الفصل الثالث والعشرون
عندما دخل فرونت دي بوف الغرفة التي كانت على الطراز القوطي، وجد قِنِّينةً من النبيذ على طاولةٍ كبيرة من خشب البلوط، والأسيرَين الساكسونيَّين في حراسة أتباعه. تجرَّع فرونت دي بوف جرعةً كبيرة من النبيذ، ثم خاطب سجينَيه؛ لأن الطريقة التي سحب بها وامبا القبعة على وجهه والتغير في الملبس والضوء المُعتِم والضعيف، وعدم تيقُّن البارون من ملامح سيدريك، كل ذلك منعه من اكتشاف أن أكثر أسيرَيه أهميةً قد هرب.
قال فرونت دي بوف: «يا سيدَي إنجلترا الباسلَين، كيف تجدان ضيافتكما في توركويلستون؟ أُقسِم بالرب وبالقديس دينيس، إن لم تدفعا فديةً كبيرة فسأُعلقكما من أقدامكما! تكلَّما أيها الكلبان الساكسونيان، ماذا تدفعان مقابل حياتكما التي لا تُساوي شيئًا؟ ما قولك أنت، يا أوف روثيروود؟»
رد وامبا المسكين: «لن أدفع ولا حتى درهمًا واحدًا. أما عن تعليقي من قدمَيَّ فإن دماغي، كما يُقال، قد قُلِب رأسًا على عقب، منذ ارتديت قلنسوتي أول مرة حول رأسي.»
قال فرونت دي بوف: «بحق القديسة جينفيف! ما الذي لدينا هنا؟»
وضرب قلنسوة سيدريك بظهر يده لتقع من فوق رأس المهرِّج، وفتح ياقته عن آخرها، فاكتشف علامة العبودية المشئومة، وهي الطوق الفضي حول عنقه.
صاح النورماندي الغاضب: «جايلز، كليمنت، أيها الكلاب والأوغاد! ماذا جلبتم لي هنا؟»
قال دي براسي الذي دخل الغرفة لتوِّه: «أظن أن بوسعي أن أُخبرك. إن هذا هو مهرِّج سيدريك.»
رد فرونت دي بوف: «سيُشنَق إلا إذا دفع سيده وهذا الخنزير البرِّي أوف كوننجزبيرج مبلغًا كبيرًا مقابل حياته.» ثم قال لاثنين من أتباعه: «اذهبا وابحثا عن سيدريك الحقيقي وأحضِراه إلى هنا، وسأغفر لكما خطأكما هذه المرة؛ لأنكما أخطأتما وظننتما أن أحمق هو مالكٌ ساكسوني.»
قال وامبا: «أجل، ولكنك يا صاحب السعادة النبيل ستجد أن الحمقى بيننا أكثرُ من الملاك.»
قال فرونت دي بوف: «ماذا يعني الوغد بقوله هذا؟»
صاح دي براسي بدهشة: «يا قديسي السماء! لا بد أنه قد هرب في ثياب الراهب!»
رد فرونت دي بوف: «يا شياطين الجحيم! لقد كان إذن خنزير روثيروود البري هو من أرشدتُه إلى الباب الخلفي، وسمحت له بالانصراف بنفسي!» ثم قال لوامبا: «أما أنت، فسأُعطيك مرتبةً كهنوتية مقدَّسة؛ سأحلق لك رأسك! هيا، ليقطعوا فروة رأسه، ثم اقذفوه رأسًا على عقب من فوق الأسوار. إن صنعتك هي المزاح، فهل تستطيع المزاح الآن؟»
انهمر وامبا المسكين في النحيب قائلًا: «أنت تتعامل معي بأفضلَ مما وعدت أيها الفارس النبيل، فإذا أعطيتني القلنسوة الحمراء التي تعتزم إعطاءها لي فإنك ستجعل من راهبٍ بسيط كاردينالًا.»
قال دي براسي: «إن البائس المسكين عازمٌ على الموت وهو يُمارس مهنته. لا تذبحه يا فرونت دي بوف، بل أعطِني إياه لتسلية رفقائي الأحرار. ما قولك أيها الوغد؟ هل ستكون شجاعًا وتذهب معي للحروب؟»
قال وامبا: «أجل، بعد إذن سيدي؛ لأنني كما ترى لا يحقُّ لي أن أخلع الطوق (ولمسَ الطوق الذي يُحيط بعنقه) دون إذنه.»
قال فرونت دي بوف: «يا له من عملٍ حسن، يا دي براسي، أن تقف هناك مُستمعًا لرطانة أحمق، بينما الهلاك مُحيقٌ بنا!»
قال دي براسي: «إلى الأسوار إذن؛ فمتى رأيتني من قبلُ عابسًا عند التفكير في المعارك!» وواصَل حديثه مُخاطبًا أثيلستان: «تعالَ أيها الساكسوني، وتمالَكْ نفسك وأخبِرنا ما بوُسعك أن تفعله مقابل أن تنال حريتك.»
رد أثيلستان: «أطلِقا سراحي مع رفقائي، وسأدفع لكما فديةً قدرها ألف مارك.»
قال فرونت دي بوف: «وستضمن لنا أيضًا تراجُع تلك الحثالة البشرية المُحتشدة حول القلعة.»
رد أثيلستان: «سأحاول قدر استطاعتي أن أجعلهم ينسحبون.»
قال فرونت دي بوف: «اتفقنا إذن، سنُطلِق سراحك وسراحهم، ويعمُّ السلام كلا الجانبين، مقابل ألف مارك، ولكن لاحِظْ أن هذا الاتفاق لا يشمل إيزاك اليهودي.»
قال فارس الهيكل الذي كان قد انضمَّ إليهم عندئذٍ: «ولا ابنة إيزاك اليهودي.»
قال فرونت دي بوف: «كلٌّ منهما لا ينتمي إلى مجموعة الساكسوني هذه.»
رد أثيلستان: «ما كنت لأستحق أن أُدعى مسيحيًّا لو كانوا كذلك؛ فلتفعلوا بالكافرَين ما تشاءون.»
قال دي براسي: «ولا تشمل الفدية أيضًا الليدي روينا. لن يُقال أبدًا إنني أُكرِهتُ بداعي الخوف على التخلي عن غنيمةٍ حسناء دون أن أضرب ضربةً واحدة من أجل الاحتفاظ بها.»
قال فرونت دي بوف: «ولا يسري اتفاقنا أيضًا على هذا المهرِّج البائس.»
رد أثيلستان: «إن الليدي روينا هي عروسي المخطوبة لي، ولتسحلني الجيادُ البرِّية قبل أن أوافق على الافتراق عنها. واليوم أنقذَ العبد وامبا حياة أبي سيدريك، وسأضحِّي بحياتي قبل أن تُمَسَّ شعرةٌ من رأسه.»
قال دي براسي: «الليدي روينا عروسٌ مخطوبة لخانعٍ مِثلك؟! أقول لك إن أمراء بيت أنجو لا يرضَون بزواج من هنَّ تحت وصايتهم برجالٍ من نسبٍ كنسبك.»
رد أثيلستان: «إن نسبي، أيها النورماندي المُتكبر، ينحدر من أصلٍ أكثر نقاءً وعراقةً من نسب فرنسي حقير، يتكسَّب عيشه من بيع دماء اللصوص الذين يجمعهم تحت لوائه الوضيع. إن أسلافي كانوا ملوكًا؛ أقوياءَ في الحرب وحكماءَ في الرأي، وكانوا يُطعِمون كل يوم في قاعاتهم مئات أكثر مما يُمكنك عدُّه من أتباعك.»
قال فرونت دي بوف: «لقد أُفحِمتَ، يا دي براسي؛ أصابك الساكسوني بإحكام.»
قال دي براسي: «بإحكام بقدر ما يُمكن للأسير أن يُصيب.» ثم أضاف (مُخاطبًا أثيلستان): «ولكن طلاقة لسانك، يا رفيقي، لن تُحرر الليدي روينا.»
قطع الحديثَ وصولُ أحد الخدم، الذي أعلن أن الأخ أمبروز، وهو راهب من دير جورفولكس، يطلب الدخول من البوابة الخلفية.
وعلى ذلك صُرف السجينان الساكسونيان بمجرد إدخال الراهب الذي بدا عليه القلق الشديد.
قال: «أيتها الأم المقدَّسة! لقد أصبحتِ في أمان أخيرًا في حماية مسيحيين! أنتم أصدقاء وحلفاء لأبينا في الرب، المبجَّل آيمر، رئيس دير جورفولكس، وأنتم مَدينون له بالمساعدة بدافعٍ من إيمان الفُرسان والبر المقدَّس؛ فلتعلموا أيها الفُرسان البُسلاء أن بعض الجبناء القتَلة قد طرحوا وراء ظهورهم خشية الرب وتوقير كنيسته، و…»
قال فارس الهيكل: «أيها الأخ القس، كل ذلك نعلمه أو نُخمنه، فأخبِرنا بوضوح؛ هل أُسِر سيدُك رئيس الدير؟ ومن أسَرَه؟»
قال أثيلستان: «بالطبع، وهو في أيدي رجال الشيطان بليعال الذين اجتاحوا هذه الغابة.»
قال فرونت دي بوف مُلتفتًا إلى رفاقه: «ها هو سببٌ جديد لاستخدام سيوفنا يا سادة. أفصِحْ أيها القس، وأخبِرنا على الفور، ما الذي ينتظره سيدك منا؟»
قال أمبروز: «كما تشاء، لقد عُومل سيدي الموقَّر معاملةً قاسية على أيدي أشرار، وفوق ذلك يُطالبونه بمبلغٍ كبير؛ لذلك فإن الأب الجليل يتوسَّل إليكم أن تُنقذوه؛ إما بدفع الفدية التي يحتجزونه من أجلها، أو بقوة السلاح، حسبما ترون.»
قال فرونت دي بوف: «ليُخمِد الشيطان اللعين أنفاس رئيس الدير! متى سمع سيدك عن مالكٍ نورماندي يفكُّ كيس نقوده ليُنقذ أحد رجال الكنيسة الذي تزن أكياسه عشرة أمثال ما لدينا؟ وكيف يُمكننا بأي حال أن نَقوى على تحريره ونحن محاصَرون هنا بعشرة أمثال عددنا؟!»
صاح دي براسي: «إلى الأسوار! ودعونا نُراقبْ ماذا يفعل هؤلاء الأوغاد بالخارج.» وبعد أن قال ذلك فتح نافذةً، وعلى الفور نادى على من في الغرفة قائلًا: «بحق القديس دينيس! لقد جلبوا حواجزَ خشبية ودروعًا كاملة، والرُّماة يتجمَّعون على أطراف الغابة كغيمةٍ سوداء تُنذر بعاصفةٍ ثلجية.»
تطلَّع ريجينالد فرونت دي بوف أيضًا إلى الحقل، وعلى الفور اختطف بوقه. وبعد أن نفخ نفخةً طويلة وعاليةً أمر رجاله باتخاذ مواقعهم على الأسوار.
«يا دي براسي، راقِبِ الجهة الشرقية، حيث الجدران أكثرُ انخفاضًا. وأنت أيها النبيل بوا جيلبرت، الذي علَّمَتك صنعتك جيدًا كيفيةَ الهجوم والدفاع، راقِبِ الجهة الغربية. أما أنا فسأتخذ موقعي على البرج الأمامي.»
صاح الأب أمبروز: «ولكن، أيها الفُرسان النبلاء، أتوسَّل إليك أن تسمعني يا أيها السيد النبيل ريجينالد!»
قال النورماندي العنيف: «اذهب وتمتم بتوسُّلاتك للسماء؛ لأننا على الأرض ليس لدينا وقت لنستمع إليها.»
قال فارس الهيكل الذي كان في تلك الأثناء يُتابع الأعمال التي يقوم بها المحاصِرون: «انظروا كيف يستفيدون ببراعةٍ من كل ساتر تُوفره لهم شجرة أو شُجَيرة، ويتجنَّبون تعريض أنفسهم لمرمى نُشابنا؟ أراهن بسلسلتي الذهبية على أن من يقودهم هو فارس أو سيد من ذوي المهارة في أعمال الحروب.»
قال دي براسي: «إني أراه من بعيد. أرى اهتزاز خوذة فارس تهتز، وبريق درع. أرى هناك رجلًا طويلًا في زرديةٍ سوداء. أُقسِم بالقديس دينيس على أنه نفس الرجل الذي أطلقنا عليه اسم الكسول الأسود، الذي طرحك أرضًا يا فرونت دي بوف في ساحة النزال بآشبي.»
قال فرونت دي بوف: «هذا أفضل كثيرًا؛ إذ يُعطيني مجيئه إلى هنا الفرصة للثأر منه.»
قطعَت مظاهر الاقتراب السريع للعدو كلَّ حديث آخر، فرجع كل فارس إلى موقعه، وعلى رأس الأتباع القلائل الذين تمكَّنوا من حشدهم، انتظروا في عزمٍ ثابتٍ الهجومَ الوشيك.