كسرة أبي الخيل
قلت فيما تقدَّم: إن أبا الخيل من آل مهنَّا الذين كانوا متآمرين في بُريدَة، وإنهم كانوا معادين لآل سعود منذ عهد الإمام عبد الله بن فيصل عمِّ عبد العزيز. أما أهالي بُريدَة أو الأكثرية فيهم، فكانوا يشكون حكمَ آل مهنَّا ويودون التخلص منه، بل كانوا متقلِّبين متذبذبين. لم يستطيعوا أن يقاوموا أميرهم أبا الخيل، ولا أن يعاونوا عدوَّه فكانوا يومًا معه ويومًا عليه، باطنًا أو ظاهرًا، شأن المستضعفين المستنسِرين. وكانوا في انقلابهم وتلوُّنهم أسرعَ من أميرهم وأسبق، فقد طالما خُدِع ابن سعود وابن الرشيد، وابن مهنَّا نفسه بما كانوا يُظهرون أو يُبطنون.
بعد وقعة الطرفية عاد إلى بُريدَة مَن سَلِموا من أهلها وفرَّ ابن الرشيد وباديته إلى حائل، فزحف ابن سعود في اليوم التالي ليتتبَّع البريديِّين، فأغارت كوكبةٌ من الخيل على المدينة وغنمت المواشي التي كانت خارج السور، ثم نزل في الزرقاء شمالًا وأباح لعسكره القرى التي ساعدت أهل بُريدَة، فجاءَ أهلُها في اليوم التالي يطلبون العفو فعفا عنهم.
أما أهل بُريدَة فظلوا عشرين يومًا داخل البلد كأنهم في حصار، فلم يخرجوا لا موالين ولا معادين، ولكنَّ فريقًا منهم أرسل يُخبر ابن سعود سرًّا أن أبا الخيل مستولٍ على المدينة بمَن معه من رجال ابن الرشيد، وأنه إذا هو انسحب من جوارها يتيح لهم أن ينهضوا على أميرهم وجيشه الشمري.
وكان هؤلاء الشمريون قد عابوا سلطان الرشيد في انهزامه وفراره إلى حائل، وطلبوا منه أن يعود، فعاد ودخل بُريدَة ليلًا. فلما علم ابن سعود بذلك مشى إلى عنيزة فنزل على مسير ساعة من بُريدَة، ففاجأت خيالة ابن الرشيد رعاةً له فأخذوهم. وقد حدث يومذاك قتالٌ اشتركت فيه البدو، فقطعت الحضر ساقتهم؛ أي حمتها.
إن الحضر في الجيوش العربية كالجنود النظامية. أما البدو فبدوٌ هم، وأمرهم عجيب، قد أسلفت القول: إن بوادي ابن سعود شردوا في وقعة الطرفية ثم عادوا إليه. ومن عاداتهم أن يجيئوا ويروحوا، أن يحاربوا ويشردوا كما توحي إليهم النفس أو ترشدهم الحوادث.
وفي القتال أمام بُريدَة هجم جيش البادية فاحتاط ابن سعود للأمر بأن جعل الحضر في مؤخره ليمنعه من الفرار إذا أحس بالهزيمة، ولكنه كان في ذاك اليوم منتصِرًا فتراجع قوم ابن الرشيد ودخلوا البلد.
استمر ابن سعود في سيره جنوبًا فنزل عنيزة، ثم نقل إلى البكيرية، ثم إلى الرَّس، يجمع إليه المقاتلة من الحضر. أما سلطان الرشيد فعاد إلى الجبل، وقد ترك أخاه فيصلًا في بُريدَة؛ ليكون عونًا لأبي الخيل على أهلها؛ بل ليظل بعيدًا عن حائل، ولكن فيصلًا اختلف وطاغية مهنَّا فهجره، وعاد إلى الجبل فاجتمع بأخيه الأمير الحاكم وأغضبه، فأرسله الأمير بمهمَّة إلى الجوف؛ وقصده الإبعاد.
وكان ابن سعود قد نقل من الرس إلى جهة عتيبة، فنزل هناك في جبل يُدعَى سواج وهو يترقب الفرص للهجوم. فلما علم بما جرى بين فيصل وأخيه سلطان سارع إلى الجبل جبل شمَّر، ولكن البدو — وهو في منتصف الطريق — هجروه، فاستمرَّ مع ذلك سائرًا، ونزل بقومه على ماء سقف، فوجدوا هناك قبائلَ من حرب، فأغاروا عليهم وغنموا كثيرًا من أموالهم.
لم يتوفَّق عبد العزيز في زحفه إلى الجبل فعاد إلى الرياض، ثم رجع في الشهر التالي إلى القصيم، فلاقاه جاسوس من بُريدَة ليُخبرَه أن أهلها مستعدون إذا وصل إليهم، أن يهجموا على أبي الخيل.
لمزَ ابنُ سعود حصانَه وراح بجيشه مسرِعًا، فوصلوا إلى المكان المعين للاجتماع خارج البلد فلم يجدوا أحدًا هناك.
لله أنتم يا أهل بُريدَة! عضَّ عبد العزيز على نواجذه وعاد إلى عنيزة، فجاءه بعد سبعة أيام رسولٌ منهم يقول إنهم متأهِّبون للهجوم، فزحف زحفةً ثانية كانت كالأولى عقيدة الفشل.
ولكنه نزل الأخضر، على مسير ساعة ونصف ساعة من المدينة، ومشى إليها بالجنود مرتين على «الأنصار» يخرجون إليه، فلم يخرج أحد منهم.
ثم بلغه أن سلطان بن الرشيد زاحف من الجبل لينجد أهل بُريدَة؛ أي الرشيديِّين فيها، فشدَّ ابن سعود وبادر إليه؛ ليصدَّه عن ذلك، فعلم عندما وصل إلى كهفة أن الخبر مكذوب. وكان برغش بن طوالة، من رؤساء شمَّر، نازلًا ماءَ فَهد بالقرب من جبل سلمى هناك، فسرى يريد الهجوم عليه. فلما رآه ابن طوالة مقبلًا ساعة الفجر أركب الحريم على الخيل سافرات فجِئْنَ يلاقينَه مستعطفين، ثم جاءه برغش طالبًا العفو بل جاءَ يعاهده على الولاء، وأقسم بالله أن سيكون على الدوام من رعاياه المخلصين.
١٣٢٦ﻫ / ١٩٠٨م: قد كان ابن طوالة رسول السلم أيضًا بين ابن سعود وابن الرشيد، فجُدِّدت المعاهدة السابقة التي خرقها مرة سلطان ولم يتقيَّد دائمًا سلفُه متعب بشروطها، ولكن ابن سعود لم ينخدع. وما أراد في ذاك الحين غير حياد ابن الرشيد، ولو إلى حين، فينشط أنصارُه من أهل بُريدَة ويمكِّنوه من أبي الخيل.
عاد عبد العزيز، بعد أن صالح ابن الرشيد، إلى البكيرية، فعسكر فيها وسار بنفسه إلى عنيزة مستخبِرًا، فأُخبِر عندما وصلها أن أهل بُريدَة مستعدون الاستعداد التام هذه المرة للهجوم.
بادر عبد العزيز إلى حصانه، وعدَا به عائدًا إلى البكيرية، فقطع بساعتين ونصف ساعة مسافةَ خمس ساعات من السير، وأمر عند وصوله بالزحف السريع إلى بُريدَة، فزحف الجيش في ذاك النهار ووصل إلى المدينة عند غروب الشمس.
– وأين الرجال؟ أين مَن هم مستعدون الاستعداد التام للحرب؟ الحق يُقال إن السيادة كلَّ السيادة كانت لمحمد أبي الخيل. ولم ينفر إلى ابن سعود ليلتئذٍ إلَّا عشرةٌ من الأنصار، فكان الاتفاق بعد المفاوضة السرية أن يفتحوا له باب السور وقت صلاة العشي. ولم يكلِّفهم أكثر من ذلك.
أمَرَ ابن سعود سريَّتَين بالتقدُّم ثم بالدخول إلى البلد، إذا ما فُتِح الباب، فيسيرون توًّا إلى البيوت القريبة من القصر المقيم فيه أبو الخيل ويحتلونها.
فُتِح باب السور، وكان الناس في الصلاة، فدخلت السريتان، واحتل البيوتَ المذكورة ثلاثُمائة من الفرسان.
كان ابن سعود ساعتئذٍ واقفًا عند الباب فأرسل فرقة عددها خمسمائة رجل لتحتلَّ أبراج السور القريبة منه.
ثم خطب في الباقي من جيشه قائلًا: «إننا هاجمون على هذا البلد، فاحذروا أن تُؤذوا مَن لا يعترضونكم، أو تُسيئوا إليهم بشيء، حارِبوا مَن حارَبكم، وسالموا مَن سالمكم. أما البيوت فلا تدخلوها. وأما الحريم فَمن اعتدى عليهن فيدي عليه.»
دخل ابن سعود على رأس جيشه يقصد مَن تقدَّمه من الفرسان. وما كاد يخرج الناس من المساجد حتى علتْ في المدينة صيحات الحرب.
اشتبكت الجنود برجال أبي الخيل، واستمر القتال طيلة ذاك الليل، فقُتِل من المهنِّيين عشرة ومن السعوديين خمسة لا غير. وجاء رؤساء بُريدَة عندما أسفر الفجر يطلبون العفو، فعفا الظافر عنهم بشرط أن يسلِّم المقاتلون السلاح، فسلَّموها قبل الضحى.
ولكن أبا الخيل ظلَّ محاصرًا يومًا وليلة، ثم طلب الأمان فأمَّنه عبد العزيز على حياته، وتركه يذهب حيث يشاء، فرحل إلى العراق.
وفي كسرة محمد آل عبد الله أبي الخيل، في ٢٠ ربيع الثاني من هذا العام (٢٣ أيار) دخلت بُريدَة للمرة الثانية في حوزة ابن سعود.