الفصل السادس والثلاثون
عندما ترك الفارس الأسود شجرة اجتماع الخارج عن القانون الشهم، شقَّ طريقه مباشرةً نحو بيت العبادة المُجاور الذي كان يُطلَق عليه اسم دير القديس بوتولف، حيث كان إيفانهو الجريح قد نُقِل — بعد الاستيلاء على القلعة — تحت قيادة جيرث المخلص ووامبا الشهم. وفي الصباح التالي، كان الفارس الأسود يستعد للمُضيِّ في رحلته، في صحبة المهرِّج وامبا الذي كان يصحبه كدليله.
قال لإيفانهو: «سنتقابل في كوننجزبيرج، قلعة أثيلستان الراحل؛ إذ إن أباك سيُقيم مأدبة الجنازة لقريبه النبيل. أودُّ أن أرى أفراد عشيرتك الساكسونية مجتمعين يا سيد ويلفريد، وأن أوثِّق الصلات معهم أكثرَ من ذي قبل. وستُقابلني أيضًا هناك، وستكون مهمتي أن أُصلح بينك وبين أبيك.»
قال إيفانهو: «يا سيدي الفارس ذي القُفل، حيث إنه يُسعدك أن تُعرَف بهذا الاسم، إني أخشى أن تكون قد اخترت أحمقَ ثرثارًا ومسبِّبًا للمشاكل ليكون دليلك، ولكنه يعرف كل طريق وممر في الغابات كما يعرفها صيادٌ دائم التردد عليها، كما أن الوغد المسكين، كما رأيت في بعض النواحي، صُلبٌ في إخلاصه كالفولاذ.»
قال الفارس: «كلا، بما أن لديه موهبةَ تِبيان الطريق، فلن أضيق من رغبته في تسليتي أثناء مسيرنا. وداعًا يا ويلفريد الطيب. أُوصيك بألا تُحاول السفر حتى الغدِ على الأقل.»
قال ذلك ومد يده لإيفانهو الذي قبَّلها بشفتَيه، واستأذن رئيس الدير في الرحيل، وامتطى جواده ورحل وفي صحبته وامبا.
بينما كانا يسيران على مهلٍ عبر أعماق الغابة، قال وامبا: «أيُمكنك أن تُفسر لي هذا يا سيدي الفارس؛ متى يكون إبريق النبيذ وكيس نقودك وهما فارغان أفضلَ منهما وهما مُمتلئان؟»
رد الفارس: «عجبًا، مُطلَقًا، على ما أظن.»
«بسبب إجابتك الشديدة السذاجة هذه لا تستحق أبدًا أن يكون أيٌّ منهما مُمتلئًا في يدك! من الأفضل أن تُفرغ إبريقك قبل أن تُناوله لساكسوني، وأن تترك أموالك في البيت قبل أن تسير في الغابة الخضراء.»
قال الفارس ذو القفل: «أتعدُّ أصدقاءنا لصوصًا إذن؟»
قال وامبا: «إنك لم تسمعني أقول ذلك يا سيدي الطيب؛ فقط أُفضِّل أن تكون درعي في المنزل، وكيس نقودي في غرفتي، عندما أُقابل هؤلاء الرجال الطيبين؛ لأن ذلك من شأنه أن يُوفر عليهم بعض المتاعب.»
«إننا ملزَمون أن نُصليَ من أجلهم يا صديقي، على الرغم من الصفات الطيبة التي تصفهم بها.»
قال وامبا مُقتربًا من الفارس: «ومع ذلك يوجد رفاقٌ لقاؤهم أخطر بكثير على المسافرين من لقاء أولئك الخارجين على القانون.»
قال الفارس: «ومَن يكونون، بما أن ليس لديكم دِببةٌ أو ذئاب، على ما أظن؟»
قال وامبا: «أجل يا سيدي، ولكنَّ لدينا جنودَ مالفوازان، ودعني أُخبرك أنه في وقت الحرب الأهلية فعشرةٌ من هؤلاء يُعادل عصابةً من الذئاب في أي وقت آخر. إنهم الآن ينتظرون حصادهم، وهم معزَّزون بالجنود الذين هربوا من توركويلستون؛ لذلك إن قابَلنا عصابةً منهم فمن المحتمل أن ندفع ثمن انتصاراتنا الحربية. والآن أسألك يا سيدي الفارس، ماذا ستفعل إن التقينا برجلَين منهم؟»
«سأُثبت الأشرار في الأرض برمحي يا وامبا إن اعترضوا سبيلنا.»
«ولكن ماذا لو كانوا أربعة؟»
أجاب الفارس: «سيتجرَّعون من الكأس نفسها.»
تابَع وامبا: «ماذا لو كانوا ستة ونحن على ما نحن عليه الآن، اثنان فقط، ألا تتذكر بوق لوكسلي؟»
صاح الفارس: «ماذا! أأُطلِق النفير في مواجهة عشرين وغدًا كهؤلاء الذين يُمكن لفارسٍ جيدٍ واحدٍ أن يسوقهم أمامه كما تسوق الريحُ أوراق الشجر الذابلة؟»
قال وامبا: «كلا، إذن، أرجوك أن تجعلني أُلقي نظرة عن قرب على ذلك البوق ذي النفير القوي.»
فكَّ الفارس إبزيم حزام الكتف، وأعطاه لرفيق سفره الذي علَّق البوق على الفور حول عنقه.
قال مصفِّرًا بالنغمات: «ترا - ليرا - لا. كلا، إنني أعرف السُّلم الموسيقي كما يعرفه أي شخص آخر.»
قال الفارس: «ماذا تعني أيها الوغد؟ أعِد إليَّ البوق.»
«اطمئنَّ يا سيدي الفارس؛ إنه في يدٍ أمينة. عندما يُسافر الباسل والأحمق معًا، يجب أن يحمل الأحمق البوق؛ لأنه الأفضل في نفخه.»
قال الفارس الأسود: «كلا أيها الوغد، هذا يتجاوز صلاحيَّاتك؛ فانتبِه ولا تعبث مع صبري.»
قال المهرِّج وهو يُبقي مسافةً بينه وبين البطل النافد الصبر: «لا تُنذرِني بالعنف، يا سيدي الفارس، أو سيرجع الأحمق أدراجَه تاركًا الباسل يتلمَّس طريقه عبر الغابة قدر استطاعته.»
قال الفارس: «كلا، لقد أصبتني بتلك، وأقول لك برفقٍ إنه ليس لديَّ الكثير من الوقت للتناحر معك. فلتحتفظ بالبوق إن أردت، ولكن دعنا نتقدم في رحلتنا.»
قال وامبا: «لن تؤذيني إذن؟»
«قلت لك لا أيها الوغد!»
«والآن، يرتدي الأحمق البوق، ولينهض الباسل ويهز عُرْف فرسه؛ حيث إنه، إن لم أكن مُخطئًا، ثَمة رفقة في تلك الأجَمة هناك يترقَّبوننا.»
قال الفارس: «ما الذي جعلك تُقرر هذا؟»
«لأنني لاحظت مرتين أو ثلاثَ مرات وميض خوذة من بين أوراق الشجر الخضراء. ولو كانوا رجالًا شرفاء لالتزموا بالطريق، ولكن تلك الأجَمة هناك ما هي إلا كنيسةٌ صغيرة لرجال الدين التابعين للقديس نيكولاس.»
قال الفارس مُغلِقًا قناع خوذته: «أُقسِم بإيماني، إنك على حق.»
وما كاد يُغلقه حتى طارت ثلاثة سهام دفعةً واحدة من الموقع الذي كانا قد ارتابا في أمره ومرَّت أمام رأسه وصدره، وكاد سهمٌ منها يخترق دماغه لولا أن القناع الفولاذي حوَّل مسارها جانبًا.
قال الفارس: «الشكر لصانع الدروع الأمين. وامبا، هيا نشتبك معهم.» ثم انطلق مباشرةً نحو الأجمة. قابَله ستة أو سبعة رجال مسلَّحون، ركضوا نحوه برماحهم بكامل سرعتهم. ارتطمت فيه ثلاثة من الأسلحة، وتحوَّلت إلى شظايا دون أن تؤثر فيه، كما لو كانت سُدِّدت نحو برج من الفولاذ. وبدَت عينا الفارس الأسود وكأنهما تقدحان شررًا من خلال فتحة الرؤية في قناع خوذته؛ فانتصب على رِكابَيه بوقار لا يُوصَف، وصاح قائلًا: «ماذا يعني هذا يا سادة؟!» لم يرد الرجال إلا بأن سحبوا سيوفهم وهاجَموه من كل جانب صائحين: «مُت أيها الطاغية!»
قال الفارس الأسود وهو يصرع رجلًا مع كل ابتهال إلى الرب: «ها! ببرَكة القديس إدوارد! ها! ببرَكة القديس جورج! ألدينا خونة هنا؟»
ظهر فارس بدرعٍ أزرق، كان قد ظل حتى تلك اللحظة خلف المهاجمين الآخرين، واستحثَّ جواده للأمام رافعًا رمحه، وصوَّب نحو هدفه الذي لم يكن راكب الجواد، بل الجواد نفسه، فجُرِح الحيوان الأصيل جرحًا مُميتًا.
صاح الفارس الأسود والجوادُ يسقط على الأرض مُسقِطًا راكبه معه: «تلك كانت ضربةً غادرة!»
وفي هذه اللحظة نفخ وامبا في البوق، حيث كان كل شيء قد جرى بسرعة، فلم يكن لديه وقتٌ ليفعل ذلك قبلئذٍ. جعل الصوت المُفاجئ القتَلة يتراجعون، ولم يتردد وامبا، على الرغم من أنه لم يكن مسلحًا بشكلٍ جيد، في الاندفاع ومعاونة الفارس الأسود على النهوض.
صاح الفارس ذو العُدة الزرقاء الذي بدا أنه قائد المُهاجمين: «عارٌ عليكم، أيها الجبناء المزيَّفون! أتهربون من نفخة بوق فارغة يُطلِقها مهرِّج؟»
استحثَّتهم كلماته، فهجموا من جديد على الفارس الأسود الذي كان أفضل ملجأ له حينئذٍ أن يُسنِد ظهره إلى شجرة بلُّوط، ويُدافع عن نفسه بسيفه. كان الفارس الغادر قد أخذ رمحًا آخرًا، مُنتظرًا اللحظة التي يشتدُّ فيها الضغط على خَصمه الضخم، ثم انطلق بفرسه نحوه آملًا في أن يُثبته برمحه في الشجرة، عندما اعترض وامبا هدفه مرةً أخرى؛ حيث حام المهرجُ حول حدود مكان القتال، وكبح بكفاءة التقدم المروِّع للفارس الأزرق؛ وذلك بأن قطع أوتار ساق جواده بضربة من سيفه. سقط الجواد والرجل أرضًا، ومع ذلك ظل موقف الفارس ذي القفل حرجًا للغاية، وعندئذٍ انطلق فجأةً سهمٌ به ريشة إوزة رمادية، فألقى أرضًا أحدَ أكثرِ مُهاجميه ضخامةً، واندفعت مجموعة من اليوامنة من الفرجة في الغابة، على رأسهم لوكسلي والراهب المرِح، وسرعان ما أجهَزوا على الغادرين الذين ارتمَوا جميعًا على الأرض ما بين قتيل أو مجروح جرحًا مُميتًا. شكر الفارس الأسود مُنقذيه بوقار لم يُلاحظوه في سلوكه السابق.
قال: «يعنيني كثيرًا، حتى قبل أن أعبِّر عن امتناني الكامل لأصدقائي الحاضرين، أن أكتشف — إن استطعت — هُويةَ مَن اعتدَوا عليَّ هذا الاعتداء غير المسوَّغ. وامبا، ارفع قناع ذلك الفارس الأزرق الذي يبدو أنه زعيم هؤلاء الأشرار.»
قال وامبا: «تعالَ أيها السيد الشرير. يجب أن أكون صانعَ دروعك كما كنتُ سائس جوادك. لقد أنزلتك من فوق جوادك، والآن سأنزع عنك خوذتك.»
وبعد أن قال ذلك، بيدٍ غير رفيقة فكَّ خوذة الفارس الأزرق التي تدحرجت لمسافة على العشب، كاشفةً للفارس ذي القفل عن خصلات شعر أشيب، ووجه لم يكن يخطر بباله أن يراه في مثل هذه الظروف.
قال مُندهشًا: «والديمار فيتزورس! اصدُقني القول. اعترِف وقُل لي مَن دفعك إلى ارتكاب هذا العمل الغادر.»
أجاب والديمار: «إنه ابن أبيك، الذي لم يكن يهدف مِن هذا العمل إلا أن ينتقم منك لعصيانك لوالدك.»
برقَت عينا الفارس الأسود في غضب، ولكنه تغلَّب عليه بطبيعته الطيبة. اعتصر جبينه بيده، وظل لحظةً يُحملق في وجه البارون الذليل الذي كانت ملامحه يختلط فيها الفخر بالعار.
قال: «أنت لا تطلب مني الإبقاء على حياتك، يا والديمار.»
رد فيتزورس: «إن مَن يقع بين براثن الأسد يعرف أن استجداء الحياة بلا طائل.»
«إنني أمنحها لك دون استجداء؛ فالأسد لا يتخذ فرائسه من الجِيَف العاجزة. أُبقي على حياتك، ولكن بهذا الشرط؛ أن تُغادر إنجلترا خلال ثلاثة أيام، وتذهب لتُخفيَ عارك في قلعتك النورماندية، وألَّا تذكُر أبدًا اسم جون أوف أنجو باعتباره كان ذا صلة بخيانتك. أعطِ هذا الفارس جوادًا يا لوكسلي؛ فإني أرى أن رجالك قد أمسَكوا بتلك الجياد التي كانت تجري طليقةً، ودعه يُغادر دون أن يُصيبه أذًى.»
رد اليومَن: «لولا ظني بأني أستمع لصوت من لا يجب مجادلةُ أوامره، لأرسلت خلف النذل المُتسلل سهمًا يُوفر عليه مشقة رحلة طويلة.»
قال الفارس الأسود: «إنك تحمل قلبًا إنجليزيًّا يا لوكسلي؛ وحسنًا رأيت عندما التزمتَ بطاعة أمري. أنا ريتشارد ملك إنجلترا!»
عندما قيلت هذه الكلمات التي نُطِقت بنبرةٍ ملَكية، انحنى اليوامنة أمامه على الفور، وفي الوقت نفسه قدَّموا له ولاءهم، وطلبوا العفو عن إساءاتهم.
قال ريتشارد: «انهضوا يا أصدقائي؛ فإن انتهاكاتكم، سواءٌ في الغابة أو في ميدان القتال، قد كفَّرَت عنها الخدمات المخلصة التي قدَّمتموها لرعاياي المكروبين أمام أسوار توركويلستون، وإنقاذكم لملككم اليوم. انهضوا يا أتباعي، وكُونوا رعايا صالحين في المستقبل. وأنت أيها الشجاع لوكسلي …»
«لا تُنادِني باسم لوكسلي بعد الآن يا مولاي، ولكن لتعرفني بالاسم الذي أخشى أن تكون شهرته التي بلغت القاصيَ والداني لم تصل إلى مسامعكم الملكية. أنا روبن هود غابة شيروود.»