الفصل السادس عشر
كان الناسك وضيفه يُنشِدان، بملء ما تتَّسع رئتاهما من قوة، أنشودةً قديمة عن الشراب، كانت لازمتها:
ولكن في النهاية عكَّرَت مِزاجَهما طَرقاتُ لوكسلي العالية والمُتكررة، فقال الناسك مُتوقفًا عن الإنشاد وسط مقطع طويل: «وحق مسبحتي، ها قد جاءنا مزيد من الضيوف الجُهال. لا أرغب، من أجل قلنسوتي الرهبانية، أن يرونا ونحن نرتكب هذا الفعل الجسيم؛ فلكل رجل أعداؤه يا سيدي الكسول الطيب، وثَمة مَن يملكون من الحقد ما يكفي لأن يجعلهم يُفسرون هذا الترويح من باب كرم الضيافة الذي قدَّمته لك، أيها المسافر المتعَب، لمدة ثلاث ساعات قِصار، على أنه جلسة سُكْر ليس إلا.»
رد الفارس: «افتراءٌ دنيء! ودِدت لو كان بوسعي معاقبتهم، ولكن في هذه البلاد أُفضِّل الحديث معهم عبر قضبان خوذتي على أن أتحدَّث معهم سافر الوجه.»
قال الناسك: «إذن ضع وعاءك الحديدي على رأسك أيها الصديق الكسول، بينما أتخلص أنا من أباريق القصدير هذه التي ما زال أثر محتوياتها يجري على نحوٍ غريب في رأسي. ولكي نُغطي على ما فعلَته في ألسنتنا من لغو، حيث أشعر حقًّا ببعض الدُّوار، فلتندمج معي في اللحن الذي ستسمعني أُغنِّيه، ولا تهتمَّ بأمر الكلمات؛ فأنا نفسي أعرفها بشِقِّ الأنفُس.»
قال ذلك وبدأ يُنشِد بصوتٍ راعد باللاتينية: «من الأعماق صرخت إليك يا رب.» وهو يُغطي في أثناء ذلك أدوات وليمتهما، بينما كان الفارس الذي كان يضحك من كل قلبه ويلبس دروعه في الوقت نفسه، يُساعد مُضيفه بصوته من وقت لآخر كلما سنحت له الفرصة بالطرب.
قال صوت من الخارج: «أي صلاة صبح شيطانية تتلوها في هذه الساعة؟»
قال الناسك: «فلتُسامحك السماء أيها السيد المسافر! ولتمضِ في طريقك باسم الرب والقديس دونستان، ولا تقطع عليَّ وعلى أخي المقدَّس صلواتنا.»
رد الصوت بالخارج: «أيها القسُّ المجنون، افتح الباب للوكسلي!»
قال الناسك لرفيقه: «كل شيء آمن، كل شيء على ما يُرام.»
قال الفارس الأسود: «ولكن من هو؟ يُهمني كثيرًا أن أعرف.»
أجاب الناسك: «من هو؟ أقول لك إنه صديق.»
رد الفارس: «ولكن أي صديق؟ فقد يكون صديقًا لك، ولا يكون صديقًا لي.»
رد الناسك: «أي صديق؟ هذا أحد الأسئلة التي يسهل طرحها عن الإجابة عليها. أي صديق؟ عجبًا، الآن أتذكر بعض الشيء، إنه الحارس الأمين نفسه الذي حدَّثتُك عنه منذ قليل.»
رد الفارس: «أجل، إنه حارسٌ أمين كما أنك ناسكٌ تقي. لا أشك في ذلك، ولكن افتح له الباب قبل أن يقتلعه من مفصلاته.»
فتح الناسك بابه سريعًا وأدخل لوكسلي ومعه رفيقاه.
كان أول سؤال طرحه اليومَن بمجرد أن رأى الفارس: «عجبًا، أيها الناسك، ما هذه الصحبة المرحة التي لديك هنا؟»
رد الراهب وهو يهزُّ رأسه: «إنه أخٌ من طائفتنا، وقد كنا نُصلي طول الليل.»
أجاب لوكسلي: «أعتقد أنه راهبٌ من مُحاربي الكنيسة، وثَمة الكثير منهم في الخارج. أقول لك أيها الناسك إنك يجب أن تضع مسبحتك جانبًا وتُمسك بعصاك؛ فسنحتاج إلى كل واحد منكم أيها الرجال المرحون، سواء أكنتم من رجال الكنيسة أم علمانيين.» ثم أضاف وهو يتنحي خطوةً جانبًا: «ولكن هل أنت مجنون لتسمح بالدخول لفارسٍ لا تعرفه؟ أنسيت قواعدنا؟»
رد الناسك بجُرأة: «لا أعرفه؟! بل أعرفه جيدًا كما يعرف الشحاذ صحنه.»
فسأله لوكسلي: «وما اسمه إذن؟»
قال الناسك: «اسمه، اسمه السير أنتوني أوف سكرابيلستون. عجبًا، وكأنني سأحتسي الخمر مع رجل لا أعرف اسمه!»
قال رجل الغابة: «لقد شربت أكثر من اللازم أيها الراهب، وأخشى أن تكون قد ثرثرت بأكثر من اللازم أيضًا.»
تقدَّم الفارس نحوه قائلًا: «أيها اليومَن الصالح، لا تغضب من مُضيفي المرح؛ فلم يفعل شيئًا سوى أن منحني ضيافة كنت سأُجبره عليها لو كان رفض.»
قال الراهب: «أنت تُجبرني! انتظر حتى أخلع هذا الرداء الرمادي بسُترةٍ خضراء، وإن لم أجعل عصاي ترنُّ اثنتَي عشرة مرةً على أم رأسك فلن أكون رجل دين حقيقيًّا ولا رجل غابة جيدًا.»
بينما كان يقول ذلك، خلع رداءه وبدا في سترةٍ ضيقة سوداء من القماش القاسي وسروالٍ داخلي، وارتدى عليهما بسرعةٍ سترته الخضراء وجوربًا باللون نفسه.
قاد لوكسلي الفارس مُتنحيًا به بعيدًا قليلًا، وخاطَبه قائلًا: «لا تُنكر يا سيدي الفارس، إنك من تسبَّبت في انتصار الإنجليز على الغرباء في اليوم الثاني للمباراة في آشبي.»
رد الفارس: «وماذا إن كان تخمينك صحيحًا أيها اليومَن الصالح؟»
أجاب اليومَن: «سأعتبرك حينئذٍ صديقًا للفريق الأضعف.»
رد المُحارب الأسود: «ذاك على الأقل واجب الفارس الحقيقي، ولن أرغب مختارًا أن يكون ثَمة أسباب للتفكير في أن أكون خلاف ذلك.»
قال اليومَن: «ولكن لتحقيق غرضي يتعيَّن أن تكون رجلًا إنجليزيًّا صالحًا بقدر كَوْنك فارسًا جيدًا؛ لأن ما عليَّ أن أحدِّثك عنه في الحقيقة هو واجب كل رجل شريف، ولكنه بالأحرى يخصُّ الرجال الإنجليز الأصليين.»
رد الفارس: «لن تجد أحدًا تتحدث إليه وتكون إنجلترا وحياة كل إنجليزي أعزَّ عليه مني.»
قال رجل الغابة: «سأصدِّق ذلك عن طِيب خاطر؛ فلم تكن هذه البلاد في حاجة إلى دعم من يُحبونها أكثرَ منها الآن. أنصِتْ إليَّ، وسأخبرك بمغامرة إن كنتَ حقًّا الأفضل كما تبدو فستنال فيها دورًا مشرِّفًا. إن عصابة من الأشرار المُتنكرين في زي رجال أفضل منهم قد أسَرَت إنجليزيًّا نبيلًا، يُدعى سيدريك الساكسوني، ومعه ربيبته التي تحت وصايته، وصديقه أثيلستان أوف كوننجزبيرج، ونقلوهم إلى قلعة في هذه الغابة، تُسمَّى توركويلستون. وأنا أسألك، بصفتك فارسًا جيدًا وإنجليزيًّا صالحًا، هل تُساعد في إنقاذهم؟»
أجاب الفارس: «إن قسَمي يُلزمني أن أفعل ذلك، ولكني أريد أن أعرف من أنت يا من تطلب مساعدتي نيابةً عنهم؟»
قال رجل الغابة: «أنا رجل بلا اسم، ولكني مُخلِص لبلدي ولحلفائها، وعليك أن تقنَع بهذا القدر من معرفتك بي في الوقت الراهن، ولكن صدِّقني عندما أقول لك إن كلمتي، عندما أتعهَّد بها، لها حرمتها كما لو كنت أرتدي مِهمازَين من الذهب.»
قال الفارس: «أصدِّقك عن طِيب خاطر؛ فقد اعتدت على دراسة سِيماء الرجال، ويُمكنني أن أقرأ في ملامحك الإخلاصَ والعزم؛ لذلك لن أطرح عليك مزيدًا من الأسئلة، ولكني سأُساعدك على تحرير هؤلاء الأسرى المظلومين.»