الفصل الأول
في قاعةٍ لا يتناسب ارتفاعها مع طولها وعرضها البالغَين، كانت طاولةٌ طويلة، من ألواحٍ خشنة من خشب البلوط المأخوذ من الغابة تكاد تكون لم تُصقَل، مُعَدةً على أُهْبة الاستعداد لعشاء سيدريك الساكسوني. ولم يكن السقف، الذي كان مكوَّنًا من حمَّالات وعوارض، يفصل الغرفةَ عن السماء إلا بالألواح الخشبية والقش. وكانت توجد مِدفأةٌ ضخمة في كل طرف من طرفَي القاعة، ولكن نظرًا إلى أن المداخن كانت مبنيَّة بطريقةٍ غير متقَنة على الإطلاق، فكان الكثير من الدخَان يدخل إلى الغرفة مُتسربًا من مخرج الدخان. وكانت الأرضية فيما يقرُب من ربع طول الغرفة مرتفعةً عن بقيتها عبر درَج، وكانت هذه المساحة التي كان يُطلَق عليها المنصَّة لا يشغلها سوى أفراد العائلة الرئيسيِّين والزائرين المُميزين؛ لذلك وُضِعت طاولةٌ مغطَّاة جيدًا بقماشٍ قرمزي اللون بالعرض عبر المنصَّة، حيث امتدَّ من منتصفها تجاه الطرف القصي من القاعة طاولةٌ أطول وأقل ارتفاعًا كان الخدم وتابِعوهم يتناولون عليها طعامهم؛ فبدت الطاولتان على شكل حرف تي. وكانت الكراسيُّ الضخمة والمقاعد الخشبية الطويلة من البلوط المنقوش قد وُضعت على المنصَّة، وفوق تلك المقاعد والطاولة الأكثر ارتفاعًا ثُبِّتت مظلَّة من القماش، كانت تحمي بعض الشيء الأعيانَ الذين كانوا يَشغلون ذلك المكان المُميز من تقلبات الطقس.
وفي مركز الطاولة العليا، كان ثَمة كرسيَّان أكثر ارتفاعًا من بقية الكراسي لربِّ العائلة وربَّتها، وكان أحدُ هذين المقعدين يشغله عندئذٍ سيدريك الساكسوني، الذي شعر عند تأخُّر عشائه على الرغم من كَوْنه سيدًا أنجلوساكسونيًّا بصبرٍ نافد من ذلك النوع الذي يعتري رؤساءَ القبائل. وقد بدا من سِيماء هذا المالك أنه كان صريحًا، لكنه كان مُتهورًا وسريع الغضب. كان رجلًا مُتوسط القامة، ولكنه كان عريض الكتفَين وطويل الذراعَين وقويَّ البِنية، كمن هو مُعتاد على تحمُّل المصاعب. وكان وجهه عريضًا بعينَين زرقاوَين كبيرتين، وملامح صريحة، وأسنانٍ حسنة الشكل، ورأسٍ مُتناسق. وكان شعره الأصفر الطويل مقسومًا بالتساوي على قمة رأسه وعلى حاجبَيه، ومصفَّفًا لأسفل على كلا الجانبَين وحتى كتفَيه. ولم يكن به سوى بعض الشَّيب على الرغم من اقتراب سيدريك من عامه الستين.
كان مَلبسه سُترةً خضراء كخُضرة الغابات، مكسوَّة بالفرو عند الحلق، وبأكمامٍ من فرو السناجب الرمادية. وكان يرتدي هذه السُّترة المحلولة الأزرار فوق قميص قرمزي اللون كان ضيقًا للغاية حتى كاد يلتصق بجسمه. وكان يرتدي بنطالًا من القماش نفسه، ولكنه لم يكن يصل أسفل الجزء السفلي لفخذه، تاركًا ركبتَيه مكشوفتين. أما في قدمَيه، فقد كان يلبس حذاءً خفيفًا مربوطًا من الأمام بإبزيمٍ ذهبي. كما كان يضع أساورَ من الذهب في ذراعَيه، وطوقًا عريضًا من المعدن النفيس نفسه حول عنقه. وحول خصره، ارتدى حزامًا مرصَّعًا بغزارة، كان مغمودًا فيه سيفٌ قصيرٌ مستقيم ذو حدَّين بذُؤابةٍ حادَّة، ويكاد يميل إلى التدلِّي رأسيًّا بجانبه.
لم يكن سيدريك في حالةٍ ذهنيةٍ شديدة الصفاء؛ لأن الليدي روينا، التي كانت غائبة لحضور تجمُّع مسائي كبير في إحدى الكنائس البعيدة، كانت قد عادت للتَّو، وكانت تُغيِّر ثوبها الذي بلَّلته العاصفة؛ كما لم تكن ثَمة أنباء بعدُ عن جيرث، مربِّي الخنازير، وعن شحنته التي كان يجب أن تكون قد عادت منذ وقت طويل من الغابة إلى مأواها. وعلاوةً على مسبِّبات القلق هذه، كان السيد الساكسوني ينتظر حضور مهرِّجه المفضَّل وامبا بصبرٍ نافد. أضِفْ إلى ذلك كله أن سيدريك لم يكن قد تناول الطعام منذ الظهيرة، وقد فاتت ساعة غدائه المُعتادة منذ وقت طويل؛ فظهر استياؤه في جُمَله المُتقطعة، التي كان يُتمتم ببعضها لنفسه حينًا، ويُوجهها للخدم الواقفين حوله حينًا آخر؛ فتساءل: «لماذا تأخَّرت الليدي روينا؟»
ردَّت إحدى الخادمات: «إنها فقط تُغيِّر غطاء رأسها؛ فبالطبع لا ترغب في أن تجلس معك على المائدة بقلنسوتها وثوبها، أليس كذلك؟ ولا يُمكن لسيدة في المقاطعة أن تغلب سيدتي في سرعة تغييرها لملابسها.»
قال: «هُراء! أتمنَّى أن تتخيَّر تَقْواها طقسًا أفضل في المرة التالية التي تزور فيها كنيسة القديس جون، ولكن، بحق اللعنة، ما الذي يؤخِّر جيرث في الحقل كلَّ هذا الوقت؟ لا بد أن مكروهًا قد أصاب القطيع.»
قال أوزوالد الساقي بتواضع: «لم تكد ساعة تمرُّ منذ دقَّ ناقوس إطفاء الأنوار.»
قال سيدريك مُتعجبًا: «ليأخذ الشيطان الأحمق ناقوس إطفاء الأنوار، والطاغية وريثه، والعبد العديم الرحمة الذي يذكره بلسانٍ ساكسوني على أذنٍ ساكسونية! ناقوس إطفاء الأنوار! أجل، ناقوس إطفاء الأنوار، الذي يُجبر الرجال الحقيقيين على إطفاء أنوارهم، فيبدأ اللصوص في عملهم في الظلام! أجل، ناقوس إطفاء الأنوار. يعلم كلٌّ من ريجينالد فرونت دي بوف وفيليب دي مالفوازان كيفية استغلال ناقوس إطفاء الأنوار كويليام الفاتح نفسه، أو كما يعرفها أي مُغامر نورماندي قاتل في هاستنجز. أظن أنني سأسمع أن خادمي المُخلِص قد قُتِل، وأن ممتلكاتي قد أُخذت غنيمةً، وأن وامبا … أين وامبا؟ ألم يقُل أحدٌ ما إنه خرج مع جيرث؟»
أجاب أوزوالد بالإيجاب.
«أجل؟ هذا أفضل وأفضل! لقد اختُطف أيضًا، الأحمق الساكسوني، ليعمل في خدمة اللورد النورماندي. سأذهب بشكواي إلى المجلس الأعظم؛ فلديَّ أصدقاء وتابعون، وسأدعو النورماندي للقتال رجلًا لرجل.» وصاح بصوتٍ أخفض: «آه، ويلفريد، ويلفريد! لو كنت قد استطعت إحكام عاطفتك المُفرِطة، لما تُرِك أبوك في هذه السن كشجرة بلوط وحيدة.»
انتبه سيدريك فجأةً من استغراقه في التفكير بفعل نفخة بوق.
وقال: «إلى البوَّابة أيها الأوغاد! لنسمع الأنباء التي يُخبرنا بها ذلك البوق.»
أعلن أحد الحراس قائلًا: «إن آيمر رئيس دير جورفولكس، والفارس الكريم براين دي بوا جيلبرت قائد طائفة فُرسان الهيكل الباسلة الموقَّرة، ومعهما حاشيةٌ صغيرة، يطلبان الاستضافة والمَبيت الليلة؛ كَوْنهما في طريقهما إلى إحدى مباريات الفروسية المقرَّر عقدُها في مكانٍ ليس ببعيد عن آشبي دي لا زوش بعد يومَين.»
غمغم سيدريك قائلًا: «آيمر، رئيس الدير آيمر؟ وبراين دي بوا جيلبرت؟ كلاهما من النورمانديين، ولكن سواءٌ أكانا من النورمانديين أو الساكسونيين، فلا يجب أن تُتهَم ضيافة روثيروود بالتقصير؛ لذا فهما مرحَّب بهما ما داما اختارا التوقُّف هنا، لكن تَرْحابي بهما كان سيزيد لو كانا قد اختارا أن يمضيا في طريقهما دون توقُّف عندنا. اذهب يا هونديبيرت، وأحضِرْ ستةً من الخدم، وأرشِدِ الغرباء إلى مأوى الضيوف، واعتنِ بجيادهم وبغالهم، وانظر إن كان ينقصهم أيُّ شيء. وقل لهم يا هونديبيرت إن سيدريك كان سيُرحب بهم بنفسه لولا أنه قد أخذ على نفسه عهدًا ألا يخطوَ أكثرَ من ثلاث خطوات من منصَّة رَدْهته لمقابلة أي أحد لا يُشاركه الدم الساكسوني الملكي. انصرفْ! واخدمهم بعناية.»
غادَر كبير الخدم ومعه عدة خُدام لتنفيذ أوامر سيده. وأخذ سيدريك يُكرر: «رئيس الدير آيمر! يقولون إن رئيس الدير هذا قسٌّ متحرِّر ومرِح، ويُحب النبيذ وبوق الصيد أكثرَ من جرس الكنيسة والكتاب المقدس. حسنًا، فليدخل المنزل ولنُرحب به. ما اسم فارس الهيكل؟»
«براين دي بوا جيلبرت.»
قال سيدريك: «بوا جيلبرت؟ بوا جيلبرت؟ لهذا الاسم شهرةٌ واسعة في الخير وكذلك الشر، ويقولون إنه في بسالة أشجع الرجال في طائفته، لكنه موصوم بنقائصهم المُعتادة؛ مِن كِبر وعجرفة وقسوة وشهوانية. حسنًا، إنها مجرد ليلة واحدة، وهو مرحَّب به أيضًا. يا إلجيثا، أعلِمي سيدتك روينا أننا لن ننتظرها الليلة في القاعة، إلا لو كانت تلك رغبتها الخاصة.»
ردَّت إلجيثا: «ولكنها سترغب في ذلك؛ لأنها تريد دومًا أن تسمع آخر الأخبار من فلسطين.»
أجاب سيدريك: «صمتًا، يا فتاة. إن لسانك يسبق تفكيرك. أبلغي رسالتي لسيدتك واتركيها تُقرر ما ترغب؛ فهنا، على الأقل، ما زالت سليلة ألفريد أميرة.»