الفصل العشرون
بينما كانت المَشاهد التي وصفناها تجري في أجزاءٍ أخرى من القلعة، كانت اليهودية ريبيكا تنتظر مصيرها في برجٍ بعيد ومُنفصل. وعندما زُجَّ بها إلى الزنزانة الصغيرة وجدَت نفسها في حضرة عرَّافة عجوز، ظلَّت تُتمتم لنفسها بلحنٍ ساكسوني، كما لو كانت تضبط إيقاعًا لرقصة بحركةٍ دائرية يؤديها مغزلها على أرضية الزنزانة.
قال أحد حراس ريبيكا: «يجب أن تنهضي وتُغادري، أيها الصرصورة العجوز؛ فسيدنا النبيل يأمر بذلك. يجب أن تتركي هذه الغرفة لضيفةٍ أجمل.»
قالت العجوز الشمطاء مزمجرةً: «نعم، هكذا تُكافأ الخدمة. لقد شهدت الوقت الذي كانت فيه مجرد كلمة مني تطرح بأفضل الجنود بينكم من فوق سرجه وتُقصيه من الخدمة. أما الآن، فيجب أن أنهض وأُغادر بِناءً على أمر كل خادم مثلك.»
قال الرجل الآخر: «أيتها السيدة الطيبة أورفريد، لا تتعاملي مع الأمر بعقلانية، ولكن انهضي وغادري. لقد كان لكِ يومك أيتها السيدة العجوز، ولكن شمسكِ قد غرَبت منذ وقت طويل.»
انسحب الرجلان تاركَين ريبيكا في صحبة المرأة العجوز.
قالت العجوز الشمطاء: «من أي بلد أنتِ؟ أعربية، أم مصرية؟ لماذا لا تُجيبين؟ إنكِ تستطيعين البكاء، أفلا تستطيعين الكلام؟»
قالت ريبيكا: «لا تغضبي أيتها الأم الطيبة.»
أجابت أورفريد: «لستِ بحاجة إلى أن تقولي أكثر من ذلك؛ فالناس يعرفون الثعلب من ذيله، واليهوديةَ من لهجتها.»
قالت ريبيكا: «من أجل الرحمة، أخبريني عما ينبغي عليَّ أن أتوقَّعه نهايةً للعنف الذي ساقني إلى هنا! هل ينشُدون حياتي تكفيرًا عن ديني؟ سأتخلَّى عنها بسرور.»
أجابت العرَّافة: «حياتك أيتها التابعة؟ صدِّقيني، إن حياتكِ ليست في خطر. إنهم سيُعاملونك كما لو كنتِ فتاةً ساكسونيةً نبيلة. انظري إليَّ، لقد كنتُ شابةً مثلك، وكان جمالي ضعف جمالك عندما اقتحم فرونت دي بوف، والد ريجينالد هذا، وأتباعه من النورمانديين هذه القلعة. دافَع أبي وأولاده السبعة عن إرثهم من طابق إلى طابق، ومن غرفة إلى أخرى، ولكنهم ماتوا؛ مات كل رجل منهم. وقبل أن تبرد جثثهم وتجف دماؤهم، كنتُ قد صِرتُ فريسةَ المنتصر وموضعَ سخريته!»
قالت ريبيكا: «أليس ثَمة عون؟ ألا توجد وسيلة للهرب؟ بسخاء، سأُكافئكِ عن مساعدتكِ بسخاء.»
قالت العجوز: «لا تُفكري في الأمر؛ فمن الآن فصاعدًا لا مفرَّ إلا عبر بوابات الموت. وداعًا أيتها اليهودية! يهوديةً كنتِ أو غير يهودية، فمصيركِ واحد؛ لأن من ستتعاملين معهم ليس لديهم ورَع ولا شفقة.»
قالت ريبيكا: «امكثي! امكثي! بحق السماء! إن في حضوركِ بعضَ الحماية.»
ردَّت السيدة العجوز: «إن حضور أم الرب ذاتها لم يكفل لي الحماية.» ثم أكملت مُشيرةً إلى صورةٍ بسيطة للعذراء مريم، قائلةً: «ها هي تقف هناك؛ فلتنظري إن كان باستطاعتها أن تُغيِّر من المصير الذي ينتظرك.»
غادرت الغرفة وهي تتكلم، وأغلقت الباب وراءها.
كانت ريبيكا في ذلك الحين تتوقَّع مصيرًا أكثر هولًا من مصير روينا، ولكنها كانت أكثرَ استعدادًا، بحكم ما كان لديها من عادة التفكير وقوة عقلها الفطرية، لمواجَهة الأخطار التي كانت عُرضةً لها. كان أول ما اهتمَّت به هو أن تفحص الغرفة، ولكن لم تجد بارقة أمل في الهرب أو الحماية؛ فلم يكن بالغرفة ممرٌّ سري أو بابٌ مسحور. وباستثناء الباب الذي كانت قد دخلت منه المتصلِ بالمبنى الرئيسي، كانت تبدو محاطة بالجدار الخارجي المستدير للبرج. ولم يكن للباب مزلاجٌ أو قُفلٌ داخلي. وكانت النافذة الوحيدة تُطل على فضاء له سورٌ يعلو البرج؛ ما أعطى ريبيكا، للوهلة الأولى، بعض الأمل في الهروب، ولكن سرعان ما اكتشفت عدم وجود أي اتصال بأي جزء آخر من أسوار القلعة؛ لأنها كانت في برجٍ صغيرٍ معزول في زاوية القلعة.
ارتجفت السجينة وامتقع لونها عندما سمعت خطوة على الدَّرَج وفُتِح باب غرفة البرج ببطء، ثم ظهر رجلٌ طويل يرتدي ثيابًا كثياب قُطاع الطُّرق؛ أولئك الذين كانوا السببَ فيما ألمَّ بهم من بلاء، ودخل ببطء وأغلق الباب خلفه. وكانت قبعته المُتدلية على حاجبَيه تُغطي الجزء العلوي من وجهه، وقد كان مُمسكًا بعباءته بطريقة تُخفي بقيته. بهذه الهيئة، كما لو كان مُستعدًّا لتنفيذ أمر يخجل هو نفسه من مجرد التفكير فيه، وقف أمام السجينة المُرتعبة. كانت ريبيكا قد خلعت بالفعل سوارَين وعِقدًا من الحلي النفيسة، التي أسرعت بتقديمهم للخارج عن القانون المزعوم.
قالت: «خذ هذه أيها الصديق الطيب، وأستحلفك بالرب أن تكون رحيمًا بي وبأبي المُسِن! هذه الحلي ذات قيمة كبيرة، ومع ذلك فهي شيءٌ تافه إذا ما قُورنت بما سيمنحه لك مقابل خروجنا من هذه القلعة في حرية ودون أن يُصيبنا أذًى.»
رد الخارج عن القانون قائلًا باللغة الفرنسية: «إنه لقولٌ حسن، ولكن اعلمي، يا زَنبقةَ وادي بكَّة المتألقة، أن أباكِ بالفعل بين يدَي خيميائي قدير، يعرف كيف يُحوِّل حتى القضبان الصدئة لموقد قبو إلى ذهب وفضة. يجب أن تُدفَع فديتك بالحب والجمال، ولن أقبلها بأي عملة أخرى.»
قالت ريبيكا باللغة نفسها التي تحدَّث إليها بها: «أنت لستَ بقاطع طريق؛ فما من قاطع طريق يرفض عرضًا كهذا. ولا يوجد قاطع طريق في هذه الأرض يستخدم اللهجة التي تتحدث بها. أنت لست قاطع طريق، وإنما نورماندي، نورماندي وربما تكون قد وُلِدت نبيلًا؛ فلتكن كذلك في أفعالك، ولتخلع عنك قناع الاعتداء والعنف المُخيف هذا!»
قال براين دي بوا جيلبرت وهو يُنزِل العباءة عن وجهه: «وأنتِ، التي يُمكنها تخمين تلك الحقيقة، لستِ إحدى بنات إسرائيل، ولكنَّك ساحرةٌ من ساحرات إندور في كل شيء، عدا شبابك وجمالك. حسنًا، أنا لست بقاطع طريق يا وردة شارون الجميلة، وأنا رجلٌ أكثر استعدادًا لإحاطة عنقك وذراعَيك باللآلئ والماسات، التي تليق بهم، من أن أحرمك من هذه الحلي.»
قالت ريبيكا: «ماذا تريد مني إذن إن لم تكن تريد ثروتي؟ لا يُمكن أن يكون بيننا شيءٌ مشترك؛ فأنت مسيحي وأنا يهودية، وزواجنا مخالف لشريعة الكنيسة والمعبد على السواء.»
رد فارس الهيكل ضاحكًا: «هذا صحيح بالفعل. أتزوَّج من يهودية؟ يا للعار! لن يكون ذلك حتى لو كانت ملكةَ سبأ! اسمعي يا ريبيكا، أنت أسيرتي التي ظفرت بها بقوسي ورمحي، وخاضعة لإرادتي بشرائع جميع الأمم، ولن أُفرط قِيدَ أنملة في حقي، أو أمتنع عن أن آخذ عنوةً ما ترفضينه خضوعًا لتوسل أو ضرورة. شيءٌ واحد فقط يُمكنه إنقاذك، وهو أن ترضخي لمصيرك وتعتنقي ديننا، وستبلغين في تلك الحالة مكانةً عالية، ستجعل الكثير من السيدات النورمانديات أقلَّ أبَّهة وجمالًا من محظيَّة حامل أفضل رمح بين المُدافعين عن الهيكل.»
قالت ريبيكا: «أخضع لمصيري! بحق السماء المقدسة! لأي مصير أخضع؟ أعتنق دينك! وأي دين هذا الذي يُئوي شريرًا مثلك؟ أنت أفضل حامل رمح بين فُرسان الهيكل! أيها الفارس الجبان! أيها القس الحانث القسم! إنني أبصق عليك وأتحدَّاك! إن وعد إله إبراهيم قد فتح مهربًا لابنته، حتى من هاوية العار هذه!»
وبينما كانت تتكلم، فُتِحت النافذة المُطلة على البرج، وبعد لحظةٍ كانت واقفةً على حافَّة شُرفة، ولم يعُد بينها وبين العمق الشاهق أسفلها أيُّ حاجز. لم يكن بوا جيلبرت مُستعدًّا لمثل هذا العمل اليائس؛ لأنها قبلئذٍ كانت تقف بلا حَراك؛ لذا لم يكن لديه الوقت للتدخل أو لإيقافها. وعندما شرع في أن يتقدم منها، صاحت قائلةً: «الزم مكانك، يا فارس الهيكل المغرور، أو تقدَّم إن شئت! ولكن إن اقتربت خطوةً واحدة فسأُلقي بنفسي من الهاوية.»
وبينما كانت تقول ذلك، شبَّكت يديها ومدَّتهما نحو السماء، كما لو كانت تلتمس الرحمة لروحها قبل أن تقفز قفزتها الأخيرة. تردَّد فارس الهيكل، وانهارت عزيمته التي لم تخضع قط لشفقة أو كرب أمام إعجابه بجُرأتها. قال: «انزلي أيتها الفتاة المتهوِّرة! أُقسِم بالأرض والبحر والسماء إنني لن أُلحِق بكِ أذًى.»
قالت ريبيكا: «لن أثق فيك يا فارس الهيكل؛ فقد علِمتني جيدًا كيف أُقدِّر فضائل طائفتك.»
صاح فارس الهيكل بحماسة: «أنت تظلمينني. أُقسِم لك بالاسم الذي أحمله، وبالصليب الذي على صدري، وبالسيف الذي بجانبي، وبشعار آبائي القديم، إنني لن أُلحِق بكِ أي سوء كان! تراجعي! إن لم يكن من أجلكِ فمن أجل أبيكِ! سأكون صديقَه، وفي هذه القلعة سيحتاج إلى صديقٍ قوي.»
قالت ريبيكا: «وا أسفاه! أعلم جيدًا، ولكن هل أُخاطر وأثق بك؟»
قال براين دي بوا جيلبرت: «ليلتوِ ذراعي وليلحق باسمي العار إن وجدتِ سببًا لتشتكي مني! كم من قانون وأمر خالفته، ولكني لم أُخلِف وعدي قط.»
قالت ريبيكا: «إذن سأثق بك، إلى هذا الحد.» ثم نزلَت من فوق حافَّة الشُّرفة، ولكنها ظلَّت واقفة بالقرب من إحدى الفتحات في الجدار، وقالت: «سأقف هنا، وابقَ حيث أنت، وإن حاولتَ أن تقترب خطوةً واحدة تُقلل بها المسافة بيننا، فسترى أن الفتاة اليهودية تُفضل أن تُعطي روحها لربها على أن تُعطي شرفها لفارس الهيكل.»
بينما كانت ريبيكا تقول ذلك، كانت عزيمتها العالية والثابتة التي تتوافق جيدًا مع الجمال المُعبِّر لملامحها، تُعطي لمظهرها وروحها وسلوكها جلالًا بدا وكأنه يفوق جلال البشر. وقد اعتقد بوا جيلبرت، المعتدُّ بنفسه والجريء، أنه لم يرَ من قبلُ جمالًا مفعَمًا بالحيوة والهيبة هكذا.
قال: «ليكن بيننا سلام يا ريبيكا.»
ردَّت ريبيكا: «ليكن سلام إن شئت. سلام، ولكن مع الحفاظ على هذه المسافة بيننا.»
قال بوا جيلبرت: «لستِ بحاجة إلى أن تخشيني بعد الآن.»
ردَّت: «أنا لا أخشاك؛ فالشكر لمن أقام هذا البرج المسبِّب للدُّوار بهذا العلو الشديد، الذي لا يُمكن لأحدٍ أن يسقط منه ويظل على قيد الحياة. الشكر له، ولإله إسرائيل! أنا لا أخشاك.»
قال فارس الهيكل: «إنكِ تظلمينني. بحق الأرض والبحر والسماء إنك تظلمينني! ليس من طبيعتي ما ترينني عليه من قسوة وأنانية وتشدُّد. اسمعيني يا ريبيكا، من بين كل الفُرسان الذين حملوا رماحًا لم يوجد فارس يحمل في قلبه إخلاصًا لسيدته أكثرَ من براين دي بوا جيلبرت. كانت ابنة إقطاعي صغير، وكان اسمها معروفًا أينما جرت أعمال الفروسية. أجل، جعلت أعمالي ومخاطراتي ودمي اسم أديلايد دي مونتيمار معروفًا من بلاط قَشتالة إلى بلاط بيزنطة. ماذا كان جزائي؟ عندما رجعت بأمجادي التي دفعت ثمنها غاليًا بالعناء والدم، وجدتها قد تزوَّجت من تابعٍ جاسكوني، لم يُسمَع اسمه قط خارج حدود أرضه الوضيعة! منذ ذلك اليوم عزلت نفسي عن الحياة وروابطها؛ لا تعرف رجولتي منزلًا عائليًّا، ولا أسكن إلى زوجةٍ حنون، ولا تعرف سِني دفء العيش داخل بيت، ولا بد أنني سأكون وحيدًا في قبري، ولن تخلفني ذرية لتحمل اسم بوا جيلبرت العريق. إن فارس الهيكل عبدٌ في كل شيء إلا اسمه؛ فلا يُمكنه أن يحوز أراضيَ ولا متاعًا، ولا يحيا ويتحرك ويتنفس إلا بإرادة شخص آخر ومشيئته.»
قالت ريبيكا: «وا حسرتاه! ما المزايا التي يُمكن أن تُعوض عن مثل هذه التضحية المُطلَقة؟»
رد فارس الهيكل: «قوة الانتقام يا ريبيكا، وآمال الطموح.»
قالت ريبيكا: «إنه لجزاءٌ بغيض مقابل التخلي عن الحقوق الأعز للبشرية.»
رد فارس الهيكل: «لا تقولي هذا يا آنستي؛ فالثأر عيد للآلهة! أما الطموح، فهو الإغراء الذي يُمكنه أن يُعكر حتى صفو نعيم السماء نفسها. يا ريبيكا، إن من تُفضل الموت على تلويث شرفها لا بد أن لها نفسًا أبيَّة وقويَّة. يجب أن تكوني لي! لا، لا تفزعي، فيجب أن يكون الأمر برضاك ووفقًا لشروطك. يجب أن تُوافقي على أن تُشاركيني آمالي التي تتَّسع إلى أكثرَ مما يُمكن رؤيته من فوق عرش ملك! اسمعيني قبل أن تُجيبي، وحكِّمي عقلك قبل أن ترفضي. إن فارس الهيكل يخسر حقوقه الاجتماعية، وقدرته على التصرف بلا قيود، ولكنه يُصبح عضوًا وفرعًا في كيانٍ قوي تهتزُّ أمامه العروش. وأنا لست عضوًا مُتواضعًا في هذه الطائفة القوية، ولكني بالفعل أحد القادة الرئيسيين، وقد أطمح أن أُمسِك يومًا بعصا السيد الأكبر. إن جنود الهيكل المساكين لن يضعوا أقدامهم وحدهم فوق أعناق الملوك؛ فأقدامنا التي يكسوها الزرَد سترتقي عرشهم، وسينتزع قفازنا الصولجان من قبضتهم. ولا حتى حكم مسيحكم المنتظَر عبثًا يمنح لقبائلكم المشتَّتة من القوة بقدر ما يهدف طموحي. إنني لم أبحث إلا عن روحٍ متآلفة مع روحي لتُشاركني حياتي، ولقد وجدتُها فيكِ.»
ردَّت ريبيكا: «أتقول هذا لفتاة من قومي؟ أتظن …»
قال فارس الهيكل: «لا تُجيبيني بعباراتٍ تشدِّد على الفرق بين عقيدةِ كلٍّ منا؛ ففي اجتماعاتنا السرية نسخر من هذه الحكايات الصبيانية، ولكن صوت البوق هذا يُعلن عن شيء قد يتطلب حضوري. فكِّري فيما قلته لكِ. وداعًا! لا أطلب منكِ أن تُسامحيني على العنف الذي هدَّدتكِ به؛ لأنه كان ضروريًّا كي تظهر شخصيتكِ؛ فالذهب لا يظهر معدنه إلا بتعريضه لمحكِّ الذهب. سأعود على الفور، وسأسترسل في حديثي معك.»