الفصل الثاني
استغلَّ رئيس الدير آيمر الفرصة التي أُتيحت له في تغيير رداء ركوب الجياد إلى رداءٍ آخر من موادَّ أكثر قيمةً، وارتدى فوقه رداء الكاهن المطرَّز بغرابة. وأبدل فارس الهيكل قميصه المزرَّد بسُترةٍ من الحرير الأرجواني الداكن المزخرَف بالفرو، وأسدل فوقه رداءه الطويل الشديد البياض ذا الطيَّات الواسعة. وكان صليب طائفته ذو الحواف الثمانية منقوشًا على كتف عباءته بقماشٍ مخملي أسود. أما حواجبه، فقد كان يُظلِّلها شعرٌ قصير مُتموج كثيف شديد السواد كسواد الغراب، يتماشى مع بشرته الداكنة على غير المُعتاد. ولم يكن يُمكن لشيءٍ أن يكون أكثرَ مهابةً ورشاقةً من خطواته وطريقته، لولا ما يسودهما من عجرفة.
كان يتبع الشخصَين المبجَّلين خدمُهما الخاص، وعلى مسافةٍ أبعد تبعهما مُرشدُهما، الذي لم يكن في هيئته ما يَلفت الانتباه أكثرَ من كَوْنها مستمدة الثياب المُعتادة للحُجاج. تبع في تواضعٍ آخر الركب الذي دخل الردهة، وانسحب إلى مقعدٍ طويل وُضِع في أحد الأركان وأسفل إحدى المدخنتَين الكبيرتين تقريبًا، وبدا أنه يشغل نفسه بتجفيف ثوبه، حتى يخلو مكان إلى الطاولة بقيام أحد الأشخاص.
قام سيدريك لاستقبال ضيفَيه، ونزل من المنصة، وتقدَّم ثلاث خطوات نحوهما، ثم توقَّف مُنتظرًا اقترابهما.
قال: «يُحزنني يا رئيس الدير الموقَّر أن قسمي يمنعني من التقدم لأكثرَ من ذلك على أرضية آبائي هذه، حتى وإن كان لاستقبال ضيوف مثلك، ومثل هذا الفارس الباسل من فُرسان الهيكل المقدس، ولكن رئيس خدمي شرح لكما سببَ سلوكي الذي يبدو أنه يتنافى مع آداب اللياقة.»
بإشارةٍ من يده جعل ضيفَيه يتخذان مقعدَين أقلَّ ارتفاعًا بعض الشيء من مقعده، ولكنهما وُضِعا بجواره، ثم بإشارةٍ أخرى أمر بوضع طعام العشاء على الطاولة.
عندما أوشكوا على البدء في تناول الطعام رفع رئيس الخدم، أو القُهْرمان، عصاه فجأةً قائلًا: «مهلًا! أفسِحوا الطريق لليدي روينا.» وعلى الرغم من الشعور بالمفاجأة الذي انتاب سيدريك لظهور الوصي عليها على الملأ في مناسبة كهذه، هُرِع إلى مقابلتها والترحيب بها بإجلال، مُرشدًا إياهًا إلى المقعد المرتفع على يمينه المخصَّص لسيدة المنزل. وقف الجميع لاستقبالها، وردَّت عليهم تحيتهم بإيماءةٍ صامتة، وتقدَّمت برشاقة متخذةً مكانها إلى الطاولة. وقبل أن تجلس، همس فارس الهيكل لرئيس الدير قائلًا: «لن أرتدي ياقتك الذهبية في مباراة الفروسية. أما نبيذ «شيان» فهو لك.»
ردَّ رئيس الدير: «ألم أقل لك ذلك؟ ولكن انتبِه ولا تُفرِط في إظهار نشوتك بجمالها؛ فالفرانكلين يُراقبنك.»
في غير انتباه لهذا التحذير، أبقى براين دي بوا جيلبرت عينَيه مثبَّتَتين على الجميلة الساكسونية. كانت روينا تتمتع بملامح هي الأبهى من بين بنات جنسها، وكانت طويلةَ القامة، وذات بشرة ناصعة البياض، ولكن رأسها وقسماتها اللذين غلب عليهما أسلوب النُّبلاء قد أزالا عن حُسنها أن يكون بلا طعمٍ مِثلما تتَّسم أحيانًا الفتيات الفائقات الجمال. وكانت عيناها الزرقاوان الصافيتان تبدوان قادرتين على إشعال النار وإخمادها، وعلى الأمر والنهي واستدرار العطف في الآن نفسه. أما شعرها الغزير، فقد كان لونه بين البُني والكَتاني، وكان مصفَّفًا بطريقةٍ غريبة ورشيقة إلى عدة حلقات، مكونًا قطعةً فنية أسهمَت فيها الطبيعة، وكانت خصلاته مُزيَّنة بأحجارٍ كريمة، ولما كانت مسترسِلة على طولها برَز أصلها النبيل والحر. وكانت ترتدي قميصًا طويلًا، وفوقه سُترة من الحرير بلون البحر الأخضر الباهت، وفوقهما أسدلت ثوبًا فضفاضًا طويلًا قرمزيَّ اللون، وكان مثبَّتًا بجزئه العُلوي غطاءُ رأسٍ من الحرير المجدول بالذهب.
عندما رأت روينا عينَي فارس الهيكل لا تكفَّان عن التحديق فيها، سحبت غطاء رأسها في وقار وغطَّت به وجهها. لاحظ سيدريك الحركة وسببها، فقال: «سيدي الفارس، إن وجنات عذراواتنا الساكسونيات لم ترَ الشمس إلا بقدرٍ قليل لا يسمح لهنَّ بتحمُّل نظرة ثابتة من أحد الصليبيين.»
رد السيد براين: «إن كنتُ قد أسأت التصرف فعذرًا، أو بالأحرى أُقدِّم اعتذاري لليدي روينا؛ لأن تواضعي لن يحملني على الاعتذار لمن هو أدنى.»
قال رئيس الدير: «عاقبَتنا الليدي روينا جميعًا بتأديبها لصديقي على جُرأته. آمُل أن تكون أقل قسوة على الحشد الغفير الذي سيلتقي في المباراة.»
قال سيدريك: «إن ذَهابنا إلى هناك غير مؤكَّد؛ فأنا لا أُحب هذه التفاهات التي لم يعرفها آبائي عندما كانت إنجلترا حرةً.»
قال رئيس الدير: «ومع ذلك لِنأملْ أن تجعلك صحبتنا تُقرر الذهاب إلى هناك؛ فعندما تكون الطُّرق غير آمنة فإن رفقة السيد براين دي بوا جيلبرت أمرٌ لا يُستهان به.»
أجاب الساكسوني: «سيدي رئيس الدير، حيثما أذهب في هذه الأرض فإنني حتى يومنا هذا أجد نفسي في غير حاجة إلى عونٍ من أحد؛ بمساعدة سيفي الجيِّد وأتباعي المُخلِصين. سأشرب في صحتك يا سيدي رئيس الدير كأسَ النبيذ هذه، وأنا واثقٌ من أن مذاقه سيلقى قبولك، وأشكرك على لطفك.»
قال القس: «في ديرنا فقط نتقيَّد بالحليب المُحلَّى، أما عندما نتعامل مع العالم الخارجي فنحن نتبع طريقته في الحياة؛ لذلك سأقبل نخب نبيذك القوي.»
قال الفارس وهو يملأ قدحه: «وأنا سأشرب نخب الجميلة روينا؛ لأنه منذ أدخلت سَميَّتها الكلمة إلى إنجلترا لم تأتِ من هي أحقُّ منها بهذا التقدير.»
قالت روينا بوقار ودون أن ترفع حجابها عن وجهها: «أنا في غنًى عن مجاملتك أيها الفارس، ولكني سأطلب منك أن تُنبئنا بآخر الأخبار من فلسطين.»
أجاب السيد براين دي بوا جيلبرت: «ليس لدي شيءٌ مهم أُخبركِ به يا سيدتي، باستثناء الأنباء المؤكَّدة عن عقد هُدنة مع صلاح الدين.»
قطع الحديثَ هنا دخولُ حارس البوَّابة، مُعلنًا أن بالبوابة رجلًا غريبًا يلتمس الدخول والاستضافة.
قال سيدريك: «اسمح له بالدخول، أيًّا مَن كان أو مهما كان؛ فليلةٌ كتلك تعصف في الخارج تُجبر حتى الحيوانات الضارية على السير مع القُطعان المستأنَسة في وداعة.»
عاد أوزوالد وهمس في أذن سيده: «إنه يهودي يُدعى إيزاك أوف يورك.»