النبذة الثالثة: آل سعود منذ نشأتهم إلى حين استيلاء محمد بن الرشيد على نجد
سعود بن محمد بن مقرن | تُوفي ١١٤٠ﻫ / ١٧٢٧م | |
محمد بن سعود | تولَّى الإمارة بعد أبيه | توفي ١١٧٩ﻫ / ١٧٦٥م |
عبد العزيز بن محمد | تولَّى الإمارة ١١٧٩ﻫ / ١٧٦٥م | تُوفِّي ١٢١٨ﻫ / ١٨٠٣م |
سعود بن عبد العزيز | تولَّى الإمارة ١٢٠٢ﻫ / ١٧٨٨م | تُوفِّي ١٢٢٩ﻫ / ١٨١٣م |
عبد الله بن سعود | تولَّى الإمارة ١٢٢٩ﻫ / ١٨١٣م | تُوفِّي ١٢٣٤ﻫ / ١٨١٨م |
فترة الاستيلاء المصري | ||
محمد بن مشاري بن معمر ومشاري بن سعود | تنازعَا الإمارة نحو سنة ونصف سنة | |
تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود | تولَّى الإمارة ١٢٣٦ﻫ / ١٨٢٠م | تُوفِّي ١٢٤٦ﻫ / ١٨٣٠م |
مشاري بن عبد الله بن حسن بن مشاري بن سعود | حكم ٤٠ يومًا | |
فيصل بن تركي (الدور الأول) | تولَّى الإمارة ١٢٤٦ﻫ / ١٨٣٠م | تنزل ١٢٥٥ﻫ / ١٨٣٩م |
خالد بن سعود بن عبد العزيز | تولَّى الإمارة ١٢٥٥ﻫ / ١٨٣٩م | تُوفِّي ١٢٥٧ﻫ / ١٨٤١م |
عبد الله بن ثنيان بن سعود | تولَّى الإمارة ١٢٥٧ﻫ / ١٨٤١م | تُوفِّي ١٢٥٨ﻫ / ١٨٤٢م |
فيصل بن تركي (الدور الثاني) | تولَّى الإمارة ١٢٥٨ﻫ / ١٨٤٢م | تُوفِّي ١٢٨٢ﻫ / ١٨٦٥م |
عبد الله وسعود ابنَا فيصل | تنازعَا الإمارة تسع سنوات من ١٢٨٢ﻫ / ١٨٦٥م | إلى ١٢٩١ﻫ / ١٨٧٤م |
عبد الله بن فيصل | تولَّى الإمارة ١٢٩١ﻫ / ١٨٧٤م | تنزل ١٣٠٢ﻫ / ١٨٨٤م |
محمد بن الرشيد | تولَّى على نجد من ١٣٠٢ﻫ / ١٨٨٤م | إلى ١٣٠٧ﻫ / ١٨٨٩م |
عبد الرحمن بن فيصل | حكم نحو سنة | |
فترة الاستيلاء الرشيدي | نحو عشر سنوات | |
الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن | ١٣١٩ﻫ / ١٩٠١م |
آل سعود: الدور الأول – الفتوحات
في عهد السلطان أحمد الثالث (١١١٥–١١٤٣ﻫ / ١٧٠٣–١٧٣٠م) وقبله، أيام كانت بلاد الشام تئنُّ من مظالم الولاة وفظائع الإنكشارية، لم يكن للدولة العثمانية أثرٌ يُذكَر أو يُشكَر في شبه جزيرة العرب، ولكن شبه الجزيرة نفسها لم تكن في حالٍ تغبطُها عليه جارَتاها الشام والعراق؛ فقد كان الأشراف يحكمون في الحجاز وعسير، والسادة العلويون يحكمون في اليمن. وكان الأمراء وشيوخ القبائل كلٌّ في قُطْره وفي قبيلته يحكم مستقلًّا عن الأمراء الآخرين ومُعاديًا لهم في أكثر الأحايين.
وكانت بلاد نجد والأحساء من الشعرى إلى قطر والكويت ومن الأفلاج إلى جبل شمر مُقطَّعة الأوصال، مشتتة الأحوال لا صلة لقبيلة بأخرى تثمر خيرًا أو تدوم، ولا بين الحواضر المستقلة بعضها عن بعض صلات ولاء إلا نادرًا.
لم يكن — والحق يُقال — غير السيف فاصلًا واصلًا، ولم يكن غير الغزو سبيلًا إلى الاستيلاء، وسبيلًا رحبًا إلى الرزق والثراء.
بل قد كان القتل طمعًا بالاستيلاء من الأمور المألوفة. وهناك بيت من الشعر طالما سمعت أمراء العرب يتمثَّلون به:
هذا إذا استقام الأمر لأمير واحد فيحكم في الجميع حكمًا أبويًّا ركناه المساواة والحكمة. أما العدل فأمراء العرب على الإجمال يعرفونه ويعزِّزونه غالبًا في أحكامهم، ولكن القتل عندهم لا يكون دائمًا دون الحرمة والنفس، ولا يكون دائمًا من أجل المساواة والعدل. قد كان القتل على الإجمال الطريقَ الأقرب والأسهل إلى الاستيلاء والسيادة. أنا صاحب الرياض وأنت صاحب الدرعية، فإما أن أقتلَك أو أغلبك ثم أجلوك عن البلاد وأستولي عليها، وإما أن تفعل أنت ذلك فيكون لك فيَّ ما أريده فيك. السابق إلى القتل الفائز.
ولم يكن القسم الجنوبي من نجد الذي يُدعَى بالعارض ليخرجَ عن هذه القاعدة. فقد كانت بلدانه في حوزة أمراء من بيوت وقبائل شتى يتوالون ويتغازون عملًا بمصلحة، أو طمعًا بكسب، أو دفعًا لمحنة أو خطر. هذي هي اليمامة وهي في عزلة عن المنفوخة. وهذي هي المنفوخة وهي تابعة للرياض اليوم ولخصم الرياض غدًا. وهذي هي الرياض وهي مستقلة عن الدرعية، والدرعية وهي لا تُقرُّ بالسيادة لا للعيينة ولا للرياض وقِس على ذلك. أما المسافة بين أقصى البلدين من هذه البلدان فلا تتجاوز الخمسة والسبعين ميلًا.
أما أول مَن قاوم المجاهدين فهو كما أسلفت القول دهام بن دواس أو دياس صاحب الرياض. قد حدَثتِ المناوشات الأولى في المنفوحة، التي حمل عليها دهام؛ لأن بعض أهلها تمذهبوا بالمذهب الجديد، فبادر ابن سعود إلى الدفاع عنهم وعن بلدتهم. هذي هي فاتحة الحرب الدينية السياسية بين صاحب الدرعية وصاحب الرياض، ثم بين صاحب نجد وأصحاب الأقطار العربية الأخرى.
وقد انتصر أهل التوحيد انتصاراتِهم الأولى في البلدان المجاورة لهم بوادي حنيفة؛ أي في العيينة والجبيلة وحريملة وقُرَاها، ثم استمروا غازين متقدِّمين حتى وصلوا شمالًا إلى الزلفى وجنوبًا إلى الخرج. على أن المناوئين في وسط البلاد، في الوشم وسدير ظلوا يقاومونهم أكثر من عشرين سنة وهم يحالفون أعداءَهم الكبار مثل الدواس والعريعر عليهم.
قد كان سعود الأول إذا أخذ بلدًا يُولِّي عليه أحد أبنائه؛ أي أبناء ذاك البلد المتوجهين، كما فعل في العيينة التي كان عثمان بن معمر متوليًا الإمارة فيها لصاحب الحساء. فقد تذبذب عثمان وتردَّد بين صاحبه وبين الموحِّدين، فقُتل في المسجد بالدرعية فولَّى سعودٌ ابنَه مشاري بن معمر مكانَه. وذلك برأيه كما يقول ابن بشر: «لا برأي الناس الذين أرادوا انقراض بيت معمر.» وهذه الخطة التي اتخذها سعود الأول هي خطة الملك عبد العزيز اليوم.
قلت: إن أهل الوشم وسدير لم يقبلوا في أول الأمر التوحيد بل ظلُّوا يقاتلون أهله، ويعيثون في بلدانهم فيغرونهم على الردَّة. لولا ذلك لما تمكَّن ابن دواس من محاربة آل سعود ثلاثين سنة، فكان إذا ضاق في الجنوب ذرعًا يشغلهم بالدسائس في الشمال.
ولم تكن الوقعات في بادئ الأمر كبيرة، واشتد القتال في وقعة دلقة في قلب الرياض أمام القصر فقُتِل من الفريقين عشرون رجلًا. ولم تكن الغارات كلها ويلًا وثبورًا. شنَّ ابن سعود ورجاله الغارة على دهام في قصره بالرياض فرمَوه بالرصاص في عُلِّيَّتِه وخرجوا سالمين، كأنهم خرجوا إلى الصيد، وإن هي إلا نزهة في بعض الأحايين.
وفي هذه السنة سار المسلمون وأميرهم عبد العزيز إلى الرياض وجرتْ وقعة عظيمة على أهل الرياض تُسمَّى وقعة أم العصافير قُتل فيها أربعة من أهل الضلال ولم يُقتَل من المسلمين غير واحد، ثم انقلب المسلمون إلى بلادهم بعد تحصيل مرادهم.
«وقعة عظيمة» قُتل فيها «أربعة من أهل الضلال»، هذا الذي يحملني على الإعجاب بابن بشر. فهو المؤرِّخ العربي الوحيد — على ما أظن — الذي لا تصعد أرقامه في عدِّ الجيوش والقتلى إلى الآلاف، إلَّا في الفتوحات الكبرى التي سيجيء ذكرُها.
بعد محمد بن سعود وإخوانه الأنصار ظهر عبد العزيز بن محمد الذي شرع في عهد أبيه بشنِّ الغارات، فحمل رايات التوحيد إلى أقصى الأقطار العربية، وزرع بذور السيادة السعودية في البوادي والحضر، ولكنه على تعدُّد غزواته واتساع مجال جولاته، لم يكن غيرَ ممهِد السبيل لابنه سعود الفاتح الأول الأكبر.
وصل عبد العزيز في غزواته الغربية الجنوبية إلى وادي الدواسر (١١٧٨ﻫ / ١٧٦٤م)، فخرج عليه أهلُ نجران، فتقهقر إلى بلاد الخرج فتبعوه. وقد اصطدم الجيشان في حائر سبيع، فكانت الغلبة لأهل نجران الذين قتلوا أربعمائة من الموحِّدين. أما الفاجعة الأخرى في هذه الوقعة فهي أن دهام بن دواس الذي كان قد حالف آل سعود خذلهم، بل خانهم فانضم بجيشه إلى أهل نجران. ولما رجع عبد العزيز من هذه الوقعة الكبيرة عزَّاه الشيخ محمد بن عبد الوهاب قائلًا: لا تهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
في السنة التالية لوقعة حائر سبيع تُوفِّي الأمير محمد فبُويع على الإمامة ابنه عبد العزيز الذي ظلَّ يغزو الغزوة تلو الأخرى وأكثرها على الرياض حتى تمكَّن من فتحها بعد خمس سنوات من إمامته؛ أي في السنة السابعة والثمانين والمائة والألف، ففرَّ ابن الدواس هاربًا.
ولم يأتِ بعد ذلك بحركة تُزعج أهل التوحيد أو غيرهم من أهل نجد. مات دهام في الدلم على حاشية الربع الخالي المحرقة، وهو بعد هذه السنين الطوال يستحق الرحمة، فقد كان — رحمه الله — ثابتًا في النضال والضلال، ثابتًا في تصلُّبه وتقلُّبه.
بعد فتح الرياض بسنتين اجتاز عبد العزيز برجاله النفود فوصل إلى القصيم ووقف أمام بُريدَة فحاصرها ثم دخلها ظافرًا (١١٨٩ﻫ / ١٧٧٥م)، وكان قبل ذلك قد دحر مرارًا أعداء التوحيد الآخرين؛ أي عريعر بن دجين وابنه سعدون وعربانهم الحسويين والعراقيين، وغنم مدافعهم التركية التي جاءُوا بها من الحساء مُحمَّلة على الجِمال، ولم تُرضِه هذه الانتصاراتُ في بلاده فخرج يتتبع العريعر فغزَا الأحساء التي كانت يومئذٍ لبني خالد وعاد منها ظافرًا بغنائم كثيرة.
أما غزوة كربلاء التي ضجَّ لها المسلمون، خصوصًا الشيعة منهم، فقد أدَّت إلى اغتيال الإمام عبد العزيز وهو يصلي العصر في الجامع بالدرعية. قتله في شهر رجب من هذه السنة رجلٌ شيعي جاء من العراق متنكِّرًا كدرويش (١٢١٨ﻫ/١٨٠٣م)، وقيل إن الرجل كردي من أهل العمادية قُرْب الموصل، ولكن الرواية الأولى هي أقرب إلى الصواب.
وكان قبل وفاته بخمس عشرة سنة قد عيَّن ابنه سعودًا خلفًا له، فبايعه الناسُ إذ ذاك على الإمامة عملًا برأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولا عجب إذا اعتزل عبد العزيز العمل في شيخوخته، وهو الذي قضى أكثر من أربعين سنة من حياته في الغزو والحروب، فلا كَلَّ ولا مَلَّ، ولا قعد بعد هزيمة، ولا لهَا بعد انتصار. قد كان يزحف برجاله من أقصى البلاد إلى أقصاها في يومَي البؤس والنعيم، فيهب يومًا على حواشي الربع الخالي ويومًا في القصيم، يومًا في الحساء، ويومًا في السماوة بالعراق، وآخر في وادي الدواسر، كأنه من العناصر كالمطر أو السموم. وقد كان مطرًا للموحِّدين وسمومًا لأعدائهم، يغزو في بعض السنين ستَّ غزوات ويعود بالغنائم إلى الدرعية فيقسمها على السواء بين رجاله.
أما ابنه سعود فكان قد باشر الغزو قبل أن بُويع على الإمارة والإمامة، فظهرت فيه قوى التوحيد، توحيد الدين وتوحيد السيادة العربية، بأروع وأتم مظاهرها. هذا بالرغم عمن تظاهر عليه من الأعداء الأشداء، وقوة كلِّ واحد الحربية تفوق قوَّتي العريعر والدواس معًا. كيف لا وهم من ولاة الدولة العثمانية أو من حلفائها تُعضِّدهم وتمدُّهم بالسلاح والرجال، وبالذخيرة والمال.
ومن هؤلاء الأعداء الشريف غالب بن مساعد شريف مكة في ذلك الزمان؛ فقد كان على ما يظهر حائرًا في بداية أمرِه لا يريد أن يُعاديَ ابن سعود أو يواليه. ولكنه أظهر في الموالاة ميلًا مريبًا عندما كتب إلى عبد العزيز أبي سعود يسأله أن يُرسلَ إليه عالمًا من علماء نجد ليُفهمه دعوة ابن عبد الوهاب، فأرسل الإمام أحد قضاة نجد يحمل كتابًا من الشيخ إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، ولكن أولئك العلماء لم يرغبوا في مناظرة القاضي النجدي، ولا كانوا مع الشريف فيما أظهر من حبِّ المسالمة والولاء. وقد يكون هو المصانع وهم خدام قصده الحقيقي؛ إذ إنه شمَّر منذ ذاك الحين، وهذي هي الحقيقة التي لا ريب فيها عن ساعد العداوة لأهل نجد، فأرسل أخاه الشريف عبد العزيز بجيش من عرب الحجاز، وقد انضم إليه كثيرون من عربان شمر ومطير وقحطان ليهاجموا الدرعية. ولكنهم توقفوا في وادي السر، فحاصروا قصرًا من قصوره دون طائل، ثم جاء الشريف غالب نفسه ينجد أخاه، وعادوا بعد أربعة أشهر إلى الحجاز دون أن يُصيبوا مغنمًا.
ومن أعدائه سليمان باشا والي العراق الذي لم يكن في قصده مخاتلًا. فقد سيَّر العساكر إلى الأحساء لمحاربة أهل نجد فيها، وكان ابن سعود قد احتلَّ الهفوف والمبرز، فعادت عساكر الدولة مدحورة.
أما تويني بن عبد الله الذي كان عاملًا في المنتفق والبصرة، والذي انهزم مرارًا في حملاته على أهل نجد، فأمره عجيب. عندما عزله والي بغداد لجأ إلى عدوِّه الأمير عبد العزيز في الدرعية فأكرمه وأغدق عليه، ثم عاد فلجأ إلى الوالي سليمان عندما كان يجهِّز حملةً جديدة على آل سعود. جاء تويني متندِّمًا، ثم جاء متبجِّحًا: أنا الذي يجمع الأموال، ويقتل الرجال، وينتصر في كل حال. خُدِع الوالي ثانية وأمَّره على الجيش فجاء بالمدافع الضخمة يحاصر بُريدَة فحاصرها، وترك مثل عريعر مدافعه وكثيرين من رجاله تحت أسوارها.
الحرة! تلك المفازة البركانية وهي في حصاها المسنَّمة وحجارتها التي كالسياخ أكثر أهوالًا ممَّا وصف، وكان في وصفه صادقًا. إني أتخيَّل ابن سعود ورجاله يردِّدون دائمًا بيت ابن ثعلبة:
من سعود إلى سليم: أما بعدُ، فقد دخلت مكة في الرابع من محرم سنة ١٢١٨، وأمَّنت أهلها على أرواحهم وأموالهم بعد أن هدمت ما هناك من أشباه الوثنية، وألغيت الضرائب إلَّا ما كان منها حقًّا. وثبت القاضي الذي ولَّيته أنت طبقًا للشرع فعليك أن تمنع والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء بالمحمل والطبول والزمور إلى هذا البلد المُقدَّس، فإن ذلك ليس من الدين في شيء وعليك رحمة الله وبركاته.
بعد فتح مكة بسنتين استولى الوهابيون على المدينة، وكانت الدعوة أثناء ذلك؛ أي دعوة التوحيد دينًا وسياسة تنتشر في عسير واليمن حتى كادت تعمُّ تهامة بأسْرها. وكان الزعيمان عبد الرحمن أبو نقطة وطامي بن شعيب من أكبر حلفاء سعود هناك، فبايعتْه اللحية ثم الحديدة وبيت الفقيه، وكانت قد بايعتْه أشدُّ القبائل بأسًا، منها رجال ألمع في عسير وعرب اليام في نجران.
بعد فتح المدينة اتجهت أنظار أهل نجد إلى الشمال فوصلوا في غزواتهم إلى الجوف والبتراء (١٢٢٠ﻫ / ١٨٠٥م)، واجتازوهما إلى حوران والكرك، فوقفوا منتصرين عند أبواب الشام وفلسطين. وقد أرسل الإمام سعود كتُبًا إلى الولاة هناك يدعوهم فيها إلى دين الله، ولكنه في طموحه إلى بلاد الشام لم يكن ذاك الرجل الذي دوَّخ البلاد العربية كلَّها فدانت له العرب حتى على حواشي الربع الخالي في نجران وعمان. ومع أنه حاول أن يتخذ له أنصارًا من أولياء الأمر في سورية جريًا على طريقته في الاستيلاء، فإن منْعَه للحج ومعاملة رجاله للحجاج أفسدَا الأمر عليه. قال محمد كرد علي في كتابه خطط الشام: «خرج عبد الله باشا العظم (والي الشام يومئذٍ ١٢٢٠ﻫ) بالمحمل فحدثت بينه وبين الوهابيِّين أمورٌ عظيمة، فهلك عسكره وانتُهب الحاج.» وفي السنة التالية منع الإمام سعود الحجاج غير الموحِّدين عن الحج وأخرج من مكة مَن كان فيها من الترك. أضف إلى ذلك أنه لم يؤمِّن الأوروبيِّين الذين كانوا في جدة، فخرجوا منها سنة دخوله إلى مكة، وكانوا في مجرد عملهم ذاك حجة على حكمه.
أما الدولة العثمانية، وقد أصبح العدو على أبواب أغنى وأجمل ولاياتها، فلم تستطع في فساد أحوالها أن تقوم مباشرة بعمل خطير، ولكنها بعد أن كسر الوهابيون الجيوشَ التي أرسلها عليهم ولاتُها في العراق والشام أدارت بنظرها إلى مصر، فطلبتْ من محمد علي باشا أن يتولَّى بنفسه إنقاذَ الحرمين وإخراج أهل نجد من الحجاز.
قد تردَّد محمد علي في بادئ الأمر؛ لا لأنه لم يكن ليرغبَ فيه أو يستطيعه؛ بل لأن المماليك كانوا يومئذ مسيطرين وكان يخشى أن يترك البلاد وشئونها في أيديهم. أعاد الباب العالي الطلب مرارًا وقد هدَّد الباشا إذا كان لا يُذعن للأمر، والباشا راغب فيه، إلا أنه كان يتحيَّن الفُرَص، وقد رأى في الإذعان ثلاث فوائد كبرى لنفسه؛ الأولى: أنه يُبعِد جيشه الألباني غير المنظم الكثير التمرُّد فيتمكن أثناء غيابه من تنظيم جيش مدرب على الطريقة الغربية، والثانية: أنه يأخذ من الدولة الأموال التي كان في حاجة إليها بحجة لزومها لنفقات الحرب المقدَّسة، والثالثة: أن هذه الحرب تجمع عواطف المسلمين في العالم على حبِّه وولائه بصفته منقذَ الحرمين ومعيد مناسك الحج.
وفي هذه الأثناء كان الإمام سعود يحجُّ ورجاله كلَّ عام ويكسو الكعبة «بالقيلان الفاخر»، وكأنه تصالح والشريف غالب فآذنه بالعودة إلى مكة، وكان الاثنان يتزاوران ويتبادلان الهدايا. أما المؤرخ ابن بشر فهو لا يُحسن الظن بالشريف، وقد قال في هذه المهاداة: «وأعطاه غالب مثل ذلك خدعة والمؤمن غرٌّ كريم.» هي كلمة لا تخلو من حق، فقد كان الشريف غالب مستمرًّا في سعيه الخفي لإخراج سعود وجماعته من الحجاز.
تقهقر طوسون بما تبقَّى من جيشه المهزوم إلى ينبع، فأرسل منها يطلب النجدات.
وفي هذه السنة التي هي خاتمة المجد لآل سعود الأولين حجَّ الإمام سعود للمرة السادسة أو السابعة وكسا الكعبة على عادته بالقيلان والديباج الأسود، ثم طاف رجاله في أسواق مكة يردعون الناس عن الخبائث، وينهَون عن المنكر، فمَن رأوا منه عملًا مخالفًا للشرع أدَّبوه في الحال بموجب الأحكام الشرعية. وقد أدت هذه الشدَّة إلى الردَّة في بعض البوادي كما سيلي.
قال ابن بشر: إن الإمام سعودًا أرسل النجدات إلى المدينة وأمر بتحصينها ثم عاد إلى نجد، ولا نعلم السبب في عودته في مثل تلك الحال وهو يعلم أن طوسون مرابطٌ في ينبع ينتظر النجدات، وأن عرب الحجاز يتذبذبون بينه وبين أهل نجد وقد ينقلبون عليهم.
جاءت النجدات المصرية في السنة التالية، فأعاد طوسون الكرَّة على المدينة (١١٢٧ﻫ/١٨١٢م)، بعد أن احتلَّ ينبع النخل، وضمَّ إلى جيشه كثيرين من عرب جهينة وحرب، وقد كان في المدينة سبعة آلاف من أهل نجد فحاصرها المصريون حصارًا شديدًا دام خمسة وسبعين يومًا. صوَّبوا على القلعة المدافع، وحفروا إليها السراديب التي أشعلوا فيها تحت الأسوار البارود، ثم قطعوا عن المدينة المياه وجاءت الأمراض تساعدهم على المرابطين المحاصرين، بل قام الأهالي أيضًا على النجديِّين فأمسوا بين نارَين والوباء يساعد في حصادهم. مات منهم أربعة آلاف — قاله ابن بشر — قبل أن انفتحت أبواب المدينة للمصريين.
قد استبشر الشريف غالب بهذا النصر فباشر السعي جهرًا في تحقيق المقاصد التي كان يبطنها، ثم بدت في هذه السنة قرون الفتنة فانتشرت الردَّة في مكة والطائف (١٢٢٨ﻫ / ١٨١٣م)، فدخلهما طوسون بمساعدة الشريف بدون قتال، ولكن النكبات التي توالت على النجديِّين لم تُبقِ حتى على عدوِّهم الشريف. ولم ينجُ المصريون من أهوالها الطامية الجارفة. فقد مات منهم مئات بالوباء الذي كان حليفَهم على أعدائهم، وقد قُدِّرت خسارتهم كلها في الحملتَين بثمانية آلاف من الرجال، ثم جاء محمد علي نفسه بنجدات جديدة. جاء يُسرع بإنجاز العمل الذي باشره ابنُه وخسر فيه هذه الخسارة الجسيمة، فوصل إلى جدة في (٣٠ شعبان / ٣١ آب) من هذه السنة، فاستقبله فيها الشريف غالب مرحبًا مكرمًا ثم رافقه إلى مكة.
وعندما استقرَّ محمد علي هناك جازى الشريف في أن قبض عليه وعلى أولاده عملًا بأمر شاهاني كما ادعى وأرسلهم أسرَى إلى مصر، ثم حجز جميع ما كان في خزائن غالب من الذهب والفضة، وأخرج حرمه من قصر جياد، ونصب مكانه ابنَ أخيه الشريف يحيى بن سرور.
أما آل سعود فلم يكونوا أوفر حظًّا لدى القضاء من بيت عدوهم الشريف؛ فبعد أربعة أشهر من جلائهم؛ أي في ١١، وقيل في ٨ جمادى الأولى من السنة التاسعة والعشرين والمائتين والألف (٢ أيار سنة ١٨١٤) مات في الدرعية الإمام سعود وهو في الثامنة والستين من عمره. مات لا بالحُمَّى كما قال هوغارث نقلًا عن أحد المستشرقين الذين كانوا يومئذٍ في مكة، بل بعلَّة في المثانة، وقيل: بعلة أخرى هي نكبة أهل نجد في الحجاز التي عجَّلت ولا شك في أجَلِه. وقد كانت ولايته إحدى عشرة سنة إذا حسبناها من يوم وفاة والده عبد العزيز، وسبعًا وعشرين سنة إذا عُدَّت من يوم بُويع بالإمارة في السنة الثانية والمائتين والألف.
هو يُدعَى بالكبير، وقد خُصَّ بتلك السجايا أو بأكثرها التي تؤهِّل رجل التاريخ لهذا اللقب. فقد كان في عظمته متواضعًا، وفي حكمته ورِعًا، وفي عدله حليمًا، وفي سياسته جامعًا بين المرونة والمضاء. أضف إلى ذلك ذكاءً لم يكن عاديًّا، ولم يقف به عند حدِّ السياسة؛ فقد كان مولعًا بالعلم، محبًّا للعلماء وللطلاب، فلم يستنكف من عقد مجالس القراءة والتدريس في قصره وتحت مشارفته عندما يكون في العاصمة، بل كان هو يتولَّى التعليم في بعض الأحايين فيُدهش حتى العلماء بما كان يحسنه من علمَي التفسير والفقه، وبالرغم من تعدُّد مشاغله ومشاكل ملكِه البعيد الأرجاء كان يزور مجالس التدريس العامة، فيطلع على أعمال الطلبة ويجزي منهم الأذكياء المجتهدين.
وقد كان سعود كبيرًا في أخلاقه مثله في أعماله، لا يُنكر الفضل على ذويه وإن كانوا من أعاديه، ولا يقف في إحسانه ومكارمه عند شبهات النفس وأهوائها؛ مثال ذلك معاملته للشريف غالب على ما كان يُبطنه الشريف من الكيد والغل، فلو كان فاتح مكة غير سعود، لو كان محمد علي مثلًا، لما أَذِن للشريف بالعود إليها بعد أن فرَّ منها هاربًا إلى جدة.
أما في غزواته وفتوحاته فلم يكن ليخرج عن القاعدة أن الحرب خدعة، وللعرب في ذلك أساليب تقترن فيها السذاجة بالدهاء. فقد كان سعود إذا أراد أن يغزوَ إلى جهة الشمال يُظهر أنه يريد الجنوب أو الغرب والعكس بالعكس. وعندما نزل الرقيعة في غزوة الأحساء أمر رجاله أن يُوقد كلُّ واحد منهم نارًا وأن يُطلقوا كلهم البنادق عند طلوع الشمس ليُرهبوا أهلها. فلما طلعت الشمس فعلوا ذلك دفعةً واحدة فارتجت الأرض وأظلمت السماء وأُسقِط كثير من الحوامل في الأحساء. هذه الطريقة في الحرب طريقة الإرهاب والترويع مألوفة عند العرب خصوصًا عند أهل نجد.
ولا حاجة لذكر البسالة في سعود الكبير والإقدام، وعلو الهمة والمرام. فإن في فتوحاته الشاهد الأكبر على ذلك. أما حكمه فقد كان له مزيتان كبيرتان رائعتان هما الأمن والعدل؛ الأمن: وكان أساسه العقاب الشديد السريع بموجب الأحكام الشرعية، والعدلُ: وكان أساسه الأمتن المساواة وعدم المحاباة. بيدَ أنه لم يكن على شيء من الإدارة، ولا كان النظام، ما عدا بعض قواعد أساسية تتعلَّق بالجيش معلومًا. فلم يكن ليربطَ النواحيَ القصية بعضها ببعض غيرُ كلمة الأمير، ولم يكن ليحفظها وثيقة العُرى غير صولته، فإذا ذهبت الصولة ذهب الملك.
آل سعود: الدور الثاني – الفوضى
لم يكن طوسون الشاب قويَّ البنية أو الإرادة، ولا كان على شيء من الحزم كبير، فأعيَتْه حربُ الحجاز وأضنتْه. ولولا عرب الحجاز لما عُقِد له النصر في حملته الثانية على عرب نجد. بَيْد أنه كان مثل أبيه وأخيه إبراهيم متساهلًا في دينه، عاملًا بتساهله في أمور شتى سياسيةً وغير سياسية. وكان يميل خصوصًا إلى الأوروبيِّين ويحب الانتفاع بعلومهم واختراعاتهم. قد أشرت إلى أولئك المجازفين منهم المسترزقين الذين كانوا في الجيش المصري. ومن أغرب أمورهم ممَّا يدل على التساهل الذي ذكرت، أن أحدهم، وهو اسكتلندي اسمه ثوماس كيث، تولَّى برهة حكم المدينة المنورة.
على أنه لم يكن بينهم أديبٌ عالم يدوِّن حوادث تلك الأيام، أو ينقُل إلينا شيئًا من معلوماته هناك. ولا أظن أن أحدًا منهم دخل مكة ولو خلسة عندما استولى طوسون عليها؛ لأنه لم تكن لهم العقلية العلمية التي تحمل صاحبها على التكشف والاستطلاع، إلا واحدًا ذكره هوغارث، وقال إن ما كُتب يُعَد تافهًا.
على أن هناك ثلاثة لم يجيئوا الحجاز محاربين، ولا جاءوا مع المصريين وهم جديرون بالذكر؛ لأنهم من العلماء المستشرقين المستعربين الذين دخلوا مكة يوم كان الوهابيون مستولين عليها، فرأوهم من كثب وكتبوا عنهم بدون تحيُّز أو تحامل.
وقد اجتمع علي بك بالشريف غالب، فقال: إنه في العقد الرابع من العمر وإنه على جهله ذو حصافة ودهاء. رآه لأول مرة في مجلسه وهو يدخن النارجيلة التي كانت محجوبة خوفًا من الوهابيِّين، فلم يرَ السائح الأوروبي غير النبريج الذي كان يتصل من خرق في الحائط بالنارجيلة وراءه في الغرفة المجاورة للمجلس.
والعباسي هذا كان عالمًا يحمل في حقائبه أدوات للرصد والمساحة، فاستخدمها في مكة وجوارها دون أن يعترضه أحدٌ من الناس، بل كان محترمًا من الجميع. وقد حاز فوق ذلك شرفًا لم يحُزْه سواه من المستشرقين ولا يحوزه إلا الأفراد القلائل من المسلمين، أَلَا وهو شرف كناسة الكعبة، ولكنه على ما يظهر لم يُفلح حتى النهاية في تنكُّره. فعندما قصد إلى المدينة زائرًا صدَّه عنها الوهابيون فعاد إلى ينبع ومنها إلى مصر فباريس حيث اجتمع بنبوليون وعُيِّن في حاشية أخيه يوسف بونابرت. وقد عاد علي بك إلى الشرق في سنة ١٨١٨م، فسافر من دمشق ليرحل رحلة ثانية في البلاد العربية، ولكنه وهو لا يزال في أول الطريق أُصيب بالديزنتاريه فمات في المزاريب.
إنهم مُرهبون ولكنهم لا يسلبون إلَّا ما كان حلالًا في مذهبهم؛ أي مال العدو والكفار. وهم إذا اشتروا شيئًا يدفعون ثمنه كما أنهم يدفعون أجرة مَن يخدمونهم، فلا يصادرون ولا يُسخِّرون. ومنهم الفقراء الذين كانوا يدفعون رسوم زمزم والكعبة من البارود والرصاص الذي كان معهم. وبما أنهم يُطيعون أميرهم طاعة عمياء فهم يحتملون من أجله كلَّ شدة ساكتين صابرين، ويسيرون إذا أمرهم إلى أقصى أطراف الأرض.
من فضل الوهابيين في فتحهم الحجاز أنهم لفتوا نظرَ العالم إلى البلاد العربية، ونبَّهوا العلماء المستشرقين إلى تكشُّف أحوالها، فجازفوا بحياتهم، وفادَى أكثر من واحد بها، طلبًا للعلم.
هو الذي قابل الإمام سعودًا في مكة وكان قد تريَّب بقيافته وإسلامه، ولكن كبير الوهابيين بل كبير العرب يومئذٍ لم يمانع العالم الإفرنجي في تجواله. قال هوغارث: «كان زتسن نباتيًّا مشهورًا في أوروبة، وهو من العلماء الأفاضل، له نظرات ثاقبة صائبة في الأشياء وفي الناس.» وإن مَن يقرأ ما كتبه عن بعض الحكام في سورية، وبعض النباتات والصناعات في لبنان، ليتأكد ذلك ويأسف جدًّا؛ لأن كُتُبَه ومذكراتِه فُقِدت بعد موته في اليمن، فحُرِمنا رأيه في الوهابيين وأميرهم الأكبر سعود.
كان بركهارت في قيافته وفي إسلامه محترمًا موقَّرًا، وقد قال يصفُ نعمةً تبحبح فيها: «ما شعرت في مكان آخر بمثل الطمأنينة التي كنت أشعر بها وأنا في مكة.»
وما الوهابية إذا جئنا نَصِفُها غير الإسلام في طهارته الأولى. وإذا ما جئنا نبيِّن الفرق بين الوهابيين وبين الترك مثلًا فما لنا إلَّا أن نعدِّد الخبائث التي اشتُهر هؤلاء بها.
هاك شهادة الأجانب وهي شهادة العلماء المنزَّهين عن الأغراض الخصوصية والمذهبية: «جاء الوهابيون يطهرون الحجاز.»
وجاء الترك أو بالحري المصريون ينقذون الحرمين من المطهرين فأنقذوهما.
وجلس محمد علي في مكة يُصدِر الأوامر إلى جيشه في المدينة ليزحف إلى نجد (١٢٢٩ﻫ / ١٨١٣م)، وجيشه في الطائف ليحتل تربة، وجيشه الثالث ليذهب برًّا وبحرًا إلى القنفذة فيؤدِّب عرب عسير المدينين، أنصار ابن سعود وزعيمَهم ابن شعيب.
كان المصريون قد احتلوا القنفذة في آذار من هذه السنة (١٢٣٠ / ١٨١٤)، فأغار العرب عليهم بعد شهرين بقيادة طامي بن شعيب، فهزموهم، فلاذَ مَن سَلِم منهم بالسفن. وقد غنم العرب المدافع والذخيرة كلَّها مع عدد كبير من الخيل والجمال.
وقد جاء في البلاغ الذي أشرت إليه المؤرخ في صفر أن قد غنم الجيش الظافر في وقعة بِسل خمسة آلاف خيمة وخمسة آلاف من الجمال ما عدا الأرزاق الكثيرة.
ومن بيشة مشى الظافر إلى جبال عسير، ولكن تلك الانتصارات نهكت الجيشَ وأفقرته؛ لأنه لم يكن في البلدان التي اكتسحوها شيء يُذكَر من الغنائم، فقلَّ الزاد، وكثرت المشقات، وكانت الخسائر خصوصًا في الركائب كبيرة؛ قيل إنه مات مائة رأس من الخيل في يوم واحد. ترجَّل محمد علي ومشى مع الماشين وهو يَعِدُهم بالغنائم العظيمة في اليمن. فلما صاروا في جبال زهران بعد خمسة عشر يومًا من السير، التقَوا بطامي الذي انهزم في وقعة بسل ومعه بضعة آلاف من العربان، فنازلهم محمد علي وكان في الجولة الأولى مهزومًا، ثم عاد الكرَّة عليهم فأخرجهم من معاقلهم في الجبال ودحرهم في القتال فشتَّت شملهم. ومن غنائم هذه الوقعة أن ابن شعيب أُخِذ أسيرًا ثم أُرسل إلى مصر ومنها إلى الآستانة، فضُرب عنقه بعد أن شُهر في الأسواق هناك.
بعد هذا الفوز في عسير عاد محمد علي إلى مكة فولَّى فيها أحد رجاله، ثم سافر إلى المدينة ليؤدِّيَ الزيارة، وكان قد حجَّ في العام السابق؛ وليطلع على أحوال الحجاز الشمالي. بَيْدَ أنه لم يلبث طويلًا في المدينة؛ لأن الأخبار التي كانت قد جاءته أنبأت بفتنة في القاهرة وبفرار نبوليون من جزيرة إلبا؛ فسافر فجأة في شهر يونيو سنة ١٨١٥ وهو يبغي صوْنَ ملكِه من الأخطار الداخلية والخارجية.
من حسنات محمد علي في الحجاز أنه وزَّع كثيرًا من المال والأرزاق على المحتاجين، وخفض رسوم الجمرك في جدة، وأبطل الضرائب التي كان قد ضربها الشريف غالب، ومثَّل بالأشقياء وعاقب بشدة كلَّ مَن تعدَّى على الأجانب، بيْدَ أنه لم يُحسِن عملًا في إبقاء جنوده بعسير؛ إذ بعد سفره أعاد عرب ألمع وغامد وزهران الكرَّة على أولئك الجنود في تهامة وفي الجبال، فدحروهم دحرات متعدِّدة، وردُّوهم خاسرين برًّا إلى الطائف وبحرًا إلى جدة.
كان إبراهيم صلب العود، شديد البطش ثابتًا في عزمه ومقاصده، ولكنه لم يكن ماهرًا في تعبئة الجنود، ولا كان باهرًا في المفاجآت الحربية، إنما كان جلدًا كدودًا، بطيء منشأ الفكر، سريع منشأ الهوى، إرادته من حديد، وقلبه مثل إرادته.
جاء وهو في السابعة والعشرين من سنِّه يطوي بساط الجزيرة؛ ليصل إلى قلبها الملتهب فيطفئ النار فيه ويفرغ منه الحياة، جاء بجيش لا يتجاوز الأربعة آلاف وفيهم الألباني والمغربي والسوداني، وقد أضاف إليهم في مروره بالصعيد ألفين من الفلاحين للأشغال والخدمة.
بعد أن أقام ستة أشهر في الحناكية يستغوي العربان ويجنِّدهم، زحف في شتاء السنة التالية ٥ ربيع ثانٍ ١٢٣٢ /٢٢ فبراير ١٨١٧ إلى نجد فوصل إلى الرس التي سلَّمت قبلًا لأخيه طوسون وأبتْ أن تُسلِّم لإبراهيم، فكانت عليه حربًا عوانًا. أخسرته في الهجمات الأولى ثمانمائة من رجاله فبعث يطلب النجدات من المدينة. وكان أهلُ الرَّس رجالٌ ونساء يدافعون من وراء الأسوار عن بلادهم، فيردون على قنابر المصريين برصاص البنادق، ويُبطلون فِعْل ألغامهم بألغام أخرى يحفرونها إليها.
جاءت النجدات من المدينة فشَدَّد على البلدة الحصار وضاعف ضرْبَ أسوارها. لم يكن إبراهيم ليضنَّ حتى برجاله؛ فبعد ذبحات هائلة في الجيشين طلب عبد الله بن سعود الصلح، فطلب إبراهيم البلدة من أميرها محمد بن مزروع، فقال الأمير: تعالَ خُذْها.
استُؤنِف القتال. وكان إبراهيم في الهجمة الأولى على رأس ألف خيال فتَكُوا بأهل الرَّس، فذبحوا منهم أربعمائة ونكَّلوا بهم، كانوا يقطعون رءوس الزعماء ويرفعونها على الرماح ليراها النجديون. أما عبد الله فاستمرَّ يفاوض بالصلح، فتمسَّك إبراهيم بشروطه وأهمها أن يقدِّم أهلُ الرَّس ألفَي رأسٍ من الخيل وألفين من الجمال، ومئونة الجيش لستة أشهر، ورهينتَين من أولاد عبد الله. استُؤنف القتال واستمرَّ الفوز فيه لأهل الرَّس، فتنازل إبراهيم إذ ذاك عن شروطه إلَّا شرطًا واحدًا هو أن يضع المحاصرون سلاحهم، ويقيموا على الحياد فلا يعاونون ابن سعود ولا يتعرَّضون للجيوش المصرية، فقبلوا بذلك ورُفِع الحصار الذي استمرَّ ثلاثة أشهر وسبعة عشر يومًا والذي خسر فيه إبراهيم ثلاثة آلاف وأربعمائة من عسكره النظامي.
بعد أن سلمت الرَّس زحف إبراهيم إلى عنيزة، وكان عبد الله قد لجأ إليها.
فصالحه أهلها، وأبى المرابطون في القصر إلَّا القتال، فأُطلِقت عليهم المدافع ليلة ونهارًا فسلَّموا.
ثم حمل على بُريدَة وكان عبد الله قد رحل من عنيزة إليها فرحل إذ ذاك منها إلى الدرعية. راح يستنفر أهل نجد البوادي والحضر ليجتمعوا في العاصمة للدفاع عن الوطن.
لم يَدُم حصار بُريدَة إلا ثلاثة أيام، وبعد أن سلمت المدينة عاد إبراهيم بجيشه إلى المذنِب آخر بلدة في جنوب القصيم، فبادر أهلُها إلى التسليم، ثم دخل الوشم ذاك السهل الكائن بين وادي السر ووادي حنيفة فوصل إلى شقرا أهم بلدانه — أُم بلدان الوشم — في ١٨ صفر ١٢٣٣ /٢٨ ديسمبر ١٨١٧، وحاصرها ستة أيام فدافع أهلها عنها ما استطاعوا ثم سلَّموا. ومما هو جديرٌ بالذكر أن إبراهيم أسَّس في شقرا مستشفى للجرحى بعناية اثنين من الأطباء والصيادلة الإفرنج الذين كانوا معه، ولكن هذه الرحمة لم تشمل غير جرحى جيشِه؛ فقد كان يأمر بقتل الأسرى، وقد قطع جنوده في شقرا آذان القتلى النجديين فأرسلها مع رسولٍ إلى والده بمصر.
بعد أن نهب الروم ضرمة وهتكوا عرض حريمها، وذبحوا ثلثَي أهلها ففرَّ الباقون هاربين، دمَّروها تدميرًا وساروا إلى وادي حنيفة، فمرُّوا بالجبَيْلة ثم بالعيَيْنة ثم أشرفوا في أواخر جمادى الأولى على الدرعية، وكان عبد الله بن سعود وأخوه فيصل وغيرهما من آل سعود قد خرجوا بجموعٍ من أهل المدينة للدفاع، فتوزَّعوا في الوادي وأقاموا فيه وفي منعطفاته المتاريس.
كان جيش إبراهيم باشا عندما وصل إلى الدرعية وباشَر حصارها في ٢٩ جمادى الأولى ١٢٣٣ / ٦ أبريل ١٨١٨، مؤلَّفًا من أربعة آلاف من المصريين والألبانيين، وخمسمائة من المغاربة، وبضعة آلاف من عربان مطير وحرب وعتيبة وبني خالد، ونحو ألفين من العمال والخدم، وعشرة آلاف من الجمال حاملة المؤن والذخيرة.
استمر الحصار خمسة أشهر وبضعة أيام فتعدَّدت فيه الوقعات واشتدت الحملات، وكانت الغلبة غالبًا لآل سعود، ولكن النجدات كانت تَرِد متوالية على إبراهيم، فتجيئه الجنود والذخيرة من مصر، والأرزاق من البصرة والمدينة، والغنم والسمن من القصيم. ومع ذلك فقد نُكِب في (١٦ شعبان / ٢١ يونيو) نكبةً كادت تقضي عليه، فبعد أن انهزم يومئذٍ في وقعةٍ قُتِل فيها مائة وستون من رجاله هبَّت ريح السموم فحملت شرارة من نار إحدى الخيم إلى مستودع الذخيرة، فاشتعل البارود، وتفجَّرت القنابل وأُتلِف كلُّ ما كان هناك، بل امتدت النيران إلى مستودع القمح أيضًا فاستحال في ذاك اليوم رمادًا. قال إبراهيم لطبيبه الإفرنسي: خسرنا كلَّ شيء ما عدا شجاعتنا وسيوفنا. والحق يُقال: إن لولا الشجاعة والعزم والثبات، تلك السجايا الكبيرة فيه، لعاد من الدرعية بعد تلك الفاجعة مدحورًا.
ولكنه ثبت في مراكزه واستعاض عن القتال بالمناوشة والمخادعة إلى أن جاءته النجدات من المدينة والذخيرة والمؤن من القصيم، وكان قد شاع أن أباه جهَّز محافظ الإسكندرية بحملة ليُرسله إلى نجد، وقد ولَّاه القيادة العامة؛ فأثار هذا الخبر غضب إبراهيم وحميَّته، فحمل على أهل الدرعية في متاريسهم وفي معاقلهم، وفي أبراجهم، وفي بيوتهم، حملاتٍ شعواء استُخدمت فيها المدافع الضخمة، والقبوس النارية، والبنادق والسيوف، ثم أحاطت جيوشه بالمدينة واحتلت حيًّا من أحيائها فبدأت تتزعزع عزيمة المدافعين، فطلب فريق منهم الصلح، فأبى إبراهيم إلَّا أن يسلم عبد الله بن سعود.
رفض آل سعود ونهضوا نهضة واحدة يستأنفون القتال فحملوا على الجنود المحتلِّين قِسْمًا من المدينة، فذبحوا عددًا كبيرًا منهم وأخرجوا الباقين، ذلك تمهيدًا لصلحٍ شريف، ولكن إبراهيم أدرك قصد العدوِّ فأفرغ كل ما لديه من المدافع على الدرعية وقصورها ومعاقلها حتى وعلى المسجد الجامع فيها.
سلَّمت الدرعية وأُرسِل عبد الله ومعه بعض رجاله وعبيده بمحافظة أربعمائة من الجنود إلى المدينة، ومنها إلى القاهرة، فوصلها في ١٨ محرم ١٢٣٤ /١٨ نوفمبر ١٨١٨، ومَثُل بين يدي محمد علي، فسأله رأيه بابنه إبراهيم، فقال: «هو عمل واجبه، ونحن عملنا واجبنا، وما شاء الله كان.»
لم يلبث عبد الله غير يومين في القاهرة، ثم أُرسِل أسيرًا إلى الآستانة ومعه كاتبُ سرِّه ورجلٌ آخر من رجاله كَرِهَا أن يفارقاه، وهناك عند وصولهم طُوِّفوا بالأسواق ونُفِّذ فيهم في اليوم الثالث حكم الإعدام.
أما إبراهيم فعندما دخل الدرعية أمَرَ بالقبض على بعض الزعماء والعلماء ونكَّل بهم تنكيلًا شنيعًا؛ فمنهم مَن طُرِحوا مقيدين تحت سنابك الخيل، ومنهم مَن وُضِعوا مُكبَّلين عند فوَّهة المدفع فقطعهم إربًا إربًا «طيَّر أوصالهم في الفضاء»، قال ابن بشر: «وكان الشيخ العلامة القاضي أحمد بن رشيد الحنبلي صاحب المدينة في الدرعية عند عبد الله، فأمر الباشا بضربه وتعذيبه وقلع جميع أسنانه فقُلعت.» وقال المؤرخ الإفرنسي: «سامَ الشيخَين أحمدَ الحنبلي وعبدَ العزيز بن محمد عذابًا شديدًا، ولكنه ندم بعد ذلك على استرساله في غضبه.»
قال هوغارث: «لم يكن يطمع محمد علي بضمِّ البلاد العربية إلى ملكه؛ لذلك لم يُحسِن معاملة أهلها. وجلُّ ما ابتغاه أن يظلوا كما كانوا قبل ظهور المذهب الوهابي نهب الشقاق والفوضى.»
هي الحالة التي كانوا فيها عندما انسحب إبراهيم باشا بجنوده من نجد في فصل الصيف من سنة ١٨١٩ بعد أن أقام سبعة أشهر في الدرعية، فضربت الفوضى أطنابها في البلاد، وجاءت عساكر الترك تحلُّ محل العساكر المصرية، فكانت ضِغْثًا على إبَّالة. قال ابن بشر: «كان الناس يهجرون بيوتهم، فيهيمون على وجوههم في البراري فرارًا من التسخير والإرهاق والقتل والتعذيب، فانحلَّ في البلاد نظام الجماعة، وشاعت الحرمات، فصِرْتَ لا ترى مَنْ ينهى عن منكر، أو يأمر بمعروف.»
وفي هذه الآونة قام رجل من بيت معمَّر هو محمد بن مشاري يحاول الاستيلاء على قسم من البلاد، فأفلح بادئ ذي بدءٍ سعيُه. قد دانت له الوشم والعارض وسدير، ولكنه لضعف عَزْمه لم يحكم سنة كاملة، ولم يكن في تلك الأيام الوحيد الطالب السيادة من أيِّ وجه كان.
عندما وصل عسكر الترك إلى عنيزة بقيادة رجل يُدعَى عبوش أغا كتب إليه ابن معمر يقول: إنه طائع للسلطان وإنه ألقى القبض على أبناء سعود … إلخ؛ فأقره عبوش في مركزه.
كان إبراهيم باشا كما أسلفت القول قد أجلى آل سعود إلى مصر، ولكن مشاري بن سعود الكبير عاد منها هاربًا، وتركي بن عبد الله بن محمد كان قد لاذَ بالخرج عند تسليم الدرعية. فلما عاد مشاري يطالب بالإمارة قاومَه ابن معمر وتمكَّن من القبض عليه فسلَّمه إلى الترك فقتلوه. وكان تركي قد عاد من الخرج فنازع ابن معمر الإمارة، وحمل عليه ثم قتله انتقامًا لمشاري. وفي ذاك اليوم كان قد جاء وفود أهل سدير والمحمل يبايعون مشاري، فبايعوه في الصباح، ثم بايعوا تركي بعد الظهر.
١٢٣٦ﻫ / ١٨٢٠م: وفي هذه المبايعة ينتقل الحكم من سليلة عبد العزيز بن محمد إلى سليلة عبد الله أخي عبد العزيز، ويستمر فيها إلى اليوم. أما لولا تركي لما أُنقِذ في تلك الآونة بيت آل سعود. بيدَ أنه لم يستطع في مدة إمارته، التي استمرت عشر سنوات أن يعيد إلى هذا البيت سالف مجدِه، وإلى ذاك الحكم تلك الصولة التي كانت لابن عمِّه سعود الكبير، ولا أظن أن سعودًا نفسه كان يستطيع ذلك بعد أن توالت على نجد النكبات، وانتشرت بين أهله الرِّدَّات، ففسدت أخلاق الناس وتلاشت فيهم القوى المعنوية والروحية.
مع ذلك فقد استطاع الإمام تركي أن يستعين بما تبقَّى من شتات الفضيلة في قوم مغلوب ليحفظ السيادة السعودية في زمن الزعازع والفتن، بل في زمن كانت عساكر الروم (الترك) محتلَّة قسمًا كبيرًا من البلاد.
على أنه مات شهيدًا؛ فقد قتله ابن عمِّه مشاري بن عبد الرحمن الذي يمتُّ بنسَبِه إلى الثالث من أبناء سعود الأول، قتله طمعًا بالإمارة، ولكنه لم يتمتَّع بها أكثر من أربعين يومًا؛ لأن فيصل بن تركي قام يثأر لأبيه، فهجم رجاله على القصر بالرياض، وأدركوا مشاري فيه فقتلوه.
آل سعود: الدور الثالث – الحروب الأهلية
إن في قتل مشاري قاتلِ الإمام تركي منشأَ إمارة بيت الرشيد في حائل، فالحادث إذن جدير بالإسهاب. يوم قُتِل الإمام كان ابنه فيصل في القطيف ومعه جنوده من قبائل شتى، فلما جاء يثأر لأبيه ودنا من الرياض خرج إليه وفدٌ من المدينة يطلب منه ألَّا يأذن بالدخول إليها غير أهلها من الجنود؛ لأنه إذا هجم عليها النجديون من غير الرياض قد يقاومهم الأهالي ليمنعوهم من احتلالها، فيحدث قتال في المدينة، فتولِّد المحنةُ محنةً أخرى أشدَّ منها.
وكان مع فيصل رجلٌ يُدعَى عبد الله بن الرشيد طردَه من حائل أمراؤها يومئذٍ آل علي، فلاذَ بآل سعود، فلما همَّ الجنود أبناء الرياض بالدخول إلى المدينة استفزت الحمية عبد الله فاستأذن فيصلًا بأن يكون معهم فأذن له، فدخلوا الرياض بدون قتال؛ لأن أهلها كانوا من حزب تركي، وهجموا على القصر الذي تحصَّن فيه مشاري (هو قصر الملك اليوم وقصر دهام بن دواس سابقًا)، أما عبد الله بن الرشيد فقد سبق المهاجمين إلى «مفتول» (برج) من مفاتيل القصر، فرأى فيه رجلًا اسمه سويد، كان أميرًا في جلاجل بسُدَير، وكان قد جاء يسلِّم على الإمام تركي دون أن يعلم بما حلَّ به، فرحب به مشاري وأنزله ذاك البرج في القصر.
تواثق الرجلان ورمى سويد بحبل فصعد ابن الرشيد إلى القصر، وصعد وراءَه عشرون من جنود فيصل، فتصادموا ورجال مشاري وتجالدوا، فجُرِح عبد الله في يده جرحًا بليغًا شوهها، ولكنه ورجال فيصل استولوا على القصر وحاقوا بمشاري ومَن معه فقتلوهم.
سُرَّ فيصل خصوصًا بشجاعة عبد الله بن الرشيد، وعندما رأى جراحه قال له: لك مني ما تريد. فقال عبد الله: أطلب منك أن تُؤمِّرني في حائل وأن تكون الإمارة لي ولعائلتي بعدي. فأجاب فيصل طلبه فكان عبد الله هذا مؤسِّس إمارة بيت الرشيد. وسنعود إلى ذكْره وذكْرها في فصل آخر.
١٢٤٦ﻫ / ١٨٣٠م: يُقسم عهد فيصل إلى دورين؛ الأول يبتدئ في تولِّيه الإمارة بعد قتْل أبيه، وهو دور الاضطرابات والفتن، وينتهي بعد تسع سنين في تسليمه إلى القائد خورشيد باشا، وكان قد عاد من مصر خالد بن سعود أحد الذين أجلاهم إبراهيم باشا، وهو حائز على ثقة محمد علي ومحبوب من المصريين، بل جاء خالد مع خورشيد ليساعده في الاستيلاء على نجد والقضاء على فيصل. فعندما قرب الجيش من الرياض رحل فيصل إلى الدلم في بلاد الخرج؛ لأنه لخلافٍ كان بينه وبين أهل الرياض لم يرَ من الحكمة أن يُحاصَر فيها.
كان أهل الدلم أصدقاءً لفيصل مخلصين فلجأ إليهم، فتعقَّبه خورشيد بجيشه وحاصره هناك. قد ثبت فيصل أربعين يومًا في الدفاع، ولكنه عندما اشتد الحصار — خصوصًا على أهل الدلم — ظهر في مظهرٍ من كرم الأخلاق يندُر مثله في المتحارِبين. أجل، قد عرض على خورشيد أن يسلم نفسه بشرط أن يعفوَ القائد عن الأهالي ويؤمِّنهم على أرواحهم وأموالهم.
١٢٥٤ﻫ / ١٨٣٨م: قَبِل خورشيد فسلَّم فيصل في ٢٣ رمضان من هذه السنة (١٠ ديسمبر) ما كان معه من عتاد الحرب إلى أهل الخرج، ثم سلَّم نفسه إلى القائد، فبرَّ بوعده إذ عفا عن الأهالي. وقد أحسن معاملة فيصل فاستصحبه إلى مصر، وولَّى مكانه خالد بن سعود.
وخالد هذا هو أخو عبد الله من جارية حبشية. كان متوقد الذهن، رقيق الشعور، مُسترسِلًا في اللهو واللذات. نشأ في ذَرَا محمد علي فتمصَّر، وجاء يحكم في نجد حكمًا عصريًّا، فنفر النجديون منه وعدُّوه أجنبيًّا، ثم أجمعوا على خلعه فخلعوه بعد أن قاوموه سنتين، فتولَّى الإمارة بعده عبد الله بن ثنيان بن إبراهيم بن ثنيان بن سعود وكان مستبدًّا عادلًا (١٢٥٧ﻫ / ١٨٤٢م)، بيد أنه أرهق الناس بالضرائب فلم يصبروا على حكمه أكثر من سنة، ولكنهم لم يخلعوه كما فعلوا بسلفه خالد؛ فقد صدف أن فيصلًا، الذي أطلقه محمد علي من السجن في هذه السنة ليُعيدَه حاكمًا إلى نجد، وصل إلى القصيم يوم كان عبد الله بن ثنيان محاصِرًا عنيزة، فدعاه للطاعة فأجابه عبد الله أنه لم يحكم نجدًا إلَّا بالنيابة عنه، وكانت خدعة منه يتوسَّل بها إلى القبض على خَصْمه.
سار فيصل مخدوعًا إلى عنيزة ولكن القدر والاه؛ فقبلَ أن يدخل المدينة جاءه رجل يُعلِمه بنية ابن ثنيان، فأخذ للأمر أُهْبته ودخل برجاله ليلًا وهم ينادون أن الحكم لفيصل. ضجَّت عنيزة لهذه المفاجأة وخذل أهلُها ابنَ ثنيان ففرَّ هاربًا إلى الرياض، فتعقَّبه فيصل وحاصره عدة أيام، ثم صفح عنه وأعطاه الأمان. خرج ابن ثنيان من القصر شاكرًا حامدًا ولكنه بُعَيد ذلك أُصِيب بمرض أوْدَى بحياته.
استقام الأمر لفيصل فبايعه أهلُ نجد وتمتَّعوا بالنعم الجمَّة في عهده الذي استمر في الدور الثاني أربعًا وعشرين سنة، حكم فيصل حكمًا عربيًّا سعوديًّا (١٢٥٨ﻫ / ١٨٤٢م)، مثل ابنَي عمِّه عبد العزيز وسعود، فأقام العدل، وعزَّز الأمن، وأعاد إلى نجد شيئًا من اليسر وسالف المجد، بل إلى ما وراء نجد، فقد بسط سيادته على الشطر الأكبر من شبه الجزيرة، فدانت له الأحساء والقطيف ووادي الدواسر وعسير والجبل والقصيم. دانت له حبًّا لا كرهًا.
ولكن الدولة العلية أو بالحري الحكومة المصرية، لم تُهمِل أمره كلَّ الإهمال، وبما أنها تكبَّدت الخسائر الفادحة في حملاتها السابقة على أهل نجد، رأت من الأوفر والأسلم أن تسيِّر قواتها على مَن يُدين لابن سعود في عسير. وما كانت تهامة بأسوغ لقمة من نجد.
١٢٦٨ﻫ / ١٨٥٢م: قد سيَّر عباس الأول عشرة آلاف جنديٍّ نظامي إلى جبال عسير في هذه السنة، فنازلهم هناك العربان يقودهم عائض بن مرعي رئيس آل عائض، وهزموهم شرَّ هزيمة فتقهقر مَن سلم منهم إلى تهامة، كانت الغلبة في هذه الحرب لآل عائض وبالتالي للإمام فيصل. إلا أن فيصلًا كان يتحاشى ما استطاع سفك الدماء؛ عندما حاصرت جنوده بُريدَة كانت خطته العسكرية أن يمدِّد الحصار فيحمل الأهالي على التسليم بدون قتال. وقد استنجد أهل القصيم يومئذٍ بالأمير طلال بن الرشيد فلم ينجدهم خوفًا من ابن سعود، ثم استنجدوا بأمير مكة فأبى كذلك، ثم أرسلوا يفاوضون الحكومة المصرية فنفضت يدها منهم؛ ممَّا يدل على أن فيصلًا كان عزيز الجانب رهيبًا.
وكان محبوبًا ولا غرو. فقد جمع في سياسته بين الشدة واللين، فكان كريم الأخلاق، قوي الإرادة، سمحًا حليمًا، محبًّا للعلماء، رءوفًا بالناس، مُحسِنًا إليهم، حريصًا على مصالحهم.
١٢٨٢ﻫ / ١٨٦٥م: ولكن عهد فيصل السعيد لم يكن أطولَ عمرًا من عمره، فبعد وفاته في (٢١ رجب / ١١ ديسمبر) من هذه السنة، تنازع أنجاله المُلْك كما سترى وأضاعوه. أنجاله، وهم عبد الله ومحمد وسعود وعبد الرحمن مثَّلوا الدور الأخير المُحزِن من رواية آل سعود الملأَى بأنواع الحوادث التاريخية.
بعد أن نهك الترك والمصريون أهل نجد بحملاتهم المتعدِّدة، وبدَّدوا صفوف وحدتهم القومية والدينية، عادت إلى الوجود تنكأ الجراح تلك العداوات القديمة لآل سعود؛ أي عداوات القبائل. فانتقضت قحطان، وعصت العجمان، وتمرَّدت عنزى، وتقلَّبت مطير، وتذبذبت عتيبة، وصال بنو مرَّة، وتنمَّر بنو خالد. ناهيك بالإخوة وأبناء العم من البيت نفسه، وقد قام بعضهم على بعض يتنازعون السيادة، فكانوا في حروبهم مغنمًا لهذه القبائل النازعة إلى الغزو المسترزِقة منه.
قامت القبائل توالي هذا الأمير وتناوئ الآخر أخاه أو ابن عمِّه طمعًا بكسب، أو شفاءً لغليل، أو حبًّا بسيادة يحققونها في أنفسهم. وكان عبد الله قد حمل على العجمان لتعدِّيهم على الحجاج فكسرهم في وقعتين قُرْب الكويت، فرحلوا شمالًا وتحالفوا ورؤساء المنتفق على أهل نجد.
ثم أجلى عبد الله بعض العجمان إلى وادي الدواسر. فلما قام سعود ينازع أخاه الإمارة بعد موت أبيهما، لجأ إلى ابن عائض في أبها فردَّه خائبًا؛ لأن آل عائض في تلك الأيام كانوا موالين لآل سعود. عاد سعود بن فيصل من أبها إلى نجران وكان العجمان هناك، فاجتمعوا حوله ينصرونه على أخيه، وانضمَّ إليهم عددٌ كبير من الدواسر وبني مرَّة. هذي هي بداية الحرب السعودية التي اشتركت فيها قبائل نجد، فكانت يومًا لهم ويومًا عليهم — وكانت في الحالين على آل سعود. هي الحرب الأهلية التي استمرت متقطِّعة أكثر من ثلاثين سنة فاستثمرتها الدولة العثمانية، وكانت في النهاية المغنَم الأكبر لأمراء بيت الرشيد.
ولكن ابن الرشيد كان لا يزال في بداية الحرب يدين لابن سعود، وعندما خرج عبد الله إلى وادي الدواسر غازيًا سار معه الأمير متعب بن الرشيد الذي قُتِل بعد تلك الغزوة، فتولَّى أخوه بندر الإمارة بعده وأقرَّه فيها الأمير عبد الله.
وكان محمد بن فيصل مع أخيه عبد الله على أخيه سعود، فاحتربوا في وقعة المعتلا، فجُرِح سعود وانهزم ثم سار بعد أن داوَى جروحه عند أهل مرَّة إلى عمان يستنجد صاحبها فلم يُنجِدْه، وراح من عمان إلى البحرين فلبَّاه شيخُها، ثم حالف العجمان في الأحساء وأعاد الكرَّة على أخوَيه محمد وعبد الله، فالتحمت جنود الإخوة عند ماءٍ يُسمَّى جودة (١٢٨٨ﻫ / ١٨٧١م)، وكانت الغلبة لسعود. قال إبراهيم بن عيسى: «والسبب في ذلك أن بعض جنود محمد وهم سبيع خانوه وانقلبوا على أصحابهم ينهبونهم.» قد قتل أربعمائة من جنود الفريقين في وقعة الجودة، وأُسِر محمد فاعتُقِل في القطيف، ثم دعا سعود أهل الحساء للمبايعة فجاءوه على عين جودة مبايعين.
بعد وقعة الجودة احتلَّ مدحت باشا — يومئذٍ والي بغداد — الحساء وذلك بمساعدة عربان الكويت الذين جاءوا بحرًا إلى العقير وبرًّا إلى القطيف بقيادة الشيخ مبارك الصباح. وفي احتلال الحساء في هذه السنة قطع مدحت الصلة بين نجد وعمان، ووسع ثُلْمة العداء بين سعود وأخوَيه، فأطلق محمدًا من سجنه في القطيف، ووعد عبد الله بأن يعيِّنه «قائمقام ولاية نجد»، ولكن عبد الله خشي الخدعة — قيل إن مدحت كان ينوي القبض عليه — ففرَّ هاربًا إلى الرياض، فاستقبله أهلها مرحِّبين مهلِّلين.
ولكن سروره لم يدُم طويلًا، فقد زحف سعود في السنة نفسها؛ أي سنة ١٢٨٨ إلى الرياض، فدخلها ظافرًا ونهب رجالُه المدينة، ثم كتب إلى رؤساء البلدان أن يَقدُموا إليه للمبايعة فجاءُوا يبايعون. أما عبد الله فكان قد جمع بدو قحطان وانسحب إلى وادي حنيفة، فتعقَّبه سعود بجيش من آل مرَّة، والعجمان، وسبيع، والسهول، والدواسر. وبعد وقعة في البرَّة انهزم عبد الله وعاد إلى الحساء.
قد كانت هذه السنة (١٨٧١) والتي تليها سنتَي قحط في نجد، فجاءت المجاعة تنجد الحرب على أهله. نعم قد توالت النكبات وتعدَّدت، فمَنْ لم يَمُت بالسيف مات جوعًا. وكان الناس يأكلون جِيَف الحمير ويحرقون جلود الأباعر ويدقونها، بل كانوا يدقون حتى العظام ويأكلون مسحوقها.
لم يصفُ الجوُّ والحال هذه حتى لسعود؛ فقد قام أهل الرياض عليه في هذه الآونة فأخرجوه — بعد أن أَمَّنوه على حياته — من المدينة، ثم تولَّى الحُكْم فيها عمُّه عبد الله بن تركي.
رحل سعود إلى الدلم بالخرج ومنها إلى الأحساء يستنهض العجمان وآل مرَّة على الترك، فاجتمع حوله جيشٌ من تلك البوادي وهجموا على الحساء، فخرج الترك إليه في الحويرة وبادروه القتال فهزموه. على أن الفشل لم يكن ليُثنيَ هذا السعودي عن عزمه، فقد عاد يقطع الدهناء إلى الأفلاج، وحمل على أخيه الآخر وأبناء عمِّه هناك، فانتصر في وقعة الدلم التي فرَّ منها محمد بن فيصل هاربًا، وأُسِر فيها عبد الله بن تركي الذي مات بعد أيام قليلة في السجن.
استمر النصر بعد ذلك حليفًا لسعود. فحارب أهل ضرمة وهزمهم ثم أهل حريملاء فأدخلهم في طاعته (١٢٩٠ﻫ / ١٨٧٣م)، ثم أعاد الكرَّة على الرياض، وكان أخوه عبد الله قد عاد إليها، فخرج وأهلها عليه فاحتربوا في الجزعة وكانوا مهزومين. ارتحل بعد ذلك عبد الله ومعه بعض خُدَّامه إلى ناحية الكويت، فأقام على ماء الصبيحية هناك عند بادية قحطان. ودخل سعود الرياض ثم أمر رؤساء البلدان ثانية أن يَقدُموا إليه ويبايعوه ففعلوا.
سنة واحدة استقام الأمر فيها لسعود بن فيصل، فتنفَّس الصُّعَداء وقال للحرب استريحي، ولكن ابن الإمام فيصل الرابع وهو عبد الرحمن قام يخطب ودَّها فبادرت إليه. وكان قد نهض بحلف من العجمان وآل مرَّة يريد إخراج الترك من الحساء، فهجم عليهم هناك وكاد يظفر ببغيته لولا نجدةٌ جاء بها ابن السعدون من العراق، فكسرت العجمان وشتَّتتْ شملهم. عاد عبد الرحمن إلى الرياض فألفَى سعودًا في القصر مريضًا ١٢٩١ﻫ / ١٨٧٤م، وقد تُوفِّي في هذه السنة، فتولَّى الإمارة بعده، وكان أخواه عبد الله ومحمد إذ ذاك مع بادية عتيبة.
جاء محمد بجيش من عتيبة يحارب عبد الرحمن فحشد عبد الرحمن جيشًا من أهل الرياض والخرج وبوادي العجمان ومطير ليحارب محمدًا. وقد التقى الجيشان في ثرمدا، فكانت هناك وقعة تلاها صلحٌ بين الأخوَين. أما أبناء سعود فقد كانوا مع عبد الرحمن في هذه الوقعة، ثم انقلبوا عليه فراح يقصد أخاه الأكبر عبد الله وهو يومئذٍ في بادية عتيبة، فأكرمه وعاد وإياه إلى الرياض لمحاربة أبناء أخيهما الثائرَين. على أنه لم يُدركوهم في المدينة؛ لأنهم كانوا قد انسحبوا منها وارتحلوا إلى الخرج فأقاموا هناك.
صفا الجوُّ لعبد الله أو بالحري صفا الجوُّ في بيت أنجال الإمام فيصل، فكان الأخوَان محمد وعبد الرحمن مطيعَين لأخيهما الإمام، ولكن أبناء سعود ظلُّوا عاصين متمرِّدين. وهناك غيوم أخرى أخذت تتلبَّد في الأفق الشمالي.
حدثني جلالة الملك عبد العزيز قال: «لم يستقِم الأمر لعبد الله لثلاثة أسباب؛ أولًا: وجود أبناء أخيه في الخرج يُحرِّضون القبائل عليه. ثانيًا: مناصرته لآل عُلَيان أمراء القصيم السابقين على أعدائهم آل مَهنَّا الأمراء الحاكمين في ذاك الحين. وكان هذا جهلًا من عبد الله؛ لأنه في وقت ضعفه ليس من الحكمة أن يتحزَّب لبيت مغلوب فيُضعضع نفوذه في القصيم. ثالثًا: ظهور محمد بن الرشيد الطامع بحكم نجد. فقد تحالف مع آل أبي الخيل (من آل مهنَّا) وكانوا كلُّهم يدًا واحدة على ابن سعود.»
النزاع الذي أشار إليه جلالة الملك يستوجب الشرح. ورأس هذا النزاع بُريدَة التي كانت في الماضي ماءً لآل هَذَّال من شيوخ عنزى، فاشتراها منهم سنة ٩٥٨ راشد الدريبي العنقري التميمي من آل عليان، ثم عمرها وسكنها ومَن معه من عشيرته، فاستمرت رئاستهم فيها إلى أن تغلَّب عليهم آل مهنَّا من عنزى في آخر القرن الثالث عشر للهجرة.
ولكن آل عُليان ظلُّوا يدسُّون الدسائس لآل مهنَّا ويستنجدون بهذا وذاك عليهم، فأفضى العداء إلى قتل مهنَّا أبي الخيل في عهد عبد الله، فكتب أولاده إلى الإمام يشكون الأمر إليه فلم يسمع شكايتهم، بل انحاز، كما قال جلالة الملك، إلى آل عُليان. أما آل مهنَّا فاستنجدوا ابن الرشيد الأمير محمدًا، فجاء هذا بُريدَة، وطفق يحفر تحت سيادة ابن سعود فيها.
وعندما حدث الخلاف بين الإمام عبد الله وبين أهل المجمعة فأدَّى إلى الحرب كان محمد بن الرشيد قد اتفق وأهل ذاك البلد على أن يكون حليفهم وحاميهم (١٢٩٩ﻫ / ١٨٨١م)، وأن يكونوا من رعاياه، فاستنجدوه عندما بلغهم خبرُ قدوم عبد الله بن فيصل، فبادر إلى نجدتهم بجيش مؤلَّف من بوادي شمر وحرب. وعندما وصل إلى بُريدَة انضمَّ إليه أميرُها حسن آل مهنَّا أبو الخيل ومعه جندٌ من القصيم، ثم زحفوا إلى الزلفى، وكان عبد الله ومَن معه من أهل المحمل وسدير والوشم وبادية عتيبة قد عسكروا في ضرمة، فلما علموا بتحالُف ابن الرشيد وابن مهنَّا وزحفهما إلى الزلفى انسحبوا من ضرمة وعادوا إلى الرياض.
دخل ابن الرشيد المجمعة وأمَّر عليها أحدَ رجاله، فكانت بعد فوزه في القصيم الخطوة الثانية في استيلائه على نجد.
أعاد الإمام عبد الله الكرَّة على المجمعة، فاستغاث أهلُها بأمير الجبل ابن الرشيد وأمير بُريدَة ابن مهنَّا فأغاثاهم، فأدَّى ذلك إلى وقعة بينهم وبين الإمام (١٣٠١ﻫ / ١٨٨٣م)، كانت الغلبة فيها لابن الرشيد الذي كتب بعد ذلك إلى رؤساء البلدان في الوشم وسدير يدعوهم إليه في الحمادة مكان الوقعة فجاءوه طائعين، فعزلهم من وظائفهم وأمَّر في كلِّ بلد من بلدانهم واحدًا من رجاله. وكانت وقعة الحمادة الخطوة الثالثة في استيلائه على نجد.
بعد هذه الوقعة بعث الإمام عبد الله بأخيه محمد رسولًا إلى ابن الرشيد فأكرمه وتفاوض وإياه. وقد عاد محمد من حائل يحمل إلى أخيه من أمير الجبل هدية وتعهُّدًا بأن يترك له بلدان الوشم وسدير، فبادر الإمام إلى عزل مَن أراد عزله في تلك البلدان، فزاد ذلك في الشقاق والتخاذُل؛ إذ لم يستقِم نفوذُ ابن سعود فيها، ولا تقلَّص نفوذ ابن الرشيد.
أما أولاد سعود بن فيصل الذين نزحوا إلى الخرج فقد قام منهم محمد ينصر عمَّه عبد الله، فحشد جيشًا من عتيبة وراح يطلب الخَصْم الجديد ابن الرشيد، فالتقى به عند ماءٍ يُسمَّى عروى فنازَله هناك وكان مهزومًا. هذي هي بداية العداء بين ابن الرشيد وبين أولاد سعود بن فيصل.
ولكنهم لم يكونوا يدًا واحدة على خَصْمهم، فقد قاموا في هذه السنة على عمِّهم عبد الله يحاولون انتزاع الحكم منه، فقبضوا عليه وألقَوه في السجن (١٣٠٢ / ١٨٨٤)، فجاء ابن الرشيد يقطف على عادته ثمار الخلاف. جاء فزعًا كما ادَّعى وكان قد كتب إلى رؤساء البلدان في نجد يشجب عمل أولاد سعود ويدعو لنصرة عمِّهم عبد الله. فلبَّى الناس دعوته ومشَوا معه إلى الرياض، فخرج إليهم عندما دنَا منها وفدٌ للمفاوضة يرأسه عبد الرحمن بن فيصل، فقال ابن الرشيد: ما قصدي والله غير أن أُخرِج عبد الله من السجن، وأن تكون الولاية في بلدكم لكم يا آل سعود، ثم عاهدهم على ذلك.
أما أولاد سعود بن فيصل فلما رأوا اتحاد الناس عليهم طلبوا من ابن الرشيد الأمان فأمَّنهم على دمائهم وأموالهم، فعادوا إلى الخرج، وبعد أن دخل ابن الرشيد الرياض واستولى عليها ظهر في مظهر الفاتح القهار؛ إذ أطلق عبد الله من السجن وأرسله وأخاه عبد الرحمن وعشرة آخرين من آل سعود أسرى إلى حائل، ثم أقام سالم السبهان (بيت السبهان أخوال بيت الرشيد) أميرًا في الرياض.
وفي السنة التالية مرض عبد الله بن فيصل في الجبل، فأذن له ولأخيه عبد الرحمن وأسرتَيهما بأن يعودوا إلى الرياض. وقد عاهد عبد الله على أن يكون أميرًا في بلاده ١٣٠٧ / ١٨٨٩، ولكنه توفي في ٢ ربيع الثاني / ٢٦ نوفمبر من هذه السنة بعد وصوله إلى الرياض، فكتب عبد الرحمن إلى ابن الرشيد يُخبره بذلك ويسأله أن يعزل عامله حسب العهد المذكور، فكان جواب ابن الرشيد أنْ عزل فهاد بن رخيص وعين مكانه سالم السبهان؛ أي إنه نكث عهده. وفي ١١ ذي الحجة من هذه السنة بلغ عبد الرحمن أن ابن السبهان قادم ليسلم عليهم سلام العيد ويقتلهم. فاحتاطوا للأمر. وعندما وصل السبهان أمر عبد الرحمن بأن يجمع آل سعود ليُلقيَ عليهم كلامًا من ابن الرشيد، وكان في نيته أن يفتك بهم فيذبحهم جميعًا. على أن السعوديين سبقوه إلى شبه ما كان يُبطن، فوثبوا عليه وعلى رجاله وقتلوا عددًا منهم.
بلغ خبرُ هذا الحادث أهلَ القصيم، وكانوا قد اختلفوا وابن الرشيد، فكتبوا إلى عبد الرحمن يعاهدونه على الطاعة والتعاون. وعندما مرَّ ابن الرشيد ببلادهم وهو قادم إلى الرياض ليثبِّت ابن السبهان في مركزه، وقفوا له في الطريق وصدُّوه، فعلَّلهم بالوعود — وعد بأن يُعطيَهم بادية مطير «والخوَّة» التي كانت تُفرض على الحجاج — فرضوا بذلك ونكثوا عهدهم مع ابن سعود عبد الرحمن.
أما أهل القصيم فعندما عاد الأمير محمد إلى الجبل طلبوا منه أن يبرَّ بوعده فسوَّف وتردَّد، فنهضوا ثانية عليه وحشدوا قواتهم للحرب. وما كان هذا الأمير الشمري ليردَّ طالبًا، فقد استنفر قبائله وتلاقى وأهل القصيم في القرعا، فتصادموا وتناوشوا ١٣٠٨ / ١٨٩٠، في العشر الأُوَل من جمادى الأولى من هذه السنة وكانت الغلبة لأهل القصيم، فاقترح بعض رجال ابن الرشيد أن يخرجوا من ذاك المكان كأنهم منهزمون ويسيروا إلى البادية حيث لا «ضلعان» — تلال — ولا «مزابن» — أماكن يكمن فيها — فيظن العدو أنهم انهزموا فيتقفَّاهم، فيقطعون ساقتَه بالخيل. قال الراوي: «وأهل القصيم أناس شجاعتهم كثيرة ورأيهم قليل.» فلما رحل محمد بن الرشيد صاحوا: انهزم، انهزم! ولحقوه، فبعدوا عن مراكزهم ومواشيهم، فهجمت عليهم الخيل، فاجتزَّت مؤخرهم. وكانت الهزيمة عظيمة. قيل إنه قتل ألف رجل من أهل القصيم في تلك الوقعة التي تُدعَى وقعة الملَيْدة والتي كانت الخطوة الكبرى النهائية في استيلاء ابن الرشيد على نجد.
لم يَقُم لآل سعود قائمٌ بعدها. فقد كان الإمام عبد الرحمن خارجًا برجاله من الرياض لينجد أهل القصيم، ولكنه عندما علم وهو في منتصف الطريق بوقعة المليدة، عاد إلى الرياض، فأخرج حريمه وأولاده منها وارتحلوا إلى الحساء التي كان يومئذ عاكف باشا متصرِّفها.
وكان صاحب قطر قاسم بن ثاني خارجًا يومئذٍ على الدولة فشاع أن الدكتور زخور يسعى في عقد اتفاق بين ابن سعود وابن ثاني لإخراج الترك من الحساء. فأُوقف خمسة عشر يومًا في الهفوف ثم استُدعيَ إلى بغداد وكان بعد التحقيق بريئًا، ولكنه مع ذلك أبى أن يعود إلى منصبه.
أما الإمام عبد الرحمن فبعد تلك المفاوضات رحل وأولاده إلى الكويت، فمنعهم الشيخ محمد الصباح الحاكم يومئذٍ من الدخول إليها، فعادوا إلى البادية وأقاموا بضعة أشهر مع العجمان، ثم أمُّوا قطَر فأقاموا فيها شهرين. وكانت الدولة لا تزال تبغي عقد اتفاق مع ابن سعود لتأمنَ حركاتِه وسكناته، فأرسل متصرِّف الحساء يستدعيه إليه فلبَّى الدعوة (١٣٠٩ﻫ / ١٨٩١م)، وقد تمَّ بعد ذلك الاتفاق على أن تدفع الدولة إلى الإمام عبد الرحمن ستين ليرة مشاهرة — وقلَّما كانت تدفعها — وأن يُقيم وعائلته في الكويت، فقَبِل ابن الصباح إذ ذاك أن يتوطَّنوا بلاده.