ليلة الظافر
بعد ترحيل عساكر الدولة إلى المدينة المنورة وإلى بغداد خرج على ابن سعود اثنان من رؤساء مطير هما فيصل الدويش ونايف بن هذال، فتحالفَا وأميرَي بُريدَة وحائل عليه.
لبس عبد العزيز أفخر ما لديه من الثياب، فبدت خلال العباءة كأنها من نسيج الشمس الغاربة. زبون (أنباز) من الكشمير الثمين، فوقه رداء من قماش آخر هندي تمتزج ألوانه الزاهية بعضها ببعض، وفوق الاثنين، بين عباءة الوبر والرداء، «كرك» (معطف) مُزركَش بالقصب.
خرج الظافر يتلألأ ويفوح طيبًا، كأنه ظفر بالشمس فسلبها بهاءَها، وغنم أزاهر الأرض فبطَّن بها عباءَته، فسرى تحت جناح الليل تحفُّ به ستةٌ من الخدم، ويماشي منية قلبه جيش من الشوق، ولكنه عندما دنا من بُريدَة، ولم يكن بينه وبين تلك المنية القصوى غير مسير نصف ساعة، التقى برسول من خادمه شلهوب جاء يقول: إن محمدًا أبا الخيل (أمير بُريدَة) قد أقفل القصر وهو متأهِّب للحرب.
وكأن الليل حالف أبا الخيل، فقصف في تلك الساعة الرعد، ولعلع البرق في السماء، فهطلت الأمطار، وهبَّت الرياح، وأمسى الظافر حائرًا بائرًا، لا يستطيع الدخول إلى بُريدَة، ولا الرجوع إلى معسكره وقد بعُد عنه مسافة ثلاث ساعات.
يا لَها من ليلة عاصفة ماطرة، ليلة ظلمتُها دامسةٌ! ويا لَها من خيبة ليلها أشد من تلك العواصف والظلمات! لمزَ الظافر فرسه وقد قفل راجعًا، فسمع بعد قليل كلبًا ينبح، فساقها نحو الصوت، فإذا هناك بيت من الشعر، فترجَّل أمامه يبغي ملجأً من المطر الهطَّال.
وما كان البيت غير خيمة صغيرة طولها ستُّ أذرع وعرضها نصف ذلك، وفيها طائفة من البشر والمعزى، تكلَّم عبد العزيز: «يا أهل البيت نحن ضيوفكم.» فأجابوه ولم يعرفوه: «أهلًا ومرحبًا، ولكن البيت ضيِّق وذا الليل يسود الوجه.»
لم يقبلوا غير واحد من الربع، فظلَّ الخدم خارج الخيمة.
دخل عبد العزيز فرأَى هناك عشرة أنفارٍ كبارٍ وصغار، فيهم عجوز مريضة وشائب مجنون، فجلس على رحلٍ قُرْب الباب وقد ضمَّ يدَيه بين جنبَيه، وهو يرتعش من المطر الذي اخترق ثيابه. وكانت الجديان، وهو في تلك الحال، تثِبُ على كتفَيه، والمعزى تبول أمامه، والمطر يُصَب من سقف الخيمة، والمريضة في الزاوية تئنُّ والمجنون يصيح، والصغار يبكون، والكبار السالمون من عِلَل الحياة يتصاخبون.
جلس على ذاك الكور، في تلك الخيمة، وهو يتأمَّل حالتها وحالته، ويودُّ لو كان أبو الخيل تحت سنابك ذاك الليل، أو في مجاري السيل، أو في مخالب العاصفة، أو تحت ذاك السقف الزارب بين العجوز المريضة والشائب المجنون.
هي ليلة الظافر! وعندما أسفر الفجر ركب فرسه وعاد إلى الشقة لييبِّس ثيابه وينظفها. وقد أمست، وهي مثقلة بالماء والوحل والأقذار، أكره لديه من أبي الخيل. فلما وصل إلى تلك القرية رأَى جدران بيوتها تنهار من شدَّة السيل والأمطار، فأمَّ بيت الأمير، وكان لا يزال يملك غرفةً ذات سقف وفيها نار مشبوبة، فشكر الله على ذلك.
بعد أن يبَّس عبد العزيز ثيابه، وأزال منها الأوحال ركب يقصد بُريدَة، فلما وصل إلى القصر وجده مُقفَلًا، قرع الباب فسُئِل: مَن أنت؟ فأجاب: «أنا ابن سعود.» فلم يسَعْ مَن كانوا داخلًا إلَّا أن يفتحوا.
وعندما واجه أبا الخيل رآه يرتعد خوفًا فسأله قائلًا: «ما بالك قبَّح الله وجهك؟!» فأجابه: «افترى الناس عليَّ. هم يكذبون والله فيما يقولون.» فقاطعه عبد العزيز قائلًا: «اسكت! ما بيَّن أمرك إلَّا أنت.»
لم يَقُل أكثر من ذلك. وقد أقام يومًا في بُريدَة مستطلِعًا الأخبار فتحقَّق خيانة رؤساء مطير، وسارع إلى محاربتهم، فاضطر أثناء ذلك أن يصالح أعداءَه في بُريدَة، فعفا عن زعيمهم أبي الخيل محمد.
سألتُ عظمة السلطان وهو يُملي عليَّ أخبارَ هذه الحوادث: «وكيف تعفو عنه بعد تلك الليلة المشئومة؟» فأجاب فورًا: «مُكرَه أخوك لا بطل.»