الفصل السابع والثلاثون
إن طريقة الدخول إلى البرج الكبير لقلعة كوننجزبيرج شديدةُ الغرابة، وتَغلِب عليها بساطة العصور القديمة التي أُنشئت فيها. يوجد درجٌ سحيق وضيق حتى إنه يكاد يكون شديدَ الانحدار، يُؤدي إلى بوابةٍ مُنخفضة في الجانب الجنوبي من البرج. عبر هذا المدخل، اقتِيد الملك الصالح ريتشارد، يتبعه إيفانهو الوفي، إلى الغرفة المُستديرة التي تَشغل الطابق الثالث بأكمله. حظي ويلفريد، أثناء الصعود الشاق، بالوقت ليُغطي وجهه بعباءته؛ إذ كانا قد اتفقا على ألا يُظهر نفسه لأبيه حتى يُعطيه الملك الإشارة.
كان مجتمعًا في هذه الغرفة، حول طاولة كبيرة من خشب البلوط، نحوُ اثنَي عشرَ من أكثر ممثِّلي العائلات الساكسونية وجاهةً في المقاطَعات المُجاورة. وكان سيدريك الجالسُ بين مُواطنيه يبدو وكأنه يتصرَّف باعتباره رئيسًا للجمع. عند دخول ريتشارد نهض بوقار، ورحَّب به بالتحية المُعتادة: «في صحتك»، رافعًا في الوقت نفسه قدحًا إلى رأسه. وردَّ الملك التحية بالكلمات المناسبة: «في صحتك»، ورشف من كأسٍ أعطاها له كبيرُ الخدم، وأدى المجامَلة نفسها مع إيفانهو، الذي شرب نخب أبيه في صمت.
وبعد أداء هذه المراسم الاستهلالية نهض سيدريك ومد يده إلى ريتشارد، وقاده إلى كنيسةٍ صغيرةٍ شديدة البساطة، كانت محفورة، إن جاز القول، داخل إحدى الدعامات الخارجية. وأظهرَ مُشعلان بضوئهما الأحمر الدخاني المذبحَ الحجري البسيط، والصليب المصنوع من المادة نفسها. أمام هذا المذبح وُضِع نعشٌ، وعلى كلا جانبَي النعش ركع ثلاثة قساوسة، يُحركون حبَّات مسابحهم ويُتمتمون بصلواتهم. وكي يقوموا بهذه الخدمة دفعت والدةُ المتوفَّى رسومًا جنائزيةً كبيرة لدير القديس إدموند. تبع ريتشارد وويلفريد سيدريك إلى داخل غرفة الموتى؛ حيث أشار مُرشدهم بطريقةٍ مَهيبة نحو نعش أثيلستان الذي مات قبل أوانه، وقد احتذيا حذوه في رشم الصليب في ورع على صدرَيهما، وتمتما بصلاةٍ قصيرة من أجل خلاص روح الراحل.
بعد أداء هذا العمل الورع أشار إليهما سيدريك مرةً أخرى لِيَتبَعاه، وهو يخطو على الأرضية الحجرية بخُطًى صامتة. وبعد صعود بضع درجات فتح بحذرٍ شديد بابَ مُصلًّى صغيرٍ كان مُلاصقًا للكنيسة. ظهرت، في الضوء النافذ من الكوة الضيقة، امرأةٌ جليلةُ ملامحِ المظهر، محتفظة وكان وجهها لا يزال محتفظًا ببقايا واضحة لجمالٍ باهر. أبرزت ثيابُ حِدادها الطويلة، وخمارها المُنسدل من القماش القبرصي الأسود، بياضَ بشرتها. وأفصحت ملامح وجهها عن الحزن العميق المُقترن بالاستسلام.
قال سيدريك بعدما وقف صامتًا للحظة، كما لو كان يُعطي ريتشارد وويلفريد وقتًا ليُلقيا نظرةً على سيدة القصر: «يا إيديث النبيلة، إن هذين الغريبَين الشريفين قد أتيا ليُشاطراكِ أحزانكِ. وهذا، بالأخص، هو الفارس الباسل الذي قاتَل بكل شجاعة لإنقاذ مَن نحزن عليه اليوم.»
أجابت السيدة: «أشكره على شجاعته، كما أشكره هو ورفيقه على لطفهما الذي أتى بهما إلى هنا لرؤية والدة أثيلستان في ساعة حزنها العميق. أودِعهما، أيها القريب الكريم، رعايتَك، وإني على ثقةٍ من أنك ستفي بحق ضيافتهما بقدر ما تستطيع هذه الجدران الحزينة.»
انحنى الضَّيفان بشدة للوالدة الحزينة، وانصرفا مع مُرشدهما ومُضيفهما.
قادَهم درَجٌ مُلتفٌّ آخر إلى غرفة بالمساحة نفسها التي كانوا قد دخلوها أولًا، كانت في الواقع تشغل الطابق الذي يعلوهم مباشرةً. عندما دخلوا وجدوا أنفسهم في حضرة ما يقرب من عشرين سيدةً وفتاة من السلالة الساسكونية الرفيعة الشأن، من بينهم السيدة روينا، وقد انشغلن في تطريز غطاء حريري كبير مُعَد لتغطية نعش أثيلستان، وفي اختيار أكاليل الزهور، كُن ينوين استخدامها للغرض الحزين نفسه، من السلال الموضوعة أمامهن.
بدا لسيدريك أن حزنَ التي هو الوصي عليها أعمقُ بكثيرٍ من حزن أي فتاة أخرى، فرأى لزامًا عليه أن يهمس مُفسرًا الأمر: «لقد كانت العروس المخطوبة للنبيل أثيلستان.»
قادَهما بعد ذلك إلى حجرةٍ صغيرة مُعَدة، كما أخبرهما، للإقامة الحصرية للضيوف من ذوي المكانة، وكان على وشك أن ينصرف عندما أمسك الفارس الأسود بيده.
قال: «أرغب في أن أُذكِّرك أيها السيد النبيل أنه عندما تفرَّقنا آخرَ مرة، وعدت أن تُجيب لي مطلبًا مقابل الخدمة التي قُدر لي أن أُقدمها إليك.»
قال سيدريك: «مطلبك مُجابٌ قبل أن تذكُره أيها الفارس النبيل، ولكن في هذه اللحظة الحزينة …»
قال الملك: «لقد فكَّرت في هذا أيضًا، ولكن وقتي قصير، كما يبدو لي أنه يجدر بنا، عندما نُغلق القبر على النبيل أثيلستان، أن نضع فيه بعض التحامل والآراء المُتسرعة.»
قال سيدريك وقد ظهر عليه الغضب، ومُقاطعًا بدوره الملك: «سيدي الفارس ذا القفل، إنني آمُل أن يكون مطلبك متعلقًا بشخصك وليس بشخصٍ آخر؛ لأنه عندما يتعلق الأمر بشرف بيتي فإنه من غير المُلائم أن يتدخل فيه غريب.»
قال الملك بلِينٍ: «وأنا لا أريد أن أتدخَّل إلا بالقدر الذي تسمح لي به. إنك لم تعرفني حتى الآن إلا بصفتي الفارسَ الأسود ذا القُفل. فلتعرف الآن أنني ريتشارد بلانتاجِنِت.»
صاح سيدريك مُتراجعًا للوراء بمنتهى الدهشة: «ريتشارد أوف أنجو!»
قال الملك: «كلا أيها النبيل سيدريك، بل ريتشارد ملك إنجلترا! الذي شاغِلُه الأكبر ورغبته الأعمق أن يرى أبناءها متَّحدين معًا. والآن فيما يخصُّ مطلبي، فأنا أطلب منك باعتبارك رجلًا يحفظ كلمته، وإلا اعتُبرت رجلًا خائنًا ومخلِفًا لوعده وجبانًا، أن تُسامح الفارس الصالح ويلفريد أوف إيفانهو وتشمله بعاطفتك الأبوية. وستُقِر أن لي في هذا الصلح منفعة، وهي سعادة صديقي، وقمع الشقاق بين رعايايَ المخلِصين.»
قال سيدريك مُشيرًا لابنه: «وهذا هو ويلفريد!»
قال إيفانهو مُنبطحًا عند قدمَي سيدريك: «أبي! أبي! امنحني عفوك!»
قال سيدريك وهو ينهض به من الأرض: «عفوت عنك يا بُنَي. إن ابن هيرورد يعرف كيف يحفظ كلمته، حتى عندما يُعطيها لرجلٍ نورماندي.» وأضاف: «إنك على وشك أن تتكلم، ويُمكنني أن أُخمن الموضوع. يجب على السيدة روينا أن تُتم سنتَين من الحِداد على زوجها الذي كانت مخطوبة له؛ فكل أسلافنا الساكسونيين سيتبرَّءون منا لو تطرَّقنا إلى زواجٍ جديد في وقتٍ مُبكر عن ذلك، بل إن شبح أثيلستان ذاته سيندفع من كفنه الدامي ويقف أمامنا ليمنع مثل هذا التدنيس لذكراه.»
بدا وكأن كلمات سيدريك قد أقامت شبحًا؛ إذ لم يكَد ينطق بها حتى فُتح الباب على مِصراعَيه، وظهر أثيلستان متَّشحًا بأكفان القبر، ووقف أمامهم في شحوب وإنهاك وأشبَهَ ما يكون بمخلوقٍ بُعِث من الموت!
قال سيدريك مُخاطبًا ما بدا أنه شبح صديقه الراحل: «باسم الرب! إن كنت إنسًا فانيًا فتكلَّمْ! أما إن كنت روحًا راحلة فلتقُل لأي سبب تُعاودنا، أو إن كان بوسعي فعل شيء يُنزِل السكينة على روحك. حيًّا كنت أم ميتًا، تكلَّمْ أيها النبيل أثيلستان إلى سيدريك!»
قال الشبح بهدوءٍ شديد: «سأتكلم عندما أستجمع أنفاسي، وعندما تمنحني الوقت. أقلت إنني حي؟ إنني حي كمَن يأكل الخبز والماء لثلاثة أيام تبدو وكأنها ثلاثة دهور.»
قال الفارس الأسود: «عجبًا، أيها النبيل أثيلستان. لقد رأيتك بنفسي تسقط أرضًا على يد فارس الهيكل الشرس عندما كان الهجوم على توركويلستون يُوشك على نهايته، وحسبما ظننتُ، وحسبما روى وامبا، فإن جمجمتك قد شُجَّت حتى أسنانك.»
قال أثيلستان: «لقد أخطأت الظن يا سيدي الفارس، وكذب وامبا. وعلى الرغم من ذلك فلا فضل لفارس الهيكل الذي استدار سيفه في يده فضربني النصل بالجهة غير الحادَّة، وتمكنتُ من تلقِّي الضربة بيد عصاي الجيدة. لقد فقدت الوعي بالفعل، ولكني لم أُجرَح. وسقط آخرون من كلا طرَفَي القتال أرضًا، وذُبِحوا فوقي؛ ومن ثَم لم أعُد إلى وعيي حتى وجدت نفسي في كفنٍ (كان مفتوحًا لحسن حظي) موضوعٍ أمام مذبح كنيسة القديس إدموند. عطست عطساتٍ مُتكررة، وأصدرت بعض الأنات، واستفقت، وكِدت أنهض عندما جاء حافظ غرفة المقدسات ورئيس الدير يجريان في غاية الرعب على إثر الضجة مذهولَين، بلا شك، وبالطبع ساءهما أن يجدا الرجل الذي كانا قد افترضا أنهما سيُصبحان من ورثته حيًّا. طلبتُ نبيذًا، فأعطَياني بعضًا منه، ولكن لا بد أنه كان به كثير من المخدر؛ لأنني نِمتُ بعمقٍ أكثر حتى من ذي قبل، ولم أستيقظ إلا بعد ساعات طويلة؛ فوجدت ذراعَيَّ، وكذلك قدمَيَّ، مُحكمَة الوَثاق، حتى إن كاحلَيَّ يؤلِماني بمجرد تذكُّر الأمر، وكان المكان حالكَ الظُّلمة. لا بد أنني كنت سأظل هناك لولا بعضُ الضجة في الدير التي اكتشفتُ أنها من موكبهم إلى هنا ليتناولوا طعام مأدبة جنازتي، بينما يعلَمون تمام العلم كيف وأين دُفِنت حيًّا، وخرجوا مُحتشدين كخروج النحل من خليته. ومع ذلك ذهبوا، وانتظرت الطعام طويلًا. ولا عجب في أن حافظ غرفة المقدسات المُصاب بالنقرس كان شديد الانشغال بطعامه على أن ينتبه لطعامي. وأخيرًا، أقبل عليَّ، وترك لي قطعةً من الفطير وقنينة من النبيذ. أكلت وشربت وكنت قد انتعشت عندما، في إضافةٍ لحظِّي السعيد، أقفل حافظ غرفة المقدسات، الذي كان ثملًا للغاية فلم يتمكَّن من أداء واجبه كسجَّان على الوجه المُلائم، البابَ دون أن يُحكِم إغلاقه؛ ومن ثَم أصبح الباب مُواربًا. أثار الضوءُ والطعام والنبيذ قدرتي على الابتكار، وكان المشبك المثبَّتة فيه أغلالي صدئًا أكثر مما ظننت. لما وجدت نفسي قد تحرَّرت منه، تحاملت على نفسي صاعدًا الدرَج بقدر ما يُمكن لرجلٍ مثقَل بالأغلال وهزيل بفعل الصوم، وجئت إلى هنا بأقصى سرعة، وكان كل مَن يمرُّ عليَّ من رجل أو طفل يفرُّ من أمامي حيثما ذهبت، مُعتبرًا إياي شبحًا، خاصةً أنني، حتى لا يعرفني أحد، كنت قد سحبت غطاء رأس الجثة فوق وجهي. ولم أكشف عن هُويتي إلا لأمي، قبل أن آتيَ بحثًا عنك، يا صديقي النبيل.»
قال سيدريك: «وها قد وجدتني مستعدًّا لاستكمال مشاريعنا الباسلة من أجل الشرف والحرية. وأقول لك إنه لن يَحُل فجرٌ أسعد من فجر غد لخلاص العِرق الساكسوني النبيل.»
قال أثيلستان: «لا تُحدثني عن خلاص أي أحد؛ فيكفيني أنني خلَّصت نفسي.»
قال سيدريك: «يا للعار أيها النبيل أثيلستان! أخبِر هذا الأمير النورماندي، ريتشارد أوف أنجو، أنه بقلب أسد كقلبه لن يحصل بلا نزاع على عرش ألفريد ما دام لا يزال رجلٌ من نسل المعترف المقدَّس على قيد الحياة ليُنازعه عليه.»
قال أثيلستان: «ماذا! أهذا هو الملك النبيل ريتشارد؟»
قال سيدريك: «إنه ريتشارد بلانتاجِنِت نفسه، ولكني لست بحاجة إلى أن أُذكِّرك أنه بقدومه إلى هنا ضيفًا حُرَّ الإرادة لا يُمكن أن يُلحَق به أذًى، ولا أن يُتحفَّظ عليه أسيرًا. وأنت تعلم جيدًا واجبك نحوه كمُضيفه.»
قال أثيلستان: «أجل، بحق إيماني! وكذلك واجبي كأحد رعاياه؛ لأنني هنا أُقدم له ولائي بقلبي ويدي.»
قال سيدريك: «فكِّر في حرية إنجلترا أيها الأمير المُنحل!»
قال أثيلستان: «كُفَّ عن توبيخك لي؛ فالخبز والماء والسجن محطِّماتٌ هائلة للطموح، ولقد قمت من القبر رجلًا أكثرَ حكمةً مما كنتُ عندما نزلت إليه.»
قال سيدريك: «وفيما يخصُّ روينا التي تحت وصايتي آمُل أنك لا تنوي أن تتركها.»
قال أثيلستان: «فلتكن حصيفًا يا أبي سيدريك. إن الليدي روينا لا تهتمُّ لأمري؛ فهي تُحب الإصبع الصغيرة لقفاز قريبي ويلفريد أكثرَ من شخصي كله. هيَّا يا ابن العم ويلفريد أوف إيفانهو؛ فأنا أتنازل وأتراجع من أجلك. يا إلهي! بحق القديس دونستان، لقد اختفى ابن عمنا ويلفريد! ولكن ما لم تكن عيناي لا يزال بهما عشًى من أثر الصيام الذي عانيته، فقد رأيته منذ قليل واقفًا هناك.»
عندئذٍ نظر الجميع حولهم باحثين عن إيفانهو، ولكنه كان قد اختفى. وأخيرًا اكتُشف أن يهوديًّا كان يبحث عنه، وأنه بعد محادَثة شديدة القِصر بينهما طلب جيرث ودرعه، وغادَر القلعة.
كان الملك ريتشارد قد رحل هو الآخر، ولا يعلم أحدٌ إلى أين. وأخيرًا عرَفوا أنه كان قد أسرع إلى فِناء القلعة، واستدعى اليهودي الذي كان قد تحدَّث مع إيفانهو للمُثول في حضرته، وبعد حديث معه دام للحظاتٍ طلب بلهجةٍ عنيفة جوادًا، وألقى بنفسه فوق صهوته، وألزم اليهوديَّ بامتطاء آخر، وانطلقا بسرعةٍ وصفها وامبا بأنها جعلت عنق اليهودي لا يُساوي بنسًا واحدًا.