الأقارب والعقارب
ما سلَّط الله على العرب غير أنفسهم؛ فقد طالما نكثوا العهود فرارًا من تبعةٍ أو خسارة، وقد طالما استحلوا — في سبيل السيادة — دمَ ذوي القربى.
لا نعود إلى الماضي مستشهدين التاريخ ولنا في هذا الزمان الأمثال والبيِّنات؛ فقد ذبح الشيخ خزعل أخاه، والشيخ مبارك أخوَيه، وبندر بن الرشيد عمَّه، ومحمد بن الرشيد أبناء أخيه الأربعة، وأبناءُ عبيد الرشيد أولادَ عمِّهم الثلاثة. كل ذلك طمعًا بالسيادة.
١٣٢٦ / ١٩٠٨: وقد قَتَل في هذه السنة من هذا التاريخ سعود بن عبيد الرشيد أخاه سلطانًا وتولَّى الإمارة بعده، ثم أرسل إلى عبد العزيز بن سعود يعرض عليه الصلح فصالحه على ما صالح أخاه وابنَ أخته سلفَيه.
من نوادر الله في خلقه أن يقوم في العرب في زمان تعدَّدت فيه هذه الجرائم الفظيعة، مَن يسلك إلى السيادة مسلكَ الشجاعة والشرف، فلا يسلِّط عليهم غيرَ سيف الحق، ولا يجازي طغيانهم وخياناتهم، إذا ما تابوا، بغير الحلم والإحسان. ولكن تاريخ آل سعود المعروف هو أبيض الحاشية، فلا يدنِّسُه دمُ ذوي الأرحام.
استمرت الاضطرابات والفتن في حائل، فنكث ابن الرشيد العهد وعاد البيتان إلى الحرب — إلى الغارات والغزوات. أما سعود بن عبيد، الذي لم يحكم غير سنة وشهرين (١٣٢٧ / ١٩٠٩)، فقد قُتل كما هو قَتل أخاه، ثم بعث مَن تولَّى الإمارة من آل سبهان — أخوال بيت الرشيد — بوفدٍ إلى عبد العزيز، فلم تُسفِر المفاوضات عن سلم أو شبه سلم، فاستأنف البيتان القتال.
خرج صاحب حائل فنزل الشعيبة وأغار على قبيلة من مطير السعودية فقتل رئيسَها وأصاب منها مغنمًا. وخرج صاحب نجد يطلب خصمه على ذاك الماء فلم يجده، فأغار على قبائل حرب وشمر وغنم أموالهم، ثم عاد إلى الشعيبة فأقام هناك يومًا «يخمس الأخماس»؛ أي يقسم الغنائم.
علم صاحب حائل بوجود ابن سعود في الشعيبة فزحف إليه، وعلم ابن سعود بذلك فمشى حتى وصل الغروب إلى مكانٍ في النفود يُدعَى الأشعلي فنزل هناك، وشرع يتأهَّب للحرب، فأخرج البدو من المعسكر، أبعدهم عنه. وأخرج الحضر إلى رأس النفود فتحصَّنوا فيها، فأمست الخيام خالية، ثم أمر بألَّا تُعقَل الإبل التي غنموها من شمر وحرب في الغزوة الأخيرة. والقصد في ذلك أن يستغويَ بها بوادي العدو. إن الطمع غريزة في البدو؛ فهم إذا رأوا الأباعر شاردة يتبعونها ليغنموها، والأباعر إذا سمعت طلْق البنادق، ولم تكن معقلة، تفرُّ هاربة.
انتصف الليل فهجم أمير حائل على مخيَّم أمير نجد الفارغ فذهب رصاصه سُدًى، وفرَّت الإبل فلحقتْها البادية. وقد شردت كذلك تحت جناح الظلام بادية ابن سعود، فلم يبقَ غير الحضر في الجيشَين.
أرسل عبد العزيز سرية لمناوشة مَن هجموا على المخيَّم ثم الانسحاب ففعلت، فظنُّوه معها وظنُّوه مهزومًا، ولكنه كان ورجاله كامنين في رأس النفود، فأغاروا عند انبثاق الفجر في (٥ ربيع أول / ٢٩ آذار) من هذا العام عليهم. وكانت هذه المفاجأة خاتمة وقعة الأشعلي، وكان في الخاتمة نصرٌ لابن سعود مبين. خسر الرشيديون عددًا كبيرًا من رجالهم، وكثيرًا من رواحلهم ما عدا ما كانوا قد غنموه في الليلة السابقة، وتقهقروا عائدين إلى الشعيبة.
أما ابن سعود فسار بحواضره إلى قِبَة، وكانت بواديه قد شردت كما قلت، فتبع وقعة الأشعلي هدنة كان الضيق من قلة الأمطار سببها، فلم يستطع أحدٌ من الفريقين مواصلة القتال.
ولكن ابن سعود خرج من قِبة غازيًا بعضَ عربانه العاصين في أعالي نجد على طريق المدينة، وعاد إلى القصيم فأمَّر فيه ابنَ عمِّه عبد الله بن جلوي وانحدر إلى الرياض، فلما قرب من العاصمة التقى برسول من أبيه جاءه يقول: «جنبوا جنبوا. الفتنة مشتعلة في الحريق بين الهزازنة.»
والهزازنة أي آل هزَّان من عنزى وهم أقارب لآل سعود — أقارب أبعدون. كان قد قُتل بعضٌ منهم في تلك الفتنة، فأرسل الإمام عبد الرحمن سرية قبضت على القتلة وسلَّمتْهم إلى إخوان المقتولين فقتلوهم، ولم تخلُ الفتنة من مآرب سياسية، فعاد الهزازنة بعد رجوع السرية يُشعلون نارها، فاعتدوا على آل خثلان، فذبحوا منهم شيخَين طاعنين في السن ادَّعَوا أنهما اشتركَا في قتْل أخيهم الكبير محماس. أثار هذا الادعاءُ الكاذب غضبَ الإمام عبد الرحمن، فأمر ابنَه عبد العزيز أن يحمل عليهم في الحال: جنبوا إلى الحريق، جنبوا!
طلب عبد العزيز فرصة يومين ليزور أهله في العاصمة، فكان له ذلك. وفي اليوم الثالث نزل إلى الحريق، ودعا الهزازنة لحكم الشرع فأبَوا، وهم حقيقة لا يريدون الخضوع لحكم ابن سعود، ثم دخلوا حصنهم وتحصَّنوا فيه، فحاصرهم شهرين وما انفك يدعوهم لحكم الشرع وهم متمردون، وفي ذاك الحصن منيعون.
عندئذٍ أقدم ابن سعود على عمل يُعَدُّ حتى في غير البلاد العربية كبيرًا، فأمر رجاله بحفر نفق يوصلهم إلى الحصن، فباشروا ذلك وكان طولُ النفق عندما تمَّ أربعين باعًا، ثم عزم أن يُشعل فيه البارود فينسف الحصن نسفًا، ولكن نساء المحصورين وأولادهم كانوا ساكنين في بيوتٍ فوق ذلك النفق، فأرسل عبد العزيز يُنذرهم ويؤمِّنهم على حياتهم إذا هم أخلَوها. ولكن المحاصرين أبَوا واستمروا متمرِّدين، فأرسل إليهم رسولًا يقول: «إذا كنتم لا تُخرجون حريمكم وأطفالكم فأنتم المسئولون عن حياتهم أمام الله.»
ظنَّ المحاصَرون في بادئ الأمر أن ابن سعود يهوِّل عليهم بنفقٍ وهمي، فلما تأكَّدوا الحقيقة سلَّموا لتسلَم عيالُهم.
١٣٢٨ / ١٩١٠: خُتِمت سنة ١٣٢٧ بعصيان الهزازنة، وهم كما قلت أقارب آل سعود الأبعدون، وفُتِحت سنة ١٣٢٨ بخروج «العرائف» وهم أقارب آل سعود الأدنون، بل هم الذين كانوا أسرى في حائل، فجاء بهم ماجد بن الرشيد إلى عنيزة ليقاتلوا أهلهم، فخلصهم عبد العزيز من الأسر ومن القتل، فقاموا بعدئذٍ يجازون عمله بالعصيان.
قد يكون بين فتنة الهزازنة وخروج «العرائف» صلةٌ سرِّية، أو أن الواحدة أوحت الأخرى. وجاء فوق ذلك الجدب يزيد بشدائد هذه السنة التي كانت تُدعَى «الساحوق» فخسر ابن سعود مبلغًا جسيمًا من الأموال — الإبل والمواشي — ولم يكن لديه ما يمكِّنه من الحرب والغزو.
عُقد مجلس للمذاكرة بخصوص «العرائف» فقال أحد الحضور يخاطب عبد العزيز: «ادعوهم إليك للجواب، فإذا أبَوا اضربهم.» قد عقَّب على هذا الرأي آخرون، ولكن عبد العزيز لم يستحسنه، فقال: «إذا دعوتُهم إليَّ فقد يحدث بينكم وبينهم قتالٌ، فأكون ذابحًا لذوي القُربى وهذا مكروه عندي، دعوهم. كفانا الله شرَّهم».
رحل «العرائف»، وهم تسعة، ورجاجيلهم وخدمهم إلى الحساء فنزلوا على العجمان أخوالهم. ولكن العجمان اعتدَوا على بعض عشائر الكويت فنهبوهم، فهدَّدهم الشيخ مبارك فالتجئوا إلى ابن سعود، بل جاءَه كذلك كتابٌ من الشيخ مبارك يسأله فيه أن يسعى في إرجاع تلك المنهوبات.
أما ابن سعود فكان قد كتب إلى ابن الهذال رئيس العمارات وابن الشعلان رئيس الرولا، والعشيرتان من عنزى، يستنجدهما على ابن الرشيد، فأجاباه إلى ذلك وضُرب الموعد للاجتماع، ولكن المشاكل تعدَّدت في الحساء، وهي مرتبطة بعضها ببعض، فظن عبد العزيز أن التوسط بين مبارك والعجمان يحلُّ مشكل «العرائف»، فبادر إلى تلك الناحية، وقد كان في عزمه بعد حسْمِ ذاك الخلاف وحلِّ ذاك المشكل أن يستأنف السير ليجتمع بالهذال والشعلان فيشدون جميعًا على ابن الرشيد.
أما الشيخ مبارك فعندما علم بخروج آل سعود «العرائف» وأنهم جاءوا الحساء أرسل نجابًا إلى عبد العزيز يستأذنه بأن يدعوهم إلى الكويت، فيسعى في الصلح بينه وبينهم. قَبِل عبد العزيز ولسان حاله يقول: نُصلِح بينه وبين العجمان فيصلح بيننا وبين العرائف. وجزاء حسنةٍ حسنةٌ مثلها. أما «العرائف» فقد قَبِل اثنان منهما دعوةَ مبارك، وجاء اثنان إلى عبد العزيز مستغفِرين مستأمنين فأعطاهما الأمان.
ولكن صاحب الكويت لم يقدم على ذلك العمل لقاء ما جاء ابن سعود إلى الحساء من أجله، بل كان هنالك أمرٌ آخر يستوجب المعروف. إن القارئ الذي سار معنا من بداية هذا التاريخ يُدرك شيئًا من غوامض الشيخ مبارك السياسية؛ وهو قلَّما كان يُقدم على عمل لا سرَّ في شطرٍ منه في الأقل.
أما السرُّ في توسُّطه بين «العرائف» و«ولده» عبد العزيز سعود، فهو أن رئيس عشائر المنتفق في العراق سعدون المنصور كان قد جهَّز حملةً عليه — حملة كبيرة لا يستطيع مقاومتها ناهيك بغلبتها — فأسلف عبد العزيز المعروف، ثم أرسل يستنجده على السعدون: