تعدَّدت الأعداء
وبينما كان نجاب السلم عند ابن سعود جاءه رسلٌ من الزعماء في تلك النواحي ومن بعض رؤساء البادية يحملون الكتب التي كتبها إليهم أميرُ حائل الجديد.
غضب عبد العزيز وهمَّ بطرد النجاب، فأوقفه والدُه الإمام وأشار عليه بقبول ما جاء من أجله، فقَبِل بذلك مشترِطًا على سلطان الشروط التي اشترطها على سلفه متعب؛ أي إن إمارته تنحصر في حائل والجبل، وسيادة ابن سعود تعمُّ نجد والقصيم.
١٣١٥ﻫ / ١٩٠٧م: عاد رسول السلم إلى سيِّده، وراح ابن سعود غازيًا بعض القبائل المتقلِّبة في الجنوب، ثم جيَّش جيشًا من بادية مطير ومن الحضر وزحف به إلى أطراف القصيم؛ لأنه علم أن سلطانًا أخلَّ بشروط الصلح. سار عبد العزيز إلى بُريدَة فاجتمع هناك ببعض الزعماء وفيهم أبو الخيل محمد، فأشاروا عليه أَلَّا يصالح ابن الرشيد. قالوا إن الحرب أولى، وإن ابن الرشيد لا يركن إليه.
وكان عبد العزيز قد تحقَّق ذلك من كتب سلطان إلى رؤساء أهل نجد والقصيم، فلم يخامرْه الريبُ في إخلاص هؤلاء الزعماء وفيهم من أصدقائه السابقين شيخان من مطير هما فيصل الدويش ونايف الهذَّال؛ لذلك زحف إلى حائل غازيًا، ولكنه لم يتوفق في تلك الغزوة، كما أنه لم يتوفق في وضع ثقته بالدويش والهذَّال؛ إذ بعد أن علمَا بفشله تعاهدَا وأبا الخيل على أن ينصرَا ابن الرشيد عليه.
عندما تحقَّق عبد العزيز ذلك — عندما أدرك أن قد تفلَّتتْ مطير من يده وخرجت بُريدَة عليه — راح يستنجد عتيبة عدوة شمر ومطير، فأفلح بعضُ سعيه. وعندما هجم سلطان على قافلة له كانت خارجة من القصيبة، فأخذها وأمَّن رجالها ثم قتلهم، شدَّ عبد العزيز عليه، فلم يُدركه؛ لأنه كان قد عاد إلى حائل.
عرج ابن سعود على بُريدَة وأرسل منها الكشافة فالتقَوا في الطريق برجل رابَهم أمرُه فقتلوه، فوجدوا معه كتابًا من محمد أبي الخيل إلى سلطان الرشيد يعاهده فيه على ابن سعود.
تعدَّدت الأعداء والخيانات، ولكن خيانة فيصل الدويش أثارت في عبد العزيز أشدَّ الغضب والحنق، فراح يدبِّر وسيلةً للانتقام. وكان من تدبيره أنه أذِن لعرب عتيبة بالرحيل، ليُقال إنهم خذلوه، ثم صالح أهل بُريدَة وعفا عن زعمائها كما أشرت في الفصل السابق.
ولكنه عندما أذن لبوادي عتيبة بالرحيل ضرب لهم موعدًا في مكانٍ يُدعَى الجعلة، فاجتمع بهم هناك، وأغاروا بغتةً على الدويش في جهة سدير، فلاذَ بالمجمعة التي كان فيها يومئذٍ حامية لابن الرشيد، فأدركوه ورجاله في بساتينها وفتكوا بهم، فهزموهم شرَّ هزيمة، وغنموا أموالهم كلَّها.
بعد هذه الوقعة التي جرح الدويش فيها جاء كبار مطير مستسلِمين مستغفِرين فأعطاهم ابن سعود الأمان، ثم عاد إلى الرياض ولم يكد يتم الشهر هناك حتى جاءته الأخبار مُثبِتة خيانةَ أبي الخيل الذي كان قد عقد وابن الرشيد عهد الصلح والولاء.
استنفر ابن سعود بَوادي قحطان وعتيبة، ورفض مَن جاء ينضمُّ إلى جيشه من مطير التائبين وأهل بُريدَة؛ لأنه لم يكن ليثق بهم. أما ابن الرشيد فكان قد غزَا بعض عربان ابن سعود فلم ينَل منهم مغنَمًا، بل غشيَ جيشَه الظمأُ فمات عددٌ كبير من رواحله وخيله، فعاد إلى الجبل ونزل الكهفة.
أما أبو الخيل فاستمرَّ عاصيًا طاغيًا، بالرغم من عفْوِ ابن سعود وبالرغم من توسُّط ابن سلَيم أمير عنيزة. وكان من رجال مطير «التائبين» ما توقَّعه عبد العزيز فانضموا وطاغية مهنَّا إلى جيش ابن الرشيد، الذي جاء إلى بُريدَة فنزل على المياه في جوارها.
أما عربان ابن سعود — قحطان وعتيبة — فانحدروا يلبُّونه ونزلوا العرض، ثم اجتمعوا بمَن نفروا إليه من الحضر بِوادي السر وزحفوا شمالًا يقصدون بُريدَة.
تصافَّت القبائل، فكانت شمر وحرب ومطير مع ابن الرشيد وكانت عتيبة وقحطان مع ابن سعود.
وهناك آخر من الأمراء أنصار ابن الرشيد لا يُستهان به، أَلَا وهو الشيخ مبارك الذي كان مخلِصًا لكاتب ديوانه في الأقل فلم يعزله بعد تلك الزلَّة. وقد جاء ثانيةً بمثلها. ففي الكتب التي وصلت إلى عبد العزيز من «والده» في الكويت كتاب إلى سلطان الرشيد، أُرسِل خطأً إلى خصمه، وفيه يحرِّضه على ابن سعود ويلِحُّ عليه بالاتفاق وأهل القصيم.
كتم عبد العزيز الأمر وتقدَّم بجيشه من السر إلى المذنب، فجاءه هناك رجل يُدعَى عبد العزيز بن حسن من أهل القصيم، ولكنه كان من خفية ابن سعود، فأخبره أن الشيخ مباركًا أرسل يتوسَّط بالصلح بين أهل القصيم وابن الرشيد. لم يكن عبد العزيز ليحتاج إلى هذه البيِّنات في انقلاب «والده» ابن الصباح عليه، وقد تعدَّدت أمثال فعلته هذه الحرباوية، ولكن عذر صاحب الكويت في ذلك أنه كان ينشد دائمًا التوازن في نجد، ويسعى في تحقيقه والمحافظة عليه؛ لأنه إذا اختلَّ التوازن اختلتْ في رأيه الشئون كلُّها، وفيها شئون الكويت.
تقدَّم ابن سعود إلى عنيزة فعلم أن معسكر سلطان هو خارج بُريدَة على مسير ساعة من قصرها، فسرَى يريد الهجوم عليه، فعلم سلطان بذلك، ونقل إلى قرب القصر.
لحق به ابنُ سعود فتناوش الفريقان مرارًا دون أن يتمكَّن بعضهم من بعض. على أنه في إحدى الغارات كبت فرس عبد العزيز فوقع وقعة مشئومة، فكُسر عظمٌ في كتفه اليسرى وأُغمِي عليه.
أما عبد العزيز فعاد بعد وقعته يتبع السرية التي هزمت الدويش، فوصل العصر إلى الطرفية وعسكر فيها، ولم يشعر حتى الليل بألمٍ في كتفه شديد حرَمَه النوم وأقعده.
دعا قوَّاده وهو في تلك الحال فخاطبهم قائلًا: «ابن الرشيد وأهل بُريدَة هاجمون عليكم هذه الليلة فتأهَّبوا وكونوا متيقظين. بُثُّوا الحرس والكشَّافة في الطرق، وحصِّنوا القصر.»
وكان قد انتصف الليل عندما جاء رجل من بُريدَة يقول: إن ابن الرشيد ورجاله قد خرجوا وهم يريدون المهاجمة.
لم يرَ القائد الذي بلغه الخبرُ أن يزعج عبد العزيز به وهو في تلك الحال، خصوصًا وأن الجيش كان مستعدًّا للدفاع.
ولكنَّ أمرَين أفسدَا ذاك الاستعداد؛ فقد تأخَّر ابن الرشيد فنامت الجنود، وقد سلك إلى الطرفية طريقًا غير الطريق المعروفة، فلم يشعروا إلَّا وهو ورجاله في وسط المعسكر.
هجمت البادية من جهة عليه، وهجم أهل بُريدَة من الجهة الأخرى، وهم يبغون احتلال القصر، ولكن الحرس أفاقوا الحامية فصادمتهم وصدتهم عن الدخول.
أما ابن الرشيد ورجاله فتقدَّموا هادئين ليُباغتوا السعوديين وهم نيام، ولكن بعضهم استيقظوا، فتصادموا والمهاجمين، وتضاربوا بكعاب البنادق ثم بالسيوف، فسالت الدماء وعلَت الأصوات، «على المشركين! على الخونة!»
أُطلقت عندئذٍ البنادق فهبَّ العسكر كلُّه للقتال، الذي استمر حتى الفجر، فبدتْ إذ ذاك المياه الجارية بين النخيل وقد احمرت من دم القتلى.
– «صبحناكم لا صبحتكم العافية.»
هي الكلمة التي كان يُردِّدها السعوديون عندما تقفَّوا الرشيديِّين المنهزمين.
قُتِل في هذه الوقعة التي تُدعَى بوقعة الطرفية ٥ شعبان ١٣٢٥ /١٤ أيلول ١٩٠٧، ثلاثون من رجال ابن سعود وثلاثمائة من رجال ابن الرشيد. وقد كان الفضل في هذا النصر للحضر في الجيش السعودي. أما البوادي فشردوا، ثم عادوا بعد بضعة أيام.