الفصل السادس والعشرون

أطلق الرُّماة سهامهم «كلهم معًا»، حسب التعبير المُناسب لذلك العصر، حتى إن أقل موضع كان يُظهره أحد المُدافِعين من جسده لم يكن يُفلِت من سهامهم التي كان الواحد منها بطول ياردة من القماش. بهذا الوابل المستمر قُتِل اثنان أو ثلاثة من حامية القلعة، وجُرِح عدةٌ آخَرون، ولكنَّ أتباع فرونت دي بوف وحلفاءه، واثقين من دروعهم المشهود بقوَّتها وتحمُّلها، ومن الحماية التي وفَّرها لهم موقعهم، أظهروا صلابةً في الدفاع تناسبَت مع ضراوة الهجوم. لم يقطع أزيزَ السِّهام والقذائف من كلا الجانبين إلا الصيحاتُ التي كانت تعلو عندما يُلحِق أيٌّ من الطرفين بالطرف الآخر خسارةً كبيرة، أو يُصيبه من الطرف الآخر خسارةٌ ملموسة.

صاح إيفانهو: «وها أنا ذا مُجبَر على أن أستلقي هنا كراهب طريح الفراش، بينما المعركة التي تمنحني الحرية أو الموت تخوضها أيادي أناس آخرين! انظري من النافذة مرةً أخرى أيتها الفتاة الطيبة، ولكن احرصي على ألا يُلاحظك الرُّماة بالأسفل. انظري منها مرةً أخرى وأخبريني عما إذا كانوا لا يزالون يتقدَّمون للهجوم. ماذا ترين يا ريبيكا؟»

«لا شيء سوى غيمة شديدة الكثافة من سهامٍ طائرة لدرجة أنها تحجب الرؤية عن عينَيَّ، وتُخفي الرماة الذين يقذفونها.»

قال إيفانهو: «لا يُمكن لذلك أن يستمر. إن لم يهجموا على الفور ليحملوا على القلعة بقوة السلاح الخالصة، فقد لا تُجْدي الرماية إلا قليلًا في مواجهة الجدران الحجرية والمتاريس. ابحثي عن الفارس ذي شعار القفل والقيد أيتها الحسناء ريبيكا، وانظري كيف يتصرف؛ فكيفما يكُن القائد يكُن أتباعه.»

قالت ريبيكا: «أنا لا أراه.»

صاح إيفانهو: «الجبان الأحمق! أيُحجِم عن توجيه الدفَّة عندما يكون هبوب الريح على أشُده؟»

قال ريبيكا: «لا يُحجِم! لا يُحجِم! إني أراه الآن. إنه يقود مجموعةً من الرجال الذين يقتربون من الحاجز الخارجي للحصن. إنهم يُقوِّضون الدعائم وسياج الأوتاد الخشبية، ويُحطِّمون الحواجز بالفئوس. إن ريشته السوداء المرتفعة تنساب أعلى الحشد، كغُرابٍ يحوم فوق حقل من القتلى. لقد أحدثوا خَرقًا في الحواجز — إنهم يندفعون من خلاله — لقد دُفعوا للخلف! رونت دي بوف يقود المُدافعين؛ أرى جسده الضخم فوق الحشد. إنهم يحتشدون مرةً أخرى نحو الخَرق، ويتنازعون الممر يدًا ليد، ورجلًا لرجل. يا إله يعقوب! إنها كمواجهة بين موجتَين عاتيتَين، نزاع بين مُحيطين تُحركه رياحٌ مُتعاكسة!»

أشاحت برأسها عن النافذة كما لو كانت لم تعُد قادرة على تحمُّل مرأى مشهد بتلك الفظاعة.

قال إيفانهو، وقد أخطأ تأويل سبب تراجعها: «تطلَّعي مرةً أخرى يا ريبيكا. لا بد وأن الرماية قد توقَّفت بعض الشيء؛ لأنهم الآن يتقاتلون بالأيدي. انظري مرةً أخرى؛ فالخطر الآن أقل.»

نظرت ريبيكا مرةً أخرى للأمام، وعلى الفور تقريبًا صاحت قائلةً: «يا أنبياء الناموس المقدَّسين! إن فرونت دي بوف والفارس الأسود يتقاتلان يدًا بيد عند الخرق وسط زئير أتباعهما الذين يُراقبون سير الصراع، إن السماء تضرب إلى جانب المظلوم والأسير!» ثم أطلقَت صرخةً عالية، وصاحت قائلةً: «لقد سقط! لقد سقط!»

صاح إيفانهو: «من الذي سقط؟ كرامةً لسيدتنا الغالية، أخبريني مَن منهما الذي سقط؟»

أجابت ريبيكا بصوتٍ واهن: «الفارس الأسود.» ثم على الفور عادت تصيح بحماسة يملؤها البهجة: «ولكن لا! ولكن لا! ليتبارك اسم رب الجنود! إنه يقف على قدمَيه مرةً أخرى ويُقاتل كما لو كان في ذراعه الواحد قوة عشرين رجلًا، قد كُسِر سيفه، إنه يختطف بلطةً من أحد الجنود، ها هو ينقضُّ على فرونت دي بوف ويُوجه له ضربةً تلو أخرى، العملاق ينحني ويترنح كشجرة بلوط تترنح تحت ضربات فأس حطاب من الصُّلب، لقد سقط، لقد سقط!»

صاح إيفانهو: «فرونت دي بوف؟»

أجابت اليهودية: «أجل، فرونت دي بوف! ورجاله يُسرعون لنجدته، وعلى رأسهم فارس الهيكل المُتكبر. إن قوَّتهم الموحدة تُجبر البطل على التوقف، إنهم يسحبون فرونت دي بوف إلى داخل الأسوار.»

قال إيفانهو: «لقد استولى المُهاجمون على الحواجز، أليس كذلك؟»

صاحت ريبيكا: «لقد فعلوا، لقد فعلوا! ويُهاجمون المُحاصرين بقوةٍ فوق الجدار الخارجي؛ بعضهم يُثبِّت السلالم، والبعض الآخر يحتشد كسِرْب النحل، ويُحاولون الصعود فوق أكتاف بعضهم بعضًا، تتساقط الحجارة، والعارضات الخشبية وجذوع الأشجار فوق رءوسهم، وبالسرعة ذاتها التي يحملون بها الجرحى للخلف يحلُّ محلَّهم في الهجوم رجالٌ جُدُد. يا إلهي العظيم! أجعلت الرجال على صورتك كي تُشوَّه بهذه القسوة على أيدي إخوتهم؟!»

قال إيفانهو: «لا تُفكري في ذلك؛ فهذا ليس وقت مثل هذه الأفكار. أي الفريقَين يستسلم؟ وأيهما يشقُّ طريقه؟»

أجابت ريبيكا مُرتعدةً: «إنهم يُسقطون السلالم، والجنود يسقطون مُنبطحين أسفلها كزواحف مسحوقة، إن الغلبة للمُحاصَرين.»

صاح الفارس: «ليضرب القديس جورج من أجلنا! هل تراجَع الجنود الزائفون؟»

صاحت ريبيكا: «لا! إنهم يتصرَّفون كالجنود البُسلاء؛ الفارس الأسود يقترب من البوَّابة الخلفية ببلطته الضخمة، يُمكنك سماع ضرباته التي تُدوي كالرعد تعلو جميع ضجيج المعركة وصياحها؛ الحجارة والعوارض الخشبية تُرمى كالوابل على البطل الجريء، وهو لا يُعِيرها انتباهًا كما لو كانت زغبًا أو ريشًا!»

figure
منظور عين طائر لقلعة، يُبين الأجزاء المختلفة المذكورة في وصف حصار قلعة توركويلستون، الذي يُمثل الرسم تصورًا تخيليًّا له. صورة صغيرة أسفل يمين الصفحة: الجسر المتحرك عند رفعه.

قال إيفانهو: «بحق القديس جون قديس عكَّا، كنت أظن أنه لا يوجد سوى رجل واحد في إنجلترا يُمكنه فعل شيء كهذا!»

تابعت ريبيكا قائلةً: «إن البوَّابة الخلفية تهتز. إنها تتحطم. إنها تتحول إلى شظايا بفعل ضرباته. إنهم يندفعون إلى الداخل. لقد استولَوا على الحصن الخارجي — يا إلهي! — إنهم يُلقون بالمُدافعين من فوق الأسوار، إنهم يقذفون بهم في الخندق، يا رجال، إن كنتم رجالًا حقًّا، فاصفحوا عمن لم يعُد بإمكانهم المقاوَمة!»

صاح إيفانهو: «الجسر — الجسر الموصِل إلى القلعة — هل استولَوا على ذلك المَعبَر؟»

أجابت ريبيكا: «كلا، لقد حطَّم فارسُ الهيكل اللوح الخشبي الذي مرُّوا عليه، قلةٌ من المُدافعين هربوا معه إلى داخل القلعة، الصرخات والصيحات التي تسمعها تُنبِئ بمصير الآخرين، وا أسفاه! أرى أن النظر إلى النصر لا يزال أصعبَ من النظر على المعركة.»

قال إيفانهو: «ماذا يفعلون الآن يا فتاة؟ تطلَّعي مرةً أخرى، هذا ليس وقت الإغماء من منظر الدماء المُراقة.»

أجابت ريبيكا: «لقد انتهى الأمر الآن، وأصدقاؤنا يُدعِّمون أنفسهم داخل التحصينات الخارجية التي سيطروا عليها، والحامية لا تُطلق عليها إلا بضعة سهام بين حين وآخر.»

قال ويلفريد: «إن أصدقاءنا بالتأكيد لن يتخلَّوا عن مهمةٍ بدأت بعملٍ مَجيد كهذا، وتحقَّقت بمثل هذا التوفيق. كلا! سأُولي ثقتي للفارس الطيب الذي حطَّمت بلطته قلب خشب البلوط والقضبان الحديدية، قفل وقيد على لوحةٍ سوداء؛ ماذا قد يعني ذلك؟ ألا ترين شيئًا آخر، يا ريبيكا، يُمكن منه تمييز الفارس الأسود؟»

قالت اليهودية: «لا شيء؛ فكل ما فيه أسود كجَناح غُراب الليل. لا يُمكنني أن أرى شيئًا يُميزه أكثر، ولكن نظرًا لأنني قد رأيته مرةً يستخدم قوَّته في المعركة، فأظن أنه يُمكنني أن أتعرَّف عليه مجددًا من بين ألف مُحارب، إنه أمرٌ مروِّع، لكنه مُذهِل، أن تشهد كيف يُمكن لذراع وقلب رجل واحد أن ينتصرا على مئات الرجال.»

قال إيفانهو: «لقد صوَّرتِ بطلًا يا ريبيكا. من المؤكد أنهم يركنون إلى الراحة، ولكن لاستعادة قوَّتهم، أو لإعداد وسيلة لعبور الخندق. أُقسِم بشرف عائلتي، أُقسِم باسم محبوبتي الحسناء، إنني قد أحتمل أن أبقى في الأسْر لعشر سنوات مقابل أن أُقاتل ليومٍ واحد إلى جانب ذلك الفارس الطيب في معركة كهذه!»

قالت ريبيكا، تاركةً موقعها عند النافذة، ومُقتربةً من أريكة الفارس الجريح: «وا أسفاه! هذا الاشتياق النافد الصبر للنشاط سيؤذي صحتك التي تتماثل للشفاء، كيف يُمكنك أن تأمُل أن تُصيب الآخرين بجِراحٍ قبل أن تُشفى من تلك التي أُصِبتَ بها؟»

ردَّ قائلًا: «يا ريبيكا، أنتِ لا تعلَمين كم هو مُحال على شخصٍ مُدرَّب على أعمال الفروسية أن يظل سلبيًّا كقسيس أو امرأة، بينما يُمارس آخرون أفعال الشرف من حوله. إن حب القتال هو الغذاء الذي نحيا به.»

قالت اليهودية الحسناء: «وا حسرتاه! وما الذي يُمثله هذا، أيها الفارس الشجاع، سوى قُربان لشيطان المجد الزائف؟ ما الذي يتبقى جزاءً لك عن كل الدم الذي أرَقته؟»

صاح إيفانهو: «ما الذي يتبقى؟ المجد يا فتاة، المجد! الذي يطلي بالذهب قبورنا ويُخلِّد أسماءنا.»

استطردَت ريبيكا: «المجد؟ وا أسفاه! وهل سُترة الزرَد الصدئة التي تتدلَّى كشعار نبالة على قبرٍ عفن يُدفَن فيه البطل مكافأةٌ كافية مقابل التضحية بكل عاطفة طيبة، مقابل حياة بائسة تعيشها كي تجعل من الآخرين تُعساء؟»

رد الفارس بنفاد صبر: «بحق روح هيرورد! إنكِ، يا فتاة، تتحدَّثين عما لا تعرفينه. أنتِ لست مسيحية يا ريبيكا، ولا تعرفين تلك المشاعرَ السامية التي تنعش صدر فتاة نبيلة عندما يؤدي محبوبها عملًا من أعمال البطولة يؤكد عاطفة حبه.»

قالت ريبيكا: «لقد نشأت حقًّا من عِرق كانت شجاعة قومه مميزة في الدفاع عن أرضهم، لكنهم لم يُحاربوا، حتى عندما كانوا أمة، إلا بأمر الإله، أو دفاعًا عن وطنهم من الظلم. لقد أصَبت في قولك، يا سيدي الفارس، ولكن إلى أن يُقيم إله يعقوب لشعبه المختار جدعونًا ثانيًا، أو يهوذا مكابي جديدًا، فإنه لا يليق بفتاةٍ يهودية الحديثُ عن معركة أو حرب.»

ثم نظرت صوب أريكة الفارس الجريح.

قالت: «إنه ينام؛ فالطبيعة التي أنهكَتها المُعاناة وفقدان المعنويات جعلا جسده المرهَق ينتهز أول لحظة راحة مؤقَّتة ويذهب في سِنة من النوم. وا أسفاه! أهي جريمةٌ أن أنظر إليه عندما قد يكون ذلك للمرة الأخيرة؟ وأبي! يا إلهي، أبي! إن ابنته ترتكب إثمًا عندما تنسى شعره الأشيب من أجل خصلات شعر ذهبية شابَّة! وما يُدريني أن هذه الآثام ليست إلا رسل غضب يَهْوه إلى ابنةٍ عاصية، تُفكر في أسيرٍ غريب قبل أبيها؟ ولكنني سأنتزع هذه الحماقة من قلبي على الرغم من أن كل نسيج فيه يَدمى وأنا أبعدها عنه!»

التفَّت بحجابها، وجلست على مَبعدة من أريكة الفارس الجريح، وأولَته ظهرها محصِّنةً عقلها أو محاوِلةً تحصينه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤