعه على الفور في أحشاء الفطيرة.
قال الفارس عندما أشبَع جوعه: «أيها الكاهن المقدَّس، أراهن بجوادي الأصيل هذا مقابل قطعة ذهبية على أن الحارس الأمين الذي نَدين له بلحم الغزال هذا، قد ترك لك كأسًا من النبيذ أو بعضًا من الشراب مع هذه الفطيرة الفاخرة. بلا شكٍّ هذا حدث لا يرقى تمامًا إلى أن يعلق بذاكرة ناسك في مِثل زُهدك، ولكن أعتقد أنك إن بحثت في هذا السرداب الذي هناك مرةً أخرى فستجد أنني مُحِق في حَدْسي.»
اكتفى الناسك بالرد عليه بابتسامةٍ عريضة، وعاد إلى الكوَّة وأحضر قِربةً من الجلد ربما كانت تحتوي على ما يُعادل جالونًا من الشراب، كما أحضر قدحَي شرابٍ كبيرين مصنوعين من قرنَي حيوان. وبعد أن أحضر هذه المؤن الجيدة لهضم العشاء، بدا أنه لم يَعُد يرى ضرورةً لأن يُبديَ من جانبه مزيدًا من الحفاوة، لكنه ملأ القدحَين وقال على الطريقة الساكسونية: «نخب صحتك يا سيدي الفارس الكسول!» وأفرغ قدحَه دفعةً واحدة.
أجاب المُحارب، بتحيةٍ مُماثلة بقدحه الممتلئ مثل قدح مُضيفه بالقدر ذاته من الشراب، قائلًا: «نخب صحتك يا كاهن كوبمانهيرست المقدَّس!»
قال الغريب بعد احتساء الكأس الأولى: «أيها الكاهن المقدَّس، لا يسَعُني إلا أن أتعجَّب من أن رجلًا لديه تلك العضلات والقوة، ولديه شهيَّة جيدة مثل شهيتك، ويُفكِّر في أن يُقيم وحيدًا في هذه البرِّية. أقلُّ ما في الأمر، لو كنت مكانك، لوجدت لنفسي رياضةً ورخاءً في صيد ظِباء الملك؛ فثَمة العديد من القُطعان في هذه الغابات، ولن يفتقد أحدٌ أبدًا ظبيًا يذهب إلى خادم كنيسة القديس دونستان.»
رد الكاهن: «يا سيدي الفارس الكسول، هذه كلماتٌ خطيرة، وأرجوك أن تُمسِك عنها. أنا ناسكٌ مُخلِص للملك وللقانون، ولو تعدَّيت على صيد مليكي لسِيقَ بي إلى السجن، وإن لم تُنقذني عباءة النُّساك فسيكون مصيري الشنق.»
قال الفارس: «ولكني لو كنت مكانك لخرجت في ضوء القمر حين يغطُّ الحراجون والحُراس في نومهم العميق، ومن وقت لآخر، وأنا أُتمتم بصلواتي، أرمي بسهم بين قُطعان الظِّباء الشهباء التي ترعى في فرجة الغابة. أيها الكاهن المقدَّس، ألم تُمارس قط هذه التسلية؟»
أجاب الناسك: «يا صديقي الكسول، لقد رأيت كل ما يعنيك في تدبير شئون منزلي. املأ كأسك ومرحبًا بك، وأرجوك ألا تَحملني، بمزيد من الاستفسارات الوقحة، على أن أُرِيك أنك ما كنت ستستطيع أن تدخل منزلي لو كنت جادًّا في مقاومتك.»
قال الفارس: «بحق إيماني، لقد أثَرْت فضولي أكثر من ذي قبل! إنك أكثر النُّساك الذين قابلتهم غموضًا، وسأعلم المزيد عنك قبل أن نفترق. أما عن تهديداتك، فلتعلم أيها الرجل المقدَّس أنك تتحدث مع رجلٍ صنعتُه هي البحث عن الخطر أينما كان لمواجهته.»
قال الناسك: «سيدي الفارس الكسول، سأشربُ نخبك لاحترامي الشديد لشجاعتك، ولكنني لا أُقدِّر عقلك. وإذا أردت أن نتقاتل بأسلحةٍ مُتكافئة فسأمنحك بكل صداقة وحب أخوي كفارةً كافية ومغفرةً تامة، حتى إنك لن تأثم إثم الإفراط في الفضول طوال الأشهُر الاثنَي عشر المُقبِلة.»
شرب الفارس نخبه، وأراد منه أن يذكر ما يُجيده من أسلحة.
أجاب الناسك: «لا يوجد سلاح، من مقص دليلة ومسمار يائل الذي يُساوي عشرة بنسات إلى سيف جالوت المعقوف، لستُ ندًّا لك فيه، ولكن إن كنت سأختار، فما قولك يا صديقي العزيز في هذه القِطع البسيطة؟»
وبعد أن قال هذا فتح كوةً أخرى، وأخرج منها زوجين من السيوف العريضة والتروس مثل تلك التي كان يستخدمها رجال الملك في ذلك العصر. لاحظ الفارس، الذي كان يُتابع حركاته، أن مكان الإخفاء الثاني هذا كان يحوي قوسين أو ثلاثًا من الأقواس الطويلة الجيدة، ونُشَّابًا، وحُزمة من الأسهم القصيرة للنُّشَّاب، ونصف دستة من حزم الأسهم للأقواس الطويلة. كما رأى كذلك قيثارة، وأشياء أخرى لا تَمتُّ إلى الكنيسة بِصلة، عندما فُتحت هذه الكوة المُظلمة.
قال: «أعِدُك يا أخي الكاهن أنني لن أطرح عليك مزيدًا من الأسئلة المُزعجة؛ فمُحتويات تلك الخِزانة الصغيرة فيها الإجابة عن جميع أسئلتي، وأنا أرى سلاحًا هناك.» (عندئذٍ انحنى وأخرج القيثارة.) «يُسعدني أكثر أن أُثبت لك مهارتي في استخدامه، أكثر من مهارتي في استخدام السيف والتُّرس.»
قال الناسك: «آمُل أيها السيد الفارس ألا يكون ثَمة سببٌ وجيه يُسوِّغ تسميتك بالكسول. أُصارحك أن لديَّ شكوكًا خطيرةً تجاهك، ولكنك ضيفي، ولن أختبر بَسالتك دون إدارتك الحرة. فلتجلس إذن ولتملأ كأسك، ولنشرب ونُغنِّي ونمرح. وإذا كنت تعرف أغنيةً جيدة فأنت مرحَّب بك لتناول وجبة من الفطير في كوبمانهورست ما دمتُ أخدم في كنيسة القديس دونستان؛ الأمر الذي أرجو من الرب أن يطول حتى أُغيِّر غطائي الرمادي إلى آخر من العُشب الأخضر، ولكن تعالَ واملأ قدحًا؛ لأن القيثارة ستستغرق وقتًا في ضبط أوتارها، ولا شيء يضبط النغمات ويشحذ الأذن كقدح من النبيذ. ومن ناحيتي، يروق لي أن أتحسَّس العنب بين أناملي قبل أن أُداعِب بها أوتار القيثارة.»