الفصل الثامن
دون أن يترجَّل عن حِصانه طلب المنتصر إناءً من النبيذ، ثم فتح قِبال خوذته، أو جُزْأها الأسفل، مُعلنًا أنه قد تجرَّعه، قائلًا: «إلى جميع القلوب الإنجليزية الأصيلة، ومن أجل إرباك الطغاة الأجانب.» بعد ذلك طلب من حامل بوقه أن يصدع بتحدٍّ لمن يرغب في نزاله، وقال لمُنادٍ أن يُعلن لهم أنه ينوي مواجهتهم بالترتيب الذي يريدون أن يتقدَّموا به لمواجهته.
كان العملاق فرونت دي بوف، مسلَّحًا بدرعٍ أسود، هو أول مَن نزل الميدان. تفوَّق الفارس المحروم من الميراث على هذا البطل تفوقًا يسيرًا، ولكنه كان حاسمًا. تحطَّم رُمحا كلا الفارسَين إلى حدٍّ ما، لكن فرونت دي بوف، الذي زلَّت إحدى قدمَيه عن الرِّكاب في المواجَهة، اعتُبر مهزومًا.
انتصر الغريب أيضًا في مواجهته الثالثة مع السيد فيليب مالفوازان؛ إذ ضُرِب ذلك البارون بقوةٍ شديدة على خوذته فكُسِرت أربطتها، وكل ما تمكَّن مالفوازان من فعله هو أن تجنَّب السقوط بلا خوذة، ولكن هزيمته قد أُعلِنت كرُفقائه.
في نزاله الرابع مع دي جرانتمسنيل، أظهر الفارسُ المحروم من الميراث من حسن الأخلاق القدرَ نفسه الذي كان قد أظهره حتى هذه اللحظة من البسالة والبراعة. رفع جوادُ دي جرانتمسنيل، الذي كان يافعًا وعنيفًا، رجلَيه الأماميتين واندفع بسرعةٍ بالغة في مساره، فشتَّت هدف راكبه، ورافضًا أن يستغلَّ الميزة التي منحها له هذا الحادث رفع الغريب رمحه ومرَّ بخَصمه دون أن يمسَّه، عائدًا بجواده إلى مكانه في ساحة النزال، مقدمًا لخصمه، عبر المُنادي، فرصة خوض مواجهة ثانية. ولكن دي جرانتمسنيل رفض معترفًا بأن حسن أخلاق خصمه قد هزمه بقدر ما هزمته مواجهته معه.
جاءت مواجهة رالف دي فيبوان ختامًا لقائمة انتصارات الفارس الغريب؛ فقد اندفع على الأرض بقوةٍ بالغة حتى إن الدم تفجَّر من أنفه وفمه، وقد حُمِل فاقدًا للوعي خارج الحلبة.
هلَّلت الآلاف بالجائزة الناتجة عن إجماع الأمير والمنظمَين، الذين أعلنوا أن من فاز بهذا اليوم هو الفارس المحروم من الميراث.
كان القائمان على النظام في الميدان هما أولَ من قدَّموا تهانيَهم للمنتصر، وطلبا منه أن يرفع خوذته قبل أن يقوداه لتلقِّي جائزة مباراة اليوم من يدَي الأمير جون. رفض الفارس المحروم من الميراث طلبهما بكل ما تُمليه عليه أخلاق الفُرسان من تهذيب، زاعمًا أنه لا يُمكنه الآن أن يتحمل عواقب أن يُرى وجهه؛ وذلك لأسبابٍ سبق أن أوضحها للمُنادين عندما دخل إلى ساحة النزال. اقتنع المنظِّمان تمام الاقتناع بهذا الرد؛ ولذلك لم يضغطوا عليه أكثر لمعرفة سره، وبعد أن أبلغا الأمير جون برغبة المنتصر في أن يظل غير معروف، طلبا السماح بالإتيان به أمام سموه حتى يتلقى جائزة شجاعته.
كان جون مُستاءً من نتيجة المباراة؛ حيث هُزم المتَحدُّون الذين فضَّلهم واحدًا تلو الآخر على يد فارس واحد، فأجاب المنظمَين بغطرسة قائلًا: «بحق نور جبين السيدة العذراء، لقد حُرِم هذا الفارس من الكِياسة كما حُرِم من أرضه؛ ما دام يرغب في الظهور أمامنا دون أن يكشف عن وجهه.»
تعالى همسٌ بين الحاشية، ولكن لم يكن ليُجزَم بمصدره الأول. قال قائل: «قد يكون الملك، قد يكون ريتشارد قلب الأسد نفسه!» فقال الأمير جون، وقد صار وجهه، على الرغم منه، شاحبًا كالموتى: «أسأل الربَّ ألا يكون كذلك! والديمار! دي براسي! أيها الفارسان الشجاعان والرجلان النبيلان، تذكَّرا وعودكما وشُدا بصدقٍ مِن أزري!»
قال والديمار فيتزورس، أحد أهم تابعيه: «ليس ثَمة خطرٌ وشيك. هل أنت ذو إلمام يسير بأعضاء ابن أبيك الضخمة لدرجة أن تظنَّ أنه يُمكن أن تُناسبها بدلةٌ مدرَّعة كهذه؟ انظر إليه من كثب يا صاحب السمو، وستُلاحظ أنه يقلُّ طولًا عن الملك ريتشارد بثلاث بوصات وضعف ذلك في عرض كتفَيه، كما أن الجواد الذي يمتطيه لا يُمكنه أن يحمل وزن الملك ريتشارد ولو لجولةٍ واحدة.»
بينما كان يتحدث جلَب المنظِّمان الفارس المحروم من الميراث وجعلوه يتقدَّم إلى أسفل درج خشبي، يصل صعودًا من الحلبة إلى عرش الأمير جون. وبمديحٍ قصير لشجاعته، قُدِّم له جواد الحرب المخصَّص للجائزة. لم ينبس الفارس المحروم من الميراث ببنت شفة ردًّا على مديح الأمير له، الذي اكتفى بالتعبير عن تقديره له بانحناءة احترام عميقة.
قاد الجوادَ إلى ساحة النزال سائسان بملابس فخمة، وكان الجواد نفسه مجهَّزًا تجهيزًا كاملًا بعتاد حرب من أفخم ما يُمكن. واضعًا إحدى يدَيه على مقبض السرج، قفز الفارس المحروم من الميراث في الحال على ظهر الفرس دون أن يستعين بالرِّكاب، ودار دورتَين حول ساحة النزال رافعًا رمحه عاليًا، ومُستعرضًا مزايا الجواد وخطواته بمهارةِ خيَّال مثالي.
استُبعد عن ذلك العرض مظهرُ الخُيلاء، الذي قد يُميز مثلَ تلك العروض، بفضل اللياقة التي ظهرت في عرضِ أفضلِ ما يُميز جائزة الأمير التي نال شرف منحه إياها للتَّو.
بعدئذٍ حان الوقت الذي يجب فيه على المنتصر أن يُظهر حكمه الصائب، وليس بسالته، باختياره، من بين الجميلات اللواتي كانت تتزيَّن بهنَّ الأروقة، سيدةً تعتلي عرش ملكة الجمال والحب. وعلى ذلك، أشار الأمير بعصاه، عندما مرَّ عليه الفارس في مساره الثاني حول ساحة النزال. التفت الفارس نحو العرش، وخفض رمحه حتى أصبح سنُّه على مسافة قدم واحدة من الأرض، وظل بلا حَراك كما لو كان ينتظر أوامر جون، بينما كان الجميع معجَبين بما أظهره من براعةٍ مُفاجئة في تحويل جواده الهائج على الفور من حال عنف واهتياج شديد إلى حال السكون.
قال الأمير جون: «أيها السيد الفارس المحروم من الميراث، بما أن ذلك هو اللقب الوحيد الذي يُمكننا مخاطبتك به، إن من واجبك الآن، وكذلك تشريفًا لك، أن تختار السيدة الجميلة التي، بصفتها ملكة الشرف والحب، ستترأَّس مهرجان الغد. إنه حقٌّ مقصور عليك أنت وحدك أن تمنح هذا التاج لمن تُريد؛ وبمنحك إياه للسيدة التي تختارها فإن انتخاب ملكة الغد سيكون رسميًّا وتامًّا. ارفع رمحك.»
أطاع الفارس الأمر، ووضع الأمير جون على ذؤابة الرمح إكليلًا من الساتان الأخضر حول حافَّته دائرة من الذهب، وكانت حافَّته العليا مُزْدانةً برءوس سهام وقلوب موضوعة بالتبادل.
سار الفارس المحروم من الميراث ببطء راكبًا جواده، بقدر ما كان في السابق مُسرعًا على صهوته حول ساحة النزال، وأخيرًا توقَّف أسفل الشُّرفة التي كانت فيها الليدي روينا.
كان سيدريك الساكسوني، الذي كان مُغتبطًا للهزيمة التي لحقت بفارس الهيكل، وجاره الشرير فرونت دي بوف، قد مال بنصف جسده العُلوي من الشُّرفة، مُرافقًا المنتصرَ في كل جولة، ليس فقط بعينيه، ولكن بكل قلبه وروحه. كانت الليدي روينا قد شاهدت أحداث اليوم بانتباهٍ مُماثل، غير أنها لم تُفصح عن الاهتمام الشديد ذاته بوضوح.
كان ثَمة جمعٌ آخر، يجلس أسفل الرواق الذي يشغله الساكسونيون، قد أظهر القدرَ نفسه من الاهتمام بما سيُسفِر عنه اليوم.
قال إيزاك أوف يورك، أثناء الجولة الأولى: «يا أبانا إبراهيم! كم هو عنيفٌ هذا المسيحي في ركوبه لجواده! آه، يا للجواد الأصيل الذي جُلِب كل هذه المسافة الطويلة من الساحل البربري! إنه لا يُوليه رعايةً أكثر مما لو كان مُهْر حمار بري.»
قالت ريبيكا: «إن كان يا أبي يُخاطر بنفسه وأطرافه في معركةٍ مُميتة كهذه، فلا يُمكن أن يُتوقَّع منه أن يعبأ بجواده ودرعه.»
رد إيزاك، غاضبًا بعض الشيء: «يا بُنيَّتي! إنكِ لا تعلمين شيئًا عما تتحدثين عنه؛ فعُنقه وأطرافه ملكٌ له، أما جواده ودرعه فملك ﻟ … بحق يعقوب المقدَّس! ماذا كنتُ على وشك أن أقول؟! ومع ذلك، فهو شابٌّ صالح. اسمعي يا ريبيكا! اسمعي، إنه على وشك أن يذهب مرةً أخرى ليُقاتل الفلسطينيين. صلِّي يا بُنيَّتي، صلِّي من أجل سلامة الشاب الصالح، والجواد السريع والدرع الثمين.» ثم هتف مرةً أخرى قائلًا: «يا إله آبائي! لقد انتصر وسقط الفلسطيني أمام رمحه، تمامًا كما سقط عُوج ملك باشان وسِيحُون ملك الأَمُوريِّين أمام سيف آبائنا! بالطبع سيأخذ ذهبهم وفِضتهم وجيادهم الحربية ودروعهم المصنوعة من النُّحاس والصلب مكسبًا وغنيمةً.»
كان اليهودي الوجيه يُبدي التوتر نفسه خلال كل جولة كان يجري فيها.
ظل بطل اليوم ساكنًا لأكثرَ من برهة، ثم تدريجيًّا وبرشاقةٍ أخفض ذؤابة رمحه، ووضع الإكليل الذي كان يحمله عند قدمَي الجميلة روينا. نُفِخ في الأبواق على الفور، بينما أعلن المُنادون الليدي روينا ملكة الجمال والحب لليوم التالي، مهدِّدين بالعقوبات المناسبة من لم يُطِع سلطتها.
سرَت بعض الغمغمة بين الفتيات اللواتي ينحدرن من أصولٍ نورماندية، ولكن صياح الجماهير «تحيا الليدي روينا ملكة الحب والجمال المختارة والشرعية!» حجب أصواتَ السخط هذه، وأضاف إليه كثيرون من المنطقة السفلية قائلين: «تحيا أميرة الساكسونيين! تحيا سلالة ألفريد الخالد!»
على الرغم من أن هذه الأصوات لم تلقَ استحسانًا لدى الأمير جون ومن حوله، وجد نفسه، مع ذلك، مُلزَمًا بالتصديق على ترشيح المنتصر؛ ومن ثَم غادَر عرشه بعد أن طلب مطيَّته، ودخل ساحة النزال مرةً أخرى مُمتطيًا حصانه الإسباني الصغير ومصحوبًا بحاشيته.
وكَز حصانه بالمِهماز، وجعله يقفز للأمام نحو الرواق الذي كانت تجلس فيه روينا، حيث كان التاج لا يزال عند قدميها.
قال: «تقلَّدي يا سيدتي الجميلة رمز سيادتكِ الذي لا يفوقنا، نحن جون أوف أنجو، إخلاصًا في نذور ولائنا له أحد، وإن أردتِ اليوم، أنتِ وأقاربكِ وأصدقاؤكِ النبلاء، أن تُشرِّفي مأدبتَنا في قلعة آشبي، فأعلمينا لنُخبر الإمبراطورة التي سنُكرس الغد لخدمتها.»
ظلَّت روينا صامتةً، وأجاب سيدريك عنها بلغته الساكسونية الأصلية.
قال: «لا تعلم السيدة روينا اللغة التي تردُّ بها على مجامَلتكم، أو التي تؤدي بها دورها في مهرجانكم. وأنا والنبيل أثيلستان أوف كوننجزبيرج كذلك لا نتحدَّث إلا لغة آبائنا، ولا نسلك إلا سلوكهم؛ لذلك نمتنع، مع الشكر، عن قَبول دعوة سموكم الكريمة إلى المأدبة. غدًا ستحمل السيدة روينا على كاهلها أعباء المنزلة التي أنزلها إياها الترشيح الحُر للفارس المنتصر، التي صدَّق عليها تهليل الجماهير.»