الفصل السادس
على مِسطبةٍ مكوَّنة من مرتفعٍ طبيعي من الأرض، خلف المدخل الجنوبي للحلبة في آشبي، نُصِبت خمسة سرادقات مهيبة، زُيِّنت براياتٍ خمرية وسوداء اللون، وهما اللونان اللذان اختارهما الفارسان المُتنافسان. وكانت حبال الخيام باللون نفسِه. وأمام كل سرادق كان معلَّقًا درعُ الفارس الذي يشغله، وبجانبه وقف تابعه، مُتنكرًا تنكرًا عجيبًا في ملابس غريبة الأطوار. أما السرادق الذي كان في المنتصف، فقد كان مخصَّصًا لبراين دي بوا جيلبرت، الذي جعلته شهرته في كل مباريات الفروسية يُستقبَل بتَرحابٍ شديد ضِمن جماعة المُتنافسين، بل إنهم اتخذوه رئيسًا وقائدًا لهم.
كان يشغل جزءًا من خارج ساحة النزال أروقةٌ مؤقتةٌ مفروشة بلوحاتٍ نسيجية وسجاجيد، ومعَدَّة بوسائد لراحة أولئك السيدات وهؤلاء النُّبلاء الذين كان يُتوقَّع حضورهم للمباراة. وكان ثَمة مساحةٌ ضيقة، فيما بين هذه الأروقة وساحة النزال، مخصَّصة لصغار المُلاك والمُتفرجين من مرتبةٍ أعلى من العامة، وربما تُضاهَى بالجزء الخلفي من قاعة مسرح.
كان أحد الأروقة، وهو المقابل تمامًا للبقعة التي كان يقع فيها النِّزال، أعلى من بقية الأروقة، وأكثرَ تزينًا منها، ويمتاز عنها بما يُشبِه عرشًا ومظلَّة، كانا مخصَّصَين للأمير جون. في مواجهة ذلك الرواق الملكي، كان ثَمة رواق بالارتفاع نفسه في الجانب الغربي من ساحة النزال، وكان أكثر بهاءً، وإن كان أقلَّ ترفًا في زينته من ذلك المعَد للأمير نفسه. وكانت مجموعة من الصِّبيان والوصيفات — أجمل من يُمكن اختيارهم، يرتدون أرديةً بهيجة وفاخرة باللونين الأخضر والوردي — تُحيط بعرشٍ مزيَّن بهذين اللونين مخصَّص لملكة الجمال والحب.
كان إيزاك، مرتديًا بترفٍ وعظَمة سُترةً طويلة مزخرَفة بالأربطة ومخطَّطة ومبطَّنة بالفرو، ويسعى لإيجاد مكان في الصف الأول أسفل الرواق لابنته، الجميلة ريبيكا، التي كانت قد انضمَّت إليه في آشبي، والتي كانت حينئذٍ تتعلق بذراع أبيها. وبينما كان الأمير جون، مُعتليًا صهوة جواد أصيل رمادي اللون، يدور نصف دورة داخل ساحة النزال على رأس مجموعة مرحة؛ لاحظت عيناه اللمَّاحتان على الفور اليهودي، ولكنه كان أكثرَ انجذابًا وانسجامًا بكثير بابنة صِهيَون الجميلة.
كان يُمكن لشكل ريبيكا بالفعل أن يُضاهيَ جميلاتِ إنجلترا الأكثرَ اعتدادًا بأنفسهن؛ إذ كان قِوامها مُتناسقًا بإتقان، وأبرزَه نوعٌ من الزي الشرقي، الذي ارتدته تبعًا لأزياء النساء من قومها. وكانت عمامتها، المصنوعة من حريرٍ أصفر، تتناسب تمامًا مع سُمْرة بشرتها. شكَّل تألُّق عينيها، وتقوُّس حاجبَيها الفاتنين، وأنفها المعقوف المتقَن التكوين، وأسنانها البيضاء بياضَ اللؤلؤ، وغزارة خصلات شعرها السوداء المرتَّبة كلٌّ على حدة في لفَّاتٍ متموِّجة صغيرة؛ شكَّل كلُّ ذلك آيةً من الجمال، لا يفوقها جمالُ أجمل الفتيات اللواتي أحطن بها. ومن المشابك الذهبية المرصَّعة باللؤلؤ، التي كانت تُغلق سترتها من العنق إلى الخصر، تركت أول ثلاثة مشابك مفكوكة بسبب حرارة الجو، فكشفت عن عِقد ماسي بدلَّاياتٍ نفيسة. كما ميَّزت اليهوديةَ الجميلة ريشةُ نعامة مثبَّتة في عمامتها بمشبكٍ مرصَّع بالماس.
قال الأمير جون: «بحق رأس إبراهيم الأصلع، لا بد أن هذه اليهودية هي المثال الأعلى لذلك الكمال، الذي فتن سحرُه أكثرَ الملوك حكمةً على مر العصور! ما قولك يا رئيس الدير آيمر؟»
رد رئيس الدير، بنبرةٍ ساخرة نوعًا ما: «إنها وردة شارون وسَوسنة الوادي، ولكن يجب أن تتذكر سُموَّك أنها، مع ذلك، ليست إلا يهودية.»
أضاف الأمير جون دون أن يلتفت إليه: «أجل! وها هما رجلاي من أرباب الثروة الفاسقين أيضًا؛ مركيز الماركات وبارون العملات البيزنطية، يتنافسان على مكان مع الكلاب المعدمة، الذين لا تحوي جيوب عباءاتهم الرثَّة صليبًا واحدًا يَقِيهم من الشيطان. بحق جسد القديس مرقس، ينبغي لأمير إمداداتي ويهوديته الجميلة أن يحظيا بمكان في الرواق! من هي يا إيزاك؟ زوجتك أم ابنتك، تلك الحورية الشرقية التي تُمسك بها تحت ذراعك كما لو كنت تُمسك بعلبة كنوزك؟»
رد إيزاك منحنِيًا: «إنها ابنتي ريبيكا، في خدمة سموك.»
قال جون وهو يُجلجل من الضحك: «إنك رجلٌ حكيم، ولكن سواءٌ كانت ابنتك أو زوجتك فستحظى بالتفضيل بسبب جمالها ومزاياها.» واستكمل كلامه مادًّا عينَيه إلى الرواق مُتسائلًا: «مَن يجلس بالأعلى هناك؟ وُضعاء ساكسونيون مسترخون مُمدَّدون! عارٌ عليهم! لتجعلوهم يجلسون مُتقاربين، وليُفسحوا مكانًا لأمير المُرابين وابنته الجميلة. سأجعل الفلاحين يعلمون أنه يجب عليهم أن يتقاسموا الأماكن العليا من المعبد مع من ينتمون حقًّا إليه.»
هؤلاء الذين كانوا يشغلون الرواق، الذين وُجِّه إليهم هذا الكلام المهين وغير المهذَّب، كانوا عائلة سيدريك الساكسوني، ومعهم حليفه وقريبه أثيلستان من كوننجزبيرج؛ تلك الشخصية البارزة التي، نظرًا إلى انحدارها من آخر ملوك إنجلترا الساكسونيين، حظي بأعلى درجات الاحترام من جميع الساكسونيين الأصليين لشمال إنجلترا.
كان هذا هو الشخصَ الذي وجَّه إليه الأمير أمره المُستبد بإفساح مكان لإيزاك وريبيكا. لم يكن أثيلستان، الذي أربكه الأمر تمامًا، يرغب في الإذعان، لكنه، مُترددًا بشأن كيفية المقاوَمة، لم يُعارض رغبة جون إلا بالسلبية. ودون أن يتحرك فتح عينَيه الرماديتين الكبيرتين وحدَّق في الأمير مذهولًا.
قال جون مُخاطبًا الفارسَ الذي كان يمتطي جوادًا بالقرب منه: «إن الخنزير الساكسوني إما أن يكون نائمًا أو لا يعبأ بي. انخزه برُمحك يا دي براسي.» مد دي براسي رمحه الطويل فوق الفراغ الذي يفصل الرواق عن ساحة النزال، وكاد يُنفذ أوامر الأمير لولا أن سيدريك استلَّ بسرعة البرق سيفه القصير من غمده، وبضربةٍ واحدة فصل ذؤابة الرمح عن مقبضه. احتدم الدم في وجه الأمير جون؛ فأقسم أغلظ أيمانه، وكان على وشك التلفظ بتهديد على قدر عنفه، ولكن حال دون ذلك هُتافٌ عام من الحشد وسط تصفيقهم الحاد إعجابًا بسلوك سيدريك الجريء. أدار الأمير عينيه في سخط، وصادَف أن تلاقت عيناه مع نظرةٍ ثابتة من أحد الرُّماة، الذي بدا عازمًا على الاستمرار في التهليل، على الرغم من نظرة العبوس التي نظرها له الأمير، فسأله عن سبب هذا الصخب.
قال اليَومَن: «دائمًا ما أهتف عندما أرى رميةً جيدة أو ضربةً شجاعة.»
رد الأمير: «أحقًّا ما تقول؟ إذن يُمكنك إصابة العلامة البيضاء في هدفٍ ما بنفسك، أؤكد لك ذلك.»
رد اليَومَن: «يُمكنني أن أصيب علامة رجل غابة، ومن المسافة التي يُصيبها منها رجل الغابة.»
قال جون: «بحق القديس جريزيل، سنختبر مهارة ذلك الرجل المُستعد تمامَ الاستعداد للهُتاف للأعمال البطولية للآخرين.»
قال اليَومَن برباطة جأش اتَّسم بها سلوكُه بالكامل: «لن أهرب من الاختبار.»
قال الأمير الثائر: «الآن، فلتقِفوا أيها الوضعاء الساكسونيون؛ لأنه، بحق نور السموات، سيتخذ اليهودي مقعدًا بينكم؛ بما أنني قد قلت بذلك!»
قال اليهودي: «لن يحدُث ذلك مطلقًا! ولتأذن لي سموك! فلا يليق بأمثالنا أن يجلسوا مع حكام الأرض.»
قال الأمير جون: «قِف أيها الكلب الكافر عندما آمرُك، وإلا سلخت جلدك الأسمر وصنعت منه سرجًا لحصاني!»
ومن ثَم بدأ اليهودي، مدفوعًا، يصعد الدرَج المائل الضيق الذي كان يقود إلى الرواق.
قال الأمير مُثبتًا عينيه على سيدريك: «لِأرَ من يجرؤ على إيقافه!»
ولكن وامبا هبَّ ووقف بين سيده وإيزاك وهتف، ردًّا على تحدي الأمير قائلًا: «بحق العذراء مريم، أنا سأفعل!» قال هذا وهو يقف في مواجهة لحية اليهودي دافعًا نحوه بقطعة من لحم الخنزير أخرجها من تحت عباءته. تراجَع اليهودي عندما شهد إهانة قومه أسفل أنفه مباشرةً، بينما كان المهرِّج في الوقت نفسه يلوِّح بسيفه الخشبي أعلى رأسه، فزلَّت قدما اليهودي وتدحرج على الدرَج، فكان أُضحوكةً ممتازة للمشاهِدين الذين ضجُّوا بالضحك، وضحك معهم الأمير جون وأتباعه من أعماق قلوبهم.
قال وامبا: «امنحني الجائزة يا قريبي الأمير.» وأضاف ملوِّحًا بلحم الخنزير في يد وبالسيف الخشبي في اليد الأخرى: «فقد هزمت خَصمي في قتالٍ عادل بالسيف والدرع.»
قال الأمير جون وهو لا يزال يضحك: «من أنت وماذا تعمل أيها البطل النبيل؟»
ردَّ المهرِّج: «أنا مهرِّج بالوراثة؛ اسمي وامبا بن ويتليس بن ويثيربرين، الذي كان ابنًا لأحد شيوخ البلد.»
قال الأمير جون: «أفسِحوا مكانًا لليهودي أمام الحلقة الدنيا؛ فإنه مما يُناقض شعارات النبالة أن يجلس المهزوم بجوار المنتصر.»
رد المهرِّج: «وأسوأ منه أن يجلس وغد مع أحمق، والأسوأ على الإطلاق أن يجلس يهوديٌّ وأمامه لحم خنزير مقدَّد.»
صاح الأمير جون: «شكرًا جزيلًا أيها التابع الصالح؛ فقد أسعدتني. إذن، فلتُقرِضني يا إيزاك حفنة من العملات البيزنطية.»
بينما كان اليهودي يتحسَّس حقيبته المبطَّنة التي كانت معلَّقة في حزامه، وربما كان يُحاول إخراج أقل عدد من العملات يمكن أن يُمثل حفنة، مال الأمير من فوق فرسه، وأنهى حيرة إيزاك بانتزاعه كيسَ النقود ذاته من جانبه، ورمى إلى وامبا بقطعتين ذهبيَّتين مما كان في الكيس، ثم تابَع سيره حول ساحة النزال.