الفصل السابع
توقَّف الأمير جون فجأةً أثناء مسير موكبه، ونادى على رئيس دير جورفولكس، مُعلنًا أن المهمة الرئيسة لذلك اليوم قد أُغفِلت.
قال: «بحق الكنيسة، لقد نسينا يا رئيس الدير أن نختار ملكةَ الحب والجمال الجميلة، التي ستُسلم الجائزة بيدها البيضاء. من ناحيتي، أنا متحرِّر في أفكاري، ولا يُهمني إن أعطيت صوتي لريبيكا ذات العينين السوداوين.»
قال دي براسي: «كلا، كلا. فلنترك عرش الملكة الجميلة شاغرًا حتى يُعلن عن اسم المنتصر، ثم ليخترْ بنفسه السيدة التي ستشغله. سيُضْفي ذلك فضلًا آخر على انتصاره، ويُعلِّم السيدات الجميلات أن يُقدِّرن حب الفُرسان الشجعان، الذين يُمكنهم أن يُعلوا من شأنهن لمثل تلك المكانة.»
- أولًا: على المُتنافسين الخمسة أن يُنازلوا كلَّ من يتقدم للنزال.
- ثانيًا: يجوز لأي فارس يتقدم للنزال أن يختار، إن رغب في ذلك، خَصمًا معيَّنًا من بين المُتنافسين، وذلك بأن يمسَّ درعه. وإن فعل ذلك بمؤخرة رمحه يُعقَد اختبار للمهارات بما يُسمَّى الأسلحةَ التي لا ضرر منها؛ أي بالرماح المثبَّت في طرَفها قطعةٌ مستديرة ومسطَّحة من الخشب؛ ومن ثَم لا يتعرض المُتنافس لأي ضرر باستثناء ضربات الجياد وراكبيها، ولكن إذا مسَّ الدرع بطرف الرمح المدبَّب يتعيَّن على الفارسين النزالُ بأسلحةٍ حادَّة، كما في المعارك الحقيقية.
- ثالثًا: عندما يفي الفُرسان الحاضرون بقسَمهم، بأن يكسر كلٌّ منهم خمسة رماح، يُعلن الأمير اسم المنتصر في اليوم الأول للمباراة، والذي سينال جائزةً عبارة عن جواد حرب بالغ الجمال ولا يُضاهى في قوَّته، وسينال الشرف المُتفرد بإعلان اسم ملكة الحب والجمال، التي ستمنح الجائزة في اليوم التالي.
- رابعًا: يُعلَن أنه في اليوم الثاني ستُعقَد مباراةٌ عامة يُمكن لجميع الفُرسان أن يُشاركوا فيها؛ وبتقسيمهم إلى مجموعتين، من عددين مُتساويين، يتقاتلون ببسالة حتى يُعطي الأمير جون الإشارة بوقف القتال، ثم تُتوج ملكة الحب والجمال المختارة الفارس الذي يُقرر الأمير أنه كان الأفضل في اليوم الثاني؛ وذلك بإكليلٍ مكوَّن من صفيحةٍ ذهبية رفيعة مَصوغة على شكل إكليل غار.
وأخيرًا، فُتِحت الحواجز، وتقدَّم خمسة فُرسان، اختِيروا بالقُرعة، ببطء إلى ساحة النزال، يتقدَّمهم أحدُ المُتنافسين مُنفردًا على جواده، ويتبعه الأربعة الآخرون في زوجَين. تقدَّموا نحو المرتفَع الذي كانت منصوبةً عليه خيامُ المتنافسين، وهناك تفرَّقوا لامسًا كلٌّ منهم برفق، وبمؤخرة رمحه، درعَ الخصم الذي يرغب في منازلته.
بعدما أفصح الأبطال عن غرضهم السلمي، انسحبوا إلى طرف ساحة النزال، التي ظلوا فيها يتراجعون في صفٍّ واحد، بينما انطلق المتحَدُّون كلٌّ منهم من سرادقه وامتطَوا جيادهم، يتقدمهم براين دي بوا جيلبرت، وهبطوا من فوق المرتفَع، وواجَه كل واحد منهم الفارسَ الذي كان قد لمس درعه.
عندما نُفِخ في الأبواق والنفير انطلقوا عدْوًا بجيادهم كلٌّ منهم في مواجهة الآخر، وكان المتحدُّون يمتلكون براعةً فائقة أو حظًّا حسنًا، جعل خصوم بوا جيلبرت ومالفوازان وفرونت دي بوف يسقطون أرضًا. احتفظ الفارس الخامس وحده بشرف مجموعته، وابتعد عن رالف دي فيبوان، فارس القديس جون، وقد حطَّم كلٌّ منهما رمح الآخر دون تفوُّق لأحد منهما على الآخر.
نزلَت الميدانَ مجموعةٌ ثانية وثالثة من الفُرسان. وعلى الرغم من تحقيقهم لنجاحاتٍ متنوعة، ففي المجمَل ظل التفوق بلا جدال للمتحدين الذين لم يَسقط أحد منهم من فوق جواده أو ينحرف عن مهمته، وهي تلك البلايا التي وقعت لواحد أو اثنين من خصومهم في كل مواجهة؛ ولذلك بدَت معنويات خصومهم في تدهورٍ كبير بسبب استمرار نجاحهم. بعد هذا توقَّف النزال لفترةٍ طويلة، ولم يَبدُ خلالها أن أحدًا كان راغبًا في العودة إلى النزال.
وأخيرًا، بينما كانت موسيقى المتحدين العربيةُ تختتم إحدى مقطوعاتها الطويلة والعالية التي كسروا بها صمت ساحة النزال، أجابها صوتُ نفير وحيد، أظهر إعلانًا عن تحدٍّ آتٍ من الطرف الشمالي، وما إن فُتِحت الحواجز حتى انطلق بطلٌ جديد إلى ساحة النزال. لم يكن المُغامر يتجاوز كثيرًا في حجمه رجلًا متوسط الحجم، وبدا أقربَ إلى النحافة من القوة. كان لباسه المدرَّع مصنوعًا من الصلب الموشَّى بغزارة بالذهب، ومرسومًا على درعه شعارُ شجرة بلوط فتية مقتلَعة من جذورها، مع كلمة باللغة الإسبانية معناها «محرومٌ من الميراث».
صعد المرتفع عن طريق الممر المنحدِر الذي يؤدي إليه من ساحة النزال، وقاد جوادُه مباشرةً إلى السُّرادق المركزي، ثم ضرب بالنهاية الحادَّة لحربته درعَ براين دي بوا جيلبرت حتى تردَّد صدى صوته. وقف الجميع مذهولين من جُرأته، ولكن كان أكثرهم ذهولًا كان الفارسَ المُخيف الذي كان واقفًا غيرَ آبهٍ عند باب سُرادقه؛ إذ كان بذلك قد تحدَّاه لقتالٍ مُميت، ولم يكن يتوقع أن يتحداه أحد بهذه الوقاحة.
قال فارس الهيكل: «هل مارست طقس الاعتراف يا أخي؟ وهل سمعتَ عِظةً هذا الصباح حتى تُخاطر بحياتك بهذه الجرأة؟»
أجاب الفارس المحروم من الميراث: «أنا جاهز لمُلاقاة الموت أكثر منك.»
قال براين: «إذن فلتأخذ مكانك في ساحة النزال، ولتُلقِ نظرتك الأخيرة على الشمس؛ لأنك ستنام الليلة في الفردوس.»
أجاب الفارس المحروم من الميراث: «شكرًا جزيلًا على مجامَلتك؛ وردًّا عليها أنصحك بأن تأخذ جوادًا نشيطًا ورمحًا جديدًا؛ لأنك، وأُقسم بشرفي على ذلك، ستحتاج إلى كلَيهما.»
بعدما عبَّر عن نفسه بثقة هكذا كبح جواده، ونزل به متقهقرًا المنحدرَ الذي كان قد صعده، وأجبره بالطريقة نفسها على التراجع للوراء عبر ساحة النزال، حتى وصل إلى الطرف الشمالي، حيث ظل ثابتًا مَنتظرًا خَصمه.
لم يتجاهل براين دي بوا جيلبرت نصيحة خَصمه؛ فاستبدل بجواده جوادًا مُجرَّبًا وجديدًا شديدَ القوة والنشاط. واختار رمحًا جديدًا ومتينًا؛ خشيةَ أن يكون خشب رمحه القديم قد الْتَوى في المواجهات السابقة التي كان قد ثبت فيها. وأخيرًا، وضع جانبًا درعه الذي كان قد لحقت به بعض الأضرار، وتلقَّى درعًا آخر من تابعه.
عندما وقف البطلان وجهًا لوجه في طرفَي ساحة النزال، كان ترقُّب الجماهير في أعلى درجاته. ولم يتوقع سوى قليل منهم أن تنتهيَ المواجَهة لصالح الفارس المحروم من الميراث، ولكن شجاعته وبسالته كانتا ضمانًا لآمال المُشاهِدين العريضة.
لم تكَد الأبواق تُعطي الإشارة حتى اختفى المُحاربان من مكانَيهما بسرعة البرق، وتقابلا في مركز ساحة النزال بقوة الصاعقة. تفجَّر الرمحان حتى مقبضَيهما إلى شظايا، وبدا في تلك اللحظة أن الفارسَين قد سقطا؛ حيث كانت الصدمة قد جعلت كلا الجوادَين يتراجعان ويسقطان على رجلَيهما الخلفيتَين. استعاد الفارسان زِمامَي جوادَيهما ببراعة باستخدام اللِّجام والمِهماز، وحدَّق كلٌّ منهما في الآخر للحظة، حيث بدَت عيناهما تقدحان بالشرر عبر قضبان خوذتيهما، ودار كلٌّ منهما نصف دورة، مُتراجعًا إلى طرَف ساحة النزال ليأخذ رمحًا جديدًا من تابعيه.
أطلق المشاهدون صيحةً عالية، ملوِّحين بالأوشحة والمناديل، وهُتافاتٍ جماعيةً دلَّت على مدى اهتمام المشاهدين بالمواجهة التي كانت الأكثرَ تكافؤًا والأفضلَ أداءً؛ مما زاد اليوم بهاءً، ولكن ما إن عاد الفارسان إلى مكانَيهما حتى خمد صخب التصفيق، وحل مكانَه الصمتُ العميق والمُميت، حتى بدا أن الجماهير كانوا يخشون حتى أن يتنفَّسوا.
سُمِح ببضع دقائق من التوقف حتى يستعيد المُتنافسان وجواداهما أنفاسَهم، ثم أشار الأمير جون لحاملي الأبواق بعصاه أن يُعلنوا بدء الهجوم. اندفع البطلان للمرة الثانية من مكانيهما، والتقيا في مركز ساحة النزال بنفس السرعة والبراعة والعنف، ولكن ليس بالحظ المُتساوي ذاته كما في الجولة الأولى.
في هذه المواجهة الثانية صوَّب فارس الهيكل رمحه نحو مركز درع خَصمه، وضربه ببراعة وقوة شديدتَين، حتى إن رمحه استحال إلى شظايا، وترنَّح الفارس المحروم من الميراث على سَرجه. من الناحية الأخرى، كان ذلك البطل، منذ بداية مسعاه، قد وجَّه طرفَ رمحه نحو درع براين، ولكنه غيَّر هدفه في اللحظة الأخيرة تقريبًا من المواجهة، ووجَّهه نحو خوذته، وهي بقعةٌ أصعب في إصابتها، ولكنها لو أُصيبَت تكون صدمتها أصعبَ في احتمالها. ببراعة وإحكام، أصاب النورماندي في قناع خوذته، حيث بقي طرف رمحه معلَّقًا في قضبانها، ولكن حتى مع هذا الضرر أبقى فارس الهيكل على سُمْعته الرفيعة، ولو لم ينقطع حزام سرجه لما سقط من فوق صهوة جواده، غير أنه تصادَف أن سقط السرج والجواد والرجُل على الأرض وسط سحابة من الغبار.
ولم يستغرق تحرير فارس الهيكل لنفسه من السرج وجواده الذي سقط إلا الجهد الجهيد للحظة، وإذ مسَّه جنون الغضب سحب سيفه ولوَّح به مُتحديًا قاهره، فوثب الفارس المحروم من الميراث من فوق جواده، واستلَّ هو الآخر سيفه، لكن منظمَي الميدان استحثَّا جوادَيهما وفصَلا بينهما، وذكَّراهما بأن قوانين المباراة لم تكن تسمح، في تلك المناسبة، بهذا النوع من المواجهات.
قال فارس الهيكل رامقًا خَصمه بامتعاض: «أنا واثق من أننا سنلتقي مرةً أخرى؛ وعندها لن يكون ثَمة أحدٌ ليفصل بيننا.»
قال الفارس المحروم من الميراث: «إن لم نلتقِ فلن يكون الخطأ خطئي. وسواءٌ كنا على أقدامنا أو على صهوة جوادَينا، وبرمح أو بَلطة أو سيف، أنا على أتم الاستعداد لمواجهتك كهذه المرة.»
كان من الممكن أن يتبادلا المزيد من الكلمات الأشد غضبًا، لكن المنظمَين حالا بينهما برُمحَيهما المُتقاطعين، فأجبراهما على أن ينفصل بعضهما عن بعض. فرجع الفارس المحروم من الميراث إلى مكانه الأول، ورجع براين إلى خيمته حيث ظل قابعًا بقية اليوم يتجرع مرارة الأسى.