الفصل السابع عشر
بينما كانت هذه التدابير تُتخذ نيابةً عن سيدريك ورفاقه، كان الرجال المسلَّحون الذين أسروه يُسرعون بأَسْراهم نحو المكان الذي انتوَوا أن يسجنوهم فيه. وفي تلك الأثناء، دار الحوار الآتي بين قائدَي قُطاع الطُّرق.
قال فارس الهيكل لدي براسي: «حان الوقت لتُغادرنا يا سيد موريس كي تُجهِّز للجزء الثاني من لغزك؛ فكما تعلم، عليك بعد ذلك أن تقوم بدور الفارس المُخلِّص.»
قال دي براسي: «لقد فكَّرت فيما هو أفضل من ذلك؛ فلن أتركك حتى نضع غنيمتنا آمنةً في قلعة فرونت دي بوف. وهناك سأظهر أمام الليدي روينا بمظهري الحقيقي، وأنا واثق من أنها ستعزو العمل العنيف الذي ارتكبته إلى شدة شغفي بها.»
أجاب فارس الهيكل: «وما الذي جعلك تُغير خطتك يا دي براسي؟»
أجاب رفيقه: «ذلك لا يعنيك في شيء.»
قال فارس الهيكل: «على كلٍّ آمُل أيها السيد الفارس ألا يكون ذلك التغيير في التدابير نابعًا من شك في نِيَّاتي الشريفة، كما حاول فيتزورس أن يغرس في ذهنك. فلتسمع مني الحقيقة! أنا لا تعنيني حسناؤك ذات العينين الزرقاوين؛ فهناك في ذلك الركب من تصلح رفيقةً أفضل لي.»
قال دي براسي: «ماذا؟! أتنزل بنفسك إلى مستوى الوصيفة؟»
قال فارس الهيكل بكبرياء: «لا يا سيدي الفارس، لن أتدنَّى إلى مستوى الوصيفة؛ فلديَّ غنيمة بين الأسرى لا تقل جمالًا عن جميلتك.»
قال دي براسي: «بحق القداس، أتعني الحسناء اليهودية؟!»
قال بوا جيلبرت: «وإن كنت أعني ذلك، فمن يُعارضني؟»
قال دي براسي: «أنت أفضل من يعلم مميزاتك، ولكني أكاد أُقسِم أن تفكيرك كان مُنصبًّا على أكياس نقود المُرابي المُسِن أكثرَ مما تُفكر في عينَي ابنته السوداوَين.»
أجاب فارس الهيكل: «يمكنني الإعجاب بالاثنين، بالإضافة إلى أن اليهودي العجوز ما هو إلا نصف غنيمة؛ إذ يجب أن أقتسم ماله مع فرونت دي بوف الذي لن يُعيرنا قلعته دون مقابل؛ ومن ثَم يجب أن يكون لي شيءٌ يُمكنني أن أعدَّه مكسبًا خاصًّا بي وحدي من غزوتنا هذه، وقد استقرَّ رأيي على أن تكون اليهودية الحسناء غنيمتي الخاصة، ولكن الآن وقد علِمت مقصدي فسترجع إلى استكمال خطتك الأصلية، أليس كذلك؟ فليس لديك، كما ترى، ما تخشاه من تدخُّلي.»
أجاب دي براسي: «لا، بل سأظل بجوار غنيمتي.»
استمرَّ الحراس يستحثُّون سيدريك، آخذين في السير بسرعةٍ كبيرة، حتى لاحت، عند نهاية ممر من الأشجار الضخمة، توركويلستون؛ قلعة ريجينالد فرونت دي بوف. نفخ دي براسي في بوقه ثلاث مرات. وعندما رآهم الرُّماة والرجال المسلَّحون بالنُّشَّاب الذين كانوا قد اعتلَوا الجدار يقتربون، أسرعوا إلى إنزال الجسر المتحرك والسماح لهم بالدخول. أجبر الحُراس الأسرى على الترجُّل، وأفهموا أثيلستان وسيدريك أنهما سيُسجَنان في غرفةٍ بعيدة عن روينا.
اقتادوا الليدي روينا، بلطف حقًّا ولكن دون استشارتها، إلى غرفةٍ بعيدة. ومُنِحت ريبيكا أيضًا تمييزًا مُقلقًا مُماثلًا، على الرغم من توسُّلات أبيها الذي وصل به الأمر أنْ عرَض عليهم المال، تحت وطأة هذا الكرب العظيم، من أجل أن يُسمَح لها بأن تُقيم معه. أجابه أحد حراسه قائلًا: «أيها الكافر الوضيع، عندما ترى مرقدك لن تتمنى أن تُشاركك ابنتك إياه.»
ودون مزيد من النقاش، سِيق اليهودي العجوز بالقوة في اتجاهٍ مختلف عن بقية الأسرى، وزُجَّ به بسرعةٍ داخل أحد أقبية القلعة الذي كانت أرضيته تنخفض كثيرًا عن مستوى الأرض، وكان شديد الرطوبة لأن مستواه كان منخفضًا عن مستوى الخندق المائي نفسه. كان الضوء الوحيد يأتي عبر كوة أو كوتَين تعلوان كثيرًا عن متناول يد الأسير. وفي أحد جوانب هذه الغرفة، كانت توجد مدفأةٌ كبيرة، وكانت مبسوطًا فوقها قضبان حديدية مستعرضة نصف متآكلة بالصدأ.
جلس إيزاك في أحد أركان قَبْوه وقد جمع ثوبه تحته ليَقي أطرافه من الأرض الرطبة، وكان يمكن رؤية يديه المضمومتين، وشعره ولحيته الأشعثَين، وعباءته المبطنة، وقبعته العالية، في الضوء المتقطع؛ ما كان من شأنه أن يمنح الرسَّام الشهير رامبرانت موضوعًا للدراسة لو أنه كان قد عاصَر تلك الفترة. ظل اليهودي على حاله، دون أن يُغير وضعه، قرابة ثلاث ساعات، حتى سُمع وقع خطوات على دَرَج القبو، ثم أصدرت المزالج صوتَ صرير مرتفعًا عندما سُحِبت، وأصدرت المفصلات صوتَ أنين عندما فُتِحت البوابة الصغيرة، ودخل ريجينالد فرونت دي بوف السجن يتبعه عبدا فارس الهيكل العربيَّان.
توقَّف على بُعدِ ثلاث خطوات من الركن الذي كان يجلس فيه اليهودي التعس، حيث كان، إن جاز القول، قد طوى نفسه في أصغر مساحة ممكنة، وأشار لأحد العبدين أن يقترب. تقدَّم التابع الأسود مُستجيبًا لإشارته، ووضع ميزانًا كبيرًا ذا كفَّتين عند قدمَي فرونت دي بوف، ثم تراجَع مرةً أخرى، حيث كان رفيقه واقفًا بلا حَراك، إلى المسافة التي تُظهر احترامه لسيده. افتتح فرونت دي بوف بنفسه المشهد بأن خاطَب الأسير التعيس الحظ.
قال: «أيها الكلب اللعين المنحدر من جنسٍ وضيع، أترى هذا الميزان؟»
رد اليهودي التعيس بالإيجاب بوهن.
«بهذا الميزان ستزنُ لي ألف رطل من الفضة وفقًا للكيل والميزان الدقيقَين لبرج لندن.»
أجاب اليهودي، باحثًا عن صوته في خِضم الخطر العظيم الذي يُحيط به، قائلًا: «يا إبراهيم المقدَّس! هل سمع إنسان من قبلُ مِثل هذا الطلب؟ من سمع من قبل، حتى في حكايات الشعراء المُتجولين، عن مبلغ كألف رطل من الفضة؟ أيُّ عينين بشريتين قد تباركت بالنظر إلى مثل هذا الكنز الكبير؟ لن تجد عُشْر هذا المبلغ الضخم من الفضة الذي تتحدث عنه داخل أسوار يورك، ولو فتَّشت منزلي ومنازل قومي كلهم.»
ردَّ فرونت دي بوف: «إن مطلبي معقول، وإن كانت الفضة شحيحة فلن أرفض الذهب، على أن يكون مقدارًا معلومًا من الذهب مُعادلًا لستة أرطال من الفضة؛ وبذلك يُمكنك تحرير جسدك الكافر من عقاب لم يخطر ببالك قط.»
صرخ إيزاك: «ارحمني أيها الفارس النبيل! أنا رجلٌ مُسِن وفقير، وبلا حول ولا قوة، ولا يليق بك أن تنتصر عليَّ؛ فلا يليق بك أن تسحق دودة.»
أجاب الفارس: «قد تكون مُسنًّا، ولكن العار من نصيب هؤلاء الحمقى الذين ترَكوك تشيب على الربا والاحتيال. قد تكون ضعيفًا، ولكن متى كان ليهودي قلبٌ أو يد؟ ولكنك معروف بالثراء.»
قال اليهودي: «أُقسِم لك أيها الفارس النبيل بكل ما أُومن به، وبكل ما نؤمن به سويًّا …»
قال النورماندي مُقاطعًا له: «لا تُقسِم حانثًا، ولا تجعل عنادك يحكم عليك بالهلاك، حتى ترى وتعيَ جيدًا المصير الذي ينتظرك. أُقسِم لك بما لا تؤمن به، بالإنجيل الذي تُعلِّمه لنا كنيستنا، وبالسلطات المُطلَقة التي مُنِحت لها للتحريم والإباحة، إن غرضي أكيد وقاطع.»
أشار مجددًا لخادمَيه بأن يقتربا، وتحدَّث معهما على انفراد بلُغتهما. أخرج العربيَّان مقدارًا من الفحم ومنفاخًا وقارورةَ زيت. وبينما كان أحدهما يُشعل نارًا بصوَّان وفولاذ، أعدَّ الآخر الفحم في المدفأة الصدئة الضخمة التي سبق أن ذكرناها، واستخدم المنفاخ حتى استحال اللهب إلى وهجٍ أحمر.
قال فرونت دي بوف: «أترى يا إيزاك صف قضبان الحديد فوق ذلك الفحم المتقِد؟ سترقد على تلك الأريكة الدافئة عاريًا من ثيابك، وكأنك مُستلقٍ على سرير من الريش. سيُبقي أحد هذين الخادمين على النار متقِدةً من تحتك، بينما يدهن الآخر أطرافك الحقيرة بالزيت حتى لا يحترق الشواء. والآن، فلتختر بين سرير من لهب وبين أن تدفع ألف رطل من الفضة؛ لأنك بحق رأس أبي ليس أمامك خيارٌ آخر.»
صاح اليهودي البائس: «هذا مُحال، مُحال أن يكون غرضك حقيقيًّا! فربُّ الطبيعة الطيب لم يخلق قط قلبًا قادرًا على عمل بمِثل هذه الوحشية!»
قال فرونت دي بوف: «لا تكن مُتيقنًا من ذلك يا إيزاك؛ فهذا خطأٌ قاتل. أتظن أنني، أنا الذي رأيت بلدة تُنهَب وتُدمَّر، ويَهلِك فيها آلاف من بني جلدتي من المسيحيين بالسيف وبالفيضان وبالنار، سأتراجع عن غرضي من أجل هتافات أو صرخات يهودي واحد حقير؟ كن عاقلًا أيها الرجل المُسِن، وافتدِ نفسك بجزء من ثروتك الزائدة عن الحاجة بأن تُعيد إلى مسيحي جزءًا مما اكتسبته بالربا الذي مارسته على أولئك الذين من دينه. أقول لك ادفع فديتك، وابتهج بأنه يُمكنك بمثل هذا المبلغ أن تُحرر نفسك من زنزانة لم يبقَ على قيد الحياة ليرويَ أسرارَها إلا القليلون. لن أُضيع مزيدًا من الكلام معك، فلتختر بين أموالك الخبيثة وبين لحمك ودمك، وأيهما تختار سيكون مصيرك.»
قال إيزاك: «إذن فليُساعدني إبراهيم ويعقوب وجميع آباء قومي. لا يُمكنني الاختيار؛ لأنه ليس لديَّ وسيلة تحقيق طلبك الباهظ!»
قال الفارس: «فلتُمسكا به ولتنزعا عنه ثيابه أيها العبدان، وليُساعده آباء بني جنسه إن استطاعوا.»