الفصل الثامن والثلاثون
يعود بنا المشهد الآن إلى خارج القلعة، أو إلى مقر فُرسان الهيكل، مقر تمبلستو، حيث كانت الساعة التي يُحدِّد فيها الحظ حياة ريبيكا أو موتها قد أشرفت. كان مشهدًا يفيض صخبًا وحياةً، كما لو أن ساكني المنطقة المُجاورة بأكملها قد تدفَّقوا على احتفالٍ قروي أو عيدٍ ريفي. نُصِب عرش للسيد الأعظم في الطرف الشرقي لساحة المطاعنة، تُحيط به مقاعدُ مميزة لكبار الطائفة وفُرسانها. وفي الطرف المقابل من ساحة النزال، كانت ثَمة كومة من حُزَم الحطب، مرتَّبة بعنايةٍ حول وتد مثبَّت بعمق في الأرض، بحيث تترك مساحة للضحية التي كانت معَدةً لإحراقها للدخول في نطاق دائرة الموت؛ كي تُوثَّق في الوتد بالأغلال التي كانت معلَّقة بالفعل لذلك الغرض.
وأخيرًا، سقط الجسر المعلَّق، وفُتِحت البوابات، وخرج من القلعة فارسٌ يحمل علَمًا كبيرًا للطائفة، يسبقه ستةٌ من حمَلة الأبواق، ويتبعه كبار الفُرسان في أزواج. وأخيرًا أتى السيد الأعظم مُمتطيًا جوادًا مَهيبًا مجهَّزًا بأبسط العتاد، وجاء خلفه براين دي بوا جيلبرت مسلَّحًا من رأسه إلى أخمص قدمَيه بدروعٍ لامعة، ولكن دون رمحه أو تُرْسه أو سيفه، التي كان يحملها وصيفاه من خلفه.
بعد هؤلاء، جاءت حاميةٌ من الحراس مترجِّلةً، وكان وجه المتهَمة الشاحبُ يبدو من بين عِصيِّهم وهي تسير بخطوةٍ بطيئة، ولكنها رابطة الجأش، نحو موقع تقرير مصيرها. كانت ثيابها الشرقية قد استُبدل بها ثوبٌ أبيض خشن شديد البساطة. ومع ذلك كان في نظرتها مزيجٌ بديع من الشجاعة والخضوع، حتى إنها في هذا الثوب الرديء، ومن دون أي حلية باستثناء ضفائر شعرها الطويلة السوداء، أبكت جميع العيون التي نظرت إليها.
سِيقت ريبيكا التعسة إلى الكرسي الأسود الموضوع بالقرب من الكومة. وفي نظرتها الأولى للبقعة المروِّعة، حيث كانت تجري التجهيزات لميتةٍ تُرعب الذهن وتُؤلم الجسد على حدٍّ سواء، لُوحِظ أنها ارتجفت وأغلقت عينَيها، وكانت بلا شك تُصلي في سرها؛ لأن شفتَيها كانتا تتحركان على الرغم من عدم سماع صوت منهما. بعد لحظات فتحت عينَيها، ونظرت مليًّا إلى الكومة كما لو كانت تُريد أن يألفها ذهنها، ثم أشاحت برأسها ببطء وتلقائية.
وفي تلك الأثناء، كان السيد الأعظم قد جلس على مقعده، ثم تقدَّم للأمام مالفوازان، الذي كان يُؤدي مهمة عرَّاب البطل، ووضع قفاز اليهودية الذي كان رهن المعركة عند قدمَي السيد الأعظم.
قال: «أيها السيد الشجاع والأب الموقَّر، هنا يقف الفارس الصالح براين دي بوا جيلبرت، أحد كبار فُرسان طائفة الهيكل، والذي بقَبوله رهن المعركة الذي أضعه الآن عند قدمَيكم الجليلَتين أصبح لزامًا عليه أن يؤدي واجبه في النزال في هذا اليوم؛ كي يؤكِّد على أن هذه الفتاة اليهودية التي تُدعى ريبيكا قد استحقَّت بعدلٍ الحكم الصادر بحقها في مجلسٍ عام لهذه الطائفة المقدَّسة.»
أمر السيد الأعظم المُناديَ أن يتقدم ويؤدي واجبه؛ ومن ثَم صدحت أصوات الأبواق، وتقدَّم أحد المُنادين خطوةً للأمام مُعلنًا بصوتٍ عالٍ: «أنصِتوا، أنصِتوا، أنصِتوا. هنا يقف الفارس الصالح السيد براين دي بوا جيلبرت جاهزًا لقتال أي فارس من دمٍ حر، يدعم النزاع المسموح والمُخصَّص لليهودية ريبيكا.»
قال السيد الأعظم: «لم يظهر أي فارس نصير لمقدِّمة الطعن في الحكم. اذهب أيها المُنادي، واسألها عما إذا كانت تنتظر قدوم أي أحد للقتال من أجلها في سبيل قضيتها هذه.» ذهب المُنادي إلى الكرسي الذي كانت تجلس عليه ريبيكا، وفجأةً أدار بوا جيلبرت رأس جواده نحو طرف ساحة النزال، فأصبح بجانب كرسي ريبيكا بمجرد وصول المُنادي إليها.
تحدَّث المُنادي مع ريبيكا بهذه الكلمات: «يا أيتها الفتاة، إن السيد الأعظم المبجَّل والموقَّر يسألك عما إذا كنتِ قد أعددتِ نصيرًا ليخوض معركة هذا اليوم بالنيابة عنكِ، أم أنك مُذعنة للحكم باعتباركِ مَدينةً بحكمٍ عادل مُستحَق؟»
ردَّت ريبيكا: «قل للسيد الأعظم إني أُصر على براءتي، ولا أُقِر بأنني قد حُكِم عليَّ بالعدل، وإلا أكون قد أجرمت في حق دمي. قل له إنني أتمسَّك بالمهلة التي ستسمح بها عادات محاكمته لأرى إن كان الرب، الذي يفتح أبواب الفرج لمن هو في محنة، سيبعث لي مُنقذًا. وعندما تمرُّ تلك المهلة القصوى المسموح بها فلتكن إذن مشيئته المقدسة!» انصرف المُنادي ليحمل هذه الإجابة إلى السيد الأعظم.
قال لوكاس بومانوار: «حاشا للرب أن يتَّهمنا يهوديٌّ أو وثني بالظلم! سننتظر حتى تسقط الظلال من الغرب إلى الشرق؛ لنرى ما إذا كان سيظهر نصيرٌ لهذه المرأة التعسة. وعندما يمرُّ النهار فلتستعدَّ للموت.»
نقل المُنادي كلمات السيد الأعظم إلى ريبيكا، التي أحنَت رأسها في خضوع، وضمَّت ذراعَيها، ورفعت ناظرَيها إلى السماء، فبدَت وكأنها تتوقَّع أن يأتيَها ذلك العون من السماء؛ إذ لم تعُد قادرةً على أن تُمنِّي نفسها بأن يأتيها من بشر. وخلال هذا التوقف المُرعب، سمعت صوت بوا جيلبرت في أذنَيها، ولم يكن سوى همسة، لكنه أجفلها أكثر مما يبدو أن صيحات المُنادي قد فعلت.
قال فارس الهيكل: «ريبيكا، أتسمعينني؟»
قالت الفتاة التعسة: «لا شأن لي بك، أيها الرجل الفظُّ القاسي القلب.»
قال فارس الهيكل: «أجل، ولكن أتفهمين كلماتي؟ لأن نبرة صوتي مُرعبة في أذنَيَّ أنا نفسي. إنني لا أعلم على أي أرض نحن، ولا لأي غرض جلبونا إلى هنا. هذه الساحة المحاطة بالأسوار وذلك الكرسي وهذه الحُزَم من الحطب، أعرف الغرض منها، ولكنها تبدو لي شيئًا غير حقيقي.»
ردَّت ريبيكا: «إن ذهني وحواسي متَّصِلان من ناحية الشعور والزمن، وكلاهما يقول لي إن حزم الحطب هذه مجهَّزة لتحرق جسدي الأرضي، وتفتح ممرًّا مؤلمًا ولكنه قصير إلى عالمٍ أفضل.»
قال فارس الهيكل: «اسمعيني يا ريبيكا، إن لديك فرصةً أفضل في الحياة والحرية من التي يحلم بها أولئك الأوغاد وذلك الخَرِف. امتطي جوادي خلفي. فوق زامور، الجواد الشهم الذي لم يخذل راكبه قط، وفي ساعةٍ واحدة قصيرة، نكون قد خلَّفنا وراءنا بمسافةٍ طويلة أيَّ مُطارِدين ومُستجوبين؛ لينفتح أمامكِ عالمٌ جديد من السعادة، وأمامي مسارٌ جديد من الشهرة. لينطقوا بالحكم الذي أزدريه، ويَمحوا اسم بوا جيلبرت من قائمة عبيد الدير! سأغسل بالدماء أي وصمة قد يجرءون على إلقائها على شعار نبالتي.»
قالت ريبيكا: «اغرب عن وجهي، يا فارس الهيكل! لن تستطيع في هذه اللحظة الأخيرة أن تُزحزحني قِيدَ أنملة عن مثواي. ومع أني محاطة بأعداء فإني أعُدُّك أسوأَهم وأكثرهم قسوة. انصرِف بحق اسم الرب!»
كان ألبيرت مالفوازان مُنتبهًا لطول مدة حديثهما، ونفد صبره فتقدَّم لمقاطَعته.
سأل بوا جيلبرت: «هل اعترفَت الفتاة بذنبها، أم أنها مُصرَّة على إنكارها؟»
قال بوا جيلبرت: «إنها مُصرَّة كلَّ الإصرار.»
قال مالفوازان: «إذن، عليك أيها الأخ النبيل أن ترجع إلى مكانك لتستمع إلى القرار المتخَذ. تعالَ أيها الشجاع بوا جيلبرت.»
قال ذلك ووضع يده على لجام جواد الفارس كما لو أنه يقوده ليرجع إلى موقعه.
قال السير براين غاضبًا: «أيها النذل المُخادع، ما الذي تعنيه بوضع يدك على لجام جوادي؟» ثم انتزع يد رفيقه، وقاد الجواد راجعًا إلى الطرف العُلوي من ساحة النزال.
في ذلك الوقت كان قد مرَّ على وجود القضاة في ساحة النزال ساعتان، مُنتظرين عبثًا ظهور نصير.
ومع ذلك، كان الاعتقاد العام أنه لا يُمكن لأحدٍ أن يظهر من أجل يهودية متهَمة بالسحر، وتهامَس الفُرسان فيما بينهم بأنه قد حان الوقت لإعلان أن تحديَ ريبيكا قد سقط. في تلك اللحظة ظهر على السهل فارسٌ يستحثُّ جواده على الإسراع، مُتقدمًا نحو ساحة النزال. صاحت مئات الأصوات: «نصير! نصير!» وهتف الحشد بينما كان الفارس يدخل راكبًا جواده إلى ساحة المطاعَنة، لكن النظرة الثانية إليه بدَّدَت الأمل الذي كان قد بعثه ظهوره في الوقت المُناسب؛ فقد بدا جواده، الذي كان قد استحثَّه للعَدْو عدةَ أميال بأقصى سرعة، مُترنحًا من التعب، وكان الراكب يبدو، سواءٌ بسبب الضعف أو الإعياء أو كلَيهما، غيرَ قادر على أن يَثبُت على السرج.
وعندما استدعاه المُنادي الذي طلب معرفة رُتْبته واسمه وغرضه، أجاب الفارس الغريب في الحال وبجُرأة قائلًا: «أنا فارسٌ طيب ونبيل، جئت إلى هنا لأُساند برمحي وسيفي هذه الفتاة ريبيكا ابنة إيزاك أوف يورك في هذا النزاع العادل والشرعي، ولكي أُبين أن الحكم الذي صدر ضدها باطل وكاذب، ولكي أتحدى السير براين دي بوا جيلبرت بصفته خائنًا وقاتلًا وكاذبًا، كما سأَثْبت في هذا الميدان بجسدي في مواجهة جسده، بعون الرب وسيدتنا العذراء وسيدنا القديس جورج الفارس الصالح.»
قال مالفوازان: «يجب أن يُظهر الغريب أولًا أنه فارسٌ جيد ومن نسبٍ شريف؛ فالهيكل لا يدفع بأبطاله في مواجَهة رجال مجهولين.»
قال الفارس رافعًا عنه خوذته: «إن اسمي، يا مالفوازان، أشهرُ من اسمك، ونسبي أنقى من نسبك. أنا ويلفريد أوف إيفانهو.»
قال فارس الهيكل وقد تغيَّر صوته وأصبح مكتومًا: «لن أدخل في نزاع معك الآن. فلتُعالج جروحك ولتتزوَّد بجوادٍ أفضل، وحينئذٍ قد أرى أنه يليق بي أن أُعاقبك وأستأصل منك روح التبجح الصبيانية هذه.»
قال إيفانهو: «ها! يا فارس الهيكل المُتكبر، أنسيت أنك قد سقطت مرتَين أمام هذا الرمح؟ تذكَّرْ ساحة النزال في عكا، وتذكَّرْ مهرجان السلاح في آشبي، وتذكَّرْ تبجحك المُتعاليَ في ردهات روثيروود، ورهان سلسلتك الذهبية مقابل صندوق ذخائري، ولا تنسَ أنك ستُقاتل ويلفريد أوف إيفانهو وتستعيد شرفك الضائع! بحق صندوق الذخائر هذا والأثر المقدَّس الذي يحتوي عليه، سأُعلن يا فارس الهيكل في كل بلاط في أوروبا، وفي كل مقر من مقرات طائفتك، أنك جبان، إلا إذا قاتلتني دونما مزيد من إبطاء.»
أدار بوا جيلبرت وجهه في تردُّد نحو ريبيكا، ثم صاح ناظرًا بغضب إلى إيفانهو: «أيها الكلب الساكسوني! خذ رمحك واستعِدَّ للموت الذي جلبته لنفسك!»
قال إيفانهو: «هل يسمح لي السيد الأعظم بالقتال؟»
قال السيد الأعظم: «لا يُمكنني أن أُنكر عليك تحديَك، شريطةَ أن تقبَلك الفتاة نصيرًا لها. غير أنني كنت أودُّ أن تكون في حالةٍ أفضلَ للقتال. لقد كنت دومًا عدوًّا لطائفتنا، ومع ذلك أودُّ أن تُواجَه بشرف.»
قال إيفانهو: «هكذا، هكذا بالحال التي أنا عليها، ولا أملك أن أكون غير هذا؛ فهذا هو حكم الرب، وفي رعايته أستودع نفسي.» ثم قال ماضيًا على صهوة جواده إلى الكرسي المشئوم: «يا ريبيكا، هل تقبَلين بي نصيرًا لكِ؟»
قالت باضطراب لم يتمكن الخوف من الموت أن يُصيبها به: «أقبل. أقبل بك نصيري الذي أرسلته لي السماء، ولكن كلا، كلا؛ فإن جِراحك لم تُشْفَ. لا تُواجه هذا الرجل المُتكبر. لماذا تَهلك أنت أيضًا؟»
ولكن إيفانهو كان بالفعل قد اتخذ موقعه، وأغلق قناع خوذته، وأمسك برُمحه. فعل بوا جيلبرت مِثلما فعل. ولاحظ وصيفُه وهو يُغلق قناع خوذته أنَّ وجهه الذي كان شاحبًا كالرماد طوال النهار على الرغم من الانفعالات التي كانت قد أثارته، فجأةً أصبح حينئذٍ شديدَ النضارة.
ثم بعدما رأى المُنادي أن كل مُحارب قد اتخذ مكانه، رفع صوته وكرَّر ثلاث مرات بالفرنسية: «قُوما بواجبَيكما، أيها الفارسان الباسلان!» أما السيد الأعظم الذي كان يُمسِك في يده قفاز ريبيكا، رمز التحدي للقتال، فقد ألقاه في ساحة النزال، ونطق كلمة إيذان بدء القتال الرهيبة: «هيَّا!»
نُفخ في الأبواق، وهجم كل فارس على الآخر بأقصى سرعته. سقط جواد إيفانهو المتعَب، وراكبه الذي لا يقل عنه إرهاقًا، سقَطا أرضًا، كما توقَّع الجميع، أمام رمح فارس الهيكل المُصوَّب جيدًا وجَواده القوي. كان الجميع قد تكهَّنوا بنتيجة القتال، ولكن على الرغم من أن حربة إيفانهو، بالمقارنة، لم تفعل شيئًا سوى أنها لمست ترس بوا جيلبرت، فإن ذلك المُحارب ترنَّح على سرجه، وأفلتَت قدماه من رِكابَيه، وسقط على أرض ساحة النزال؛ مما أذهل جميع من رأوا الأمر.
سرعان ما انتصب إيفانهو واقفًا على قدمَيه بعدما حرَّر نفسه من جواده الساقط، عامدًا بسيفه إلى إصلاح حظه، لكنَّ خَصمه لم ينهض، فوضع ويلفريد قدمه على صدره، وذؤابة سيفه على عنقه، آمرًا إياه أن يستسلم أو يموت على الفور، ولكن بوا جيلبرت لم يُجِبه.
صاح السيد الأعظم: «لا تقتله، أيها السيد الفارس، وهو لم يعترف ولم يبرأ من ذنبه. لا تقتله جسدًا وروحًا! إننا نُسلِّم بهزيمته.»
نزل إلى ساحة النزال، وأمر بأن يخلعوا عن المُحارب المهزوم خوذته. كانت عيناه مغلقتَين، وكانت جبهته لا تزال متورِّدة بحُمرةٍ قانية. وبينما كانوا ينظرون إليه في ذهول فُتِحت عيناه، ولكنهما كانتا ثابتتَين ولامعتَين. ذهب التورد عن جبينه، وحل محلَّه شحوبُ الموت. لم يكن قد أُصيب بأذًى من رمح عدوه، ولكنه مات ضحيةً لعنف عواطفه المُتنازعة.
قال السيد الأعظم ناظرًا لأعلى: «إن هذا حقًّا هو قضاء الرب.» وأضاف باللاتينية: «فلتكن مشيئتُك!»