الفصل السابع والعشرون
في تلك الأثناء، كان سيد القلعة المحاصَرة والمعرَّضة للخطر مُستلقيًا على فِراشه يُعاني ألمًا جسديًّا وكربًا نفسيًّا. وقد جاءت الآن اللحظة التي تتلاشى فيها الأرض وكل كنوزها من أمام عينَيه، التي أصبح فيها قلب البارون الهمجي، على الرغم من قسوته كحجر الرَّحى السُّفلي، مُرتعبًا عندما تطلَّع بخياله إلى ظلام مستقبله الضائع.
دمدم البارون قائلًا: «أين هم هؤلاء القساوسة الكلاب الآن الذين يتقاضَون ثمن مسرحياتهم الروحية؟ أين كل أولئك الرهبان الكرمليِّين الحُفاة الذين أسَّس فرونت دي بوف دير القديسة آن من أجلهم؟ أنا، وريث مؤسسهم، أنا، الذي تُلزمهم مؤسستهم بالصلاة من أجله، أنا، يا لهم من أنذال جاحدين! يتركونني أُعاني حتى الموت كما تموت الكلاب الضالَّة هناك في تلك الأرض المشاع، بلا قسٍّ يسمع اعترافي ولا قربان مقدَّس! قل لفارس الهيكل أن يأتي إلى هنا؛ فهو قس وقد يفعل شيئًا. لقد سمعت رجالًا مُسِنين يتحدَّثون عن صلاة — صلاة بأصواتهم — لا تحتاج إلى التودُّد إلى القس الزائف أو رشوته، ولكنني لا أجرؤ على ذلك.»
قال صوتٌ متقطعٌ ذو نبرة حادَّة بجانبه: «لقد عاش ريجينالد فرونت دي بوف حتى أتى اليوم الذي قال فيه: إن ثَمة أمرًا لا يجرؤ عليه!»
ارتعد فرونت دي بوف وانكمش حول نفسه، ولكنه سرعان ما استجمع ثباته المُعتاد، وصاح قائلًا: «مَن هناك؟ مَن أنت يا مَن تجرؤ على ترديد كلماتي بنبرةٍ كنبرة غُراب الليل؟ تعالَ أمام أريكتي كي أستطيع رؤيتك.»
أجاب الصوت: «أنا ملاكك الشرير يا ريجينالد فرونت دي بوف.»
أجاب الفارس المحتضر: «دعني أنظر إليك إذن في شكلك الآدمي، إن كنت بالفعل شيطانًا، ولا تظن أنني سأجفُل منك. أُقسِم بالزنزانة الأبدية، لو كان بمقدوري أن أُصارع تلك الأهوال التي تحوم حولي، كما صارعت الأخطار البشرية، فإن الجنة أو الجحيم لن يقولا أبدًا إنني تقاعست عن الصراع.»
قال الصوت الذي كاد أن يكون غير بشري: «فكِّر في خطاياك يا ريجينالد فرونت دي بوف، في التمرُّد، وفي السلب، وفي القتل! مَن الذي حرَّض جون الفاسق على محاربة أبيه الذي خطَّ رأسه المشيب وعلى محاربة أخيه الكريم؟»
رد فرونت دي بوف: «سواءٌ أكنت شيطانًا أو قسًّا أو إبليس نفسه، فإنك تقول كذبًا! ليس أنا من حرَّض جون على التمرُّد، ليس أنا وحدي. أيها الشيطان الكاذب، إنني أتحدَّاك! انصرِف، ولا تُلازم أريكتي بعد الآن. اتركني أمُت في سلام.»
ردَّد الصوت: «لن تموت في سلام؛ فحتى في موتك ستُفكر فيما ارتكبت من جرائم قتل، وفي الأنات التي تردَّد صداها في جنبات هذه القلعة، وفي الدماء التي اصطبغت بها أرضياتها!»
أجاب فروت دي بوف بضحكةٍ مروِّعة ومتكلَّفة: «لا يُمكنك أن تُرعبني بحقدك الحقير؛ فالطريقة التي تعاملت بها مع اليهودي الكافر هي عملٌ حسن في نظر السماء، والخنازير الساكسونيون الذين ذبحتهم كانوا أعداءً لبلدي. هو! هو! كما ترى ليس ثَمة ثقوب في سُترتي المدرَّعة. هل فررت؟ هل أصابك الصمت؟»
رد الصوت: «لا يا قاتل أبيك يا كريه! فكِّر في أبيك! فكِّر في موته! فكِّر في غرفة طعامه وهي مغمورة بدمه، الذي أراقته يد ابنه!»
أجاب البارون بعد صمت طويل: «ها! بما أنك تعلَم ذلك فأنت حقًّا مَنبع الشر! لقد ظننت أنني احتفظت بهذا السر مكبوتًا في صدري وصدر شخص آخر، هو من أغراني، شريكي في الإثم. اذهب واتركني أيها الشيطان! اذهب وابحث عن الساحرة الساكسونية أولريكا؛ فهي وحدها من يستطيع أن يُخبرك بما شهدنا أنا وهي وحدنا عليه. أقول لك اذهب إليها؛ فهي مَن نظَّفت الجِراح وأصلحت وضع الجثة، وأضفَت على القتيل مظهرَ من فارق الحياة في أجَله ومات ميتةً طبيعية. اذهب إليها؛ فهي مَن أغواني، هي الفاسقة التي حرَّضتني على تلك الفعلة. اجعلها تذوق مثلي العذابات التي تسبق عذاب الجحيم!»
قالت أولريكا وهي تخطو أمام أريكة فرونت دي بوف: «إنها تذوقها بالفعل؛ فقد ظلَّت مدةً طويلة تتجرَّع من هذه الكأس، وأصبحَت مرارته الآن حلوةً برؤيتك وأنت تُشاركني إياها. لا تعَضَّ على نواجذك يا فرونت دي بوف، ولا تُدِر عينَيك في مَحجرَيهما، ولا تُشِر لي بيدك بحركة التهديد تلك!»
رد فرونت دي بوف: «أيتها العجوز الشمطاء القاتلة الوضيعة! أيتها البومة الناعقة المقيتة! أنتِ إذن مَن جئتِ لتُهلِّلي على أنقاض ما ساعدتِ في هدمه!»
ردَّت قائلةً: «أجل يا ريجينالد فرونت دي بوف، أنا أولريكا! أنا ابنة القاتل توركيل ولفجانجر! أنا أخت أبنائه المقتولين! أنا مَن تُطالبك وتُطالب بيت أبيك، أبًا وعشيرةً، بالاسم والسُّمعة، وبكل ما خسرته بسبب اسم فرونت دي بوف! لقد كنتَ ملاكي الشرير، وسأكون ملاكك الشرير. سأُلاحقك ككلب الصيد حتى اللحظةِ التي تُعاني فيها سكرات الموت.»
صاح فرونت دي بوف: «يا إلهة الانتقام المقيتة! لن تشهدي تلك اللحظة أبدًا. هاي! جايلز، كليمنت، أوستاس، سانت مور، ستيفن! أمسِكوا بهذه الساحرة، وألقوا بها من فوق الأسوار. لقد خانتنا لصالح الساكسونيين! هاي! سانت مور! كليمنت! أيها الوغدان المُخادعان، أين تتلكَّآن؟»
قالت العجوز الشمطاء بابتسامة سخرية دميمة: «نادِ عليهم مرةً أخرى، أيها البارون الشجاع، ولتجمع أتباعك حولك، ولتَحكم على أولئك المُتسكعين بالضرب بالسياط وبالسجن.» ثم استطردَت مغيِّرةً نبرة صوتها فجأةً: «ولكن اعلم أيها القائد الجبَّار أنك لن تحصل منهم على إجابة أو مساعدة أو طاعة. استمِع لهذه الأصوات المُرعبة! إنه الساكسوني يا ريجينالد! الساكسوني المُحتقَر يُهاجم أسوارك! لماذا ترقد هنا كظبية مُجهَدة، بينما يُهاجم الساكسوني مَعقل قوَّتك؟»
صاح الفارس الجريح: «أيتها الآلهة والشياطين! امنحوني لحظةً واحدة من القوة؛ كي أحمل نفسي على القتال، وأموت كما يليق باسمي!»
أجابت قائلةً: «لا تُفكر في ذلك، أيها المُحارب الشجاع! فلن تموت ميتة جندي، بل ستَهلِك كالثعلب في وكره، بينما يُشعل الفلاحون النار في الحشائش من حوله.»
صاح فرونت دي بوف: «أيتها العجوز الكريهة! إنك تكذبين! إن أتباعي صامدون أمامهم ببسالة، وأسواري قوية وعالية، ورفقائي في السلاح لا يخشون جيشًا كاملًا من الساكسونيين! وأُقسِم بشرفي على أننا عندما نُضرِم النيران في المشاعل، احتفالًا بنجاح دفاعنا، فإنها ستأكل جسدكِ وعظامكِ!»
ردَّت أولريكا: «تمسَّكْ بإيمانك حتى يأتيك اليقين.» ثم قالت مُقاطعةً نفسها: «ولكن كلا! فسترى، عما قليل، المصير الذي ليس بمقدور كل سلطتك وقوَّتك وشجاعتك تجنُّبُه، على الرغم من أن هذه اليد الواهنة هي مَن أعدته لك. أترى الدخان الخانق الذي يتصاعد في دوامات في ثنايا سوداء في أنحاء الغرفة؟ أتذكر كمية الوقود المختزنة أسفل هذه الغُرف؟»
صاح في غضب: «يا امرأة! هل أشعلتِ فيها النار؟ بحق السماء! لقد فعلتِ، والقلعة تلتهمها النيران!»
قالت أولريكا بهدوءٍ مروِّع: «إنها على الأقل سترتفع سريعًا. وداعًا يا فرونت دي بوف! لعل ميستا وسكوجيولا وزيرنيبوك، آلهة الساكسونيين القديمة، يأتون بالمُعزِّين عند فراش موتك، الذي تهجره أولريكا الآن! والآن، وداعًا للأبد يا قاتل أبيك! ليت كل حجر في هذا السقف المقبَّب ينطق ليُردِّد هذا اللقب على مسامعك!»
وبعد أن قالت ذلك غادرت الغرفة، وكان بوسع فرونت دي بوف أن يسمع صوت ارتطام المفتاح الثقيل، وهي تُوصد الباب مرةً تلو أخرى من خلفها. وفي ذروة مُعاناته نادى على خدمه وحلفائه: «ستيفن، وسانت مور! كليمان وجايلز! إنني أحترق هنا بلا مُعِين! النجدة، النجدة، يا بوا جيلبرت الشجاع ويا أيها الباسل دي براسي! إنه أنا فرونت دي بوف مَن يُنادي! إنه أنا سيدكم، أيها الأتباع الخونة! أنا حليفكما وأخوكما في السلاح، أيها الفارسان حانثَي اليمين والخائنان! فلتنصبَّ كلُّ اللعنات التي يستحقُّها الخونة على رءوسكم الجبانة، تتخلَّون عني لأهلك في بؤس هكذا! إنهم لا يسمعونني — إنهم لا يستطيعون أن يسمعوني — إن صوتي ضائعٌ وسط ضجيج المعركة. إن الدخان يتكاثف أكثر فأكثر، النار قد أمسكت بالطابق الأسفل. آه، ليتني أستطيع أن أحصل على نفحةٍ من هواء السماء، ولو اشتريتُها بالفَناء العاجل.»