الفصل التاسع والثلاثون
بعد وقت قصير من القتال الفاصل، استُدعي سيدريك الساكسوني إلى بلاط ريتشارد الذي كان في ذلك الوقت قائمًا في يورك؛ بغرض تهدئة المقاطعات التي كان طموح أخيه قد أحلَّ فيها الاضطراب. أبدى سيدريك استياءه وغضبه الشديد أكثر من مرة من الرسالة، ولكنه لم يرفض أن يُطيع. الواقع، أن عودة ريتشارد كانت قد أخمدت كل أمل كان يُمنِّي به نفسه في إعادة إحدى السلالات الساكسونية إلى عرش إنجلترا. كان مقته لملوك العِرق النورماندي قد تقوَّض لسببين؛ أولهما: إدراكه استحالة تخليص إنجلترا من السلالة الحاكمة الجديدة. والثاني: الاهتمام الشخصي الذي أولاه إياه الملك ريتشارد الذي سرَّه أسلوب سيدريك الصريح، الذي قبل أن يقضي سبعة أيام ضيفًا في البلاط كان قد حصل على موافقته على زواج وصيته روينا وابنه ويلفريد أوف إيفانهو.
احتُفل بزفاف بطلنا، بعد موافقة والده عليه رسميًّا، في أكثر الكنائس مهابةً، وهي كاتدرائية يورك النبيلة.
وفي صبيحة اليوم التالي لهذا العُرس السعيد، علِمت الليدي روينا من وصيفتها إلجيثا أن فتاةً تطلب الإذن بالمثول في حضرتها، وتلتمس أن يكون حديثهما دون شهود. تعجَّبت روينا وتردَّدت وأصابها الفضول، وانتهت إلى أن أمرت بالسماح للفتاة بالدخول وبانصراف خدمها.
دخلت، وكانت ذات مظهر نبيل ومَهيب، وكان خمارها الطويل الأبيض الذي كانت تتغطَّى به يُحدد بَهاء مظهرها وفخامتَه بدلًا من أن يُخفيَهما. اتَّسم سلوكها بالاحترام غير المُمتزج بأدنى ظل من الخوف أو الرغبة في الاسترضاء، ولكن بمجرد انصراف إلجيثا بخطواتٍ مُتثاقلةٍ مُمانِعة، فُوجئت الليدي إيفانهو بزائرتها الحسناء تركع على إحدى ركبتَيها، وتضغط بيدَيها على جبهتها، وتحني رأسها إلى الأرض، وعلى الرغم من مقاومة روينا قبَّلَت الفتاة طرف ثوبها المطرَّز.
قالت العروس المُندهشة: «ماذا تعنين بهذا يا سيدتي؟ أو لماذا تُقدمين لي احترامًا غير مُعتاد كهذا؟»
قالت ريبيكا وهي تنهض وتستعيد وقارها الهادئ المُعتاد: «لأنني بذلك يا ليدي إيفانهو قد أردُّ، بطريقةٍ مشروعة ودون تعنيف من أحد، دَين العرفان الذي أنا مَدينة به لويلفريد أوف إيفانهو. إنني، ولتُسامحيني على جُرأتي في إظهاري لاحترامكِ كما نفعل في بلدي، أنا اليهودية التعيسة التي خاطَر زوجك بحياته من أجلها في مواجهة تلك المخاطر المروِّعة في ساحة مطاعنة تمبلستو.»
قالت روينا: «يا فتاة، إن ما فعله ويلفريد أوف إيفانهو في ذلك اليوم لم يكن إلا ردًّا لجزءٍ بسيط من رعايتك غير المُنقطعة له عندما كان جريحًا ومُبتلًى. أخبريني، هل من شيء يُمكنني أنا أو هو أن نُقدمه لكِ؟»
قالت ريبيكا بهدوء: «لا شيء سوى أن تنقلي له تحية وداعي المفعَمة بامتناني.»
قالت روينا وهي لا تزال مندهشةً من هذه الزيارة غير العادية: «أسترحلين عن إنجلترا إذن؟»
«أجل، سأرحل يا سيدتي قبل أن يُعاود هذا القمر الظهور مرةً أخرى. إن لأبي أخًا ينعم بعطف محمد أبي عبد الله، ملك غرناطة، وسنذهب إلى هناك واثقين من أننا سننال الأمن والحماية مقابل دفع الجزية التي يأخذها المسلمون من قومنا.»
قالت روينا: «ألا تجدون تلك الحماية في إنجلترا؟ إن لزوجي حظوةً لدى الملك، والملك نفسه عادل وكريم.»
قالت روينا: «لا أشك في ذلك يا سيدتي، ولكن أهل إنجلترا عِرقٌ عنيف، دائمو التناحر مع جيرانهم أو فيما بينهم، وهم على استعداد لإغماد السيوف في أحشاء بعضهم بعضًا؛ وهذا ليس مُقامًا آمنًا لبني قومي.»
قالت روينا: «ولكن أؤكد لكِ، يا فتاة، أن ليس ثَمة ما تخشين.» ثم استطردت وهي تنهض في حماسة: «فمن طببَت إيفانهو في سرير مرضه لا يُمكن أن تخشى شيئًا في إنجلترا، حيث سيتنافس الساكسونيون والنورمانديون على مَن يُكرِّمها أفضل تكريم.»
قالت ريبيكا: «حديثكِ جميل يا سيدتي، وأجمل منه مقصدكِ، لكنه لن يكون؛ فثَمة هوَّة بيننا يُحظَر على كِلَينا اجتيازُها بسبب نشأة كل منا وإيمانه. وداعًا، ولكن قبل أن أذهب أرجو أن تُجيبي لي مطلبًا واحدًا. خمار العروس المعلَّق يُخفي وجهكِ، فهل ترفعينه وتسمحين لي برؤية ملامحكِ التي يتحدث عن جمالها الجميع.»
قالت روينا: «إنها لا تكاد تستحقُّ النظر إليها، ولكني أُزيل نقابي متوقعةً المثل من زائرتي.»
وهكذا خلعته، ولإدراكها لجمالها من ناحيةٍ ولخجلها من ناحيةٍ أخرى احمرَّ وجهها بشدة، حتى كسا لونٌ قرمزي وجنتَيها وجبينها وعنقها وصدرها.
قالت ريبيكا: «إن الوجه الذي أظهرتِه لي يا سيدتي سيظل طويلًا عالقًا في ذاكرتي. سأتذكَّر ملامحك طويلًا، وحمدًا للرب على أنني أترك مُنقذي النبيل في رباط مع …»
توقَّفت فجأةً، واغرورقت عيناها بالدمع، وسرعان ما مسحتهما، وأجابت عن تساؤلات روينا القلِقة قائلةً: «إنني بخير يا سيدتي، بخير، ولكن الألم يعتصر قلبي عندما أتذكَّر توركويلستون وساحةَ نزال تمبلستو. وداعًا. يتبقى عليَّ فعل شيء واحد، هو أتفَهُ جزء من واجبي. اقبلي مني علبة المجوهرات هذه، ولا تفزعي مما فيها.»
فتحَت روينا علبة المجوهرات الصغيرة المُطعَّمة بالفضة، ورأت قِلادةً أو عِقدًا، وقُرطَين من الماس، كان من الواضح أنها ذات قيمة عظيمة.
قالت وهي تُعيد إليها العلبة: «هذا مستحيل. لا أجرؤ على قَبول هدية بمثل هذه القيمة.»
ردَّت ريبيكا: «ولكن احتفظي بها يا سيدتي؛ فأنتِ تملكين السلطان والمكانة والسيادة والتأثير، ونحن لدينا الثروة، مصدر قوَّتنا وضعفنا في الوقت نفسه. وقيمة هذه الألعاب، وعشرة أمثالها، لن يُعادل تأثيرُها نصف تأثير أبسط أمانيكِ. اقبليها يا سيدتي؛ فلا قيمة لها عندي؛ فلن أرتدي حليًّا بعد اليوم.»
قالت روينا مذهولةً من الطريقة التي قالت بها ريبيكا كلماتها الأخيرة: «أنتِ حزينة إذن! أوه، ابقي معنا؛ فإن نصح الرجال المقدَّسين سيُحولكِ عن شريعتكِ الخاطئة، وسأكون أختًا لكِ.»
ردَّت ريبيكا بالهدوء الحزين نفسه الذي ساد صوتها الناعم وملامحها الجميلة: «كلا يا سيدتي، هذا لن يكون؛ فأنا لن أُغير دين آبائي. إن الذي سأهب له قادمَ حياتي سيكون سلوتي إن أطعتُ مشيئته.»
سألت روينا: «ألديكم إذن أديرةٌ تنوين أن تعتكفي في أحدها؟»
قالت اليهودية: «كلا يا سيدتي، ولكن بين قومنا، منذ زمن إبراهيم وإلى الآن، نساء كرَّسن أفكارهن للسماء، وأفعالهن لأعمال الخير للناس؛ من رعاية مريض، وإطعام جائع، وتخفيفٍ عن مكروب. ستكون ريبيكا واحدةً من هؤلاء. قولي هذا لسيدكِ، إذا ما خطر في باله أن يسأل عن مصير تلك التي أنقذَ حياتها.»
كان في صوت ريبيكا رعشةٌ لا إرادية، ورقة في نبرتها، ربما كانت تَشي بأكثرَ مما كانت تنوي التعبير عنه. أسرعت لوداع روينا.
وقالت: «وداعًا. وأدعو مَن خلقَنا، نحن اليهود والمسيحيين، أن يُغدِق عليكِ أفضل بركاته! إن المَركب الذي سيحملنا بعيدًا سيكون جاهزًا للإبحار قبل أن نصل إلى الميناء.»